التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٤

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٤

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0531-4
الصفحات: ٣٦٠

١
٢

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١٢٧)

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

مقدّمة

الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ، أرسله ربه رحمة للعالمين ، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.

وبعد : فإن القرآن الكريم هو كتاب الله الذي أنزله على رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليخرج الناس به من الظلمات إلى النور ، ولينقذهم من الظلم والفجور.

قال ـ تعالى ـ : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ).

ولقد كان من فضل الله علينا ، أن وفقنا لخدمة كتابه ، فأعاننا على كتابة تفسير سور : الفاتحة والبقرة ، وآل عمران ، والنساء ويسعدني أن أتبع ذلك بتفسير محرر لسورة المائدة ، حاولت فيه أن أكشف عما اشتملت عليه هذه السورة من هدايات جامعة وتشريعات حكيمة ، وحجج باهرة ، تقذف حقها على باطل الضالين فإذا هو زاهق.

وقد رأيت من الخير قبل أن أبدأ في تفسيرها بالتفصيل والتحليل ، أن أسوق كلمة بين يديها تكون بمثابة التعريف بها ، وبيان فضلها ، ووجه اتصالها بالسورة التي قبلها ، وزمان نزولها ، والمقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها.

وقد كان منهجي في تفسير هذه السورة ، هو المنهج الذي سلكته في تفسير السور السابقة.

وملخصه : أنى أبدأ بشرح الألفاظ القرآنية شرحا لغويا مناسبا ، ثم أبين المراد منها ـ إذا كان الأمر يقتضى ذلك.

ثم أذكر سبب النزول للآية أو الآيات ـ إذا وجد وكان مقبولا ـ ثم أذكر المعنى الإجمالى للجملة أو للآية ، مستعرضا ما اشتملت عليه من وجوه البلاغة وحسن التوجيه.

ثم أتبع هذا ببيان ما يؤخذ من الآية أو الآيات من أحكام وآداب وتشريعات.

٥

وقد حرصت كثيرا على تخريج الأحاديث التي أذكرها ، وعلى بيان المصادر التي أنقل عنها.

وتعمدت ـ عند النقل من المصدر لأول مرة ـ أن أبين زمان طبعته ومكانها ثم ألتزم النقل عنه بعد ذلك إلى نهاية السورة ، دون أن ألجأ إلى طبعات أخرى إلا عند الضرورة القصوى.

وقد تجنبت التوسع في وجوه الإعراب ، واكتفيت بالراجح منها ..

وذلك لأنى توخيت فيما أكتب إبراز ما اشتمل عليه القرآن الكريم من هدايات جامعة وتشريعات حكيمة وآداب سامية ، وعظات بليغة وتوجيهات نافعة ، وأقوال مأثورة.

والله أسأل أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا ، وأنس نفوسنا ، وأن يعيننا على إتمام ما بدأناه من خدمة لكتابه ، وأن يجعل أقوالنا وأعمالنا خالصة لوجهه ، ونافعة لعباده.

وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

١٥ من ربيع الأول ١٤٠٧ ه‍

١٧ من نوفمبر ١٩٨٦ م

محمد سيد طنطاوى

شيخ الأزهر

٦

تمهيد بين يدي السورة

١ ـ سورة المائدة هي السورة الخامسة من سور القرآن الكريم في ترتيب المصحف ، فقد سبقتها سور : الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران ، والنساء.

٢ ـ وهي مدنية باتفاق العلماء. بناء على القول الذي رجحه العلماء من أن القرآن المدني هو الذي نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الهجرة ولو كان نزوله في غير المدينة.

٣ ـ وعدد آياتها عشرون ومائة آية عند الكوفيين ؛ ويرى الحجازيون والشاميون أن عدد آياتها اثنتان وعشرون ومائة آية ، ويرى البصريون أن عدد آياتها ثلاث وعشرون ومائة آية.

٤ ـ ولهذه السورة الكريمة أسماء أشهرها : المائدة.

وسميت بهذا الاسم ، لأنها انفردت بذكر قصة المائدة التي طلب الحواريون من عيسى ـ عليه‌السلام ـ نزولها من السماء. وقد حكى الله ـ تعالى ـ ذلك في آخر السورة في قوله ـ تعالى ـ : (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) (الآيات من ١١٢ : ١١٥) وتسمى أيضا بسورة العقود ، لأنها السورة الوحيدة التي افتتحت بطلب الإيفاء بالعقود. قال ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وتسمى ـ أيضا ـ المنقذة.

