التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٤

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٤

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0531-4
الصفحات: ٣٦٠

وروى عن على بن أبى طالب وابن عباس وابن عمر أنه لا يجوز للمحرم أكل صيد على حال من الأحوال سواء صيد من أجله أو لم يصد. لحديث الصعب بن جثامة الليثي ، أنه أهدى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء فرده عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : فلما أن رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما في وجهى قال : «إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم» خرجه الأثمة واللفظ لمالك (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بالدعوة إلى خشيته وتقواه وبالتذكير بالحشر وما فيه من حساب وعقاب فقال : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

أى : واتقوا الله في كل أحوالكم ، وقفوا عند حدوده فلا تتجاوزوها ، واعلموا أن مرجعكم وحشركم إليه وحده ، وسيجازيكم على أعمالكم التي عملتموها في دنياكم.

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد أحلت للمحرم صيد البحر ـ فضلا من الله ورحمة ـ ؛ لأن البحر بعيد عن الحرم ، والمحرم قد يحرم في منطقة قد تكون فيها بحار فتحريم صيد البحر عليه قد يؤدى إلى تعبه وإجهاده دون أن تكون هناك فائدة تعود على سكان الحرم.

أما الحكمة من وراء تحريم الصيد البرى على المحرمين فمنها : أن البيت الحرام بواد غير زرع ، وسكان هذه المنطقة من وسائل حياتهم الصيد ، فلو أبيح الصيد للمحرمين القادمين لزيارة البيت من كل فج عميق .. لأدى ذلك إلى قتل الكثير من الصيد البرى الذي هو مصدر انتفاع للقاطنين في تلك المناطق. وفضلا عن كل ذلك ففي تحريم الصيد البرى الذي يعيش في مناطق الحرم ، تكريم لهذه المناطق ، وتشريف لها ، وإعلاء لشأنها ومكانتها. فهي أماكن الأمان والاطمئنان والسلام. لا للبشر وحدهم ، بل للبشر ولغير البشر من مخلوقات الله التي نهت شريعته عن التعرض لها بسوء.

وبعد هذا النهى الشديد للمحرمين عن صيد البر وهم على هذه الحالة بين ـ سبحانه ـ المنزلة السامية للكعبة التي هي أشرف مكان ، وأصلحه لأمان الناس واطمئنانهم كما بين ـ سبحانه ـ مكانة الأشهر الحرم وما يقدم فيها من خيرات لسكان الحرم ـ فقال ـ تعالى ـ :

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٤٢١.

٣٠١

شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(١٠٠)

قال الفخر الرازي : «اعلم أن اتصال هذه الآية ـ (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ) بما قبلها هو ان الله ـ تعالى ـ حرم في الآية المتقدمة الاصطياد على المحرم. فبين أن الحرم كما أنه سبب لأمن الوحش والطير. فكذلك هو سبب لأمن الناس عن الآفات والمخافات ، وسبب لحصول الخيرات والسعادات في الدنيا والآخرة» (١).

والكعبة في اللغة : البيت المكعب أى المربع. وقيل المرتفع.

قال القرطبي : وقد سميت الكعبة كعبة ، لأنها مربعة .. وقيل : إنما سميت كعبة لنتوئها وبروزها ، فكل ناتئ بارز كعب ، ومنه كعب القدم وكعوب الفتاة ، وكعب ثدي المرأة إذا ظهر في صدرها» (٢).

وجعل هنا يحتمل أن تكون بمعنى فيتعدى لاثنين أو لهما الكعبة وثانيهما قياما ويحتمل أن يكون بمعنى خلق أو شرع فيتعدى لواحد وهو الكعبة ويكون قوله : (قِياماً) حال من البيت الحرام.

والبيت الحرام : بدل من الكعبة أو عطف بيان جيء به على سبيل المدح والتعظيم ووصف بالحرام إيذانا بحرمته وإشعارا بشرفه ، حيث حرم ـ سبحانه ـ القتل فيه ، وجعله مكان أمان الناس واطمئنانهم.

وقوله (قِياماً) أصله قواما فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها.

والقيام والقوام ما به صلاح الشيء ، كما يقال : الملك العادل قوام رعيته. لأنه يدبر أمرهم

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٣ ص ٩٩.

(٢) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٣٢٤.

٣٠٢

ويردع ظالمهم ، ويحجز قويهم عن ضعيفهم ، ومسيئهم عن محسنهم.

والمراد بالشهر الحرام : الأشهر الحرم على إرادة الجنس وهي : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب.

وقيل المراد به شهر ذي الحجة فحسب ، لأنه هو الذي تؤدى فيه فريضة الحج ، فالتعريف للعهد وليس للجنس.

والهدى : اسم لما يهدى إلى الحرم من حيوان ليتقرب بذبحه إلى الله تعالى ـ وهو جمع هدية ـ بسكون الدال ـ والقلائد جمع قلادة وهي ما يقلد به الهدى ليعلم أنه مهدى إلى البيت الحرام فلا يتعرض له أحد بسوء.

فالمراد بالقلائد هنا الحيوانات ذوات القلائد التي تساق إلى الحرم لذبحها فيه ، فيكون ذكر القلائد بعد الهدى من باب التخصيص بالذكر على سبيل الاهتمام بشأنها ، لأن الثواب فيها أكثر.

وقيل المراد بها : ما كان يفعله بعض الناس من وضع قلادة من شعر أو من غيره في أعناقهم عند ما يحرمون حتى لا يتعرض لهم أحد بسوء.

وقوله : (وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) معطوف على ما قبله وهو الكعبة.

والمعنى : اقتضت حكمة الله ـ تعالى ـ ورحمته بعباده أن يصير الكعبة التي هي البيت الحرام (قِياماً لِلنَّاسِ) أى به قوامهم في إصلاح أمورهم دينا ودنيا ، وكذلك جعل الأشهر الحرم والهدى وخصوصا ما يقلد منه قياما للناس أيضا.

وذلك لأن البيت الحرام الذي يأتى الناس إليه من كل فج عميق ، يجدون في رحابه ما يقوى إيمانهم ، ويرفع درجاتهم ، ويغسل سيئاتهم ، ويصلح من شئون دنياهم عن طريق تبادل المنافع ، وبذل الأموال ، والشعور بالأمان والاطمئنان ، وتوثيق الصلات الدينية والدنيوية التي ترضى الله ـ تعالى ـ ، وتجعلهم أهلا لفضله ورحمته.

