التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٤

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٤

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0531-4
الصفحات: ٣٦٠

وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(١٠٨)

ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات مختلفة في تفاصيلها إلا أنها متقاربة في مغزاها.

ومن ذلك ما ذكره ابن كثير بقوله : روى ابن أبى حاتم عن أبن عباس عن تميم الداري في هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) قال : برىء الناس منها غيرى وغير عدى بن بداء ، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام ، فأتيا الشام لتجارتهما ، وقدم عليهما مولى لبنى سهم يقال له «بديل بن أبى مريم» بتجارة ، معه جام من فضة أى إناء من فضة ـ يريد به الملك ، وهو أعظم تجارته ؛ فمرض فأوصى إليهما ، وأمرهما أن يبلغا ما ترك إلى أهله ـ أى : يوصلا ما تركه من متاع لورثته.

قال تميم : فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ، واقتسمنا الثمن أنا وعدى ، فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا ، وفقدوا الجام فسألونا عنه ، فقلنا : ما ترك غير هذا ، وما دفع إلينا غيره.

قال تميم : فلما أسلمت بعد قدوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة تأثمت من ذلك ، فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر ، ودفعت إليهم خمسمائة درهم ، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها ، فوثبوا عليه ، فأمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يستحلفوه بما يحكم به على أهل دينه ، فحلف فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ) الآيات فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفاه فنزعت الخمسمائة من عدى بن بداء (١).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٩٥

٣٢١

وقال القرطبي : ولا أعلم خلافا أن هذه الآيات نزلت بسبب تميم الداري وعدى بن بداء ، روى البخاري والدّارقطنيّ وغيرهما عن ابن عباس قال : كان تميم الداري وعدى بن بداء يختلفان إلى مكة فخرج معهما فتى من بنى سهم فتوفى بأرض ليس بها مسلم ، فأوصى إليهما فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاما من فضة مخوصا بالذهب ـ أى عليه صفائح الذهب مثل خوص النخل ـ فاستحلفهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما كتمتما ولا اطلعتما» ثم وجد الجام بمكة فقالوا : اشتريناه من عدى وتميم ، فجاء رجلان من ورثة السهمي فحلفا أن الجام للسهمى ، ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا ، قال : فأخذوا الجام وفيهم نزلت هذه الآيات (١).

هذا ، والمعنى الإجمالى لهذه الآيات : أن الله ـ تعالى ـ شرع لكم ـ أيها المؤمنون ـ الوصية في السفر فعلى من يحس منكم بدنو أجله وهو في السفر أن يحضر رجلا مسلما يوصيه بإيصال ماله لورثته فإذا لم يجد رجلا مسلما فليحضر كافرا ، والاثنان أحوط ، فإذا أوصلا ما عندهما إلى ورثة الميت. وارتاب الورثة في أمانة هذين الرجلين ، فعليهم في هذه الحالة أن يرفعوا الأمر للحاكم ، وعلى الحاكم أن يستحلف الرجلين بالله بعد الصلاة بأنهما ما كتما شيئا من وصية وما خانا.

فإذا ظهر بعد ذلك للحاكم أو لورثة الميت أن هذين الرجلين لم يكونا أمينين في أداء ما كلفهما الميت بأدائه ، فعندئذ يقوم رجلان من أقرب ورثة الميت ، ليحلفا بالله أن شهادتهما أحق وأولى من شهادة الرجلين الأولين ، وأن هذين الرجلين لم يؤديا الوصية على وجهها.

ثم بين ـ سبحانه ـ في الآية الثالثة أن ما شرعه الله لهم هو أضمن طريق لأداء الشهادة على وجهها الصحيح وعليهم أن يراقبوه ويتقوه لكي يكونوا من المؤمنين الصادقين :

هذا هو المعنى الإجمالى للآيات الكريمة سقناه قبل تفصيل القول في تفسيرها حتى يتهيأ الذهن لفهمها بوضوح.

قال الآلوسى : وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) .. إلخ استئناف مسوق لبيان الأحكام المتعلقة بأمور دنياهم ، إثر بيان الأحوال المتعلقة بأمور دينهم وفيه من إظهار العناية بمضمونه ما لا يخفى.

وللشهادة معان منها ، الإحضار والقضاء ، والحكم ، والحلف ، والعلم والإيصاء ، والمراد بها هنا الأخير ، كما نص عليه جماعة من المفسرين» (٢).

وقوله : (شَهادَةُ) يصح أن يكون مبتدأ وخبره قوله : (اثْنانِ) على حذف مضاف. أى : شهادة اثنين.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٣٤٦

(٢) تفسير الآلوسى ج ٧ ص ٤٦

٣٢٢

ويصح أن يكون مبتدأ والخبر محذوف. أى : فيما أمرتم به أن يشهد اثنان : ويكون قوله (اثْنانِ) فاعلا لقوله (شَهادَةُ) وعليه تكون إضافة قوله (شَهادَةُ) إلى الظرف وهو (بَيْنِكُمْ) على التوسع.

قال القرطبي : قوله (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) قيل : معناه شهادة ما بينكم فحذفت «ما» وأضيفت الشهادة إلى الظرف ، ، واستعمل اسما على الحقيقة ، وهو المسمى عند النحويين بالمفعول على السعة. ومنه قوله ـ تعالى ـ (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) أى ، : ما بيني وبينك» والمراد بقوله : (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) ظهور أماراته وعلاماته وهو ظرف متعلق بقوله : «شهادة».

وقوله : (حِينَ الْوَصِيَّةِ) بدل من الظرف. وفي هذا الإبدال تنبيه على أن الوصية لا ينبغي أن يتهاون فيها.

وقوله : (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) صفة لقوله (اثْنانِ) وقوله : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) معطوف على قوله (اثْنانِ).

والمراد من غير المسلمين ، ويرى بعضهم أن المراد بقوله (مِنْكُمْ) أى : من قبيلتكم ، وبقوله : (مِنْ غَيْرِكُمْ) أى : من غير قبيلتكم.

وقوله : (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) بيان لمكان الوصية وزمانها.

والمراد بالضرب في الأرض السفر فيها وقيل للمسافر ضارب في الأرض لأنه يضربها برجليه أو بعصاه.

والمراد بقوله : (فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) أى : فقاربتم نهاية أجلكم بأن أحسستم بدنو الموت منكم. فليس المراد الموت بالفعل وإنما المراد مشارفته ومقاربته.

