التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٤

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٤

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0531-4
الصفحات: ٣٦٠

والاستفهام هنا يتضمن حضهم على التوبة والرجوع إلى الحق وتوبيخهم على ما كان منهم من ضلال والتعجيب من استمرارهم على كفرهم وعقائدهم الفاسدة التي لا يقبلها عقل سليم ، ولا تصور قويم.

والفاء للعطف على مقدر يقتضيه الكلام. أى : أيسمعون ما يسمعون من الحق الذي يزهق باطلهم ومن النذر التي ترقق القلوب فلا يحملهم ذلك على التوبة والرجوع إلى الله وطلب مغفرته ، والحال أنه ـ سبحانه ـ عظيم المغفرة واسع الرحمة لمن آمن وعمل صالحا.

إن إصرارهم على كفرهم بعد تفنيده وإبطاله ، وبعد تحذيرهم من سوء عاقبة الكافرين ليدل على أنهم قوم ضالون خاسرون يستحقون أن يكونوا محل عجب الناس وإهمالهم.

قال أبو السعود : وقوله (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) جملة حالية من فاعل (يَسْتَغْفِرُونَهُ) مؤكدة للإنكار والتعجيب من إصرارهم على الكفر وعدم مسارعتهم إلى الاستغفار.

أى : والحال أن الله : ـ تعالى ـ مبالغ في المغفرة. فيغفر لهم عند استغفارهم ويمنحهم من فضله» (١).

وقال ابن كثير : هذا من كرمه ـ تعالى ـ وجوده ولطفه ورحمته بخلقه. مع هذا الذنب العظيم ، وهذا الافتراء والكذب والإفك ، يدعوهم إلى التوبة والمغفرة. فكل من تاب إليه تاب عليه. كما قال (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فيغفر لهؤلاء إن تابوا ولغيرهم (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ حقيقة عيسى عليه‌السلام ـ وحقيقة أمه مريم حتى يزيل عن ساحتهما ما افتراه عليهما المفترون فقال ـ تعالى : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ).

وقوله (صِدِّيقَةٌ) صيغة مبالغة في التمسك بفضيلة الصدق مثل شريب ومسيك مبالغة في الشرب والمسك.

قال الراغب : والصديق من كثر منه الصدق ، وقيل : بل يقال لمن لم يكذب قط : وقيل : بل لمن لا يأتى منه الكذب لتعوده الصدق. وقيل ، لمن صدق بقوله واعتقاده وحقق صدقه بفعله .. قال تعالى ـ (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) فالصديقون هم قوم دون الأنبياء في الفضيلة (٣).

__________________

(١) تفسير أبو السعود ج ٧ ص ٥٠

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٨١

(٣) المفردات في غريب القرآن الكريم ص ٢٧٧

٢٤١

والمعنى : إن الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة. قد قالوا منكرا وزورا ، إذ ليس الألوهية إلا لله وحده وليس المسيح عيسى ابن مريم سوى بشر من البشر ورسول مثل الرسل الذين سبقوه كنوح وإبراهيم وموسى وغيرهم من الرسل الذين مضوا دون أن يدعى واحد منهم الألوهية. وأما أم عيسى مريم فما هي إلا أمة من إماء الله كسائر النساء ديدنها الصدق مع خالقها ـ عزوجل ـ أو التصديق له في سائر أمورها. وهما ـ أى عيسى وأمه مريم ـ عبدان من عباد الله كانا يأكلان الطعام ، ويشربان الشراب ويتصرفان كما يتصرف سائر البشر فكيف ساغ لكم ـ يا معشر النصارى ـ أن تصفوهما بأنهما إلهين مع أن طبيعتهما الظاهرة أمامكم تتنافى تنافيا تاما مع صفات الألوهية : إن وصفكم لهما بالألوهية لدليل واضح على فساد عقولكم وضلال تفكيركم ، وعظيم جهلكم.

وقوله (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ) جملة مشتملة على قصر موصوف على صفة ، وهو قصر إضافى ، أى أن المسيح مقصور على صفة الرسالة لا يتجاوزها إلى غيرها وهي الألوهية فالقصر قصر قلب لرد اعتقاد النصارى في عيسى أنه الله ، أو أنه جزء من الله أو أنه أحد آلهة ثلاثة.

وقوله : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) صفة للرسول وهو عيسى أريد بها بيان أنه مساو للرسل الكرام الذين سبقوه في تبليغ رسالة الله إلى الناس ؛ وأنه ليس بدعا في هذا الوصف وإذا فلا شبهة للذين زعموا انه إله لأنه لم يجيء بشيء زائد على ما جاء به الرسل.

وقوله. (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) معطوف على قوله : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ) والقصد من وصف مريم بذلك مدحها والثناء عليها ، ونفى أن يكون لها وصف أعلى من ذلك ، فهي ليست إلها. كما أنها ليست رسولا.