ولأن الأشهر الحرم تأتى للناس فتجعلهم يمتنعون عن القتال فيها ، فتهدأ نفوسهم ، ويحصل التالف والتزاور بعد التدابر والتقاطع والتعادي ولأن الهدى والقلائد التي يسوقها المحرمون إلى الحرم لذبحها فيها ما فيها من التوسعة على الفقراء. وإشاعة روح المحبة والتسامح والإخاء.

ورحم الله الإمام القرطبي حيث يقول : «والحكمة في جعل الله ـ تعالى ـ هذه الأشياء قياما للناس ، أن الله ـ سبحانه ـ خلق الخلق على سليقة الآدمية من التحاسد والتقاطع والسلب

٣٠٣

والغارة. فلم يكن بد في الحكمة الإلهية من وازع يزعهم ـ أى يزجرهم ـ عن التنازع ، ويحملهم على التآلف ، ويرد الظالم عن المظلوم ، فقد روى مالك أن عثمان بن عفان كان يقول : ما يزع الإمام أكثر مما يزع القرآن».

فجعل ـ سبحانه ـ الخليفة في الأرض حتى لا يكون الناس فوضى ، وعظم في قلوبهم البيت الحرام ، وأوقع في نفوسهم هيبته ، فكان من لجأ إليه معصوما به ، وكان من اضطهد محميا بالكون فيه.

ولما كان لهذا البيت موضع مخصوص ـ ومكان معين ـ لا يدركه كل مظلوم ، فقد جعل ـ سبحانه ـ الأشهر الحرم ملجأ آخر. وقرر في قلوبهم حرمتها ، فكانوا لا يروعون فيها سربا ـ أى نفسا ـ ولا يطلبون فيها دما ، حتى كان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه وأخيه فلا يؤذيه. ثم شرع لهم الهدى والقلائد ، فكانوا إذا أخذوا بعيرا وأشعروه دما ، أو علقوا عليه قلادة أو فعل ذلك الرجل بنفسه. لم يروعه أحد حيث لقيه» (١).

واسم الإشارة في قوله : (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ).

يعود على الجعل المذكور الذي هو تصيير البيت الحرام وما عطف عليه قياما للناس ، أى ؛ صلاحا لأحوالهم الدينية والدنيوية.

والمعنى : فعل الله ـ تعالى ـ ذلك لتعلموا أنه ـ سبحانه ـ يعلم علما تاما شاملا ما في السموات وما في الأرض ، ولتوقنوا بأنه يعلم طبائع البشر وحاجاتهم ومكنونات نفوسهم ، وهتاف أرواحهم. لأن تشريع هذه الشرائع المستتبعة لدفع المضار ولجلب المصالح الدينية والدنيوية دليل على أنه ـ سبحانه ـ يعلم ما في السموات وما في الأرض. وعلى أنه بكل شيء عليم دون أن تخفى عليه خافية مما في هذا الكون : وكرر ـ سبحانه ـ «ما. وفي» في المعطوف والمعطوف عليه للإشارة إلى دقة العلم وشموله ، وأنه ـ سبحانه ـ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

وقوله (وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تعميم إثر تخصيص. للتأكيد وقدم الخاص على العام ليكون ذكر الخاص كالدليل على العام.

قال الجمل : واسم الإشارة (ذلِكَ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه خبر لمبتدأ محذوف أى : الحكم الذي حكمناه ذلك لا غير.

والثاني : أنه مبتدأ وخبره محذوف أى : ذلك الحكم هو الحق لا غيره.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٣٢٥ بتصرف وبتلخيص.

٣٠٤

والثالث : أنه منصوب بفعل مقدر يدل عليه السياق. أى : شرع الله ذلك. وهذا أقواها ، لتعلق لام العلة به. وقوله (لِتَعْلَمُوا) منصوب بإضمار أن بعد لام كي. وقوله : (وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) معطوف على ما قبله وهو (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) (١).

ثم رهب الله ـ تعالى ـ عباده من عقابه ؛ ورغبهم في ثوابه فقال : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

أى : اعلموا ـ أيها الناس ـ أن الله شديد العقاب لمن انتهك حرماته ، وتجاوز حدوده ، وأنه ـ سبحانه ـ واسع المغفرة والرحمة لمن أطاعه وتاب إليه توبة صادقة.

وفي تصدير الآية الكريمة بفعل الأمر (اعْلَمُوا) تنبيه شديد إلى أهمية ما سيلقى عليهم من أمر أو نهى ، حتى يستقر في قلوبهم ، ويرسخ في نفوسهم ، فيسهل عليهم تنفيذه.

وجمع ـ سبحانه ـ بين الترهيب والترغيب ، حتى يكون المؤمن بين الرجاء والخوف ، فلا يقنط من رحمة الله ولا يجترئ على ارتكاب ما يغضبه ـ سبحانه ـ.

وبعد هذا الترغيب والترهيب بين ـ سبحانه ـ وظيفة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ).

وأصل البلاغ ـ كما يقول القرطبي ـ البلوغ ، وهو الوصول. يقال : بلغ يبلغ بلوغا وأبلغه إبلاغا. وبلغه تبليغا ، ومنه البلاغة ، لأنها إيصال المعنى إلى النفس في أحسن صورة من اللفظ» (٢).

أى : ليس على رسولنا ـ أيها الناس ـ إلا تبليغ ما أمرناه بتبليغه إليكم وتوصيل ما كلفناه بتوصيله لكم ، وهو لم يقصر في ذلك ، ولم يأل جهدا في نصحكم وإرشادكم فأطيعوه لتسعدوا. واعلموا أن الله ـ تعالى ـ يعلم ما تظهرون وما تخفون من خير أو شر ، وسيجازيكم بما تستحقون يوم القيامة.

فالآية الكريمة تأكيد لما اشتملت عليه سابقتها من ترغيب وترهيب ، ومن تبشير وإنذار ، وتصريح بأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه تبليغ ما كلفه الله بتبليغه إلى الناس ، وليس عليه بعد ذلك هدايتهم أو ضلالهم ، وإنما الله وحده هو الذي بيده ذلك ، وهو الذي بيده حسابهم ومجازاتهم على أعمالهم.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٥٢٨.

