التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٤

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٤

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0531-4
الصفحات: ٣٦٠

والمراد بقوله : (لا تُحَرِّمُوا) : لا تعتقدوا تحريم ما أحل الله لكم من طيبات بأن تأخذوا على أنفسكم عهدا بعدم تناولها أو الانتفاع بها.

فالنهي عن التحريم هنا ليس منصبا على الترك المجرد. فقد يترك الإنسان بعض الطيبات لأسباب تتعلق بالمرض أو غيره. وإنما هو منصب على اعتقاد أن هذه الطيبات يجب تركها ويأخذ الشخص على نفسه عهدا بذلك.

والمراد بالطيبات : الأشياء المستلذة المستطابة المحللة التي تقوى بدن الإنسان وتعينه على الجهاد في سبيل الله ، من طعام شهى ، وشراب سائغ. وملبس جميل.

والمعنى : يا أيها الذين آمنوا بالله إيمانا حقا ، لا تحرموا على أنفسكم شيئا من الطيبات التي أحلها الله لكم ، فإنه ـ سبحانه ـ ما أحلها لكم إلا لما فيها من منافع وفوائد تعينكم على شئون دينكم ودنياكم.

وقوله : (وَلا تَعْتَدُوا) تأكيد للنهى السابق. والتعدي معناه : تجاوز الحدود التي شرعها الله ـ تعالى ـ عن طريق الإسراف أو عن طريق التقتير. أو عن طريق الاعتداء على حق الغير أو عن أى طريق يخالف ما شرعه الله ـ تعالى ـ.

وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) في موضع التعليل لما قبله.

أى : لا تحرموا ـ أيها المؤمنون ـ على أنفسكم ما أحله الله لكم من طيبات ولا تتجاوزوا حدوده بالإسراف. أو بالتقتير أو بتناول ما حرمه عليكم فإنه ـ سبحانه ـ لا يحب الذين يتجاوزون حدود شريعته ، وسنن فطرته. وهدى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وبعد أن نهى ـ سبحانه ـ عن تحريم الطيبات أمر بتناولها والتمتع بها فقال : (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً ، وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ).

والأمر في قوله (وَكُلُوا) للإباحة. وقيل إنه للندب. ويرى بعضهم أنه للوجوب لأن من الواجب على المؤمن ألا يترك أمرا أباحه الله ـ تعالى ـ تركا مطلقا لأن هذا الترك يكون من باب تحريم ما أحله الله.

أى : وكلوا ـ أيها المؤمنون ـ من الرزق الحلال الطيب الذي رزقكم الله إياه ، وتفضل عليكم به (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) بأن تصونوا أنفسكم عن كل ما يغضبه ، وتلتزموا في مأكلكم ومشربكم وملبسكم وسائر شئونكم حدود شريعته ، وتوجيهات رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والمراد بالأكل هنا التمتع بألوان الطيبات التي أحلها الله ، فيدخل فيه الشرب مما كان حلالا ، وكذلك يدخل فيه كل ما أباحه ـ سبحانه ـ من متعة طيبة تميل إليها النفوس وتشتهيها.

٢٦١

وعبر عن مطلق التمتع بما أحله الله بالأكل ، لأنه أعظم أنواع المتع ، وأهم ألوان منافع الإنسان التي عليها قوام حياته.

وقد زكى ـ سبحانه ـ طلب التمتع بعطائه وخيره بأمور منها : أنه جعله مما رزقهم إياه ، وأنه وصفه بكونه حلالا وليس محرما ، ويكونه طيبا وليس خبيثا.

والمأكول أو المشروب أو غيرهما متى كان كذلك اتجهت نفس المؤمن إليه بارتياح وطمأنينة واجتهدت في الشكر لواهب النعم على ما أنعم وأعطى.

قال الآلوسى : قوله : (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) أى : كلوا ما حل لكم وطاب مما رزقكم الله ـ تعالى ـ فحلالا مفعول به لكلوا. و (مِمَّا رَزَقَكُمُ) حال منه وقد كان في الأصل صفة له إلا أن صفة النكرة إذا قدمت صارت حالا. والآية دليل لنا في شمول الرزق للحلال والحرام إذ لو لم يقع الرزق على الحرام لم يكن لذكر الحلال فائدة سوى التوكيد وهو خلاف الظاهر في مثل ذلك.

وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) استدعاء إلى التقوى وامتثال الوصية بوجه حسن.

والآية ظاهرة في أن أكل اللذائذ لا ينافي التقوى. وقد أكل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثريد اللحم ومدحه ، وكان يحب الحلوى» (١).

وقال القرطبي : قال علماؤنا : في هذه الآية وما شابهها ، والأحاديث الواردة في معناها ، رد على غلاة المتزهدين ، وعلى كل أهل البطالة من المتصوفين ، إذ كل فريق منهم قد عدل عن طريقه ، وحاد عن تحقيقه.

قال الطبري : لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء على نفسه مما أحل الله لعباده المؤمنين من طيبات المطاعم والملابس والمناكح. ولذلك رد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التبتل على ابن مظعون ، فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده ، وأن الفضل والبر إنما هو في فعل ما ندب عباده إليه وعمل به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسنه لأمته ، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون.

وقد جاء رجل إلى الحسن البصري فقال له : إن لي جارا لا يأكل الفالوذج فقال له ولم؟ قال : يقول ، لا يؤدى شكره. فقال الحسن : أفيشرب الماء البارد؟ قال : نعم. فقال الحسن : إن جارك جاهل ، فإن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوذج (٢).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٧ ص ٩

(٢) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٢٦٢ بتصرف وتلخيص

٢٦٢

والخلاصة أن هاتين الآيتين تنهيان المؤمنين عن تحريم الطيبات التي أحلها الله لهم ، وتأمرانهم بالتمتع بها بدون إسراف أو تقتير مع خشيتهم لله ـ تعالى ـ وشكره على ما وهبهم من نعم.

وذلك لأن ترك هذه الطيبات يؤدى إلى ضعف العقول والأجسام ، والإسلام يريد من أتباعه أن يكونوا أقوياء في عقولهم وفي أجسامهم وفي سائر شئونهم ، لأن المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ـ كما جاء في الحديث الشريف.

ولأن دين الإسلام ليس دين رهبانية ، وفي الحديث الشريف «إن الله لم يبعثني بالرهبانية» (١) وإنما دين الإسلام دين عبادة وعمل ، فهو لا يقطع العابد عن الحياة ، ولكنه يأمره أن يعيش عاملا فيها غير منقطع عنها.