ولذا قال ابن كثير : دلت الآية على أن مريم ليست بنبية ـ كما زعمه ابن حزم وغيره ممن ذهب إلى نبوة سارة أم إسحاق ونبوة أم عيسى ونبوة أم موسى ـ استدلالا منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم وبقوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبيا إلا من الرجال ـ قال تعالى ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) (١).

وقوله : (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) جملة مستأنفة لبيان خواصهما الآدمية بعد بيان منزلتهما السامية عند الله ـ تعالى ـ وقد اختيرت هذه الصفة لهما من بين صفات كثيرة كالمشرب والملبس. لأنها صفة واضحة

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٨١

٢٤٢

ظاهرة للناس ، ودالة على احتياجهما لغيرهما في مطلب حياتهما ، ومن يحتاج إلى غيره لا يكون إلها.

وقال صاحب الكشاف : لأن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم والنفض ، لم يكن إلا جسما مركبا من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وأمزجة مع شهوة .. وغير ذلك مما يدل على أنه مصنوع مؤلف كغيره من الأجسام وحاشا للإله أن يكون كذلك (١).

ففي هذه الجمل الكريمة رد على ما زعمه النصارى في شأن عيسى وأمه بأبلغ وجه وأحكمه ، ولذا عجب الله ـ تعالى ـ رسوله وكل من يصلح للخطاب من جهلهم وبعدهم عن الحق مع وضوحه وظهوره فقال : (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أى : يصرفون يقال أفكه يأفكه إذا صرفه عن الشيء.

أى : انظر ـ يا محمد ـ كيف تبين لهم الأدلة المنوعة على حقيقة عيسى وأمه بيانا واضحا ظاهرا. ثم انظر بعد ذلك كيف ينصرفون عن الإصاخة إليها والتأمل فيها لسوء تفكيرهم ، واستيلاء الجهل والوهم والعناد على عقولهم.

فالجملتان الكريمتان تعجيب لكل عاقل من أحوال النصارى الذين زعموا أن الله هو المسيح ابن مريم ، أو أن الله ثالث ثلاثة. مع أنه ـ سبحانه ـ أقام لهم الأدلة المتعددة على بطلان ذلك.

وكرر الله ـ سبحانه ـ الأمر بالنظر للمبالغة في التعجيب من أحوالهم الغريبة وجيء بثم المفيدة للتراخي في قوله (ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) لإظهار ما بين وضوح الآيات وانصرافهم عنها من تفاوت شديد أى : أن بياننا للآيات أمر بديع في بابه بحيث يجعل كل عاقل يستجيب لها ، ويخضع لما تدعو إليه من هدايات وخيرات. وانصراف هؤلاء الضالين عنها ـ مع وضوحها وتعاضد ما يوجب قبولها ـ أمر يدعو إلى العجب الشديد من جهلهم وضلالهم وسوء تفكيرهم.

ثم تابع ـ سبحانه ـ حديثه عن ضلال أهل الكتاب وجهالتهم فأمر رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يوبخهم على عنادهم وغفلتهم وأن يواصل دعوتهم إلى الدين الحق فقال ـ تعالى :

(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦٦٥

٢٤٣

وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ)(٧٧)

والاستفهام في قوله (أَتَعْبُدُونَ) لإنكار واقعهم والتعجيب مما وقع منهم ، وتوبيخهم على جهلهم وغفلتهم.

و (ما) في قوله (ما لا يَمْلِكُ) يجوز أن تكون موصولة بمعنى الذي وأن تكون نكرة موصوفة. والجملة بعدها صلة فلا محل لها أو صفة فمحلها النصب.

وقوله (يَمْلِكُ) من الملك بمعنى حيازة الشيء والتمكن من التصرف فيه بدون عجز.

والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء الضالين من النصارى وأشباههم في الكفر والشرك قل لهم : أتعبدون معبودات غير الله ـ تعالى ـ هذه المعبودات وأشباههم في الكفر والشرك قل لهم : كالمرض والفقر ، ولا تملك أيضا أن تنفعكم بشيء من النفع كبسط الرزق ودفع الضر وغير ذلك مما أنتم في حاجة إليه.

فالمراد بما لا يملك : كل ما عبد من دون الله من حجر أو وثن أو غيرهما فتكون «ما» للعموم وليست كناية عن عيسى وأمه فحسب.

وقد سار على هذا المعنى ابن كثير فقال : يقول ـ تعالى ـ منكرا على من عبد غيره من الأصنام والأوثان والأنداد ، ومبينا له أنها لا تستحق شيئا من الألوهية فقال ـ تعالى ـ (قُلْ) أى : يا محمد لهؤلاء العابدين غير الله من سائر فرق بنى آدم ودخل في ذلك النصارى وغيرهم (أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) (١).