وسمى ـ سبحانه ـ الموت مصيبة ، لأنه بطبيعته يؤلم ، أو يصحبه أو يقاربه أو يسبقه آلام نفسية.

قال القرطبي : وفي الكلام حذف تقديره إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت ، فأوصيتم إلى اثنين عدلين في ظنكم ودفعتم إليهما ما معكم من المال ، ثم متم وذهبا إلى ورثتكم بالتركة فارتابوا في أمرهما ، وادعو عليهما خيانة ، فالحكم أن تحبسوهما من بعد الصلاة ، أى تستوثقوا منهما» (١).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٣٥٢

٣٢٣

فقوله : (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) كلام مستأنف لبيان ما يجب على الحاكم أن يفعله عند الشك في أمانة الرجلين اللذين دفع إليهما الميت ما له ليوصلاه إلى أهله.

ومعنى (تَحْبِسُونَهُما) توقفونهما وتمسكونهما لأداء اليمين اللازمة عليهما والمراد بالصلاة : صلاة العصر. وقد روى ذلك عن ابن عباس وجماعة من التابعين.

قال الفخر الرازي : إنما عرف هذا التعيين بوجوه :

أحدها : أن هذا الوقت كان معروفا عندهم بالتحليف بعده ، فالتقييد بالمعروف المشهور أغنى عن التقييد باللفظ.

وثانيها : ما روى أنه لما نزلت هذه الآية صلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم العصر ، ودعا بعدي وتميم فاستحلفهما عند المنبر فصار فعل الرسول دليلا على التقييد.

وثالثها : أن جميع أهل الأديان يعظمون هذا الوقت ويذكرون الله فيه ، ويحترزون عن الحلف الكاذب (١).

وقال الزهري : المراد بالصلاة ، الصلاة مطلقا : وإنما كان الحلف بعد الصلاة ، لأنها داعية إلى النطق بالصدق ، وناهية عن الكذب والزور.

أى : توقفون ـ أيها المسلمون ـ هذين الرجلين بعد الصلاة لأداء اليمين (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) أى : فيحلفان بالله (إِنِ ارْتَبْتُمْ) في صدقهما ، بأن يقولا : (لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) أى : لا نحصل بيمين الله عرضا من أعراض الدنيا ، ولو كان من نقسم له ونشهد عليه قريبا لنا.

(وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) أى : ولا نكتم الشهادة التي أمرنا الله بإظهارها وأدائها (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) أى : إنا إذا لنكونن معدودين من المستقرين في الذنوب والآثام إن كتمناها وبدلناها عن وجهها الصحيح.

وقوله (إِنِ ارْتَبْتُمْ) شرط لا يتوجه تحليف الشاهدين إلا به ، ومتى لم يقع ريب ولا اختلاف فلا يمين.

وجواب الشرط محذوف للعلم به مما قبله. أى : إن ارتبتم فحلفوهما.

والضمير في قوله : (بِهِ) يعود إلى القسم المفهوم من قوله : (فَيُقْسِمانِ) أى : فيقسمان بالله لا نشتري بصحة القسم ثمنا مهما كان هذا الثمن.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٢ ص ١١٧

٣٢٤

وقوله : (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) تأكيد لتنزههما عن الحلف الكاذب.

قال صاحب الكشاف : والضمير في (بِهِ) للقسم وفي (كانَ) للمقسم له. يعنى : لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضا من الدنيا. أى : لا نحلف كاذبين لأجل المال ، ولو كان من يقسم له قريبا منا ، على معنى : أن هذه عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبدا ، وأنهم داخلون تحت قوله ـ تعالى ـ (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) (١).

فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد أكد هذا القسم بجملة من المؤكدات منها : أن الحالفين يحلفان بأنهما لا يحصلان بيمين الله ثمنا مهما كانت قيمته ، وبأنهما لن يحابيا إنسانا مهما بلغت درجة قرابته وبأنهما لن يكتما الشهادة التي أمرهما الله بأدائها على وجهها الصحيح ، وبأنهما يقران على أنفسهما باستحقاق عقوبة الآثم المذنب إن كتما أو خانا أو حادا عن الحق ، وهذا كله لأجل أن تصل وصية الميت إلى أهله كاملة غير منقوصة.

ثم بين ـ سبحانه ـ الحكم فيما إذا تبين أن الرجلين اللذين دفع إليهما الموصى ما له لم يكونا أمينين فقال : (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ).

وقوله : (عُثِرَ) أى : اطلع. يقال عثر الرجل على الشيء عثورا إذا اطلع عليه. ويقال : عثرت منه على خيانة أى : اطلعت.

وقوله : (الْأَوْلَيانِ) تثنية أولى بمعنى أقرب. فالمراد بقوله (الْأَوْلَيانِ) أى : الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما بأحوال الميت.

والمعنى : فان اطلع بعد تحليف الشاهدين الوصيين من جهة الميت على أنهما (اسْتَحَقَّا إِثْماً) أى : فعلا ما يوجب الإثم من خيانة أو كتمان أو ما يشبههما (فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما) أى : فرجلان آخران يقومان مقام اللذين اطلع على خيانتهما : أى يقفان موقفهما في الحبس بعد الصلاة والحلف ويكون هذان الرجلان الآخران (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ).

قال القرطبي : قال ابن السرى : أى من الذين استحق عليهم الإيصاء واختاره ابن العربي ؛ وأيضا فإن التفسير عليه ، لأن المعنى عند أهل التفسير : من الذين استحقت عليهم الوصية (٢).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦٨٨

(٢) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٣٥٨

٣٢٥

وقال بعض العلماء : قوله (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ) أى : من ورثة الميت الذين استحق من بينهم الأوليان أى : الأقربان إلى الميت ، الوارثان له. الأحقان بالشهادة ، أى : اليمين. فقوله (الْأَوْلَيانِ) فاعل (اسْتَحَقَ).

ومفعول (اسْتَحَقَ) محذوف ، قدره بعضهم «وصيتهما» وقدره ابن عطية «ما لهم وتركتهم» وقدره الزمخشري. أن يجردوهما للقيام بالشهادة لأنها حقهما ويظهروا بهما كذب الكاذبين.