(٢) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٣٢٧.

٣٠٥

ثم صرح ـ سبحانه ـ بعد ذلك بأنه لا يستوي عنده الخبيث والطيب فقال : (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ).

والخبيث ـ كما يقول الراغب ـ ما يكره رداءة وخساسة محسوسا كان أم معقولا ، وأصله الرديء الدخلة الجاري مجرى خبث الحديد كما قال الشاعر :

سبكناه ونحسبه لجينا

فأبدى الكير عن خبث الحديد

وذلك يتناول الباطل في الاعتقاد ، والكذب في المقال ، والقبيح في الفعال (١).

والطيب : الشيء الحسن الذي أباحته الشريعة ورضيته العقول السليمة ، ويتناول الاعتقاد الحق ، والمقال الصدق ، والعمل الصالح.

والمعنى : قل ـ يا محمد ـ للناس : إنه لا يستوي عند الله ولا عند العقلاء القبيح والحسن من كل شيء ، لأن الشيء القبيح ـ في ذاته أو في سببه أو في غير ذلك من أشكاله ـ بغيض إلى الله وإلى كل عاقل ، وسيكون مصيره إلى الهلاك والبوار.

أما الشيء الطيب الحسن فهو محبوب من الله ومن كل عاقل ، ومحمود العاقبة دنيا ودينا.

وقوله : (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) زيادة في التنفير من الشيء الخبيث ، وحض على التمسك بما هو طيب.

أى : لا يستوي في ميزان الله ولا في ميزان العقلاء الخبيث والطيب ، حتى ولو كان الفريق الخبيث كثير المظهر ، براق الشكل ، تعجب الناظرين هيئته فلا تغتر به أيها العاقل ، ولا تؤثر في نفسك كثرته وسطوته فإنه مهما كثر وظهر وفشا. فإنه سيئ العاقبة ، سريع الزوال ، لذته تعقبها الحسرة ، وشهوته تتلوها الندامة ، وسطوته تصحبها الخسارة والكراهية ، وطريقه المليئة بالدنس والقذر يجب أن يوصد أبوابها الأخيار الشرفاء.

أما الفريق الطيب أو الشيء الطيب فهو محمود العاقبة ، لذته الحلال يباركها الله ، وثماره الحسنة تؤيدها شريعته وتستريح لها العقول السليمة ، والقلوب النقية من كل دنس وباطل وطريقه المستقيم ـ مهما قل ـ سالكوه ـ هو الطريق الذي يوصل إلى كل خير وفلاح.

ولا شك أن العقل عند ما يتخلص من الهوى سيختار الطيب على الخبيث لأن في الطيب سعادة الدنيا والآخرة.

وما أحسن قول أم المؤمنين عائشة ـ رضى الله عنها : «ما تمتع الأشرار بشيء إلا وتمتع به

__________________

(١) المفردات في غريب القرآن ص ١٤١ للراغب الأصفهاني.

٣٠٦

الأخيار ، وزادوا عليهم رضا الله ـ عزوجل ـ.

والفاء في قوله : (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) للافصاح عن كلام مقدر ، والتقدير :

إذا كان الأمر كما بينت لكم ـ أيها الناس ـ من أنه لا يستوي الخبيث والطيب ، لأن أهل الخبيث سيعاقبون ويندمون مهما كثروا وأهل الطيب سيثابون ويفرحون ، إذا كان الأمر كذلك فاتقوا الله يا أصحاب العقول السليمة بأن تجتنبوا كل ما هو خبيث ، وتقلبوا على كل ما هو طيب ، لعلكم بسبب هذه التقوى والخشية من الله تنالون الفلاح والنجاح في دنياكم وآخرتكم.

والجملة الكريمة تذييل قصد به تأكيد ما مر من الترغيب في الطاعات والتحذير من المعاصي.

قال الفخر الرازي : لما ذكر ـ سبحانه ـ هذه الترغيبات الكثيرة في الطاعة ، والتحذيرات من المعصية. أتبعها بوجه آخر يؤكدها فقال : (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) : أى : فاتقوا الله بعد هذه البيانات الجليلة والتعريفات القوية ، ولا تقدموا على مخالفته لعلكم تصيرون فائزين بالمطالب الدنيوية والدينية العاجلة والآجلة (١).

وبعد هذا الحديث المستفيض عن الحلال والحرام في شريعة الإسلام اتجهت آيات السورة الكريمة إلى تربية المسلمين وإرشادهم إلى الآداب التي يجب أن يتمسكوا بها ونهيهم عن الأسئلة التي لا خير يرجى من وراء إثارتها .. فقال تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ)(١٠٢)

وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هاتين الآيتين روايات متعددة ، منها ما حكاه القرطبي في قوله : روى البخاري ومسلم وغيرهما ـ واللفظ للبخاري ـ عن أنس قال : قال رجل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا رسول الله من أبى؟ قال : «أبوك فلان».

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٣ ص ١٠٤ وراجعه في تفسير هذه الآيات إذا كنت تبغى المزيد من العلم والمعرفة ، فقد أجاد في هذا المقام وأبدع ـ رحمه‌الله ـ

٣٠٧

وخرج البخاري أيضا عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيه : «فو الله لا تسألونى عن شيء إلا أخبرتكم به مادمت في مقامي هذا» فقام إليه رجل فقال : أين مدخلي يا رسول الله؟ قال «النار» فقام عبد الله بن حذافة ـ وكان إذا لا حي يدعى إلى غير أبيه ـ فقال من أبى يا رسول الله؟ فقال : أبوك حذافة ..

وروى الدّارقطنيّ والترمذي عن على رضى الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) قالوا : يا رسول الله ، أفي كل عام؟ فسكت. فقالوا : أفي كل عام؟ قال : «لا ولو قلت نعم لوجبت» فأنزل الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) .. الآية.

وروى مجاهد عن ابن عباس أنها نزلت في قوم سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام.

ثم قال القرطبي : ويحتمل أن تكون الآية نزلت جوابا للجميع ، فيكون السؤال قريبا بعضه من بعض» (١).