ويرى كثير من المفسرين أن المراد بقوله : (ما لا يَمْلِكُ) عيسى ـ عليه‌السلام ـ أو هو وأمه لأن الكلام مع النصارى الذين قال بعضهم : إن الله المسيح ابن مريم. وقال آخرون منهم : إن الله ثالث ثلاثة ، فتكون الآية دليلا آخر ـ بعد الأدلة السابقة ـ على فساد أقوال النصارى في عيسى وأمه مريم.

والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء النصارى أتعبدون ـ من دون الله ـ عيسى وأمه وهما لا يستطيعان أن يضراكم بشيء من الضرر في الأنفس والأموال ، ولا أن ينفعاكم بشيء من النفع كإيجاد الصحة والخصب والسعة ، لأن الضر والنفع من الله وحده وكل ما يستطيعه البشر من المضار أو المنافع هو بتمكين الله لهم وليس بقدرتهم الذاتية.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٨٢

٢٤٤

وأوثرت «ما» على «من» لتحقيق ما هو المراد من كونهما بمعزل من الألوهية رأسا ، ببيان انتظامهما في مسلك الأشياء التي لا قدرة لها على شيء أصلا ولا شك أن من صفات الرب أن يكون قادرا على كل شيء ، فقول النصارى بأن الله هو المسيح ابن مريم أو هو ثالث ثلاثة ، قول ظاهر البطلان واضح الفساد.

وعلى كلا القولين فالآية الكريمة تنفى أن يكون هناك إله سوى الله ـ تعالى ـ يستحق العبادة والخضوع ، لأنه ـ سبحانه ـ هو المالك لكل شيء ، والخالق لكل شيء (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ).

وقدم ـ سبحانه ـ الضر على النفع فقال : (ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) لأن النفوس أشد تطلعا إلى دفعه من تطلعها إلى جلب الخير ، ولأنهم كانوا يعبدون غير الله ـ تعالى ـ وهمهم الأكبر أن هذا المعبود يستطيع أن يقربهم إلى الله زلفى ، وأن يمنع عنهم المصائب والاضرار.

وقوله : (وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) في محل نصب على الحال. من فاعل (أَتَعْبُدُونَ) أى أتعبدون آلهة سوى الله لا تملك ضرركم أو نفعكم وتتركون عبادة الله والحال أن الله وحده هو السميع لكل ما تنطقون به ، العليم بجميع أحوالكم وأعمالكم ، وسيحاسبكم على ذلك وسيجازيكم على أقوالكم الباطلة وعقائدكم الزائفة ، بما تستحقون من عذاب أليم.

ثم أرشدهم ـ سبحانه ـ إلى طريق الحق ، ونهاهم عن الغلو الباطل فقال : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ، وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ) والغلو مصدر غلا في الأمر : إذا تجاوز الحد. وهو نقيض التقصير.

وقد نهى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الغلو حتى في الدين ، فقد روى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة والحاكم عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قلبكم بالغلو في الدين» (١).

وروى البخاري عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تطرونى كما أطرت النصارى ابن مريم ؛ إنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله» (٢).

وروى مسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «هلك المتنطعون. قالها ثلاثة» (٣) والمتنطعون هم المتشددون المتجاوزون للحدود التي جاءت بها تعاليم الإسلام.

__________________

(١) مسند الإمام أحمد ج ٢ حديث رقم ٢٢٥ طبعة الحلبي.

(٢) صحيح البخاري باب واذكر في الكتاب مريم من كتاب الأنبياء ج ٤ ص ٣٠٤

(٣) صحيح مسلم كتاب العلم ج ٨ ص ٥٨

٢٤٥

وقد غالى أهل الكتاب في شأن عيسى ـ عليه‌السلام ـ أما اليهود فقد كفروا به ونسبوه إلى الزنا وافتروا عليه وعلى أمه افتراء شديدا وأما النصارى فقد وصفوه بالألوهية فوضعوه في غير موضعه الذي وضعه الله فيه وهو منصب الرسالة. وكما غالوا في شأن عيسى عليه‌السلام ـ فقد غالوا أيضا في تمسكهم بعقائدهم الزائفة ، مع أن الدلائل الواضحة قد دلت على بطلانها وفسادها.

وقوله (غَيْرَ الْحَقِ) منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف. أى : لا تغلوا في دينكم غلوا غير الحق : أى : غلوا باطلا.

وقوله : (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ) معطوف على قوله : (لا تَغْلُوا) قال الفخر الرازي : الأهواء ـ هاهنا ـ المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة.

قال الشعبي : ما ذكر الله لفظ الهوى في القرآن إلا ذمه. قال : (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) وقال : (وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى) وقال : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) وقال : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ).

وقال أبو عبيدة : لم نجد الهوى يوضع إلا في الشر لا يقال : فلان يهوى الخير إنما يقال يريد الخير ويحبه.