وقرئ (اسْتَحَقَ) على البناء للمفعول. أى من الذين استحق عليهم الإثم أى «جنى عليهم» ، وهم أهل الميت وعشريته. وعليه فقوله : (الْأَوْلَيانِ) هو بدل من الضمير في (يَقُومانِ) أو من (فَآخَرانِ) (١).

وقوله : (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) بيان لكيفية اليمين التي يحلفها هذان الأوليان.

أى : فيحلف بالله هذان الأوليان ـ أى الأقربان إلى الميت ـ قائلين (لَشَهادَتُنا) أى : ليميننا (أَحَقُ) بالقبول (مِنْ شَهادَتِهِما) أى : من يمينهما (وَمَا اعْتَدَيْنا) أى : وما تجاوزنا الحق في يميننا وفيما نسبناه إليهما من خيانة (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أى إنا إذا اعتدينا وقلنا فيهما خلاف الحق لنكونن في زمرة الظالمين لأنفسهم المستحقين لسخط الله وعقابه.

قال الآلوسى : وقوله (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) معطوف على (يَقُومانِ) في قوله : (فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما) والسببية ظاهرة وقوله : (لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما) جواب القسم. والمراد بالشهادة هنا ـ عند الكثيرين ـ اليمين كما في قوله ـ تعالى ـ (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ).

وصيغة التفضيل (أَحَقُ) إنما هي لإمكان قبول يمينهما في الجملة باعتبار صدقهما في ادعاء تملكهما لما ظهر في أيديهما» (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ وجه الحكمة والمصلحة فيما شرعه مما تقدم تفصيله فقال (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ).

فاسم الإشارة (ذلِكَ) يعود إلى ما شرعه الله من أحكام تتعلق بالوصية التي تكون في السفر ويموت صاحبها.

أى : ذلك الحكم المذكور (أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) أى : أقرب إلى أن يؤدى

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٧ ص ٥١ ـ بتصريف وتلخيص

(٢) تفسير القاسمى ج ٦ ص ٦٦

٣٢٦

الأوصياء الشهادة في هذه الحادثة وأمثالها على وجهها الصحيح. أى : على حقيقتها من غير تغيير لها خوفا من عذاب الآخرة. فالوجه في قوله (عَلى وَجْهِها) بمعنى الذات والحقيقة.

والجملة الكريمة بيان لحكمة مشروعية التحليف بالتغليظ المتقدم ، وقوله : (أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) بيان لحكمة رد اليمين على الورثة. وهو معطوف على مقدر ينبئ عنه المقام فكأنه قيل : ذلك الذي شرعناه لكم أقرب إلى أن يأتى الأوصياء بالشهادة على وجهها الصحيح ويخافوا عذاب الآخرة بسبب اليمين الكاذبة ، أو يخافوا أن ترد أيمان على الورثة بعد أيمانهم فيظهر كذبهم على رؤوس الأشهاد ، فيكون ذلك الخوف داعيا لهم إلى النطق بالحق وترك الكذب والخيانة.

فأى الخوفين حصل عندهم سيقودهم إلى التزام الحق وترك الخيانة وإيصال الحقوق لذويها كاملة غير منقوصة.

فمن لم يمنعه خوف الله من أن يكذب أو يخون لضعف دينه منعه خوف الفضيحة على رءوس الأشهاد.

ثم قال ـ سبحانه (ذلِكَ أَدْنى) أى أقرب إلى الحق وأبعد عن الباطل لأن معرفة الحق من كل وجوهه وجزئياته ، مرجعها إلى الله العليم بخفايا الأمور وبواطنها وبواعثها. أما الحاكم فإنه يحكم على حسب ما يظهر له من حق ، وحكمه قابل للخطأ والصواب.

والضمير في قوله (يَأْتُوا) ، و (يَخافُوا) ، و (أَيْمانِهِمْ) يعود إلى الأوصياء الذين أوصاهم الميت بإيصال ما يريد إيصاله لورثته ، ثم حدث شك من الورثة في أمانتهم.

وجاء الضمير مجموعا مع أن السياق لاثنين فقط ، لأن المراد ما يعم هذين المذكورين وما يعم غيرهما من بقية الناس.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ).

أى : واتقوا الله في كل ما تأتون وتذرون من أموركم واسمعوا ما تؤمرون به سماع إذعان وقبول وطاعة واعلموا أن الله ـ تعالى ـ لا يوفق القوم الخارجين عن طاعته إلى طريق الخير والفلاح ، لأنهم آثروا الغي على الرشد واستحبوا العمى على الهدى.

فهذا الختام للآية الكريمة اشتمل على أبلغ ألوان التحذير من معصية الله ومن مخالفة أمره.

هذا ؛ ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى :

١ ـ الحث على الوصية وتأكيد أمرها ، وعدم التهاون فيها بسبب السفر أو غيره ، لأن الوصية

٣٢٧

تثبت الحقوق ، وتمنع التنازع ولهذا شدد الإسلام في ضرورة كتابة الوصية ، والشخص قوى معافى ، ففي صحيح مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصى فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده».

قال ابن عمر ـ راوي هذا الحديث ـ : ما مرت على ليلة منذ سمعت رسول الله قال ذلك إلا وعندي وصيتي» (١).

٢ ـ الإشهاد على الوصية في الحضر والسفر ، ليكون أمرها أثبت ، والرجاء في تنفيذها أقوى ، فإن عدم الإشهاد عليها كثيرا ما يؤدى إلى التنازع وإلى التشكك في صحتها.

٣ ـ شرعية اختيار الأوقات والأمكنة والصيغ المغلظة التي تؤثر في قلوب الشهود وفي قلوب مقسمى الأيمان ، وتحملهم على النطق بالحق.

قال صاحب المنار : ويشهد لاختيار الأوقات جعل القسم بعد الصلاة ، ومثله في ذلك اختيار المكان ومما ورد في السنة في ذلك ما رواه مالك وأحمد وأبو داود. عن جابر مرفوعا ، «لا يحلف أحد عند منبري كاذبا إلا تبوأ مقعده من النار».

ويشهد بجواز التغليظ على الحالف في صيغة اليمين ـ بأن يقول فيه ما يرجى أن يكون رادعا للحالف عن الكذب ـ ما جاء في الآيات الكريمة من قوله ـ تعالى ـ (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ ـ إِنِ ارْتَبْتُمْ ـ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى ، وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) (٢).