وإن التفاضل بين المؤمنين يكون باستقامة النفس ، وسلامة العبادة وكثرة إيصال النفع للناس. ولا يكون بالانقطاع عن الدنيا ، وتحريم طيباتها التي أحلها الله ـ تعالى.

وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة تؤيد معنى هاتين الآيتين الكريمتين.

أما الآيات فمنها قوله ـ تعالى ـ (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (٢).

ومنها قوله ـ تعالى ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (٣).

وأما الأحاديث فمنها ما أخرجه الشيخان عن أنس بن مالك قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسألون عن عبادته فلما أخبروا كأنهم تقالوها ـ أى عدوها قليلة ـ فقالوا : وأين نحن من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أحدهم : أما أنا فإنى أصلى الليل أبدا ، وقال آخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا.

فجاء رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إنى لأخشاكم لله وأتقاكم له. لكني أصوم وأفطر وأصلى وأرقد ؛ وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس منى» (٤)

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٧ ص ٩

(٢) سورة الأعراف الآية ٣١

(٣) سورة البقرة الآية ١٧٢.

(٤) أخرجه البخاري في باب الترغيب في النكاح من كتاب النكاح ج ٧ ص ٢ ، وأخرجه مسلم في كتاب النكاح ج ٤

٢٦٣

ورحم الله الحسن البصري فقد قال : إن الله ـ تعالى ـ أدب عباده فأحسن أدبهم فقال ـ تعالى ـ (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) ما عاب قوما ما وسع عليهم الدنيا فتنعموا وأطاعوا ، ولا عذر قوما زواها عنهم فعصوه» (١).

فعلى المؤمن أن يجتنب تحريم الطيبات التي أحلها الله له ، وأن يتمتع بها بدون إسراف أو تقتير ، وأن يداوم على شكر الله على نعمه وآلائه ، وأن يجعل جانبا من هذه النعم للإحسان إلى الفقراء والمحتاجين.

قال الفخر الرازي : لم يقل ـ سبحانه ـ : وكلوا ما رزقكم الله ، ولكن قال : (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) وكلمة «من» للتبعيض. فكأنه قال : اقتصروا في الأكل على البعض واصرفوا البقية إلى الصدقات والخيرات لأنه إرشاد إلى ترك الإسراف كما قال : (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ كفارة اليمين ، وأمر المؤمنين بحفظ أيمانهم فلا يكثروا منها ، فقال ـ تعالى ـ

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٨٩)

أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : لما نزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) في القوم الذين كانوا حرموا على أنفسهم النساء واللحم : قالوا يا رسول الله. كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ فأنزل الله ـ تعالى ـ قوله : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٦٧٢.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٧٢.

٢٦٤

وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) الآية (١) واللغو من الكلام ـ كما يقول الراغب : ما لا يعتد به منه ، وهو الذي يورد لا عن روية وفكر فيجري مجرى اللغا وهو صوت العصافير ونحوها من الطيور. وقد يسمى كل قبيح لغوا. قال ـ تعالى ـ (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) (٢).

ولغو اليمين. أن يحلف الحالف على شيء يرى أنه صادق فيه ثم يتبين له خلاف ذلك.

ويرى بعضهم أن لغو اليمين هو الذي يجرى على اللسان بدون قصد ، كقولك لا والله وبلى والله.

وقد رجح هذا القول ابن كثير فقال ما ملخصه. واللغو في اليمين هو قول الرجل في الكلام من غير قصد : لا والله وبلى والله وهو مذهب الشافعى. وقيل هو في الهزل. وقيل في المعصية : وقيل على غلبة الظن وهو قول أبى حنيفة وأحمد والصحيح أنه اليمين من غير قصد بدليل قوله : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) (٣).

وقوله : (عَقَّدْتُمُ) من العقد وهو الجمع بين أطراف الشيء لتوثيقه وهو نقيض الحل : وقرأ حمزة والكسائي (عَقَّدْتُمُ) بالتخفيف. وقرأ ابن عامر «عاقدتم».

والمراد بعقد الأيمان توكيدها وتوثيقها قصدا ونية.

والمعنى : لا يؤاخذكم الله ـ أيها المؤمنون ـ فضلا منه وكرما على اللغو في اليمين وهو ما يجرى على ألسنتكم بدون قصد. ولكن يؤاخذكم بالعقوبة في الآخرة أو بوجوب الكفارة بتعقيدكم الأيمان وتوثيقها بالقصد والنية ، إذا حنثتم فيها ، بأن تعمدتم الكذب في أيمانكم.

فالمراد بعدم المؤاخذة في قوله (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) : عدم المعاقبة في الدنيا بالكفارة ولا في الآخرة بالعقوبة.

والمراد بالمؤاخذة في قوله : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) : العقوبة الأخروية عند جمهور الفقهاء ويرى الشافعى أن المراد بها الكفارة التي تجب على الحانث.

وقوله (فِي أَيْمانِكُمْ) متعلق باللغو. وما في قوله (بِما عَقَّدْتُمُ) مصدرية أى : ولكن يؤاخذكم بتعقيدكم الأيمان وتوثيقها. ويحتمل أن تكون موصولة والعائد محذوف. أى ولكن يؤاخذكم بالذي عقدتم الأيمان عليه.

وقوله : (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٧ ص ١٣.

(٢) المفردات في غريب القرآن ص ٤٥١.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٨٩.

٢٦٥

رَقَبَةٍ) بيان لكيفية الكفارة والضمير في قوله : فكفارته يعود على الحنث الدال عليه سياق الكلام وإن لم يجر له ذكر.

أى : فكفارة الحنث. ولا مانع من عودته إلى الحالف إذا حنث في يمينه فيكون المعنى : فكفارة الحالف إذا حنث في يمينه إطعام عشرة مساكين لأن الشخص الحانث في يمينه هو الذي يجب عليه التكفير عن حنثه.

والكفارة من الكفر بمعنى الستر ، وهي اسم للفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة ، أى تسترها وتمحوها ، لأن الشيء الممحى يكون كالشىء المستور الذي لا يرى ولا يشاهد.

وكلمة (أَوْسَطِ) يرى بعضهم أنها بمعنى الأمثل والأحسن ، لأن لفظ الأوسط كثيرا ما يستعمل بهذا المعنى ومنه قوله ـ تعالى (قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) (١) أى : قال أحسنهم عقلا وأمثلهم فكرا ونظرا.