وقيل : سمى الهوى هوى لأنه يهوى بصاحبه في النار. وأنشد في ذم الهوى :

إن الهوى الهوان بعينه

فإذا هويت فقد لقيت هوانا

وقال رجل لابن عباس : الحمد لله الذي جعل هو اى على هواك. فقال ابن عباس : كل هوى ضلالة» (١).

والمعنى : قل يا محمد لأهل الكتاب الذين تجاوزوا الحدود التي تقرها الشرائع والعقول السليمة ، قل لهم يا أهل الكتاب : (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِ) أى : لا تتجاوزوا حدود الله تجاوزا باطلا ، كأن تعبدوا سواه مع أنه هو الذي خلقكم ورزقكم ، وكأن تصفوا عيسى بأوصاف هو برىء منها.

وقل لهم أيضا : (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ) أى : ولا تتبعوا شهوات وأقوال قوم من أسلافكم وعلمائكم ورؤسائكم (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) أى : قد ضلوا من قبل بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتحريفهم للكتب السماوية وتركهم لتعاليمها جريا وراء شهواتهم وأهوائهم (وَأَضَلُّوا كَثِيراً) أى أنهم لم يكتفوا بضلال أنفسهم بل أضلوا أناسا كثيرين سواهم ممن قلدهم ووافقهم على أكاذيبهم وقوله : (وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) معطوف على قوله (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٢ ص ٦٣

٢٤٦

أى أنهم قد ضلوا من قبل البعثة النبوية الشريفة ، وضلوا من بعدها عن (سَواءِ السَّبِيلِ) أى : عن الطريق الواضح الذي أتى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو طريق الإسلام وذلك لأنهم لم يتبعوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع معرفتهم بصدقة ؛ بل كفروا به حسدا له على ما آتاه الله من فضله.

فأنت ترى أنه ـ تعالى ـ قد وصفهم ـ كما يقول الإمام الرازي ـ بثلاث درجات في الضلال : فبين أنهم كانوا ضالين من قبل ، ثم ذكر أنهم كانوا مضلين لغيرهم ، ثم ذكر أنهم استمروا على تلك الحالة حتى الآن ضالون كما كانوا ولا نجد حالة أقرب إلى البعد من الله والقرب من عقابه من هذه الحالة ويحتمل أنهم ضلوا وأضلوا ثم ضلوا بسبب اعتقادهم في ذلك الإضلال أنه إرشاد إلى الحق (١).

هذا ، ومما أخذه العلماء من هذه الآية الكريمة أن الغلو في الدين لا يجوز وهو مجاوزة الحق إلى الباطل وقد سقنا من الآثار ما يشهد بذلك عند تفسيرنا لصدر الآية الكريمة.

قال صاحب الكشاف ما ملخصه دلت الآية على أن الغلو في الدين غلوان «غلو حق» وهو أن يفحص عن حقائقه ، ويفتش عن أباعد معانيه ، ويجتهد في تحصيل حججه كما يفعل المتكلمون. وغلو باطل ، وهو أن يتجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه. كما يفعل أهل الأهواء والبدع والضلال (٢).

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك بعض الرذائل التي شاعت في بنى إسرائيل ، والتي بسببها استحقوا اللعن والطرد من رحمة الله فقال ـ تعالى ـ :

(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٢ ص ٦٤

(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦٦٦

٢٤٧

أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ)(٨١)

وقوله (لُعِنَ) من اللعن بمعنى الطرد من رحمة الله فالملعون هو المحروم من رحمته ـ سبحانه ـ ولطفه وعنايته.

والمعنى : لعن الله ـ تعالى ـ الذين كفروا من بنى إسرائيل بأن طردهم من رحمته ، على لسان نبيين كريمين هما داود وعيسى ـ عليهما‌السلام ـ وقد جاء الفعل «لعن» بالبناء للمجهول لأن الفاعل معلوم وهو الله ـ تعالى ـ ولأن الأنبياء ومنهم داود وعيسى لا يلعنون أحدا إلا بإذن الله ـ سبحانه ـ وقوله : (مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) في محل نصب على الحال من الذين كفروا أو من فاعل (كَفَرُوا) وهو واو الجماعة.

وقوله : (عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) متعلق بلعن. أى : لعنهم ـ سبحانه ـ في الزبور والإنجيل على لسان هذين النبيين الكريمين اللذين كان أولهما ـ بجانب منصب الرسالة ـ قائدا مظفرا قادهم إلى النصر بعد الهزيمة. وكان ثانيهما وهو عيسى ـ عليه‌السلام ـ رسولا مسالما جاءهم ليحل لهم بعض الذي حرم عليهم.

قال الآلوسى : لعنهم الله ـ تعالى ـ في الزبور والإنجيل على لسان داود وعيسى ابن مريم بأن أنزل في هذين الكتابين «ملعون من يكفر من بنى إسرائيل بالله أو بأحد من رسله».