قال القرطبي : وروى عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «سورة المائدة تدعى في ملكوت الله المنقذة. تنقذ صاحبها من أيدى ملائكة العذاب (١)».

٥ ـ ووجه اتصالها بسورة النساء ـ كما يقول الآلوسى ـ «أن سورة النساء قد اشتملت على عدة عقود : صريحا وضمنا. فالصريح : عقود الأنكحة وعقد الصداق. وعقد الحلف. وعقد المعاهدة والأمان. والضمنى : عقد الوصية والوديعة. والوكالة. والعارية. والإجارة. وغير ذلك مما يدخل في قوله ـ تعالى ـ (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها).

فناسب أن تعقب بسورة مفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود. فكأنه قيل : يا أيها الناس أوفوا بالعقود التي فرغ من ذكرها في السورة التي تمت ، وإن كان في هذه السورة ـ أيضا ـ عقود.

ووجه تقديم النساء وتأخير المائدة. أن أول تلك (يا أَيُّهَا النَّاسُ) وفيها الخطاب بذلك في

__________________

(١) تفسير القرطبي : ج ٦ ص ٣٠ طبعة دار الكتب المصرية سنة ١٣٨٩ ه‍ سنة ١٩٥٩

٧

مواضع ، وهي أشبه بتنزيل المكي. وأول هذه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهو أشبه بخطاب المدني. وتقديم العام وشبه المكي أنسب (١).

٦ ـ وقد وردت روايات تفيد أن سورة المائدة نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دفعة واحدة. ومن هذه الروايات ما أخرجه الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد قالت : إنى لآخذة بزمام ناقة رسول الله العضباء ، إذ نزلت عليه المائدة كلها. فكادت من ثقلها تدق عنق الناقة (٢).

وروى الإمام أحمد ـ أيضا ـ عن عبد الله بن عمرو قال : أنزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته ، فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها (٣).

وهناك روايات أخرى تحدثت عن زمان ومكان نزولها ، ومن هذه الروايات ما أخرجه أبو عبيد عن محمد القرظي قال : نزلت سورة المائدة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة (٤).

وقال القرطبي : وروى أنها نزلت عند منصرف رسول الله من الحديبية (٥).

وهناك روايات تحدثت عن زمان ومكان نزول بعض آياتها.

قال السيوطي في كتابه «الإتقان» ـ عند حديثه عن معرفة الحضري والسفرى ـ : وللسفرى أمثلة منها : قوله ـ تعالى ـ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) ففي الصحيح عن عمر بن الخطاب : أنها نزلت عشية عرفة يوم الجمعة ، عام حجة الوداع.

ومنها : آية التيمم. ففي الصحيح عن عائشة ، أنها نزلت بالبيداء وهم داخلون المدينة ـ بعد انتهائهم من غزوة المريسيع كما جاء في بعض الروايات.

ومنها : قوله ـ تعالى ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) فقد نزلت ببطن نخل.

ومنها : قوله ـ تعالى ـ (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فقد نزلت في غزوة ذات الرقاع.

وهذه الآيات جميعها من سورة المائدة» (٦).

والذي تطمئن إليه النفس عند تلاوة سورة المائدة بتدبر وإمعان فكر ، وعند مراجعة الروايات

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ٤٨. طبعة منير الدمشقي

(٢ ، ٣) تفسير ابن كثير ج ٢ طبعة عيسى الحلبي.

(٤) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ٤٧.

(٥) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٣٠

(٦) الإتقان في علوم القرآن ج ١ ص ١٨ طبعة مصطفى الحلبي سنة ١٩٥١.

٨

التي وردت في سبب نزول بعض آياتها ، يرى أن هذه السورة الكريمة لم تنزل دفعة واحدة ، وإنما نزلت متفرقة وفي أوقات مختلفة.

ومما يشهد لذلك ما جاء في كتب الحديث وفي كتب السيرة أن المقداد بن الأسود قد قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبيل التحام المسلمين مع المشركين في غزوة بدر : يا رسول الله امض لما أمرك الله. فو الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى. اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون.

فقد أخرج البخاري عن عبد الله بن مسعود قال : شهدت من المقداد بن الأسود مشهدا ، لأن أكون صاحبه أحب إلى مما عدل به. أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يدعو على المشركين ـ في بدر ـ فقال : لا نقول كما قال قوم موسى : اذهب أنت وربك فقاتلا .. ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك» (١).

فهذا النص يفيد أن الصحابة كانوا على علم قبل غزوة بدر بهذه الآيات التي وردت في سورة المائدة ، والتي تحكى موقف بنى إسرائيل من نبيهم موسى عند ما دعاهم إلى دخول الأرض المقدسة (٢).