والمعنى : يا أيها الذين آمنوا بالله حق الإيمان ، لا تسألوا نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو غيره ، عن أشياء تتعلق بالعقيدة أو بالأحكام الشرعية أو بغيرهما. هذه الأشياء (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ) وتظهر (تَسُؤْكُمْ) أى : تغمكم وتحزنكم وتندموا على السؤال عنها لما يترتب عليها من إحراجكم ، ومن المشقة عليكم ، ومن الفضيحة لبعضكم.

فالآية الكريمة ـ كما يقول ابن كثير ـ تأديب من الله لعباده المؤمنين ، ونهى لهم عن أن يسألوا عن أشياء مما لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها ، لأنها إن ظهرت لهم تلك الأمور ربما ساءتهم ، وشق عليهم سماعها ، كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يبلغني أحد عن أحد شيئا ، فإنى أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر» (٢).

وقد وجه ـ سبحانه ـ النداء إليهم بصفة الإيمان ، لتحريك حرارة العقيدة في نفوسهم ، حتى يستجيبوا بسرعة ورغبة إلى ما كلفوا به.

وقوله : (أَشْياءَ) اسم جمع من لفظ شيء ، فهو مفرد لفظا جمع معنى كطرفاء وقصباء ـ وهذا رأى الخليل وسيبويه وجمهور البصريين ـ.

ويرى الفراء أن أشياء جمع لشيء. وهو ممنوع من الصرف لألف التأنيث الممدودة ، ومتعلق بقوله : (تَسْئَلُوا).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٣٣٠

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٠٤

٣٠٨

ومفعول (تَسْئَلُوا) محذوف للتعميم. أى : لا تسألوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا تسألوا غيره عن أشياء لا فائدة من السؤال عنها ، بل إن السؤال عنها قد يؤدى إلى إحراجكم وإلى المشقة عليكم.

وقوله : (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) صفة لأشياء داعية إلى الانتهاء عن السؤال عنها.

وعبر «بإن» المفيدة للشك وعدم القطع بوقوع الشرط والجزاء للإشارة إلى أن هذا الشك كاف في تركهم للسؤال عن هذه الأشياء ، فإن المؤمن الحق يبتعد عن كل ما لا فائدة من ورائه من أسئلة أو غيرها.

وقوله : (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) معطوف على ما قبله وهو قوله : (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ).

والضمير في قوله (عَنْها) يعود على (أَشْياءَ) و (حِينَ) ظرف زمان منصوب بالفعل (تَسْئَلُوا).

والمعنى : لا تكثروا ـ أيها المؤمنون ـ من الأسئلة التي لا خير لكم في السؤال عنها ، وإن تسألوا عن أشياء نزل بها القرآن مجملة ، فتطلبوا بيانها تبين لكم حينئذ لاحتياجكم إليها.

قال الفخر الرازي : السؤال على قسمين :

أحدهما : السؤال عن شيء لم يجر ذكره في الكتاب والسنة بوجه من الوجوه. فهذا السؤال منهى عنه بقوله : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ).

والنوع الثاني من السؤال : السؤال عن شيء نزل به القرآن لكن السامع لم يفهمه كما ينبغي فهاهنا السؤال واجب ، وهو المراد بقوله : (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ).

والفائدة في ذكر هذا القسم ، أنه لما منع في الجملة الأولى من السؤال ، أو هم أن جميع أنواع السؤال ممنوع منه ، فذكر ذلك تمييزا لهذا القسم عن ذلك القسم.

فإن قيل : إن قوله (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها) هذا الضمير عائد على الأشياء المذكورة في قوله : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) فكيف يعقل في (أَشْياءَ) بأعيانها أن يكون السؤال عنها ممنوعا وجائزا معا؟

قلنا : الجواب عنه من وجهين :

الأول : جائز أن يكون السؤال عنها ممنوعا قبل نزول القرآن بها ومأمورا به بعد نزول القرآن بها. والثاني : أنهما وإن كانا نوعين مختلفين ، إلا أنهما في حكم شيء واحد ، فلهذا حسن اتحاد الضمير ، وإن كانا في الحقيقة نوعين مختلفين» (١) :

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٢ ص ١٠٧

٣٠٩

وقال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) فيه غموض. وذلك أن في أول الآية النهى عن السؤال ، ثم قال : (وَإِنْ تَسْئَلُوا) .. إلخ. فأباحه لهم.

فقيل : المعنى وإن تسألوا عن غيرها فيما مست الحاجة إليه ، فحذف المضاف ولا يصح حمله على غير الحذف.

قال الجرجانى : الكناية في «عنها» ترجع إلى أشياء أخر ، كقوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) يعنى آدم ، ثم قال : (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً) أى : ابن آدم ، لأن آدم لم يجعل نطفة في قرار مكين ، لكن لما ذكر الإنسان وهو آدم دل على إنسان مثله ، وعرف ذلك بقرينة الحال.

فالمعنى : وإن تسألوا عن أشياء ـ أخر ـ حين ينزل القرآن من تحليل أو تحريم أو حكم ، أو مست حاجتكم إلى التفسير ، فإذا سألتم فحينئذ تبد لكم فقد أباح ـ سبحانه ـ هذا النوع من السؤال» (١).

والضمير في قوله (عَفَا اللهُ عَنْها) يعود إلى أشياء ، والجملة في محل جر صفه أخرى لأشياء.

أى : أن هذه الأشياء التي نهيتم عن السؤال عنها هي مما عفا الله عنه ـ رحمة منه وفضلا ـ حيث لم يكلفكم بها. ولم يفضحكم ببيانها.

ويجوز أن يعود الضمير إلى الأسئلة المدلول عليها بقوله (لا تَسْئَلُوا) فتكون الجملة مستأنفة ، ويكون المعنى : عفا الله عن أسئلتكم السالفة التي سألتموها قبل النهى ، وتجاوز ـ سبحانه ـ عن معاقبتكم عليها رحمة منه وكرما ؛ فمن الواجب عليكم بعد ذلك ألا تعودوا إلى مثلها أبدا.

قال صاحب المنار : ولا مانع عندنا يمنعنا من إرادة المعنيين معا. فإن كل ما تدل عليه عبارات القرآن من المعاني الحقيقة والمجازية والكناية يجوز عندنا أن يكون مرادا منها مجتمعة تلك المعاني أو منفردة ما لم يمنع مانع من ذلك كأن تكون تلك المعاني مما لا يمكن اجتماعها شرعا أو عقلا ، فحينئذ لا يصح أن تكون كلها مرادة بل يرجح بعضها على بعض بطرق الترجيح المعروفة من لفظية ومعنوية.