وقيل : إن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت قال داود : اللهم ألبسهم اللعن مثل الرداء ومثل المنطقة على الحقوين فمسخهم الله قردة.

وأصحاب المائدة لما كفروا بعيسى قال : اللهم عذب من كفر من المائدة عذابا لم تعذبه أحدا من العالمين ، والعنهم كما لعنت أصحاب السبت» (١).

وقوله : (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) بيان لسبب لعنهم وطردهم من رحمة الله.

واسم الإشارة (ذلِكَ) يعود إلى اللعن المذكور.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ٢١١

٢٤٨

أى : ذلك اللعن للكافرين من بنى إسرائيل سببه عصيانهم لله ولرسله ، وعدوانهم على الذين يأمرونهم بالقسط من الناس.

أى أن لعنهم لم يكن اعتباطا أو جزافا ، وإنما كان بسبب أقوالهم القبيحة وأفعالهم المنكرة ، وسلوكهم السيئ.

وقوله : (ذلِكَ بِما عَصَوْا) جملة من مبتدأ وخبر. وقوله : (وَكانُوا يَعْتَدُونَ) معطوف على صلة ما وهو (عَصَوْا) فيكون داخلا في حيز السبب الذي أدى إلى لعنهم والجملة المكونة من اسم الإشارة (ذلِكَ) وما بعدها مستأنفة واقعة موقع الجواب لسؤال تقديره لما ذا لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل؟

وقد أفاد اسم الإشارة مع باء السببية ومع وقوع الجملة في جواب سؤال مقدر أفاد مجموع ذلك ما يشبه القصر.

وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذا المعنى بقوله : (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ).

أى : لم يكن ذلك اللعن الشنيع إلا لأجل المعصية والاعتداء لا لشيء آخر ، (١).

وعبر ـ سبحانه ـ عن عصيانهم بالماضي فقال (ذلِكَ بِما عَصَوْا) للإشارة إلى استقرار العصيان في طبائعهم ، وثباته في نفوسهم وجوارحهم.

وعبر عن عدوانهم بالمضارع ، للإيذان بأنه مستمر قائم ، فهم لم يتركوا نبيا إلا وآذوه ، ولم يتركوا مصلحا إلا واعتدوا عليه فاعتداؤهم على المصلحين مستمر في كل زمان ومكان.

ثم فسر ـ سبحانه ـ عصيانهم وعدوانهم بقوله (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ ، لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ).

وقوله (يَتَناهَوْنَ) من التناهى.

قال الفخر الرازي : وللتناهى هاهنا معنيان :

أحدهما : وهو الذي عليه الجمهور ـ أنه تفاعل من النهى. أى : كانوا لا ينهى بعضهم بعضا.

روى ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من رضى عمل قوم فهو منهم. ومن كثر سواد قوم فهو منهم» والمعنى الثاني : في التناهى أنه بمعنى الانتهاء عن الأمر ، تناهى عنه إذا كف عنه» (٢).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦٦٧

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٢ ص ٦٤

٢٤٩

والمنكر : هو كل ما تنكره الشرائع والعقول من الأقوال والأفعال.

أى أن مظاهر عصيان الكافرين من بنى إسرائيل وتعديهم مما أدى إلى لعنهم وطردهم من رحمة الله أنهم كانوا لا ينهى بعضهم بعضا عن اقتراف المنكرات. واجتراح السيئات ، بل كانوا يرون المنكرات ترتكب فيسكتون عنها بدون استنكار مع قدرتهم على منعها قبل وقوعها.

وهذا شر ما تصاب به الأمم حاضرها ومستقبلها : أن تفشو فيها المنكرات والسيئات والرذائل فلا تجد من يستطيع تغييرها وإزالتها.

وقوله : (لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) ذم لهم على كثرة ولوغهم في المعاصي والمنكرات وتعجب من سوء فعلهم.

واللام في قوله (لَبِئْسَ) لام القسم فكأنه ـ سبحانه ـ قال : أقسم لبئس ما كانوا يفعلون وهو ارتكاب المعاصي والعدوان وترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

قال صاحب الكشاف : قوله : (لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) للتعجيب من سوء فعلهم مؤكدا لذلك بالقسم. فيا حسرة على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهى عن المناكير ، وقلة عبئهم به ، كأنه ليس من ملة الإسلام في شيء مع ما يتلون من كلام الله وما فيه من المبالغات في هذا الباب.

فإن قلت ما معنى وصف المنكر بفعلوه ، ولا يكون النهى بعد الفعل؟ قلت : معناه لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه ، أو عن منكر أرادوا فعله كما ترى أمارات الخوض في الفسق وآلاته تسوى وتهيأ فتنكر» (١).