٤ ـ جواز تحليف الشهود إذا ارتاب الحكام أو الخصوم في شهادتهم ، وقد روى عن ابن عباس أنه حلف المرأة التي شهدت في قضية رضاع بين زوجين.

٥ ـ جواز شهادة غير المسلمين على المسلمين عند الضرورة. وقد بسط الإمام القرطبي القول في هذه المسألة على ثلاثة أقوال :

الأول : أن الكاف والميم في قوله (اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) ضمير للمسلمين ، وفي قوله (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) للكافرين. فعلى هذا تكون شهادة أهل الكتاب على المسلمين جائزة في السفر إذا كانت وصية. وهو الأشبه بسياق الآية ، مع ما تقرر من الأحاديث.

وهو قول ثلاثة من الصحابة الذين شاهدوا التنزيل وهم : أبو موسى الأشعرى وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس ، وتبعهم في ذلك جمع من التابعين ، واختاره أحمد بن حنبل وقال :

__________________

(١) صحيح مسلم ج ٥ ص ٧٠

(٢) تفسير المنار ج ٧ ص ٢٢٧ ـ بتصرف وتلخيص ـ

٣٢٨

شهادة أهل الذمة جائزة على المسلمين في السفر عند عدم المسلمين ، كلهم يقولون : «منكم» من المؤمنين. ومعنى (مِنْ غَيْرِكُمْ) يعنى الكفار.

القول الثاني : أن قوله ـ سبحانه ـ (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) منسوخ وهذا قول زيد بن أسلم ؛ والنخعي ومالك والشافعى وأبى حنيفة وغيرهم من الفقهاء.

واحتجوا بقوله ـ تعالى ـ (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) وبقوله : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) فهؤلاء زعموا أن آية الدين من آخر ما نزل وأن فيها (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) فهو ناسخ لذلك ، ولم يكن الإسلام يومئذ إلا بالمدينة فجازت شهادة أهل الكتاب. وهو اليوم طبق الأرض فسقطت شهادة الكفار وقد أجمع المسلمون على أن شهادة الفساق لا تجوز والكفار فساق فلا تجوز شهادتهم.

قال القرطبي : قلت : ما ذكرتموه صحيح إلا أنا نقول بموجبه وأن ذلك جائز في شهادة أهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر خاصة للضرورة بحيث لا يوجد مسلم وأما مع وجود مسلم فلا.

ولم يأت ما ادعيتموه من النسخ عن أحد ممن شهد التنزيل ، وقد قال بالأولى ثلاثة من الصحابة ومخالفة الصحابة إلى غيرهم ينفر عنه أهل العلم.

ويقوى هذا أن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا ، حتى قال ابن عباس والحسن وغيرهما : إنه لا منسوخ فيها ، وما ادعوه من النسخ لا يصح ، فإن النسخ لا بد فيه من إثبات الناسخ على وجه ينافي الجمع بينهما مع تراخى الناسخ فما ذكروه لا يصح أن يكون ناسخا ، فإنه في قصة غير قصة الوصية لمكان الحاجة والضرورة ، ولا يمتنع اختلاف الحكم عند الضرورات.

القول الثالث : أن الآية لا نسخ فيها. قاله الزهري والحسن وعكرمة ، ويكون معنى قوله منكم أى من عشيرتكم وقرابتكم .. ومعنى (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) أى : من غير القرابة والعشيرة.

وهذا ينبنى على معنى غامض في العربية ، وذلك أن معنى آخر في العربية من جنس الأول ، تقول : مررت بكريم وكريم آخر ولا تقول مررت بكريم وخسيس آخر ، فوجب على هذا أن يكون قوله (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) أى عدلان من غير عشيرتكم من المسلمين» (١).

وبعد أن ساقت السورة الكريمة قبل ذلك ما ساقت من تشريعات حكيمة ومن تفصيل لأحوال أهل الكتاب وعقائدهم الزائفة. بعد كل ذلك اتجهت السورة في أواخرها إلى الكلام

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٣٤٩ ـ ٣٥١ بتصرف يسير

٣٢٩

عن أحوال الناس يوم القيامة وعن معجزات عيسى ـ عليه‌السلام ـ وعن موقف الحواريين منه. قال ـ تعالى :

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ)(١١٠)

قال الفخر الرازي : اعلم أن عادة الله تعالى ـ جارية في هذا الكتاب الكريم أنه إذا ذكر أنواعا كثيرة من الشرائع والتكاليف والأحكام ، أتبعها إما بالإلهيات وإما بشرح أحوال الأنبياء أو بشرح أحوال القيامة ، ليصير ذلك مؤكدا لما تقدم ذكره من التكاليف والشرائع فلا جرم لما ذكر ـ فيما تقدم أنواعا كثيرة من الشرائع ، أتبعها بوصف أحوال القيامة.

ثم قال وفي هذه الآية قولان :

أحدهما : أنها متصلة بما قبلها والتقدير : واتقوا الله يوم يجمع الله الرسل ـ فيكون قوله : (يَوْمَ يَجْمَعُ) بدل اشتمال من قوله في الآية السابقة (وَاتَّقُوا اللهَ) والقول الثاني : أنها منقطعة عما قبلها والتقدير :

٣٣٠

اذكروا (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) (١).

والمعنى : لقد سقنا لكم ـ أيها الناس ـ ما سقنا من الترغيب والترهيب وبينا لكم ما بينا من الأحكام والآداب ، فمن الواجب عليكم أن تتقوا الله وأن تحذروا عقابه ، وأن تذكروا ذلك اليوم الهائل الشديد يوم يجمع الله الرسل الذين أرسلهم إلى مختلف الأقوام. في شتى الأمكنة والأزمان فيقول لهم : ماذا أجبتم من أقوامكم؟

أى : ما الإجابة التي أجابكم بها أقوامكم؟

وخص ـ سبحانه ـ الرسل بالذكر ـ مع أن الرسل وغيرهم سيجمعون للحساب يوم القيامة ـ لإظهار شرفهم وللإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بجمع غيرهم من الأقوام لأن هؤلاء الأقوام إنما هم تبع لهم.

وقال ـ سبحانه ـ (ما ذا أُجِبْتُمْ) ولم يقل ـ مثلا ـ «هل بلغتم رسالتي أولا»؟ للإشعار بأن الرسل الكرام قد بلغوا رسالة الله على أكمل وجه وأن الذين خالفوهم من أقوامهم سيتحملون وزر مخالفتهم يوم القيامة.