كذلك مما يشهد بأن سورة المائدة قد نزلت منجمة ولم تنزل دفعة واحدة ما نقلناه منذ قليل عن السيوطي من أن بعض آياتها قد نزلت في أزمنة وأمكنة مختلفة.

وأيضا مما يشهد لذلك ، أن المتأمل في بعض آياتها يراها تحكى لنا ألوانا من تعنت اليهود مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن تحاكمهم إليه لا من أجل الوصول إلى الحق وإنما من أجل إظهاره بمظهر الجاهل بأحكام التوراة.

قال ـ تعالى ـ (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا).

وفعلهم هذا يدل على أنهم كانت لهم قوة ونفوذ في المدينة عند نزول هذه الآيات.

ومن المعروف تاريخيا أن نفوذ اليهود بالمدينة قد تلاشى بعد غزوة بنى قريظة في السنة الخامسة من الهجرة. وأن قوتهم قد زالت بعد فتح خيبر في أوائل السنة السابعة من الهجرة.

ومن كل هذا نستخلص أن بعض آيات هذه السورة يغلب على ظننا أنها نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في السنوات التي سبقت صلح الحديبية وأن الروايات التي نقلناها قبل ذلك عن بعض المفسرين ، والتي يستفاد منها أن سورة المائدة قد نزلت دفعة واحدة ، أو أنها نزلت عند منصرف

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٥ ص ٩٢ طبعة مصطفى الحلبي سنة ١٩٤٥ ه

(٢) راجع الآيات من ٢٠ ـ ٢٦ من سورة المائدة.

٩

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحديبية ، أو فتح مكة أو في حجة الوداع ، أو عند رجوعه منها .. كل هذه الروايات فيها مقال ـ لأنها بجانب ـ تفرد بعض المحدثين بها فإنها تخالف ما جاء في كتب السنة الصحيحة من أن بعض آياتها قد نزل في حجة الوداع ، وبعضها قد نزل بعد غزوة المريسيع ، وبعضها كان معروفا للصحابة قبل اشتراكهم في غزوة بدر.

ولأن بعض آيات هذه السورة تحكى لنا أحداثا ومجادلات قد حصلت بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين اليهود ، وهذه الأحداث وتلك المجادلات من المستبعد أن تكون قد حدثت بعد غزوة بنى قريظة في السنة الخامسة من الهجرة ، لأنه ـ كما سبق أن أشرنا ـ لم يبق لليهود نفوذ في المدينة بعد غزوة بنى قريظة ، حتى يستطيعوا أن يواجهوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما واجهوه من مجادلات ومن تحاكم اليه بقصد إحراجه ـ كما سنفصل ذلك عند تفسيرنا للآيات المتعلقة بهذا الموضوع.

ومع كل هذا فنحن نرجح أن جانبا كبيرا من آيات سورة المائدة قد نزل متأخرا عن صلح الحديبية ، بل عن فتح مكة ، لأن بعض آياتها تقرر أن المشركين قد صاروا في يأس من التغلب على المسلمين بعد أن فتح المسلمون مكة بعد أن أتم الله لهم دينهم. قال ـ تعالى ـ (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً).

ولأن هناك آثارا تشهد بأن سورة المائدة ـ في مجموعها ـ من آخر ما نزل على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرآن.

قال القرطبي : وروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قرأ سورة المائدة في حجة الوداع وقال : «يا أيها الناس إن سورة المائدة من آخر ما نزل فأحلوا حلالها وحرموا حرامها».

ونحوه عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ موقوفا. قال جبير بن نفير : دخلت على عائشة فقالت : هل تقرأ سورة المائدة؟ فقلت : نعم. فقالت : فإنها من آخر ما أنزل الله. فما وجدتم فيها من حلال فأحلوه ، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه (١)».

والخلاصة ، أن الذي يغلب على ظننا أن سورة المائدة لم تنزل دفعة واحدة في وقت معين أو في زمان معين ، وإنما نزل بعضها في السنوات التي سبقت صلح الحديبية ، ونزل معظمها بعد هذا الوقت ، للأسباب التي سبق أن بيناها ، وأن الروايات التي تقول بنزولها دفعة واحدة أو في وقت معين وزمان معين من الممكن أن تحمل على أن المراد بها مجموع السورة لا جميعها.