هذا ، وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لأنهما قوام الأمم وسياج الدين ولإصلاح لأمة من الأمم إلا بالقيام بحقهما.

وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية عددا من الأحاديث في هذا المعنى.

ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن أبى سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده. فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان».

وروى الإمام أحمد في معنى الآية عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم أو في أسواقهم وواكلوهم وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون».

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦٦٧.

٢٥٠

قال ابن مسعود : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متكئا فجلس فقال : «لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا ـ أى تحملوهم على التزام الحق وتعطفوهم عليه».

وروى الترمذي عن حذيفة بن اليمان : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم».

وروى الإمام أحمد عن عدى بن عميرة ـ رضى الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله ـ لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه. فإذا فعلوا ذلك لعن الله العامة والخاصة».

وروى ابن ماجة عن أنس بن مالك قال يا رسول الله ، متى نترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؟ قال : «إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم قلنا : يا رسول الله ، وما الذي ظهر في الأمم قبلنا؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الملك في صغاركم ، والفاحشة في كباركم ، والعلم في رذالتكم» (١) أى في فساقكم.

هذا جانب من الأحاديث التي وردت في وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. فعلى الأمة الاسلامية أن تقوم بحقها حتى تكون مستحقة لمدح الله ـ تعالى ـ لها بقوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) (٢).

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما كان يقوم به اليهود في العهد النبوي من تحالف مع المشركين ضد المسلمين فقال : (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا).

أى : ترى ـ أيها الرسول الكريم ـ كثيرا من بنى إسرائيل المعاصرين لك يوالون الكافرين ويحالفونهم عليك ؛ بسبب حسدهم لك على ما آتاك الله من فضله وبسبب كراهتهم للإسلام والمسلمين.

والذي يقرأ تاريخ الدعوة الاسلامية يرى أن اليهود كانوا دائما يضعون العراقيل في طريقها ، ويناصرون كل محارب لها ، ففي غزوة الأحزاب انضم بنو قريظة إلى المشركين ولم يقيموا وزنا للعهود والمواثيق التي كانت بينهم وبين المسلمين (٣).

وفي كل زمان ومكان نرى أن اليهود يحاربون الإسلام والمسلمين ، ويؤيدون كل من يريد لهما الشرور والاضرار.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٨٣

(٢) سورة آل عمران الآية ١١٠

(٣) راجع كتابنا بنو إسرائيل في القرآن والسنة ج ٤ ص ٣٠٧ مبحث تحالفهم مع المنافقين ضد المسلمين.

٢٥١

وقوله : (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ) ذم لهم على موالاتهم للمشركين وبيان لما حاق بهم من سوء المصير بسبب مناصرتهم لأعداء الله ، ومحاربتهم لأوليائه.

أى : لبئس ما قدمت لهم أنفسهم من أقوال كاذبة وأعمال قبيحة وأفعال منكرة استحقوا بسببها سخط الله عليهم ، ولعنه إياهم كما استحقوا أيضا بسببها الخلود الدائم في العذاب المهين.

قال الجمل : و (ما) في قوله (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ) هي الفاعل ، وقوله : (وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ) هذه الجملة معطوفة على ما قبلها فهي من جملة المخصوص بالذم.

فالتقدير : سخط الله عليهم وخلدهم في العذاب (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ الدوافع التي حملت هؤلاء الفاسقين من أهل الكتاب على ولاية الكافرين ومصادقتهم ومعاونتهم على حرب المسلمين فقال :

(وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ ، وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ).

فالضمير في قوله (كانُوا) يعود إلى أولئك الكثيرين من أهل الكتاب الذين حملهم حقدهم وبغضهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأتباعه على موالاة الكافرين.

والمراد ـ هنا ـ بالنبي : موسى ـ عليه‌السلام ـ وبما أنزل إليه التوراة ، لأن الحديث مع الكافرين من بنى إسرائيل الذين يزعمون أنهم من أتباع موسى.

وقيل المراد به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ والمراد بما أنزل إليه : القرآن.

أى : ولو كان هؤلاء اليهود يؤمنون بالله إيمانا حقا ، ويؤمنون بنبيهم موسى إيمانا صادقا ويؤمنون بالتوراة التي أنزلها الله عليه إيمانا سليما ، لو كانوا مؤمنين هذا الإيمان الصادق ، لكفوا عن اتخاذ الكافرين أولياء وأصفياء ، لأن تحريم موالاة المشركين متأكدة في التوراة وفي كل شريعة أنزلها الله على نبي من أنبيائه.

وقوله : (وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ) استدراك لبيان حالهم ، ولبيان سبب موالاتهم للكافرين وعداوتهم للمسلمين.

أى : ولكن كثيرا من هؤلاء اليهود فاسقون ، أى : خارجون عن الدين الحق إلى الأديان الباطلة ، فدفعهم هذا الفسق وما صاحبه من حقد وعناد على موالاة الكافرين ومعاداة المؤمنين.