وقوله (وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) اعتراض تذييلى مقرر لعفوه ـ سبحانه ـ أى : عفا الله عن كل ذلك ، وهو ـ سبحانه ـ واسع المغفرة والحلم والصفح ولذا لم يكلفكم بما يشق عليكم ، ولم يؤاخذكم بما فرط منكم من أقوال وأعمال قبل النهى عنها.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض مظاهر العبر والعظات والحكم من وراء نهيهم عن الأسئلة التي

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٣٢٣

٣١٠

لا خير يرجى من ورائها فقال : (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ).

والضمير في قوله : (قَدْ سَأَلَها) يعود إلى الأسئلة المنهي عنها في قوله ـ تعالى ـ (لا تَسْئَلُوا).

أى : قد سأل قوم من قبلكم ـ أيها المؤمنون ـ أمثال هذه الأسئلة التي لا خير يرجى من ورائها ، ثم أصبحوا بعد إظهار الإجابة عنها كافرين بها ، لأنهم استقلوا الإجابة عما سألوا عنه ، وتركوا العمل بما تطلعوا إلى معرفته ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى أشياء في قوله (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) على تقدير السؤال عن حكمها أو عن سببها أو عن أصلها ، أو عن غير ذلك مما لا فائدة من السؤال عنه.

إلى هذين المعنيين أشار الآلوسى بقوله : (قَدْ سَأَلَها) أى : المسألة ، فالضمير في موقع المصدر لا المفعول به. والمراد : سأل مثلها في كونها محظورة ومستتبعة للوبال (قَوْمٌ). وعدم التصريح بالمثل للمبالغة في التحذير.

وجوز أن يكون الضمير للأشياء على تقدير المضاف أيضا ، فالضمير في موقع المفعول به ، وذلك من باب الحذف والإيصال. والمراد : سأل عنها واختلف في تعيين القوم : فعن ابن عباس هم قوم عيسى : سألوه إنزال المائدة ثم كفروا بها وقيل : هم قوم صالح ـ عليه‌السلام ـ سألوه الناقة ثم عقروها وكفروا بها ، وقيل : هم بنو إسرائيل كانوا يسألون أنبياءهم عن أشياء فإذا أخبروهم كذبوهم» (١) :

والذي نراه أن لفظ (قَوْمٌ) يشمل هؤلاء الأقوام الذين ذكرهم الآلوسى كما يشمل غيرهم ممن سألوا عن أشياء لا خير من السؤال عنها فلما أجيبوا عما سألوا عنه لم يعملوا بما أخبروا به بل كفروا به وهجروه وأنكروه.

ونكر ـ سبحانه ـ لفظ (قَوْمٌ) لأنه ليس الغرض تعيين ذواتهم ، بل الغرض النهى عن التشبه بهم مهما كانت أجناسهم أو أزمانهم.

وجاء العطف في الآية «بثم» المفيدة للتراخي ، للدلالة على التباعد المعنوي بين اللجاجة في السؤال وبين الجحود والكفر بعد ذلك ؛ فكأنهم كانوا يريدون حكما يناسب أهواءهم فلما جاءهم الحكم الذي لا يهوونه كفروا به.

وقوله (ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) يؤذن بأنهم قبل السؤال عن تلك الأشياء أو قبل الخوض في تلك الأسئلة لم يكونوا كافرين ، ولكنهم أصبحوا بسبب الخوض فيها والتفتيش عنها كافرين

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٧ ص ٤١

٣١١

لأنهم لم يمتثلوا ما أجيبوا به ، وإنما نبذوه وراء ظهورهم.

وبذلك ترى أن الآيتين الكريمتين تنهيان المؤمنين في كل زمان ومكان عن الخوض في الأسئلة عن أشياء يسوءهم الكشف عنها ، وضربتا لهم الأمثال بحال الذين من قبلهم ممن كانوا يشددون على أنفسهم بالأسئلة عن التكاليف والأحكام ، فلما كتبها الله عليهم كفروا بها ولم يؤدوها ، ولو سكتوا عن هذه الأسئلة التي لا فائدة من ورائها لكان خيرا لهم وأقوم.

هذا ، وقد ساق الشيخ القاسمى ـ رحمه‌الله ـ عقب تفسيره لهاتين الآيتين أقوالا متعددة للعلماء فيما يؤخذ منهما من آداب وأحكام ، فقال ـ ما ملخصه ـ :

قال ابن كثير : ظاهر الآية النهى عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته فالأولى الإعراض عنها :

فقد روى الإمام أحمد ومسلم والنسائي عن أبى هريرة : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم. وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه».

وروى الدّارقطنيّ وأبو نعيم عن أبى ثعلبة الخشني : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«إن الله ـ تعالى ـ فرض فرائض فلا تضيعوها. وحد حدودا فلا تعتدوها. وحرم أشياء فلا تقربوها. وترك أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها».

ثم قال الشيخ القاسمى : ثم رأيت في «موافقات» الامام الشاطبي في هذا الموضوع ـ مبحثا جليلا قال فيه.

الإكثار من الأسئلة مذموم. والدليل عليه النقل المستفيض من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح. وهذه مواضع يكره السؤال فيها :

١ ـ السؤال عما لا ينفع في الدين ، كسؤال عبد الله بن حذافة : من أبى يا رسول الله؟ فأجابه أبوك حذافة.

٢ ـ أن يسأل عن شيء بينه القرآن ، كما سأل الرجل عن الحج : أكل عام يا رسول الله؟ مع أن قوله ـ تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) قاض بظاهره أنه للأبد لإطلاقه.

٣ ـ السؤال من غير احتياج إليه في الوقت ، وكأن هذا ـ والله أعلم ـ خاص بما لم ينزل فيه حكم ، وعليه يدل قوله : «ذروني ما تركتكم». وقوله : «وسكت عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها».

٣١٢

٤ ـ أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها ، كما جاء في النهى عن الأغلوطات (١).

٥ ـ أن يسأل عن علة الحكم وهو من قبيل التعبدات ، أو يكون السائل ممن لا يليق به ذلك السؤال ـ كما في حديث قضاء الصوم دون الصلاة.