ويرى آخرون أن الأوسط هنا بمعنى المتوسط لأن هذا هو الغالب في استعمال هذه الكلمة ، أى يطعمهم لا من أفخر أنواع الطعام ولا من أردئه ولكن من الطعام الذي يطعم منه أهله في الغالب.

والمعنى : لقد تفضل الله عليكم ـ أيها المؤمنون ـ بأن رفع عنكم العقوبة والكفارة في الأيمان اللغو ، ولكنه ـ سبحانه ـ يؤاخذكم بتعقيدكم الأيمان وتوثيقها إذا ما حنثتم فيها ومتى حنث أحدكم في يمينه ، فمن الواجب عليه لتكفير هذا اليمين ومحو إثمه أن يطعم عشرة مساكين طعاما يكون من متوسط ما يطعم منه أهله في الجودة والمقدار ، أو أن يكسو هؤلاء المساكين العشرة كساء مناسبا ساترا للبدن أو أن يحرر رقبة بأن يعتق عبدا من الرق فيجعله حرا.

قال الجمل ما ملخصه : وقوله : (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ) مبتدأ وخبر.

وقوله : إطعام مصدر مضاف لمفعوله ، وهو مقدر بحرف وفعل مبنى للفاعل أى فكفارته أن يطعم الحانث عشرة ، وفاعل المصدر يحذف كثيرا.

وقوله : (مِنْ أَوْسَطِ) في محل نصب مفعول ثان لإطعام ؛ ومفعوله الأول عشرة أى : فكفارته أن تطعموا عشرة مساكين إطعاما من أوسط ما تطعمون أهليكم .. وقوله : (ما تُطْعِمُونَ) مفعوله الأول : أهليكم ، ومفعوله الثاني : محذوف أى : «تطعمونه أهليكم» (٢).

فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد خير الحانث في يمينه بين أمور ثلاثة يختار إحداها ، فإذا لم

__________________

(١) سورة ن الآية : ٢٨.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٥٢١.

٢٦٦

يستطع إحداها ، فقد بين سبحانه له حكما آخر فقال : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ).

أى : فمن لم يجد ما يكفر حنثه في يمينه من إطعام أو كساء أو تحرير رقبة فعليه حينئذ أن يصوم ثلاثة أيام ، تطهيرا لنفسه ، وتكفيرا عن ذنبه ، وتقوية لإرادته وعزيمته.

واسم الإشارة في قوله : (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) يعود إلى المذكور من الإطعام والكساء وتحرير الرقبة والصوم.

أى : ذلك الذي شرعناه لكم كفارة لأيمانكم إذا حلفتم وحنثتم فيها ، وخالفتم طريق الحق الذي أمركم الله تعالى باتباعه.

وقوله : (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) أمر من الله تعالى لعباده بأن يصونوا أنفسهم عن الحنث في أيمانهم ، وعن الإكثار منها لغير ضرورة ، فإن الإكثار من الحلف بغير ضرورة يؤدى إلى قلة الحياء من الله تعالى. كما أن الحلف الكاذب يؤدى إلى سخطه سبحانه على الحالف وبغضه له.

وقوله : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تذييل قصد به التذكير بنعم الله حتى يداوم الناس على شكرها وطاعة واهبها عزوجل.

أى : مثل هذا البيان البديع الجامع لوجوه الخير والفلاح ، يبين الله لكم آياته المشتملة على الأحكام الميسرة ، والتشريعات الحكيمة ، والهدايات الجليلة لعلكم بذلك تستمرون على شكر الله وطاعته ، وتواظبون على خشيته ومراقبته فتنالون ما وعدكم من فلاح وسعادة.

هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى :

١ ـ أن اليمين اللغو لا مؤاخذة فيها. أى : لا عقوبة عليها في الآخرة ولا كفارة لها في الدنيا لقوله تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ).

ونعنى بها ـ كما سبق أن أشرنا ـ أن يقول الرجل من غير قصد الحلف لا والله وبلى والله.

ومع هذا فمن الأفضل للمؤمن ألا يلجأ إلى الحلف إلا إذا كانت هناك ضرورة تدعو لذلك ؛ لأن الإكثار من الحلف يسقط مهابة الإنسان ، وقد يفضى به إلى الاستهانة بالآداب الحميدة التي شرعها الله.

قال تعالى : (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١).

٢ ـ أن اليمين التي يحلفها الحالف بالقصد والنية وهو كاذب فيها ، يستحق صاحبها العذاب

__________________

(١) سورة النحل الآية ٩٤.

٢٦٧

الشديد من الله ـ تعالى ـ ، وهي التي يسميها الفقهاء باليمين الغموس ، أى التي تغمس صاحبها في النار ـ قال ـ تعالى ـ (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ).

أى : بما صممتم عليه منها وقصدتموه وأنتم حانثون فيها.

قال القرطبي ما ملخصه : خرج البخاري عن عبد الله بن عمرو قال : جاء أعرابى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ما الكبائر؟ قال : «الإشراك بالله. قال : : ثم ماذا؟ قال : عقوق الوالدين. قال : ثم ماذا؟ قال : اليمين الغموس» قلت : وما اليمين الغموس؟ قال : التي يقتطع بها مال امرئ مسلم وهو كاذب فيها».

وخرج مسلم عن أبى أمامة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة. فقال رجل : وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وإن كان قضيبا من أراك».

وقد اختلف في اليمين الغموس فالذي عليه الجمهور أنها يمين مكر وخديعة وكذب فلا تنعقد ولا كفارة فيها. لأن هذا الحالف قد جمع بين الكذب ، واستحلال مال الغير ، والاستخفاف باليمين بالله. فأهان ما عظمه الله ، وعظم ما حقره الله ، ولهذا قيل : إنما سميت اليمين الغموس غموسا ، لأنها تغمس صاحبها في النار.

وقال الشافعى : «هي يمين منعقدة ، لأنها مكتسبة بالقلب ، معقودة بخبر ، مقرونة باسم الله ـ تعالى ـ ، وفيها الكفارة.

والصحيح الأول : وهو قول مالك بن أنس ومن تبعه من أهل المدينة ، وبه قال الأوزاعى والثوري وأهل العراق وأحمد وإسحاق وأصحاب الحديث وأصحاب الرأى من أهل الكوفة (١) :

٣ ـ أن (أَوْ) في قوله ـ تعالى ـ : (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) للتخيير.