وقوله : (قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) حكاية لإجابة الرسل فإن قيل : لما ذا نفوا عن أنفسهم العلم مع أن عندهم بعض العلم؟ فالجواب على ذلك أن هذا من باب التأدب مع الله ـ تعالى ـ فكأنهم يقولون : لا علم لنا يذكر بجانب علمك المحيط بكل شيء ، ونحن وإن كنا قد عرفنا ما أجابنا به أقوامنا ، إلا أن معرفتنا هذه لا تتعدى الظواهر ، أما علمك أنت ـ يا ربنا ـ فشامل للظواهر والبواطن ، أو أنهم قالوا ذلك إظهارا للتشكى والالتجاء إلى الله ليحكم بينهم وبين أقوامهم الذين كذبوهم. أو أن مرادهم لا علم لنا بما كان منهم بعد أن فارقناهم وفارقنا من جاء بعدنا من الناس ، لأن علمنا مقصور على حال من شاهدناهم وعاصرناهم.

ورحم الله صاحب الكشاف فقد حكى هذه الأقوال وغيرها بأسلوبه البليغ فقال : فإن قلت : ما معنى سؤالهم؟ قلت : توبيخ قومهم. كما كان سؤال الموءودة توبيخا للوائد. فإن قلت : كيف يقولون : «لا علم لنا وقد علموا بما أجيبوا؟».

قلت : يعلمون أن الغرض بالسؤال توبيخ أعدائهم فيكلون الأمر إلى علمه وإحاطته بما منوا به منهم ـ أى : بما ابتلوا به منهم ـ ، وكابدوا من سوء إجابتهم ، إظهارا للتشكى واللجأ إلى ربهم في الانتقام منهم ، وذلك أعظم على الكفرة ، وأنت في أعضادهم ، وأجلب لحسرتهم

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٢ ص ١١٢ ـ بتصرف وتلخيص ـ

٣٣١

وسقوطهم في أيديهم ، إذا اجتمع توبيخ الله لهم وتشكى أنبيائه منهم. ومثاله : أن ينكب بعض الخوارج على السلطان خاصة من خواصه نكبة ، قد عرفها السلطان واطلع على كنهها وعزم على الانتصار له منه. فجمع بينهما ويقول له : ما فعل بك هذا الخارجي؟ ـ وهو عالم بما فعل به ـ يريد توبيخه وتبكيته ، فيقول له : أنت أعلم بما فعل بي ، تفويضا للأمر إلى علم سلطانه واتكالا عليه ، وإظهارا للشكاية وتعظيما لما حل به منه. ـ ولله المثل الأعلى ـ وقيل : من هول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون عن الجواب ، ثم يجيبون بعد ما تثوب إليهم عقولهم بالشهادة على أنفسهم.

وقيل معناه : علمنا ساقط مع علمك ومغمور ، لأنك علام الغيوب ، ومن علم الخفيات لم تخف عليه الظواهر التي فيها إجابة الأمم لرسلهم.

وقيل معناه : لا علم لنا بما كان منهم بعدنا ، وإنما الحكم للخاتمة ، وكيف يخفى عليهم أمرهم وقد رأوهم سود الوجوه موبخين» (١).

ثم ذكر ـ سبحانه ـ بعض النعم التي أنعم بها على عيسى وأمه فقال : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ).

وقوله : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) بدل من قوله : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) وقد نصب بإضمار اذكر.

والمعنى : اذكر أيها المخاطب لتعتبر وتتعظ يوم يجمع الله الرسل فيقول لهم ماذا أجبتم؟. واذكر ـ أيضا ـ زيادة في العبرة والعظة قوله ـ سبحانه ـ (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) تذكر يا عيسى نعمى المتعددة عليك وعلى والدتك ـ وعبر بالماضي في قوله : (إِذْ قالَ اللهُ) مع أن هذا القول سيكون في الآخرة ، للدلالة على تحقيق الوقوع ، وأن هذا القول سيحصل بلا أدنى ريب يوم القيامة.

قال أبو السعود : قوله ـ تعالى : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) شروع في بيان ما جرى بينه ـ تعالى ـ وبين واحد من الرسل المجموعين ، من المفاوضة على التفصيل ، إثر بيان ما جرى بينه ـ تعالى ـ وبين الكل على وجه الإجمال ليكون ذلك كالأنموذج لتفاصيل أحوال الباقين ، وتخصيص شأن عيسى بالبيان ، لما أن شأنه ـ عليه‌السلام ـ متعلق بكلا الفريقين من أهل الكتاب الذين نعت عليهم هذه السورة جناياتهم. فتفصيل شأنه يكون أعظم عليهم ، وأجلب لحسراتهم ، وأدخل في صرفهم عن غيهم وعنادهم» (٢).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦٩٠

(٢) تفسير أبى السعود ج ٢ ص ٧٠

٣٣٢

والمراد بالنعمة في قوله (اذْكُرْ نِعْمَتِي) النعم المتعددة التي أنعم بها ـ سبحانه ـ على عيسى وعلى والدته مريم حيث طهرها من كل ريبة ، واصطفاها على نساء العالمين. وفي ندائه ـ سبحانه ـ لعيسى بقوله (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) إشارة إلى أنه ابن لها وليس ابنا لأحد سواها ، فقد ولد من غير أب ، ومن كان شأنه كذلك لا يصلح أن يكون إلها ، لأن الإله الحق لا يمكن أن يكون مولودا أو محدثا. (١) وقوله : (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) تعديد للنعم التي أنعم الله ـ تعالى ـ بها على عيسى.

وقوله (أَيَّدْتُكَ) أى قويتك من التأييد بمعنى التقوية.

والمراد بروح القدس : جبريل ـ عليه‌السلام ـ فإن من وظيفته أن يؤيد الله به رسله بالتعليم الإلهى ، وبالتثبيت في المواطن التي من شأن البشر أن يضعفوا فيها.

وقيل : المراد (بِرُوحِ الْقُدُسِ) روح عيسى حيث أيده ـ سبحانه ـ بطبيعة روحانية مطهرة في وقت سادت فيه المادية وسيطرت.

أى : أيدتك بروح الطهارة والنزاهة والكمال ، فكنت متسما بهذه الروح الطاهرة من كل سوء.