وقد كرر سبحانه وصف الكثيرين منهم بالصفات الذميمة ، إنصافا للقلة التي آمنت وتمييزا لها عن تلك الكثرة الكافرة الفاسقة ..

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٦ ص ٦٥١

٢٥٢

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد بينت ما عليه الكافرون من بنى إسرائيل من صفات ذميمة ، أفضت إلى لعنهم وطردهم من رحمة الله ، حتى يحذرهم المسلمون ويجتنبوا سلوكهم السيئ ، وخلقهم القبيح.

وبعد هذا الحديث الطويل الذي طوفت فيه سورة المائدة مع أهل الكتاب بصفة عامة ومع اليهود بصفة خاصة ، والذي تحدثت خلاله عن علاقة المؤمنين بهم وعن العهود التي أخذها الله عليهم وموقفهم منها ، وعن دعاواهم الباطلة وكيف رد القرآن عليها ، وعن أخلاقهم السيئة ، وعن مسالكهم الخبيثة لكيد الإسلام والمسلمين ، وعن المصير السيئ الذي ينتظرهم إذا ما استمروا على كفرهم وضلالهم ، وعن المنهاج القويم الذي استعمله القرآن معهم في دعوتهم إلى الدين الحق ، بعد هذا الحديث الطويل معهم في تلك الموضوعات وفي غيرها نرى السورة الكريمة في نهاية المطاف تحدثنا عن أشد الناس عداوة للمؤمنين وعن أقربهم مودة لهم فتقول :

(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)(٨٦)

٢٥٣

أخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال : بعث النجاشيّ وفدا إلى رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلموا ، قال : فأنزل الله فيهم : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ) إلى آخر الآية. قال : فرجعوا إلى النجاشيّ فأخبروه فأسلم النجاشيّ فلم يزل مسلما حتى مات ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن أخاكم النجاشيّ قد مات فصلوا عليه فصلى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة والنجاشيّ بالحبشة.

ثم قال ابن جرير بعد أن ساق روايات أخرى في سبب نزول هذه الآيات : والصواب في ذلك من القول عندي ، أن الله ـ تعالى ـ وصف صفة قوم قالوا : إنا نصارى ، وأن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجدهم أقرب الناس مودة لأهل الايمان بالله ورسوله ، ولم يسم لنا أسماءهم وقد يجوز أن يكون أريد بذلك أصحاب النجاشيّ ويجوز أن يكون أريد به قوم كانوا على شريعة عيسى فأدركهم الإسلام فأسلموا ، لما سمعوا القرآن ، وعرفوا أنه الحق ، ولم يستكبروا عنه» (١).

فقوله ـ تعالى ـ (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) جملة مستأنفة لتقرير ما قبلها من آيات سجلت على اليهود كثيرا من الصفات القبيحة والمسالك الخبيثة.

وقد أكد ـ سبحانه ـ هذه الجملة بلام القسم اعتناء ببيان تحقق مضمونها ، والخطاب للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويصح أن يكون لكل من يصلح للخطاب للإيذان بأن حالهم لا تخفى على أحد من الناس.

والمعنى : أقسم لك يا محمد بأنك عند مخالطتك للناس ودعوتهم إلى الدين الحق ، ستجد أشدهم عداوة لك ولأتباعك فريقين منهم : وهما اليهود والذين أشركوا ، لأن عداوتهم منشؤها الحقد والحسد والعناد والغرور. وهذه الرذائل متى تمكنت في النفس حالت بينها وبين الهداية والإيمان بالحق.

وقوله (أَشَدَّ النَّاسِ) مفعول أول لقوله (لَتَجِدَنَ) ومفعوله الثاني (الْيَهُودَ) وقوله (عَداوَةً) تمييز.

قال الآلوسى : والظاهر أن المراد من اليهود العموم ، أى من كان منهم بحضرة الرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يهود المدينة وغيرهم ويؤيده ما أخرجه أبو الشيخ وابن مردويه عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما خلا يهودي بمسلم إلا هم بقتله» وقيل المراد بهم يهود المدينة وفيه بعد ، وكما اختلف في عموم اليهود اختلف في عموم الذين أشركوا. والمراد من (النَّاسِ). كما قال أبو حيان ـ الكفار : أى لتجدن أشد الكفار عداوة هؤلاء.

ووصفهم ـ سبحانه ـ بذلك لشدة كفرهم ، وانهماكهم في اتباع الهوى ، وقربهم إلى

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٧ ص ٣

٢٥٤

التقليد ، وبعدهم عن التحقيق ، وتمرنهم على التمرد والاستعصاء على الأنبياء ، وقد قيل : إن من مذهب اليهود أنه يجب عليهم إيصال الشر إلى من يخالفهم في الدين بأى طريق كان وفي تقديم اليهود على المشركين إشعار بتقدمهم عليهم في العداوة» (١).