أى : أن الحالف إذا حنث في يمينه فهو مخير بين واحد من أمور ثلاثة ليكفر عن يمينه التي حنث فيها. وهذه الثلاثة هي الإطعام أو الكسوة ، أو عتق الرقبة. فإذا لم يجد إحدى هذه الكفارات الثلاث انتقل إلى الصوم.

قال الفخر الرازي : وأعلم أن الآية دالة على أن الواجب في كفارة اليمين أحد الأمور الثلاثة على التخيير ، فإن عجز عنها جميعا فالواجب شيء آخر وهو الصوم.

ومعنى الواجب المخير أنه لا يجب عليه الإتيان بكل واحد من هذه الثلاثة ولا يجوز له تركها

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١ ص ٢٦٨.

٢٦٨

جميعا. ومتى أتى بأى واحد شاء من هذه الثلاثة فإنه يخرج عن العهدة. فإذا اجتمعت هذه القيود الثلاثة فذاك هو الواجب المخير» (١).

وللعلماء أقوال متعددة في الإطعام المطلوب لكفارة اليمين.

قال القرطبي ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) لا بد عندنا ـ أى المالكية ـ وعند الشافعى من تمليك ما يخرج لهم ودفعه إليهم حتى يتملكوه ويتصرفوا فيه.

وقال أبو حنيفة : لو غداهم وعشاهم جاز. والأوسط هنا منزلة بين منزلتين ونصفا بين طرفين ـ أى يطعمهم من غالب الطعام الذي يطعم منه أهله لا من أدناه حتى لا يبخس المساكين حقهم ولا من أعلاه حتى لا يتكلف ما يشق عليه ـ والإطعام عند مالك : مد (٢) لكل واحد من المساكين العشرة. وبه قال الشافعى. وقال أبو حنيفة : يخرج من البر نصف صاع ، ومن التمر والشعير صاعا. أى يخرج ما يجب في صدقة الفطر.

ولا يجوز عندنا دفع الكفارة إلى مسكين واحد وبه قال الشافعى ، لأن الله ـ تعالى ـ نص على العشرة فلا يجوز العدول عنهم ، وأيضا فإن فيه إحياء جماعة من المسلمين وكفايتهم يوما واحدا ، فيتفرغون فيه لعبادة الله ولدعائه ، فغفر للمكفر بسبب ذلك.

وقال أبو حنيفة : يجزئه ـ أى : إذا أطعم واحدا عشر مرات أغنى عن إطعام العشرة ـ لأن المقصود من الآية التعريف بقدر ما يطعم ، فلو دفع ذلك القدر لواحد أجزأه» (٣).

والكسوة التي تصلح لكفارة اليمين يلاحظ فيها أن تكون سابغة في الجملة وهي تختلف باختلاف الأزمان والأحوال.

قال الشافعى : لو دفع إلى كل واحد من العشرة ما يصدق عليه اسم الكسوة ـ من قميص أو سراويل ـ أجزأه ذلك.

وقال مالك وأحمد : لا بد أن يدفع إلى كل واحد منهم من الكسوة ما يصح أن يصلى فيه ، إن كان رجلا أو امرأة كل بحسبه.

وقال أبو حنيفة : الكسوة في كفارة اليمين لكل مسكين ثوب وإزار. ولا تجزئ القيمة عن

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٢ ص ٧٤.

(٢) المد : ربع صاع

(٣) تفسير القرطبي ج ٧ ص ٢٧٦.

٢٦٩

الطعام والكسوة عند الشافعى.

وقال أبو حنيفة : تجزئ القيمة ، لأن الغرض سد حاجة المحتاج ، وقد تكون القيمة أنفع له.

والنوع الثالث الذي به تكون كفارة اليمين : تحرير رقبة أى : إعتاقها من الرق ، والمراد بالرقبة جملة الإنسان.

قال الرازي : المراد بالرقبة : الجملة قيل : الأصل في هذا المجاز أن الأسير في العرب كانت تجمع يداه إلى رقبته بحبل. فإذا أطلق حل ذلك الحبل. فسمى الإطلاق من الرقبة فك الرقبة. ثم جرى ذلك على العتق. وقد أخذ بإطلاقها أبو حنيفة فقال : تجزئ الكافرة كما تجزى المؤمنة. وقال الشافعى وآخرون : لا بد أن تكون مؤمنة.

فإن قيل : أى فائدة في تقديم الإطعام على العتق مع أن العتق أفضل لا محالة؟ قلنا له وجوه.

أحدها : أن المقصود منه التنبيه على أن هذه الكفارة وجبت على التخيير لا على الترتيب ، لأنها لو وجبت على الترتيب لوجبت البداءة بالأغلظ.

وثانيها : قدم الإطعام لأنه أسهل ، لكون الطعام أعم وجودا ، والمقصود منه التنبيه على أنه ـ تعالى ـ يراعى التخفيف والتسهيل في التكاليف.

وثالثها : أن الإطعام أفضل ، لأن الحر الفقير قد لا يجد الطعام ، ولا يكون هناك من يعطيه الطعام فيقع في الضر. أما العبد فإنه يجب على مولاه إطعامه وكسوته (١).

٤ ـ يرى مالك والشافعى أن قوله : تعالى : (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) يصدق على الصيام المتتابع والمتفرق ، فلو صام الحالف ثلاثة أيام متفرقة أجزأه ذلك ، لأن التتابع صفة لا تجب إلا بنص أو قياس على منصوص وقد عدما.

ويرى أبو حنيفة وأحمد صوم الثلاثة أيام متتابعة ، فقد قرأ أبى بن كعب وعبد الله بن مسعود «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» وقراءتهما لا تختلف عن روايتهما.

وقال ابن كثير : واختلف العلماء هل يجب فيها التتابع أو يستحب ولا يجب ويجزئ التفريق؟ قولان :

أحدهما : لا يجب وهذا منصوص الشافعى في كتاب الأيمان. وهو قول مالك ، لإطلاق

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٣ ص ٧٦ المطبعة البهية.

٢٧٠

قوله : (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) وهو صادق على المجموعة والمفرقة كما في قضاء رمضان لقوله : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر) ونص الشافعى في موضع آخر في الأم على وجوب التتابع كما هو مذهب الحنفية والحنابلة لأنه قد روى عن أبى بن كعب وغيره أنه كان يقرؤها «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» وحكاها مجاهد والشعبي وأبو إسحاق عن عبد الله بن مسعود. وهذه ، إذا لم يثبت كونها قرآنا متواترا فلا أقل من أن يكون خبر واحد أو تفسيرا من الصحابة وهو في حكم المرفوع.