ـ فقد أخرج مسلم في صحيحه عن معاذة قالت : سألت عائشة فقلت : ما بال الحائض تقضى الصوم ولا تقضى الصلاة؟ فقالت : أحرورية أنت؟

قلت : لست بحرورية ، ولكني أسأل. قالت عائشة : كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة.

٦ ـ أن يبلغ بالسؤال إلى حد التكلف والتعمق ، وعلى ذلك يدل ما أخرجه مالك في الموطأ عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر بن الخطاب خرج في ركب ، فيهم عمرو بن العاص. حتى وردوا حوضا. فقال عمرو بن العاص : يا صاحب الحوض!! هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمر بن الخطاب : يا صاحب الحوض! لا تخبرنا. فإنا نرد على السباع وترد علينا.

٧ ـ السؤال عن المتشابهات ، وعلى ذلك يدل قوله ـ تعالى ـ (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) .. الآية.

وعن عمر بن عبد العزيز : من جعل دينه عرضا للخصومات أسرع التنقل.

ومن ذلك سؤال رجل مالكا عن الاستواء ؛ فقد جاء رجل إلى مالك فقال : يا أبا عبد الله «الرحمن على العرش استوى» كيف استوى؟

قال راوي الحديث : فما رأيت مالكا وجد ـ أى غضب ـ في شيء كموجدته من مقالته.

وعلاه الرحضاء ـ أى العرق ـ وأطرق القوم. فقال مالك : الاستواء معلوم ، والكيف غير معقول. والإيمان به واجب. والسؤال عنه بدعة وإنى أخاف أن تكون ضالا.

٨ ـ السؤال عما شجر بين السلف الصالح ، وقد سئل عمر بن عبد العزيز عن قتال أهل صفين فقال : تلك دماء كف الله عنها يدي ، فلا أحب أن ألطخ بها لساني.

٩ ـ سؤال التعنت والإفحام وطلب الغلبة عند الخصام : وقد ذم القرآن هذا اللون من

__________________

(١) قال الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي عند تعليقه على هذه الكلمة : أخرج أبو داود عن معاوية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن الغلوطات يفتح الغين وضم اللام جمع غلوطة .. وهي المسائل يغالط بها العلماء ليزلوا فيها فيهيج بذلك شر وفتنه. وقيل : أصلها أغلوطة خففت بطرح الهمزة كما تقول : لجر. وأنت تريد الآجر ـ حاشية تفسير القاسمى ج ٦ ص ٢١٧٨

٣١٣

الناس فقال. (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) (١) وقال ، (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) (٢). وفي الحديث : أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم.

هذه جملة من المواضع التي يكره السؤال فيها ، ويقاس عليها ما سواها ، وليس النهى فيها واحدا ، بل فيها ما تشتد كراهيته ومنها ما يخفف ، ومنها ما يحرم. ومنها ما يكون محل اجتهاد.

والنهى في الآية مقيد بما لا تدعو إليه الحاجة من الأسئلة ؛ لأن الأمر الذي تدعو إليه الحاجة في أمور الدين قد أذن الله بالسؤال عنه فقال : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٣).

وفي الحديث : «قاتلهم الله!! هلا سألوا إذا لم يعلموا ، فإنما شفاء الجهل بالسؤال» (٤).

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعض الأوهام والخرافات التي كان أهل الجاهلية يتمسكون بها ، ويعتبرونها من العادات الدينية الراسخة في نفوسهم ، مع أنها لا أصل لها ، وإنما هم الذين ابتدعوها ونسبوها إلى دين الله بدون دليل أو برهان فقال ـ تعالى :

(ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)(١٠٤)

قال الفخر الرازي : اعلم أنه ـ تعالى ـ لما منع الناس من البحث عن أمور ما كلفوا بالبحث عنها ، كذلك منعهم عن التزام أمور ما كلفوا التزامها. ولما كان الكفار يحرمون على أنفسهم الانتفاع بهذه الحيوانات ـ وإن كانوا في غاية الاحتياج إلى الانتفاع بها ـ بين تعالى ـ أن ذلك باطل فقال : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) (٥)

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٠٤

(٢) سورة الزخرف. الآية ٥٨

(٣) سورة الأنبياء الآية ٧

(٤) تفسير القاسمى وحاشيته ـ بتصرف وتلخيص ـ ج ٦ ص ٢١٦٦ وما بعدها

(٥) تفسير الفخر الرازي ج ١٢ ص ١٠٩

٣١٤

وجعل هنا بمعنى شرع ووضع ، و (مِنْ) زائدة لتأكيد النفي والبحيرة بزنة فعلية بمعنى مفعولة من البحر وهو الشق.

وكانوا في الجاهلية إذا ولدت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر ، شقوا أذنها ومنعوا ركوبها ، وتركوها لآلهتهم وامتنعوا عن نحرها وركوبها. وسموها «البحيرة» أى : مشقوقه الأذن.

وعن قتادة أنهم كانوا إذا أنجبت خمسة أبطن نظروا في الخامس فإن كان ذكرا ذبحوه وأكلوه ، وإن كان أنثى شقوا أذنها وتركوها ترعى دون أن يستعملها أحد في حلب أو ركوب.

والسائبة بزنة فاعلة من ساب إذا جرى على وجه الأرض. يقال ساب الماء إذا ترك يجرى.

قال أبو عبيدة : كان الرجل في الجاهلية إذا قدم من سفر أو شفى من مرض. سيب ناقته وخلاها وجعلها كالبحيرة وتسمى السائبة.

وقال محمد بن إسحاق : السائبة هي الناقة تلد عشرة أبطن إناث ، فتهمل ولا تركب ولا يجز وبرها ، ولا يشرب لبنها إلا ضيف.

وعن ابن عباس : هي التي تسيب للأصنام ، فتعطى للسدنة ولا يطعم من لبنها إلا أبناء السبيل ونحوهم.

والوصيلة بزنة فعلية بمعنى فاعله. قال الفراء هي الشاة تنتج سبعة أبطن عناقين عناقين ـ أى اثنين اثنين ـ وإذا ولدت في آخرها أنثى وذكرا. قيل : وصلت أخاها. فلا يشرب لبن الأم إلا الرجال دون النساء ، وتجرى مجرى السائبة في تركها دون أن يجز وبرها.