والمهد : سن الطفولة والصبا ـ والكهولة : السن التي يكون في أعقاب سن الشباب.

والمعنى : اذكر يا عيسى نعمى عليك وعلى والدتك ، وقت أن قويتك بروح القدس الذي تقوم به حجتك ، ووقت أن جعلتك تكلم الناس في طفولتك بكلام حكيم لا يختلف عن كلامك معهم في حال كهولتك واكتمال رجولتك.

وقوله : (إِذْ أَيَّدْتُكَ) ظرف لنعمتي. أى : اذكر إنعامى عليكما وقت تأييدى لك. وذكر ـ سبحانه ـ كلامه في حال الكهولة ـ مع أن الكلام في هذه الحالة معهود في الناس ـ للإيذان بأن كلامه في هاتين الحالتين ـ المهد والكهولة ـ كان على نسق واحد بديع صادر عن كمال العقل والتدبير ، دون أن يكون هناك فرق بين حالة الضعف وحالة القوة. قال الرازي : وهذه خاصية شريفة كانت حاصلة له ، وما حصلت لأحد من الأنبياء قبله ولا بعده.

وقال ابن كثير : قوله (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ) أى في خلقي إياك من أم بلا ذكر ، وجعلى إياك آية ودلالة قاطعة على كمال قدرتي (وَعَلى والِدَتِكَ) حيث جعلتك لها برهانا على براءتها مما نسبه الظالمون والجاهلون إليها من الفاحشة و (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) وهو جبريل ،

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٢ ص ١٢٥

٣٣٣

وجعلتك نبيا داعيا إلى الله في صغرك وكبرك. فأنطقتك في المهد صغيرا : فشهدت ببراءة أمك من كل عيب. واعترفت لي بالعبودية. وأخبرت عن رسالتي إياك ودعوتك إلى عبادتي ولهذا قال : (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) أى : تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك. وضمّن (تُكَلِّمُ) معنى تدعو ، لأن كلامه الناس في كهولته ليس بأمر عجيب» (١).

وقوله : (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) بيان لنعمة أخرى من النعم التي أنعم بها ـ سبحانه ـ على عيسى.

والمراد بالكتاب : الكتابة. أى أن عيسى ـ عليه‌السلام ـ لم يكن أميا بل كان قارئا وكاتبا وقيل المراد به ما سبقه من كتب النبيين كزبور داود ، وصحف إبراهيم ، وأخبار الأنبياء الذين جاءوا من قبله.

والمراد بالحكمة : الفهم العميق للعلوم مع العمل بما فهمه وإرشاد الغير إليه.

أى : واذكر وقت أن علمتك الكتابة حتى تستطيع أن تتحدى من يعرفونها من قومك. ووقت أن علمتك (الْحِكْمَةَ) بحيث تفهم أسرار العلوم فهما سليما تفوق به غيرك ، كما علمتك أحكام الكتاب الذي أنزلته على أخيك موسى وهو التوراة وأحكام الكتاب الذي أنزلته عليك وهو الإنجيل.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ بعض معجزات عيسى ، بعد أن بين بعض ما منحه من علم ومعرفة ، فقال : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي) أى : واذكر وقت أن وفقتك لأن تخلق أى تصور من الطين صورة مماثلة لهيئة الطير (فَتَنْفُخُ فِيها) أى في تلك الهيئة المصورة (فَتَكُونُ) أى فتصير تلك الهيئة المصورة (طَيْراً بِإِذْنِي) أى : تصير كذلك بقدرتي وإرادتى وأمرى.

ثم قال ـ تعالى : (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ) وهو الذي يولد أعمى ؛ وتبرئ كذلك (الْأَبْرَصَ) وهو المريض بهذا المرض العضال (بِإِذْنِي).

وقوله : (وَتُبْرِئُ) معطوف على (تَخْلُقُ).

وقوله : (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) معطوف على قوله : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ).

أى : واذكر وقت أن جعلت من معجزاتك أن تخرج الموتى من القبور أحياء ينطقون ويتحركون. وكل ذلك بإذنى ومشيئتى وإرادتى.

وقد ذكر المفسرون أن إبراء عيسى للأكمه والأبرص وإحياءه للموتى كان عن طريق الدعاء ،

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١١٥

٣٣٤

وكان دعاؤه يا حي يا قيوم ، وذكروا من بين من أحياهم سام بن نوح (١).

وبعد أن ذكر ـ سبحانه ـ بعض المعجزات التي أعطاها لعيسى لكي ينفع بها الناس ، أتبعها بذكر ما دفعه عنه من مضار فقال : (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ).

أى : واذكر نعمتي عليك وقت أن صرفت عنك اليهود الذين أرادوا السوء ، وسعوا في قتلك وصلبك مع أنك قد بشرتهم وأنذرتهم وجئتهم بالمعجزات الواضحات التي تشهد بصدقك في نبوتك.

وقوله (فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) تذييل قصد به ذمهم وتسجيل الحقد والجحود عليهم.

أى : لقد أعطيناك يا عيسى ما أعطيناك من النعم والمعجزات لتكون دليلا ناطقا بصدقك ، وشاهدا يحمل الناس على الإيمان بنبوتك ، ولكن الكافرين من بنى إسرائيل الذين أرسلت إليهم لم يصدقوا ما جئتهم به من معجزات واضحات ، بل سارعوا إلى تكذيبك قائلين : ما هذا الذي جئتنا به يا عيسى إلا سحر ظاهر ، وتخييل بين.

وهكذا نرى أن الكافرين من بنى إسرائيل ، لم تزدهم البينات التي جاء بها عيسى إلا جحودا وعنادا.

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما قاله الحواريون لعيسى ، وما طلبوه منه ، مما يدل على إكرام الله ـ تعالى ـ لنبيه عيسى فقال :

(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣)

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢ ص ١٦٩.

٣٣٥

قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ)(١١٥)

قال ابن كثير ما ملخصه : وقوله (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) هذا أيضا من الامتنان على عيسى ، بأن جعل الله له أصحابا وأنصارا ـ وهم الحواريون ـ والمراد بهذا الوحى الإلهام كما في قوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) وكما في قوله (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) وقال بعض السلف في هذه الآية (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) أى : ألهموا ذلك فامتثلوا ما ألهموا (١).