٧ ـ هذا وعند ما نستعرض سورة المائدة استعراضا إجماليا نراها في مطلعها تأمر المؤمنين

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٣١

١٠

بالوفاء بالعهود ، وبالتزام التكاليف التي كلفهم الله بها ، ثم أردفت ذلك ببيان الحلال من الذبائح والحرام منها ، ثم بيان حكم طعام أهل الكتاب ، وحكم الزواج بالكتابيات.

وبعد أن تكلمت عن المباحات التي يحتاج إليها الجسد أتبعت ذلك بالحديث عن الصلاة التي هي غذاء الروح ، فأمرت المؤمنين بأن يدخلوها متطهرين ، ووضحت لهم أنه ـ سبحانه ـ لا يريد من وراء ما يشرعه لهم الضيق أو الحرج وإنما يريد لهم الخير والطهر وإتمام النعمة : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

ثم أمرت المؤمنين بالتزام العدل مع الأصدقاء. ومع الأعداء ، ووعدت المطيعين لله ـ تعالى ـ بالمغفرة والأجر العظيم ، وتوعدت الكافرين بآيات الله بعذاب الجحيم ، ثم ذكرت المؤمنين بجانب من مظاهر فضل الله عليهم ورحمته بهم ، حيث كف أيدى المعتدين عنهم. وحماهم من مكرهم. قال ـ تعالى ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ ، فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ، وَاتَّقُوا اللهَ ، وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١).

ـ ثم نراها في الربع الثاني (٢) منها تحكى لنا جانبا من رذائل أهل الكتاب. فتبين كيف أن الله ـ تعالى ـ أخذ عليهم العهد والميثاق بأن يؤمنوا به ويطيعوه ولكنهم نقضوا عهودهم ، فكانت نتيجة ذلك أن لعنهم الله ، وأن أدام بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة.

ثم وجهت نداء إلى أهل الكتاب أرشدتهم فيه إلى طريق الحق ، وأمرتهم باتباعه. ووبخت الذين قالوا (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ). وحكت جانبا من الدعاوى الباطلة التي ادعاها اليهود والنصارى ، حيث قالوا : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ).

ثم وجهت نداء ثانيا إلى أهل الكتاب أمرتهم فيه باتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنهم بسبب عدم اتباعه سيكون مصيرهم إلى النار ، ولن يقبل الله منهم عذرا بعد أن أرسل إليهم ـ سبحانه ـ من يبشرهم وينذرهم.

قال تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ ، فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ، وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

ثم حكت السورة الكريمة قصة من قصص موسى ـ عليه‌السلام ـ مع بنى إسرائيل.

فقد ساقت بأسلوبها البليغ إغراءه لهم بدخول الأرض المقدسة ، ولكنهم جبنوا واتخذوا

__________________

(١) الآيات من ١ ـ ١١

(٢) الآيات من ١٢ ـ ٢٦

١١

عصيانه سبيلهم. فكانت نتيجة ذلك أن عاقبهم الله ـ تعالى ـ بالتيه. (قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ).

ـ ثم نراها بعد ذلك في الربع الثالث (١) تحكى لنا قصة ابني آدم بأسلوب مؤثر : تحكى لنا قصة أول جريمة وقعت على ظهر الأرض بسبب الحسد. وتحكى لنا تلك المحاورات التي دارت بين الأخوين : القاتل والقتيل.

وكيف أن القاتل قد تحير في مواراة جثة أخيه ، إلى أن تعلم كيفية مواراتها من غراب أخذ يبحث في الأرض ليواري جثة غراب مثله.

وإذا كان الحسد حتى في العبادات يؤدى إلى القتل وسفك الدماء ، فقد شرع الله القصاص لحماية الأنفس والأموال والأعراض. فقد ذكر ـ سبحانه ـ بعد ذلك جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا. وجزاء السارق والسارقة. وجزاء الذين كفروا بالحق بعد أن جاءهم من عند الله.

وخلال ذلك أمر ـ سبحانه ـ عباده المؤمنين بتقوى الله. وبالتقرب إليه بالعمل الصالح ، وبمداومة الجهاد في سبيل الله ، حتى ينالوا الفلاح في الدنيا والآخرة.

ـ وبعد هذه التشريعات الحكيمة ، نراها في الربع الرابع (٢) تحكى لنا بعض الوسائل الخبيثة التي اتبعها اليهود في محاربتهم للدعوة الإسلامية فذكرت بعض أقوالهم التي كانوا يقولونها عند ما يأتون إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليتحاكموا إليه في منازعاتهم (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) ووصفتهم بأنهم (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ).