وقال الزجاج : هي الشاة إذا ولدت ذكرا كان لآلهتهم وإذا ولدت أنثى كانت لهم وإذا ولدت ذكرا وأنثى قالوا : وصلت أخاها فلا تذبح ويكون الذكر لآلهتهم.

وقيل : هي الناقة تبكر بأنثى ثم تثنى بأنثى ، فكانوا يتركونها للطواغيت ، ويقولون : قد وصلت أنثى بأنثى ليس بينهما ذكر.

والحام اسم فاعل من حمى يحمى أى منع.

قال الفراء : هو الفحل إذا لقح ولد ولده قالوا : قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ، ولا يمنع من ماء أو مرعى.

وقال أبو عبيدة : هو الفحل يولد من ظهره عشرة أبطن فيقولون : حمى ظهره فلا يحمل عليه ولا يمنع من ماء أو مرعى.

٣١٥

هذه بعض الأقوال التي ذكرها العلماء في تفسير هذه الألفاظ الأربعة ، وهناك أقوال أخرى سواها تختلف عنها.

ويبدو أن الخلاف في حقيقة هذه الأربعة مرجعه إلى اختلاف القبائل في بلاد العرب واختلاف الأماكن التي يقيمون فيها ، والعادات الباطلة التي شبوا عليها وألفوها.

هذا ، وقد ذكر ابن كثير بعض الروايات التي وردت في تفسيره هذه الألفاظ ، كما ذكر أول من أدخل هذه العادات الباطلة في بلاد العرب فقال ما ملخصه : (١) «روى البخاري ومسلم والنسائي عن سعيد بن المسيب قال. البحيرة : هي التي تكون درها للطواغيت. والسائبة : هي التي كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء ، والوصيلة : الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل ثم تثنى بعد بأنثى وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر. والحام : فحل الإبل يضرب الضرائب المعدود فإذا قضى ضرابه تركوه للطواغيت ولا يحملون عليه شيئا.

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال إن أول من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن لحى وإنى رأيته يجر أمعاءه في النار.

والمعنى : ما شرع الله ـ تعالى ـ شيئا مما حرمه أهل الجاهلية على أنفسهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وهذه الحيوانات إنما حرم أهل الجاهلية أكلها والانتفاع بها من عند أنفسهم بدون علم أو برهان ، وهم في هذا التحريم إنما يفترون على الله الكذب الصريح القاطع بسبب كفرهم وضلالهم وأكثرهم لا يفقهون الحق ولا يستجيبون له انقيادا لأهوائهم ورؤسائهم.

والمراد بالذين كفروا في قوله (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) رؤساؤهم وزعماؤهم الذين يأتون لعوامهم بالأحكام الفاسدة والمزاعم الباطلة ، وينسبونها إلى دين الله كذبا وزورا.

والمراد بأكثرهم في قوله : (وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) عوامهم ودهماؤهم الذين يسيرون خلف كل ناعق بدون تفكير أو تدبر.

وقد عبر ـ سبحانه ـ بقوله (وَأَكْثَرُهُمْ) إنصافا للقلة العاقلة التي خالفت هذه الأوهام الباطلة ، واستجابت للحق عند ظهوره.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما كان عليه هؤلاء العوام المقلدون من جمود وخضوع للباطل فقال.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٠٧

٣١٦

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا).

أى : وإذا قال قائل ـ على سبيل النصح والإرشاد إلى الخير ـ لهؤلاء المقلدين المنقادين انقيادا أعمى للأوهام إذا قال لهم هذا القائل : تعالوا أى : أقبلوا واستجيبوا لما أنزل الله في كتابه ، ولما أنزل على رسوله من هدايات لتسعدوا وتفوزوا قالوا : بعناد وغباء ـ (حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) : كافينا في هذا الشأن ما وجدنا عليه آباءنا من عقائد وتقاليد وعادات. فلا نلتفت إلى ما سواه.

وهذه حجة كل ضال مقلد لمن سبقوه بغير تعقل ولا تدبر. إنه يترك معاني العزة والكرامة وإعمال الفكر ليعيش أسير ذلته للأوهام التي شب عليها وسار خلفها مقلدا غيره ومنقادا له انقياد الخانعين الأذلاء.

ولم يذكر ـ سبحانه ـ القائل في قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) للإشارة إلى أن الذين يدعونهم إلى طريق الحق متعددون ، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوهم ، والمؤمنون يدعونهم. والأدلة الدالة على صدق هذا الدين تدعوهم. ومع كل ذلك فهم في ضلالهم سادرون ، وتحت سلطان سادتهم خانعون.

وقوله ـ تعالى ـ (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) رد عليهم بأسلوب التأنيب والتعجيب من جهالاتهم وخضوعهم للباطل بدون مراجعة أو تفكير.

والواو في قوله (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ) واو الحال. والهمزة التي دخلت عليها للإنكار والتعجب من ضلالهم.

والمعنى : أيقولون حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا. ويغلقون على أنفسهم باب الهداية ليبقوا في ظلمات الضلالة ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا من الحق ولا يهتدون إليه لانطماس بصيرتهم.

وليس المراد أن آباءهم لو كانوا يعلمون شيئا أو يهتدون إلى شيء لجاز لهم ترك ما أنزل الله وإنما المراد هنا تسجيل الواقع المظلم الذي كانوا عليه وكان عليه آباؤهم من قبلهم. فآباؤهم كانوا كذلك يتبعون ما شرعه لهم آباؤهم بدون تأمل أو تفكير.

فالآية الكريمة زيادة في توبيخهم وتوبيخ آبائهم ؛ لأنهم جميعا مشتركون في الانغماس في الضلال والجهل.

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ ما بين من التكاليف والأحكام والحلال والحرام ، وذم المقلدين لآبائهم تقليدا أعمى. وجه ـ سبحانه ـ نداء إلى المؤمنين ، أمرهم فيه بأن يلزموا أنفسهم طاعة الله ، وأنهم ليس عليهم شيء من آثام غيرهم ماداموا قد نصحوهم وأرشدوهم إلى الخير فقال ـ تعالى ـ :

٣١٧

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(١٠٥)

وقوله (عَلَيْكُمْ) اسم فعل أمر بمعنى : الزموا وقوله : (أَنْفُسَكُمْ) منصوب على الإغراء بقوله : (عَلَيْكُمْ).