وروى ابن مردويه عن ابن عباس قال : لما نزلت آية الكفارات قال حذيفة يا رسول الله نحن بالخيار؟ قال : أنت بالخيار. إن شئت أعتقت. وإن شئت كسوت. وإن شئت أطعمت. فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات (١).

ويبدو لنا أن الصيام المتتابع أفضل ، لأن قراءة أبى وحديث حذيفة يزكيانه ، ولأنه رأى عدد كبير من الصحابة منهم عبد الله بن مسعود.

٥ ـ أخذ بعض العلماء من قوله ـ تعالى : (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ) ... إلخ. أن الكفارة لا تكون إلا بعد الحنث ؛ لأن السبب في الكفارة هو الحنث ، وما دام لم يتحقق فإنه لا كفارة.

وقال آخرون يجوز أن تتقدم الكفارة عند نية الحنث ، وتقوم النية مقام الحنث بالفعل.

وقد تكلم عن هذه المسألة الإمام القرطبي فقال ما ملخصه : اختلف العلماء في تقديم الكفارة على الحنث أتجزئ أم لا على ثلاثة أقوال :

أحدها : يجزئ مطلقا وهو مذهب أربعة وعشرين من الصحابة ، وجمهور الفقهاء ، وهو مشهور مذهب مالك ، فقد قال أبو موسى الأشعرى : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وإنى والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير» رواه وأخرجه أبو داود.

ومن جهة المعنى أن اليمين سبب الكفارة ، لقوله ـ تعالى (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) فأضاف الكفارة إلى اليمين والمعاني تضاف إلى أسبابها. وأيضا فإن الكفارة بدل عن البر فيجوز تقديمها قبل الحنث.

وثانيها : قال أبو حنيفة وأصحابه لا يجزئ بوجه لما رواه مسلم عن عدى بن حاتم قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من حلف يمين ثم رأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٩١ بتلخيص يسير.

٢٧١

خير ـ زاد النسائي ـ وليكفر عن يمينه».

ومن جهة المعنى أن الكفارة إنما هي لرفع الإثم ، وما لم يحنث لم يكن هناك ما يرفع فلا معنى لفعلها. وأيضا فإن كل عبادة فعلت قبل وجوبها لم تصح اعتبارا بالصلوات وسائر العبادات.

وثالثها : قال الشافعى : تجزئ بالإطعام والعتق والكسوة ولا تجزئ بالصوم ؛ لأن عمل البدن لا يقدم قبل وقته. ويجزئ في غير ذلك تقديم الكفارة» (١).

٦ ـ أخذ العلماء من قوله ـ تعالى ـ (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) أن من الواجب على المؤمن أن يقلل من الأيمان فلا يلجأ إليها إلا عند الضرورة ، وأن يحرص على أن يكون صادقا فيها حتى لا يحتاج إلى التكفير عنها ؛ وأن يبادر إلى التكفير عنها إذا كانت المصلحة تستدعى الحنث فيها ، لما سبق أن ذكره القرطبي من حديث أبى موسى الأشعرى وحديث عدى بن حاتم.

ولما رواه الشيخان عن عبد الرحمن بن سمرة قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا عبد الرحمن بن سمرة ، لا تسأل الإمارة فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها ، وأن أوتيتها عن غير مسألة أعنت عليها. وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير».

هذا «وقد ساق صاحب المنار في نهاية تفسيره لهذه الآية بحوثا تتعلق بالأيمان فقال ما ملخصه :

(أ) لا يجوز في الإسلام الحلف بغير الله تعالى ـ وأسمائه وصفاته ، لما رواه الشيخان من حديث ابن عمر : «من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله» ورويا عنه أيضا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمع رجلا يحلف بأبيه فقال : «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت».

روى أحمد والبخاري وأصحاب السنن عن ابن عمر أيضا قال : كان أكثر ما يحلف به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحلف : لا ومقلب القلوب.

وهذه الأحاديث الصحيحة صريحة في حظر الحلف بغير الله تعالى ويدخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عموم غير الله وكذلك الكعبة وسائر ما هو معظم شرعا تعظيما يليق به.

(ب) ثم قال ويجوز الحنث للمصلحة الراجحة فقد روى الشيخان وأحمد عن عبد الرحمن ابن سمرة قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا حلفت على يمين ورأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك وفي رواية فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير».

وينقسم الحلف باعتبار المحلوف عليه إلى أقسام :

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٢٧٥.

٢٧٢

١ ـ أن يحلف على فعل واجب وترك حرام ، فهذا تأكيد لما كلفه الله إياه فيحرم الحنث ويكون إثمه مضاعفا.

٢ ـ أن يحلف على ترك واجب أو فعل محرم ، فهذا يجب عليه الحنث ، لأنه يمين معصية على ترك فريضة من الفرائض ، أو حق من الحقوق الواجبة عليه.

٣ ـ أن يحلف على فعل مندوب أو ترك مكروه ، فهذا طاعة فيندب له الوفاء ويكره الحنث كذا قال بعضهم. والظاهر وجوب الوفاء كما قالوا في النذر.

٤ ـ أن يحلف على ترك مندوب أو فعل مكروه ، فيستحب له الحنث ويكره التمادي كذا قالوا. وظاهر الحديث وجوب الكفارة والحنث مطلقا.

٥ ـ أن يحلف على ترك مباح وقد اختلفوا فيه : فقال ابن الصباغ : إن ذلك يختلف باختلاف الأحوال.

أى أن الحالف يوازن بين مقدار الضرر الذي سيترتب على الاستمرار في الترك ، والخير الذي يجلبه الحنث ، فإن رجح أحدهما مضى فيه.

(ج) ثم قال : وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : الأيمان ـ بحسب صيغتها وأحكامها ـ ثلاثة أقسام :

أحدهما : ما ليس من أيمان المسلمين وهو الحلف بالمخلوقات كالكعبة والملائكة والمشايخ والملوك والآباء ونحو ذلك ، فهذه يمين غير منعقدة ولا كفارة فيها باتفاق العلماء بل هي منهى عنها باتفاق أهل العلم والنهى نهى تحريم في أصح الأقوال. ففي الحديث : «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، ومن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» :

الثاني : اليمين بالله كقول القائل : والله لأفعلن كذا. فهذه يمين منعقدة فيها الكفارة إذا حنث فيها باتفاق المسلمين.