وأرشدت الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى طريقة التعامل معهم (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ. وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً. وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

ثم بعد أن مدحت التوراة ، ووصفت الذين لم يحكموا بما أنزل الله بالكفر. والظلم. بعد كل ذلك نوهت بشأن عيسى ـ عليه‌السلام ـ وبشأن الإنجيل ، وأمرت أهله بأن يحكموا بما أنزل الله فيه.

قال : تعالى ـ (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).

__________________

(١) الآيات من ٢٧ ـ ٤٠

(٢) الآيات من ٤١ ـ ٥٠

١٢

ثم انتقلت السورة بعد ذلك إلى الحديث عن القرآن الكريم ، فوصفته بأنه هو الكتاب المصدق لما بين يديه من الكتب ، وهو المهيمن عليها ، وهو الذي إليه المرجع في الأحكام ، وأن الذين يبغون التحاكم إلى غيره ضالون ظالمون.

قال ـ تعالى ـ (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).

ـ ثم وجهت السورة الكريمة في مطلع الربع الخامس (١) منها نداء إلى المؤمنين أمرتهم فيه بأن يجعلوا ولايتهم لله ولرسوله ولإخوانهم في العقيدة ، ونهتهم عن موالاة الذين يخالفونهم في الدين. ووصفت الذين يتولون من غضب الله عليهم بالنفاق ومرض القلب ، وبشرت المطيعين لله بالنصر والظفر قال ـ تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ).

ثم أمرت السورة الكريمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يوبخ أهل الكتاب بسبب كراهيتهم لأهل الحق ، وأن يخبرهم بأن المستحقين للكراهية هم أولئك الذين لعنهم الله وغضب عليهم ، لكفرهم ، ومسارعتهم في الإثم والعدوان. ولافترائهم على الله ـ تعالى ـ الكذب ، حيث وصفوه ـ سبحانه ـ بالبخل والشح.

قال ـ تعالى ـ : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا. بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ. وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً. وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ، كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ ، وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً ، وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ).

وبعد أن بينت السورة الكريمة لأهل الكتاب أنهم لو آمنوا بالحق الذي جاءهم به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكفر الله عنهم سيئاتهم ، ولأدخلهم جنات النعيم ، ولرزقهم من فضله الرزق الجزيل. بعد أن بينت كل ذلك ، وجهت في مطلع الربع السادس (٢) منها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نداء أمرته فيه بتبليغ ما أمره الله بتبليغه بدون خشية أو تردد ، ووعدته بعصمة الله ـ تعالى ـ له من الناس كما أمرته بمصارحة أهل الكتاب بما هم فيه من باطل وضلال.

ثم ساقت جملة من الرذائل التي انغمس فيها أهل الكتاب ، فحكت نقضهم للعهود والمواثيق ، وتكذيبهم للرسل تارة وقتلهم إياهم تارة أخرى ، كما حكت قولهم الباطل : (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ). وقولهم : (إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ).

__________________

(١) الآيات من ٥٠ ـ ٦٦

(٢) الآيات من ٦٧ ـ ٨١

١٣

وقد هددتهم بالعذاب الأليم إذا ما تمادوا في ضلالهم وطغيانهم ، وحثتهم على التوبة والاستغفار ، وأقامت لهم الأدلة على بطلان عقائدهم ، وبينت لهم القول الحق في شأن عيسى وأمه مريم حتى يكونوا على بصيرة من أمرهم.

قال ـ تعالى ـ : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ، وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) ثم كشفت السورة عن الأسباب التي أدت إلى طرد الكافرين من بنى إسرائيل من رحمة الله ، فذكرت أنهم قد استحقوا ذلك بسبب عصيانهم ، واعتدائهم وعدم تناهيهم عن منكر فعلوه ، وولايتهم لأهل الكفر وعداوتهم لأهل الإيمان.

قال ـ تعالى ـ (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ، لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ ، وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ ، وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ ، وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ).

ثم وضحت السورة الكريمة في مطلع الربع السابع (١) منها مراتب أعداء المؤمنين ، فصرحت بأن أشد الناس عداوة للمؤمنين هم اليهود والذين أشركوا. وأن أقربهم مودة إلى المؤمنين أولئك الذين قالوا إنا نصارى (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ).

ثم وجهت نداء المؤمنين نهتهم فيه عن تحريم الطيبات التي أحلها الله لهم وأرشدتهم إلى ما يجب عليهم فعله إذا ما حنثوا في أيمانهم. وأمرتهم بحفظ هذه الأيمان ، وعدم اللجوء إليها إلا عند وجود المقتضى لها.