فأنت ترى أن الإمام ابن كثير يرى أن المراد بالوحي هنا الإلهام. وعلى ذلك كثير من المفسرين ، ومنهم من يرى أن المراد بقوله (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) أى : أمرتهم في الإنجيل على لسانك أو أمرتهم على ألسنة رسلي.

قال الآلوسى معززا هذا الرأى : وقد جاء استعمال الوحى بمعنى الأمر في كلام العرب ، كما قال الزجاج وأنشد :

الحمد لله الذي استقلت

بإذنه السماء واطمأنت

أوحى لها القرار فاستقرت

أى : أمرها أن تقر فامتثلت (٢).

والحواريون جمع حوارى. وهم أنصار عيسى الذين لازموه وآمنوا به وصدقوه. وكانوا عونا له في الدعوة إلى الحق.

يقال : فلان حوارى فلان. أى : خاصته من أصحابه. ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الزبير بن العوام : لكل نبي حوارى وحوارى الزبير».

وأصل مادة «حور» الدلالة على شدة الصفاء ونصوع البياض ، ولذلك قالوا في خالص لباب الدقيق : الحوارى وقالوا في النساء البيض : الحواريات والحواريات.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١١٤

(٢) تفسير الآلوسى ج ٧ ص ٥٨

٣٣٦

وقد سمى الله ـ تعالى ـ أنصار عيسى بالحواريين ، لأنهم أخلصوا لله نياتهم ، وطهروا نفوسهم من النفاق والخداع فصاروا في نقائهم وصفائهم كالشىء الأبيض الخالص البياض.

قال الراغب : والحواريون أنصار عيسى ـ عليه‌السلام ـ قيل كانوا صيادين وقال بعض العلماء إنما سموا حواريين لأنهم كانوا يطهرون نفوس الناس بإفادتهم الدين والعلم (١).

والمعنى : اذكر نعمتي عليك ـ يا عيسى ـ حين (أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) بطريق الإلهام أو بطريق الأمر على لسانك ، وقلت لهم : (أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) أى : آمنوا وصدقوا بأنى أنا الواحد الأحد المستحق للعبادة والخضوع وآمنوا برسولي عيسى بأنه مرسل من جهتي لهدايتكم وسعادتكم.

وفي ذكر كلمة (بِرَسُولِي) إشارة إلى مقامه من الله ـ عزوجل ـ وانفصال شخصه عن ذات الله ـ سبحانه ـ وأن عيسى ما هو إلا رسول من رب العالمين وأن من زعموا أنه غير ذلك جاهلون وضالون.

وقوله : (قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) حكاية لما نطق به الحواريون من إيمان وطاعة.

أى : أن الحواريين عند ما دعوا إلى الدين الحق (قالُوا آمَنَّا) بأن الله هو الواحد الأحد المستحق للعبادة وأنه لا والد له ولا ولد. ثم أكدوا إيمانهم هذا ، بأن قالوا (وَاشْهَدْ) علينا يا إلهنا واشهد لنا يا عيسى يوم القيامة (بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) أى : منقادون لكل ما جئتنا به وما تدعونا إليه.

وقدموا ذكر الإيمان لأنه صفة القلب ، وأخروا ذكر الإسلام لأنه عبارة عن الانقياد الظاهر فكأنهم قالوا : لقد استقر الإيمان في قلوبنا استقرارا مكينا ، كان من ثماره أن انقادت ظواهرنا لكل ما يأمرنا الله به على لسانك يا عيسى.

قال الفخر الرازي ما ملخصه : فإن قيل : إنه ـ تعالى ـ قال في أول الآية (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) ثم إن جميع ما ذكره ـ تعالى ـ من النعم مختص بعيسى ، وليس لأمه تعلق بشيء منها. قلنا : كل ما حصل للولد من النعم الجليلة والدرجات العالية فهو حاصل على سبيل التضمن والتبع للأم ولذلك قال ـ تعالى ـ (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) فجعلهما معا آية واحدة لشدة اتصال كل واحد منهما بالآخر.

وإنما ذكر ـ سبحانه قوله (وَإِذْ أَوْحَيْتُ) في معرض تعديد النعم لأن صيرورة الإنسان مقبول القول عند الناس محبوبا في قلوبهم ، من أعظم نعم الله على الإنسان.

__________________

(١) المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص ١٣٥

٣٣٧

وقد عدد عليه من النعم سبعا : (إِذْ أَيَّدْتُكَ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ وَإِذْ تَخْلُقُ) و (إِذْ تَبَرَّأَ). (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى وَإِذْ كَفَفْتُ وَإِذْ أَوْحَيْتُ) (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعض ما دار بين عيسى وبين الحواريين فقال : (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ).

«المائدة» الخوان إذا كان عليه الطعام من ماد يميد ، إذا تحرك. فكأن المائدة تتحرك بما عليها. وقال أبو عبيدة : سميت «مائدة» لأنها ميد بها صاحبها. أى : أعطيها وتفضل عليه بها. والخوان : ما يؤكل عليه الطعام.

ويرى الأخفش وغيره أن المائدة هي الطعام نفسه ، مأخوذة من «مادة» إذا أفضل.

و «إذ» في قوله (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) متعلق بمحذوف تقديره : اذكر وقت قول الحواريين يا عيسى ابن مريم.

وقد ذكروه باسمه ونسبوه إلى أمه ـ كما حكى القرآن عنهم ـ لئلا يتوهم أنهم اعتقدوا ألوهيته أو ولديته وقوله : (هَلْ يَسْتَطِيعُ ـ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) فيه قراءتان سبعيتان :

الأولى : (يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) بالياء ـ على أنه فعل وفاعل. وقوله (أَنْ يُنَزِّلَ) المفعول. والاستفهام على هذه القراءة محمول على المجاز ، لأن الحواريين كانوا مؤمنين ، ولا يعقل من مؤمن أن يشك في قدرة الله.

ومن تخريجاتهم في معنى هذه القراءة أن قوله (يَسْتَطِيعُ) بمعنى «يطيع» والسين زائدة. كاستجاب وأجاب.

أى : أن معنى الجملة الكريمة : هل يطيعك ـ ربك يا عيسى إن سألته أن ينزل علينا مائدة من السماء.

وسنفصل القول في تخريج هذه القراءة ، وفي اختلاف المفسرين في إيمان الحواريين بعد انتهائنا من تفسير هذه الآيات الكريمة.