الثالث : أيمان المسلمين التي هي في معنى الحلف بالله ، ومقصود الحالف بها تعظيم الخالق لا الحلف بالمخلوقات كالحلف بالنذر والطلاق والعتاق كقوله إن فعلت كذا فعلى صيام شهر أو الحج إلى بيت الله.

فهذه الأيمان للعلماء فيها أقوال أظهرها أنه إذا حنث فيها لزمته كفارة يمين كما قال ـ تعالى ـ (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ). وقال تعالى (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ).

(د) ثم ختم صاحب المنار مباحثه بقوله : واليمين الغموس التي يهضم بها الحق أو يقصد بها الغش والخيانة ، لن يكفرها عتق ولا صدقة ولا صيام ، بل لا بد من التوبة وأداء الحقوق

٢٧٣

والاستقامة. قال ـ تعالى ـ (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها ، وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١).

وبذلك نرى الآية الكريمة قد بينت للمؤمنين ما يجب عليهم إذا ما حنثوا في أيمانهم ، وحضتهم على حفظ أيمانهم ، لكي ينالوا من الله ـ تعالى ـ الرضا والفلاح.

وبعد أن نهى الله المؤمنين عن تحريم ما أحله لهم ، وأمرهم بأن يتمتعوا بما رزقهم من خير بدون إسراف أو تقتير ، وبين لهم حكم ما عقدوه من أيمان بعد كل ذلك وجه ـ سبحانه ـ نداء ثانيا إليهم بين لهم فيه مضار الخمر وأشباهها من الرذائل ، وأمرهم باجتنابها ، فقال تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(٩٢)

قال الفخر الرازي : اعلم أن هذا النوع الثالث من الأحكام المذكورة في هذا الموضع ـ فقد أمر الله المؤمنين بعدم تحريم الطيبات ثم بين حكم الأيمان المنعقدة.

ووجه اتصال هذه الآيات بما قبلها أنه ـ تعالى ـ قال فيما تقدم : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) إلى قوله : (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً). ثم لما كان من جملة الأمور المستطابة الخمر والميسر ، لا جرم أنه ـ تعالى ـ بين أنهما غير داخلين في المحلات بل في المحرمات (٢).

والخمر ـ بمعنى المصدر ـ هو الستر ، ولذلك يقال لما يستر به الرأس عند النساء خمار. والخمر ـ بمعنى الاسم ـ ما يخمر العقل ويستره ، ويمنعه من التقدير السليم :

__________________

(١) تفسير المنار ج ٧ ص ٤٠ ، ٤٨

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٢ ص ٧٩

٢٧٤

قال القرطبي : والخمر مأخوذة من خمر ، إذا ستر ، ومنه خمار المرأة لأنه يستر وجهها. وكل شيء غطى شيئا فقد خمره. ومنه : خمروا آنيتكم أى : غطوها.

وقيل : إنما سميت الخمر خمرا ، لأنها تركت حتى أدركت كما يقال : قد اختمر العجين ، أى : : بلغ إدراكه. وخمر الرأى ، أى ترك حتى يتبين فيه الوجه.

وقيل : إنما سميت الخمر خمرا ، لأنها تخالط العقل. من المخامرة وهي المخالطة. ومنه قولهم : دخلت في خمار الناس ـ بفتح الخاء وضمها ـ أى : اختلطت بهم. فالمعاني الثلاثة متقاربة ، فالخمر تركت حتى أدركت ، ثم خالطت العقل ، ثم خمرته والأصل الستر» (١).

والميسر : القمار ـ بكسر القاف ـ وهو في الأصل مصدر ميمى من يسر كالموعد من وعد. وهو مشتق من اليسر بمعنى السهولة ، لأن المال يجيء ، للكاسب من غير جهد ، أو هو مشتق من يسر بمعنى جزأ ، ثم أصبح علما على كل ما يتقامر عليه كالجزور ونحوه.

قال القرطبي : الميسر : الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه ، سمى ميسرا لأنه يجزأ أجزاء فكأنه موضوع التجزئة. وكل شيء جزأته فقد يسرته. والياسر : الجازر ، لأنه يجزئ لحم الجزور. ويقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور : يأسرون لأنهم جازرون إذ كانوا سببا لذلك» (٢).

والمراد بالميسر ما يشمل كل كسب يجيء بطريق الحظ المبنى على المصادفة فاللعب بالنرد على مال يسمى قمارا ، واللعب بالشطرنج على مال يسمى قمارا وهكذا ما يشبه ذلك من ألوان تمليك المال بالمخاطرة وبطريق الحظ المبنى على المصادفة.

وتحريم الميسر تحريم لذات الفعل. فالعمل في ذاته حرام ، والكسب عن طريقه حرام.

والأنصاب : جمع نصب ، وتطلق على الأصنام التي كانت تنصب للعبادة لها أو على الحجارة التي كانت تخصص للذبح عليها تقربا للأصنام.

والأزلام : جمع زلم. وهي السهام التي كانوا يتقاسمون بها الجزور أو البقرة إذا ذبحت. فسهم عليه واحد ، وسهم اثنان وهكذا إلى عشرة. أو هي السهام التي كانوا يكتبون على أحدها : أمرنى ربي وعلى الآخر نهاني ربي ، ويتركون الثالث غفلا من الكتابة فإذا أرادوا سفرا أو حربا أو زواجا أو غير ذلك ، أتوا إلى بيت الأصنام واستقسموها ، فإن خرج أمرنى ربي أقدموا

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٣ ص ٥١

(٢) تفسير القرطبي ج ٣ ص ٥٣

٢٧٥

على ما يرونه ، وإن خرج نهاني ربي أمسكوا عنه ، وإن خرج الغفل أجالوها ثانية حتى يخرج الآمر أو الناهي.

وقد نهى الله ـ تعالى ـ في أوائل هذه السورة عن الاستقسام بالأزلام فقال (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ) (١).

وقوله : (رِجْسٌ) أى قذر تأباه النفوس الكريمة والعقول السليمة لقذارته ونجاسته.

قال الفخر الرازي : والرجس في اللغة كل ما استقذر من عمل. يقال : رجس الرجل رجسا إذا عمل عملا قبيحا : وأصله من الرجس ـ بفتح الراء ـ وهو شدة الصوت. يقال : سحاب رجاس إذا كان شديد الصوت بالرعد. فكأن الرجس هو العمل الذي يكون قوى الدرجة كامل الرتبة في القبح» (٢).

وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات منها : ما جاء في صحيح مسلم عن سعد بن أبى وقاص أنه قال : نزلت فىّ آيات من القرآن ، وفيه قال. وأتيت على نفر من الأنصار فقالوا : تعال نطعمك ونسقيك خمرا وذلك قبل أن تحرم الخمر ـ قال فأتيتهم في حش ـ أى بستان ـ فإذا رأس جزور مشوى عندهم وزق من خمر قال : فأكلت وشربت معهم. قال : فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم فقلت : المهاجرون خير من الأنصار. قال. فأخذ رجل ـ من الأنصار ـ لحى جمل فضربني به فجرح أنفى ، فأتيت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته فأنزل الله ـ تعالى ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) .. الآيات (٣).

ومنها ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال : نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار. شربوا حتى ثملوا ، فعبث بعضهم ببعض ، فلما أن صحوا ، جعل الرجل منهم يرى الأثر بوجهه ولحيته فيقول : فعل هذا بي أخى فلان ـ وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن ـ والله لو كان بي رءوفا رحيما ما فعل بي هذا ، حتى وقعت في قلوبهم الضغائن فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ). إلى قوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (٤).

والمعنى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إيمانا حقا. إنما تعاطى (الْخَمْرُ) أى : الشراب الذي يخامر العقل ويخالطه ويمنعه من التفكير السليم (وَالْمَيْسِرُ) أى القمار الذي عن طريقه يكون تمليك

__________________

(١) الآية ٣ من سورة المائدة.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٢ ص ٧٩

(٣) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٢٨٦

(٤) تفسير ابن جرير ج ٧ ص ٣٤

٢٧٦

المال بالحظ المبنى على المصادفة والمخاطرة (وَالْأَنْصابُ) أى : الحجارة التي تذبح عليها الحيوانات تقربا للأصنام. (وَالْأَزْلامُ) أى : السهام التي عن طريقها يطلب الشخص معرفة ما قسم له من خير أو شر. هذه الأنواع الأربعة (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) أى : مستقذرة تعافها النفوس الكريمة ، وتأباها العقول السليمة ، لأنها من تزيين الشيطان الذي هو عدو للإنسان ، ولا يريد له إلا ما كان شيئا قبيحا.

قال ـ تعالى ـ : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ).

والفاء في قوله (فَاجْتَنِبُوهُ) للإفصاح ، والضمير فيه يعود على الرجس الذي هو خبر عن تلك الأمور الأربعة وهي الخمر والميسر والأنصاب والأزلام.

أى : إذا كان تعاطى هذه الأشياء الأربعة رجسا وقذرا ينأى عنه العقلاء فاجتنبوه لعلكم بسبب هذا الاجتناب والترك لذلك الرجس تنالون الفلاح والظفر في دنياكم وآخرتكم.

والنداء بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) عام لجميع المؤمنين ، وقد ناداهم ـ سبحانه ـ بهذه الصيغة لتحريك حرارة العقيدة في قلوبهم حتى يستجيبوا لما نودوا من أجله ، وهو اجتناب تلك الرذائل وتركها تركا تاما.

وقوله : (رِجْسٌ) خبر عن هذه الرذائل الأربعة. وصح الإخبار به ـ مع أنه مفرد ـ عن متعدد هو هذه الأربعة ، لأنه مصدر يستوي فيه القليل والكثير وشبيه بذلك قوله ـ تعالى ـ (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ).

وقيل : لأنه خبر عن الخمر ، وخبر المعطوفات عليها محذوف ثقة بالمذكور وقيل : لأن في الكلام مضافا إلى تلك الأشياء ، وهو خبر عنه. أى : إنما شأن هذه الأشياء أو تعاطيها رجس.

وقوله : (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) في محل رفع على أنه صفة لقوله : (رِجْسٌ) أى : رجس كائن من عمل الشيطان ، لأنه ناجم عن تزيينه وتسويله ، إذ هو خبيث والخبيث لا يدعو إلا إلى الخبيث فالمراد من إضافة العمل إلى الشيطان المبالغة في كمال قبح ذلك العمل.

وعبر بقوله : (فَاجْتَنِبُوهُ) للمبالغة في الأمر بترك هذه الرذائل ، فكأنه سبحانه يقول لا آمركم فقط بترك الرذائل ، بل أمركم أيضا بأن تكونوا أنتم في جانب وهذه المنكرات في جانب آخر. فالأمر هنا منصب على الترك وعلى كل ما يؤدى إلى اقتراف هذه المنكرات كمخالطة المرتكبين لها. وغشيان مجالسها. إلخ.

ثم أكد سبحانه تحريم الخمر والميسر ببيان مفاسدهما الدنيوية والدينية فقال تعالى (إِنَّما يُرِيدُ

٢٧٧

الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ).

أى : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ) بتزيينه المنكرات لكم (أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) بأن يقطع ما بينكم من صلات ، ويثير في نفوسكم الأحقاد والضغائن بسبب تعاطيكم للخمر والميسر ، وذلك لأن شارب الخمر إذا ما استولت الخمر على عقله أزالت رشده. وأفقدته وعيه ، وتجعله قد يسيء إلى من أحسن إليه ، ويعتدى على صديقه وجليسه. وذلك يورث أشد ألوان العداوة والبغضاء بين الناس.

ولأن متعاطى الميسر كثيرا ما يخسر ما له على مائدة الميسر. والمال كما نعلم شقيق الروح ، فإذا ما خسره هذا المقامر صار عدوا لمن سلب ماله منه عند المقامرة ، وأصبح يضمر له السوء. وقد يؤدى به الحال إلى قتله حتى يشفى غيظه منه ، لأنه قد جعله فقيرا بائسا مجردا من أمواله بعد أن كان مالكها وفي ذلك ما فيه من تولد العداوة والبغضاء وإيقاد نار الفتن والشرور بين الناس.

فقوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) إشارة إلى مفاسدهما الدنيوية.

أما مفاسدهما الدينية فقد أشار إليها سبحانه بقوله : (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ).

أى : ويريد الشيطان أيضا بسبب تعاطيكم للخمر والميسر ـ أن يصدكم أى يشغلكم ويمنعكم (عَنْ ذِكْرِ اللهِ) أى : عن طاعته ومراقبته والتقرب إليه (وَعَنِ الصَّلاةِ) التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام.

وذلك لأن شارب الخمر يمنعه ما حل به من نشوة كاذبة ، ومن فقدان لرشده عن طاعة الله وعن أداء ما أوجبه عليه من صلاة وغيرها.