ثم أخبرتهم بأنه إذا كان الله ـ تعالى ـ قد أحل لهم الطيبات ، فإنه في الوقت نفسه قد حرم عليهم الخبائث ، وعلى رأس هذه الخبائث : الخمر والميسر والأنصاب والأزلام ، فعليهم أن يجتنبوا هذه الأرجاس لينالوا رضا الله في عاجلتهم وآجلتهم.

ثم ساقت السورة الكريمة ألوانا من مظاهر نعم الله على عباده ورحمته بهم حيث أباح لهم أن يتمتعوا بما أحله الله لهم مع مراقبته وخشيته في كل ما يأتون وما يذرون ، ومع التزامهم بتعاليم شريعة الله في الحل وفي الحرم.

وبعد هذا الحديث المستفيض عما أحله الله وعما حرمه ، أخذت السورة في مطلع الربع الثامن (٢) منها في التنويه بشأن الكعبة وبشأن البيت الحرام ، ووظيفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) الآيات من ٨٢ ـ ٩٦

(٢) الآيات من ٩٧ ـ ١٠٨

١٤

ثم نهت المؤمنين عن الأسئلة التي لا منفعة من ورائها ، فإن هذا يتنافى مع ما يقتضيه إيمانهم من أدب في القول ، ومن تطلع إلى ما ينفع ويفيد ، قال ـ تعالى ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ، وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها ، وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ. قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ).

ثم حكت السورة أنواعا من الأوهام التي تعلق بها أهل الجاهلية ، حيث حرموا على أنفسهم بعض المطاعم التي أحلها الله ، مستندين في تحريمهم ما حرموه إلى عادات جاهلية اعتنقوها ، وهذه العادات أبعد ما تكون عن شرع الله وعما تقتضيه العقول السليمة.

وفي وسط هذا الحديث عما أحله الله وحرمه ، ساقت السورة توجيها حكيما للمؤمنين ، حيث بينت لهم أن الداعي إلى الله متى قام بواجبه نحو ربه ، ونحو نفسه ، ونحو غيره ، فإنه لا يكون بعد ذلك مسئولا عن ضلال من يضل.

قال ـ تعالى ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ، إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

وبعد أن بينت بعض الأحكام التي تتعلق بالوصية ووسائل إثباتها ، نوهت السورة الكريمة في الربع الأخير منها (١) بشأن عيسى ـ عليه‌السلام ـ وحكت بعض المعجزات التي أيده الله بها في رسالته ، وقصت ما طلبه الحواريون منه حيث قالوا له ـ كما حكى القرآن عنهم :

(هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) وساقت ما دار بينهم وبين عيسى ـ عليه‌السلام ـ من محاورات في هذه المسألة.

ثم ختمت السورة حديثها عن عيسى بتلك الآيات التي تحكى براءته من كل ما افتراه المفترون عليه ، وأنه ـ عليه السلام ـ لم يأمر قومه إلا بعبادة الله وحده ، وأنه لم يكن إلا رسولا من رسل الله الذين أخلصوا له ـ سبحانه ـ العبادة والطاعة. استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكى هذا المعنى بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول :

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ؟ قالَ : سُبْحانَكَ. ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ. إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ، تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ ، أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ، وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ ، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

__________________

(١) الآيات من ١٠٩ إلى نهاية السورة.

١٥

٨ ـ هذا عرض مجمل للتشريعات والقصص والآداب والتوجيهات التي اشتملت عليها سورة المائدة. ومن هذا العرض نستطيع أن نستخلص بعض الحقائق البارزة في هذه السورة بصورة أظهر منها في غيرها. ومن تلك الحقائق ما يأتى :

١ ـ أن السورة الكريمة زاخرة بالأحكام الشرعية المتنوعة ، فأنت تقرؤها بتدبر وخشوع فتراها قد بينت أحكاما شرعية منها ما يتعلق بالحلال والحرام من الذبائح ومن الصيد ومنها ما يتعلق بالحلال والحرام في فترة الإحرام وفي المسجد الحرام. ومنها ما يتعلق بالحلال والحرام من النكاح ، ومنها ما يتعلق بالطهارة والصلاة والتيمم ، ومنها ما يتعلق بوجوب التزام العدل في القضاء وفي الشهادة وفي غيرهما. ومنها ما يتعلق بالحدود في السرقة وفي قطع الطريق والإفساد في الأرض. ومنها ما يتعلق بأهل الكتاب إذا ما تحاكموا إلينا. ومنها ما يتعلق بكفارات الايمان وكفارات قتل الصيد في حالة الإحرام. ومنها ما يتعلق بالخمر والميسر والأنصاب والأزلام. ومنها ما يتعلق بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامى من الأنعام. ومنها ما يتعلق بالوصية عند الموت .. إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية التي أفاضت في الحديث عنها هذه السورة الكريمة.