أما القراءة الثانية : فهي «هل تستطيع ربك» بالتاء وبفتح الباء في «ربك» والمعنى : هل تستطيع يا عيسى أن تسأل ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء. فقوله «ربك» منصوب على التعظيم بفعل محذوف يقدر على حسب المقام وهذه القراءة لا إشكال فيها ، لأن الاستطاعة فيها متجهة إلى عيسى. أى : أتستطيع يا عيسى سؤال ربك إنزال المائدة أم لا تستطيع؟

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٢ ص ١٢٨

٣٣٨

قال القرطبي : قراءة الكسائي وعلى وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد «هل تستطيع» بالتاء «ربك» بالنصب وقرأ الباقون بالياء «هل يستطيع» «ربك» بالرفع.

والمعنى على قراءة الكسائي ـ بالتاء : هل تستطيع أن تسأل ربك ..

قالت عائشة : كان القوم أعلم بالله ـ تعالى ـ من أن يقولوا «هل يستطيع ربك» وقال معاذ : أقرأنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل تستطيع ربك قال معاذ : وسمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرارا يقرأ بالتاء» (١).

وقوله ـ سبحانه ـ (قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) حكاية لما رد به عيسى على الحواريين فيما طلبوه من إنزال المائدة :

أى قال لهم عيسى : اتقوا الله وقفوا عند حدوده ، واملئوا قلوبكم هيبة وخشية منه ، ولا تطلبوا أمثال هذه المطالب إن كنتم مؤمنين حق الإيمان ، فإن المؤمن الصادق في إيمانه يبتعد عن أمثال هذه المطالب التي قد تؤدى إلى فتنته.

ثم حكى القرآن ما رد به الحواريون على عيسى فقال : (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ).

أى : قال الحواريون لعيسى إننا نريد نزول هذه المائدة علينا من السماء لأسباب : أولها : أننا نرغب في الأكل منها لننال البركة ، ولأننا في حاجة إلى الطعام بعد أن ضيق علينا أعداؤك وأعداؤنا الذين لم يؤمنوا برسالتك.

وثانيها : أننا نرغب في نزولها لكي تزداد قلوبنا اطمئنانا إلى أنك صادق فيما تبلغه عن ربك ، فإن انضمام علم المشاهدة إلى العلم الاستدلالي ، مما يؤدى إلى رسوخ الإيمان ، وقوة اليقين.

وثالثها : أننا نرغب في نزولها لكي نعلم أن قد صدقتنا في دعوى النبوة ، وفي جميع ما تخبرنا به من مأمورات ومنهيات ، لأن نزولها من السماء يجعلها تخالف ما جئتنا به من معجزات أرضية ، وفي ذلك ما فيه من الدلالة على صدقك في نبوتك.

ورابع هذه الأسباب : أننا نرغب في نزولها لكي نكون من الشاهدين على هذه المعجزة عند الذين لم يحضروها من بنى إسرائيل ، ليزداد الذين آمنوا منهم إيمانا ، ويؤمن الذي عنده استعداد للإيمان.

وبذلك نرى ان الحواريين قد بينوا لعيسى ـ كما حكى القرآن عنهم ـ أنهم لا يريدون نزول المائدة من السماء لأنهم يشكون في قدرة الله ، أو في نبوة عيسى أو أن مقصدهم من هذا الطلب

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٣٦٤. بتصرف وتلخيص

٣٣٩

التعنت. وإنما هم يريدون نزولها لتلك الأسباب السابقة التي يبغون من ورائها الأكل وزيادة الإيمان واليقين والشهادة أمام الذين لم يحضروا نزولها بكمال قدرة الله وصدق عيسى في نبوته.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما تضرع به عيسى بعد أن سمع من الحواريين ما قالوه في سبب طلبهم لنزول المائدة من السماء فقال ـ تعالى ـ (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).

وقوله : (اللهُمَ) أى : يا الله. فالميم المشددة عوض عن حرف النداء ، ولذلك لا يجتمعان. وهذا التعويض خاص بنداء الله ذي الجلال والإكرام.

وقوله : (عِيداً) أى سرورا وفرحا لنا ، لأن كلمة العيد تستعمل بمعنى الفرح والسرور.

قال القرطبي : والعيد واحد الأعياد. وأصله من عاد يعود أى : رجع وقيل ليوم الفطر والأضحى عيد ، لأنهما يعودان كل سنة. وقال الخليل : العيد كل يوم يجمع الناس فيه كأنهم عادوا إليه ، وقال ابن الأنباري : سمى عيدا للعود إلى المرح والفرح فهو يوم سرور» (١).

والمعنى : قال عيسى بضراعة وخشوع ـ بعد أن سمع من الحواريين حجتهم ـ (اللهُمَّ رَبَّنا) أى : يا الله يا ربنا ومالك أمرنا ، ومجيب سؤالنا. أتوسل إليك أن تنزل علينا (مائِدَةً مِنَ السَّماءِ). أى : أطعمة كائنة من السماء ، هذه الأطعمة (تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) أى : يكون يوم نزولها عيدا نعظمه ونكثر من التقرب إليك فيه نحن الذين شاهدناها ، ويكون ـ أيضا ـ يوم نزولها عيدا وسرورا وبهجة لمن سيأتى بعدنا ممن لم يشاهدنا.

قال ابن كثير. قال السدى : أى نتخذ ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيدا نعظمه نحن ومن بعدنا. وقال سفيان الثوري : يعنى يوما نصلى فيه. وقال قتادة : أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم. وقال سلمان الفارسي : يعنى يوما نصلى فيه. وقال قتادة : أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم. وقال سلمان الفارسي : تكون عظة لنا ولمن بعدنا (٢).

وقوله : (وَآيَةً مِنْكَ) معطوف على قوله (عِيداً).

أى : تكون هذه المائدة النازلة من السماء عيدا لأولنا وآخرنا ، وتكون أيضا ـ دليلا ـ وعلامة منك ـ سبحانك ـ على صحة نبوتي ورسالتي ، فيصدقونى فيما أبلغه عنك ، ويزداد يقينهم بكمال قدرتك.

وقوله : (وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) تذييل بمثابة التعليل لما قبله. أى : أنزلها علينا يا ربنا وأرزقنا من عندك رزقا هنيئا رغدا ، فإنك أنت خير الرازقين ، وخير المعطين ، وكل عطاء من

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٣٦٧

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١١٦

٣٤٠