ولأن متعاطى الميسر بسبب استحلاله لكسب المال عن هذا الطريق الخبيث ، ويسبب فقدانه للعاطفة الدينية السليمة صار لا يفكر في القيام بما أوجبه الله عليه من عبادات.

ورحم الله الآلوسى ، فقد قال عند تفسيره لهذه الآية : ووجه صد الشيطان لهم عن ذكر الله وعن الصلاة بسبب تعاطيهم للخمر والميسر أن الخمر لغلبة السرور بها والطرب على النفوس. والاستغراق في الملاذ الجسمانية ، تلهى عن ذكر الله تعالى ـ وعن الصلاة.

وأن الميسر إن كان اللاعب به غالبا ، انشرحت نفسه ، وصده حب الغلب والقهر والكسب عما ذكر ، وإن كان مغلوبا حصل له من الانقباض والقهر ما يحثه على الاحتيال لأن يصير غالبا فلا يخطر بقلبه غير ذلك.

٢٧٨

وقد شاهدنا كثيرا ممن يلعب بالشطرنج يجرى بينهم من اللجاج والحلف الكاذب والغفلة عن ذكر الله تعالى ما ينفر منه الفيل وتكبو له الفرس ويحار لشناعته الفهم وتسود رقعة الأعمال (١).

وجمع ـ سبحانه ـ الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام في الآية الأولى ثم أفردهما بالذكر في هذه الآية ، لأن الخطاب للمؤمنين ، والمقصود نهيهم عن الخمر والميسر ، وإظهار أن هذه الأربعة متقاربة في القبح والمفسدة ، أى أن مجيء الأنصاب والأزلام مع الخمر والميسر إنما هو لتقبيح تعاطيهما ، وتأكيد حرمتهما ، حتى لكأن متعاطى الخمر والميسر يفعل أفعال أهل الجاهلية ، وأهل الشرك بالله ـ تعالى ـ وكأنه ـ كما يقول الزمخشري ـ : لا مباينة بين من عبد صنما وأشرك بالله في علم الغيب ، وبين من شرب خمرا أو قامر.

وخص الصلاة بالذكر مع أنها لون من ألوان ذكر الله ، تعظيما لشأنها ، كما هو الحال في ذكر الخاص بعد العام ، وإشعارا بأن الصاد عنها كالصاد عن الإيمان ، لما أنها عماد الدين والفارق بين المسلم وبين الكافر.

والاستفهام في قوله (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) لإنكار استمرارهم على الخمر والميسر بعد أن بين لهم ما بين من مضارهما الدنيوية والدينية ولحضهم على ترك تعاطيهما فورا ، أى : انتهوا سريعا عنهما فقد بينت لكم ما يدعو إلى ذلك.

ولقد لبى الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ هذا الأمر فقالوا : «انتهينا يا رب ؛ انتهينا يا رب» وألقوا ما عندهم من خمر في طرقات المدينة.

ثم أكد ـ سبحانه ـ وجوب هذا الانتهاء بأن أمر بطاعته وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا).

أى : اجتنبوا ـ أيها المؤمنون ـ هذه الرذائل وانتهوا عنها فقد بينت لكم مضارها ، (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) في جميع ما أمرا به ونهيا عنه (وَاحْذَرُوا) مخالفتهما ، لأن مخالفة أوامرهما تؤدى إلى الحسرة والخسران.

وأمر ـ سبحانه ـ بطاعته وبطاعته رسوله مع أن طاعة رسوله طاعة له ـ سبحانه ـ لتأكيد الدعوة إلى هذه الطاعة ، ولتكريم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث جعلت طاعته مجاورة لطاعة الله ـ تعالى ـ.

وقوله : (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) تأكيد للتحذير السابق وتنبيه إلى سوء عاقبة العاصين لأمر الله ورسوله.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٧ ص ١٦

٢٧٩

وجواب الشرط محذوف والتقدير : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ـ أيها المؤمنون ـ واحذروا مخالفة أمرهما ، فإن توليتم وأعرضتم عن طاعتهما ، فقد وقعتم في الخطيئة وستعاقبون عليها عقابا شديدا ، واعلموا أنه ليس على رسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم سوى التبليغ الواضح البين عن الله ـ تعالى ـ أما الحساب والجزاء ، والثواب والعقاب فمن الله وحده.

فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة قد ذكرت أنواعا من التأكيدات ، وألوانا من التهديدات التي تدعو إلى اجتناب الخمر والميسر اجتنابا تاما وتركهما تركا لا عودة بعده إليهما.

وقد وضح صاحب الكشاف هذا المعنى بقوله : أكد ـ سبحانه ـ تحريم الخمر والميسر بوجوه من التأكيد :

منها : تصدير الجملة بإنما.

ومنها : قرنهما بعبادة الأصنام ، ومنه قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «شارب الخمر كعابد الوثن».

ومنها : أنه جعلهما رجسا كما قال ـ تعالى ـ (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) ومنها : أنه جعلهما من عمل الشيطان ، والشيطان ، لا يأتى منه إلا الشر البحت.

ومنها : أنه أمر بالاجتناب وظاهر الأمر للوجوب.

ومنها : أنه جعل الاجتناب من الفلاح. وإذا كان الاجتناب فلاحا ، كان الارتكاب خيبة وخسرانا.

ومنها : أنه ذكر ما ينتج منهما من الوبال ـ وهو وقوع التعادي والتباغض ـ وما يؤديان إليه من الصد عن ذكر الله وعن مراعاة أوقات الصلاة.

ومنها : قوله (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) فهو من أبلغ ما ينهى به ، كأنه قيل : قد تلى عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والموانع فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون أم أنتم باقون على ما كنتم عليه ، كأن لم توعظوا ولم تزجروا؟؟؟» (١).

هذا ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى :

١ ـ أن هذه الآيات الكريمة هي آخر ما نزل في القرآن لتحريم الخمر تحريما قاطعا لأن التعبير بالانتهاء والأمر به فيه إشارة إلى تمهيدات سابقة للتحريم.

قال القرطبي : تحريم الخمر كان بتدريج ونوازل كثيرة. فإنهم كانوا مولعين بشربها ، وأول ما نزل في شأن الخمر قوله ـ تعالى ـ (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) (٢) أى : في تجارتهم. فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس وقالوا : لا حاجة فيما فيه

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦٧٥ ـ بتصرف يسير ـ

(٢) سورة البقرة الآية ٢١٩

٢٨٠