قال القرطبي : قال أبو ميسرة : المائدة من آخر ما نزل ليس فيها منسوخ. وفيها ثماني عشرة فريضة ليست في غيرها ، وهي : (الْمُنْخَنِقَةُ ، وَالْمَوْقُوذَةُ ، وَالْمُتَرَدِّيَةُ ، وَالنَّطِيحَةُ ، وَما أَكَلَ السَّبُعُ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ، وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، وتمام الطهور : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) أى : إتمام ما لم يذكر في سورة النساء ـ (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) و (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) إلى قوله : (عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ). (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ ، وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ). وقوله ـ تعالى ـ (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) الآية.

ثم قال القرطبي : قلت : وفريضة تاسعة عشرة وهي قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) إذ ليس للآذان ذكر في القرآن إلا في هذه السورة أما ما جاء في سورة الجمعة فمخصوص بالجمعة. وهو في هذه السورة عام لجميع الصلوات» (١).

٢ ـ إن الذي يقرأ سورة المائدة يراها قد وجهت جملة من النداءات إلى المؤمنين وقد تجاوزت هذه النداءات في كثرتها ، تلك النداءات التي وردت في أطول سورة في القرآن وهي سورة البقرة.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٣٠

١٦

فقد وجهت سورة المائدة إلى المؤمنين ستة عشر نداء. وقد تضمن كل نداء تشريعا من التشريعات ، أو أمرا من الأوامر : أو نهيا من النواهي ، أو توجيها من التوجيهات ؛ مما يدل على أن هذه السورة قد اهتمت اهتماما ملحوظا بتربية المؤمنين على المنهج الذي اختاره الله لهم.

ولا سيما بعد أن أكمل ـ سبحانه ـ لهم دينهم ، وأتم عليهم نعمته.

وهذه هي النداءات التي وجهها الله ـ تعالى ـ إلى المؤمنين نسوقها مرتبة كما وردت في السورة.

١ ـ قال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)

الآية ١

٢ ـ وقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ)

الآية ٢

٣ ـ وقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا)

الآية ٦

٤ ـ وقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ)

الآية ٨

٥ ـ وقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ)

الآية ١١

٦ ـ وقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)

الآية ٣٥

٧ ـ وقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ)

الآية ٥١

٨ ـ وقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ)

الآية ٥٤

٩ ـ وقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً)

الآية ٥٧

١٠ ـ وقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ)

الآية ٨٧

١١ ـ وقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ)

الآية ٩٠

١٢ ـ وقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ)

الآية ٩٤

١٣ ـ وقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)

الآية ٩٥

١٤ ـ وقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)

الآية ١٠١

١٥ ـ وقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ)

الآية ١٠٥

١٦ ـ وقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ)

الآية ١٠٦

هذه هي النداءات التي وجهها ـ سبحانه ـ إلى المؤمنين في سورة المائدة ، وأنت إذا تأملت فيها ترى كل نداء منها يعتبر قانونا منظما لناحية من نواحي الحياة عند المسلمين فيما يختص بأنفسهم ، أو فيما يختص بعلاقتهم بغيرهم.

وسنفصل القول في هذه الآيات المشتملة على تلك النداءات عند تفسيرنا لها ـ إن شاء الله ـ.

٣ ـ أن السورة الكريمة حافلة بالحديث عن أحوال أهل الكتاب ، فقد تحدثت عن عقائدهم الفاسدة ، وردت عليهم بما يبطل معتقداتهم بأسلوب منطقي رصين : ولم تكتف بهذا بل

١٧

أرشدتهم في كثير من آياتها إلى طريق الحق حتى يسلكوه ، وحتى لا يكون لهم عذر يوم القيامة. وأمرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كثير من آياتها ـ أيضا ـ أن يكشف لهم عن ضلالهم وفسوقهم عن أمر ربهم.

ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ).

وقوله ـ تعالى ـ : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ).

وقوله ـ تعالى ـ : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ، وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ ، وَأَضَلُّوا كَثِيراً ، وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ).

وقد ذكرت السورة الكريمة ـ كما سبق أن أشرنا ـ ألوانا من مسالك اليهود الخبيثة لكيد الدعوة الإسلامية ، كتحاكمهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا بقصد الوصول إلى الحق ، وإنما بقصد إظهاره بمظهر الجاهل بأحكام التوراة ولكن الله ـ تعالى ـ خيب سعيهم ، وأبطل مكرهم ، وكاستهزائهم بالدين الإسلامى وشعائره :

قال ـ تعالى ـ : (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ).