قال الجمل : واختلف النحويون في الضمير المتصل بها ـ أى بكلمة (عَلَيْكُمْ) ـ والصحيح أنه في موضع جر كما كان قبل أن تنقل الكلمة إلى الإغراء» (١).

والمعنى : يا أيها الذين آمنوا بالله إيمانا حقا ، الزموا العمل بطاعة الله ، بأن تؤدوا ما أمركم به ، وتنتهوا عما نهاكم عنه ، وأنتم بعد ذلك «لا يضركم من ضل إذا اهتديتم» أى : لا يضركم ضلال من ضل وغوى ، ما دمتم أنتم قد أديتم حق أنفسكم عليكم بصيانتها عما يغضب الله وأديتم حق غيركم عليكم بإرشاده ونصحه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر. فإن أبى هذا الغير الاستجابة لكم بعد النصح والإرشاد والأخذ على يده من الوقوع في الظلم فلا ضير عليكم في تماديه في غيه وضلاله ، فإن مصيركم ومرجعكم جميعا إلى الله ـ تعالى ـ وحده (فَيُنَبِّئُكُمْ) يوم القيامة (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في الدنيا من خير أو شر ، ويجازى أهل الخير بما يستحقون من ثواب ، ويجازى أهل الشر بما يستحقون من عقاب.

هذا ، وقد يقول قائل : إن ظاهر هذه الآية قد يفهم منه بعض الناس ، أنه لا يضر المؤمنين أن يتركوا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ماداموا قد أصلحوا أنفسهم ؛ لأنها تقول : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) فهل هذا الفهم مقبول؟

والجواب على ذلك ، أن هذا الفهم ليس مقبولا ، لأن الآية الكريمة مسوقة لتسلية المؤمنين ، ولإدخال الطمأنينة على قلوبهم إذا لم يجدوا أذنا صاغية لدعوتهم.

فكأنها تقول لهم : إنكم ـ أيها المؤمنون ـ إذا قمتم بما يجب عليكم ، لا يضركم تقصير غيركم. ولا شك أن مما يجب عليهم القيام به : الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، إذ لا يكون المرء مهتديا إلى الحق مع تركه لفريضة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإنما يكون مهتديا متى أصلح نفسه ودعا غيره إلى الخير والصلاح.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٥٢٣

٣١٨

أى أن الهداية التي ذكرها ـ سبحانه ـ في قولهم (إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) لا تتم إلا بإصلاح النفس ودعوة الغير إلى الخير والبر.

وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذه المعاني بقوله : كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العتو والعناد من الكفرة ، يتمنون دخولهم في الإسلام ، فقيل لهم (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) وما كلفتم من إصلاحها والمشي بها في طرق الهدى (لا يَضُرُّكُمْ) الضلال عن دينكم إذا كنتم مهتدين. وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ؛ فإن من تركهما مع القدرة عليهما لا يكون مهتديا ، وإنما هو بعض الضلال الذين فصلت الآية بينهم وبينه (١).

ويبدو أن هذه الآية الكريمة قد فهمها بعض الناس فهما غير سليم ـ حتى في الصدر الأول من الإسلام.

قال القرطبي : روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن قيس بن أبى حازم قال : خطبنا أبو بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ فقال : أيها الناس ـ إنكم تقرءون هذه الآية وتتأولونها على غير تأويلها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) وإنى سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه ، أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده».

وروى أبو داود والترمذي وغيرهما عن أبى أمية الشعبانى قال : أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له : كيف تصنع بهذه الآية؟ فقال : أية آية؟ قلت : قوله ـ تعالى ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) قال : أما والله لقد سألت عنها خبيرا. سألت عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر. حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ، ودنيا مؤثرة. وإعجاب كل ذي رأى برأيه ، فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة ، فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم.

وفي رواية قيل يا رسول الله! أجر خمسين منا أو منهم؟ قال «بل أجر خمسين منكم» (٢).

وأخرج ابن جرير عن جبير بن نفير قال : كنت في حلقة فيها أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنى لأصغر القوم ؛ فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. فقلت أنا : أليس الله يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) فأقبلوا على بلسان واحد وقالوا : تنزع آية من القرآن لا تعرفها. ولا تدرى ما تأويلها ـ حتى تمنيت أنى لم أكن تكلمت ـ ثم أقبلوا يتحدثون ، فلما حضر قيامهم قالوا : إنك غلام حدث السن وإنك نزعت آية لا تدرى ما هي ، وعسى أن تدرك ذلك

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦٥٨

(٢) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٣٤٣

٣١٩

الزمان ، إذا رأيت شحا مطاعا ، وهوى متبعا ، وإعجاب كل ذي رأى برأيه فعليك بنفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت» (١).

والخلاصة أن الآية الكريمة لا ترخص في ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إنها ـ كما قال الحاكم ـ لو استدل بها على وجوبهما لكان أولى ، لأن قوله (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) معناه : الزموا أن تصلحوا أنفسكم باتباع الدلائل من كتاب الله وسنة رسوله والعقليات المؤيدة بها ، ودعوة الإخوان إلى ذلك ، بإقامة الحجج ودفع الشبه ، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ولا تقصروا في ذلك» (٢).

ونقل الفخر الرازي عن عبد الله بن المبارك أنه قال : هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، فإنه ـ سبحانه ـ قال (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) يعنى عليكم أهل دينكم ولا يضركم من ضل من الكفار. وهذا كقوله فاقتلوا أنفسكم ، يعنى أهل دينكم فقوله (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) يعنى بأن يعظ بعضكم بعضا. ويرغب بعضكم بعضا في الخيرات وينفره عن القبائح والسيئات» (٣) ثم ختمت السورة حديثها الطويل المتنوع عن الأحكام الشرعية ببيان بعض أحكام المعاملات في المجتمع الإسلامى فتحدثت عن التشريع الخاص بالإشهاد على الوصية في حالة السفر ، وعن الضمانات التي شرعتها لكي يصل الحق إلى أهله كاملا غير منقوص فقال ـ تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٧ ص ٩٦

(٢) تفسير القاسمى ج ٦ ص ٣٩١

(٣) تفسير الفخر الرازي ج ١٢ ص ١١٢

٣٢٠