كما ذكرت ـ أيضا ـ أنواعا من رذائلهم التي من أشنعها : نقضهم للعهود والمواثيق ، ومسارعتهم في الإثم والعدوان ، وأكلهم أموال الناس بالباطل ، وتكذيبهم للرسل تارة ، وقتلهم لهم تارة أخرى.

أما فيما يتعلق بالنصارى فقد تميزت سورة المائدة بالإفاضة في الحديث عنهم بصورة لا تكاد توجد في غيرها بهذه السعة.

فقد تحدثت عن عقائدهم الباطلة ، وعن أقوالهم الكاذبة في شأن عيسى عليه‌السلام ـ وفي شأن أمه مريم ، وردت عليهم بما يدحض حجتهم ، وبما يرشدهم إلى الصراط المستقيم.

وقد أنصفت السورة من يستحق الإنصاف منهم ، وبشرت أولئك الذين اتبعوا الحق منهم بالثواب الجزيل من الله ـ تعالى.

٤ ـ أن الذي ينظر في الأحكام والتشريعات والتوجيهات التي اشتملت عليها سورة المائدة يراها تمتاز بأنها أحكام نهائية لا تقبل النسخ.

وخذ على سبيل المثال ما ورد في هذه السورة بشأن تحريم الخمر ، فإنك تراه قاطعا وحاسما في التحريم.

١٨

فلقد مر تحريم الخمر بمراحل كان أولها قوله ـ تعالى ـ في سورة البقرة : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) (الآية ٢١٩).

وكان ثانيها قوله ـ تعالى ـ في سورة النساء : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) (الآية ٤٣).

وكان آخرها قوله ـ تعالى ـ هنا في سورة المائدة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ).

والسر في أن الأحكام الشرعية التي وردت في هذه السورة تعتبر نهائية ولا تقبل النسخ. أن معظم آياتها ـ كما سبق أن ذكرنا ـ كان من آخر ما نزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرآن ، وكان نزول كثير من آياتها بعد أن انزوى الشرك في مخابئه ، وصار المسلمون في قوة ومنعة ، كانوا بها أصحاب السلطان في مكة وفي بيت الله الحرام ، دون أن يتعرض لهم متعرض ، أو ينازعهم منازع ، فقد تم فتح مكة ودخل الناس في دين الله أفواجا.

ولهذا فأنت لا ترى السورة الكريمة تتحدث عن الشرك أو عن المشركين ، أو عن الجهاد في سبيل الله وما يتعلق به من حض عليه ومن أحكام تختص به.

وإنما سورة المائدة تتحدث عن قضايا أخرى كان المسلمون في حاجة إليها عند نزولها. ومن أهم هذه القضايا : حث المؤمنين على التزام العهود والمواثيق وتحذيرهم من الإخلال بشيء منها ، وإنزال التشريعات التي هم في حاجة إليها بعد أن تم لهم النصر على أعدائهم ، وإرشادهم إلى طرق المحاجة والمناقشة التي يردون بها على ما يثيره أهل الكتاب من شبهات حول تعاليم الإسلام وآدابه وتشريعاته. وبيان وجه الحق فيما حكته السورة عن أهل الكتاب من أقوال باطلة ، ومن معتقدات فاسدة.

أما فيما يتعلق بالشرك والمشركين أو بالجهاد في سبيل الله ، فلم يكن مقتضى حال المسلمين يستدعى الكلام في ذلك ، لأن نزول معظمها كان بعد أن تم للمسلمين النصر على أعدائهم ، وبعد أن أصبحت كلمتهم هي العليا ، وكلمة المشركين هي السفلى.

وقد تكفلت السور المدنية الأخرى التي نزلت قبل سورة المائدة بالحديث المستفيض عن الشرك وعن المشركين ، وعن الحض على الجهاد في سبيل الله ، وعن غير ذلك من القضايا التي تقتضيها حالة المسلمين.

١٩

وبعد : فهذا تمهيد بين يدي السورة الكريمة تعرضنا خلاله لمكان نزولها ولزمانه ، ولوجه تسميتها بسورة المائدة. وللمقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها وللأمور البارزة فيها.

وقد قصدنا بهذا التمهيد إعطاء القارئ الكريم فكرة واضحة عن هذه السورة ، قبل البدء في تفسير آياتها بالتفصيل والتحليل. والله الهادي إلى سواء السبيل.

٢٠