وقوله : (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) معطوف على ما قبله لزيادة التوضيح والبيان.

أى : لتجدن يا محمد أشد الناس عداوة لك ولأتباعك ـ اليهود ـ والذين أشركوا. ولتجدن أقربهم مودة ومحبة لك ولأتباعك الذين قالوا إنا نصارى.

قال ابن كثير : أى الذين زعموا أنهم نصارى من أتباع المسيح وعلى منهاج إنجيله فيهم مودة للإسلام وأهله في الجملة : وما ذاك إلا لما في قلوبهم ـ من لين عريكة ـ إذ كانوا على دين المسيح من الرقة والرأفة ، كما قال ـ تعالى ـ (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً) وفي كتابهم : «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر» وليس القتال مشروعا في ملتهم (٢).

وقال الجمل : فإن قلت : كفر النصارى أشد من كفر اليهود لأن النصارى ينازعون في الألوهية فيدعون أن لله ولدا ، واليهود ينازعون في النبوة فينكرون نبوة بعض الأنبياء فلم ذم اليهود ومدح النصارى؟

قلت : هذا مدح في مقابلة ذم وليس مدحا على إطلاقه ، وأيضا الكلام في عداوة المسلمين وقرب مودتهم لا في شدة الكفر وضعفه (٣).

وقوله : (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) تعليل لقرب مودة النصارى للمؤمنين.

والقسيسين : جمع قسيس. وأصله من قس إذا تتبع الشيء فطلبه ، وهم علماء النصارى والمرشدون لهم.

والرهبان : جمع راهب كركبان جمع راكب وتطلق كلمة رهبان على المفرد كما تطلق على الجمع ، والراهب هو الرجل العابد الزاهد المنصرف عن الدنيا ، مأخوذ من الرهبة بمعنى الخوف. يقال : رهب فلان ربه يرهبه ، أى : خافه.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٧ ص ١

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥١٧

(٣) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٥١٧

٢٥٥

والمعنى : ولتجدن يا محمد أقرب الناس مودة لك ولأتباعك الذين قالوا إنا نصارى ، وذلك لأن منهم القسيسين الذين يرغبون في طلب العلم ويرشدون غيرهم إليه ، ومنهم الرهبان الذين تفرغوا لعبادة الله وانصرفوا عن ملاذ الدنيا وشهواتهم وأيضا فلأن هؤلاء الذين قالوا إنا نصارى من صفاتهم أنهم لا يستكبرون عن اتباع الحق والانقياد له إذا فهموه أو أنهم متواضعون وليسوا مغرورين أو متكبرين.

وفي ذلك تعريض باليهود والمشركين لأن غرورهم واستكبارهم جعلهم ينصرفون عن الحق فاليهود يرون أنفسهم شعب الله المختار ، وأن النبوة يجب أن تكون فيهم والمشركون يرون أن النبوة يجب أن تكون في أغنيائهم وزعمائهم. وقد حملهم هذا الغرور على الكفر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنهم وجدوا أكثر أتباعه من الفقراء.

قال الآلوسى : وفي الآية دليل على أن صفات التواضع والإقبال على العلم والعمل والإعراض عن الشهوات محمودة أينما كانت.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما كان منهم عند سماعهم لما أنزل الله ـ تعالى ـ على رسوله من هدايات فقال : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) والمراد بالرسول : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما أنزل إليه : القرآن الكريم.

والجملة الكريمة معطوفة على قوله ؛ (وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) والضمير في قوله (سَمِعُوا) يعود على الذين قالوا إنا نصارى بعد أن عرفوا الحق وآمنوا به.

أى ، أن من صفات هؤلاء الذين قالوا إنا نصارى زيادة على ما تقدم ، أنهم إذا سمعوا ما أنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرآن تأثرت قلوبهم. وخشعت نفوسهم وسالت الدموع من أعينهم بغزارة وكثرة من أجل ما عرفوه من الحق الذي بينه لهم القرآن الكريم بعد أن كانوا غافلين عنه.

وفي التعبير عنهم بقوله : (تَرى) الدالة على الرؤية البصرية والتي هي أقوى أسباب العلم الحسى ، مبالغة في مدحهم ، حيث يراهم الرائي وهم على تلك الصورة من رقة القلب وشدة التأثر عند سماع الحق.

فلقد كانوا يحسون أنهم في ظلام وضلال فلما سمعوا الحق أشرقت له نفوسهم ودخلوا في نوره وهدايته وأعينهم تتدفق بالدموع من شدة تأثرهم به وحبهم له.

وقوله (تَفِيضُ) من الفيض وهو انصباب عن امتلاء : يقال فاض الإناء إذا امتلأ حين سال من جوانبه.

وقد أجاد صاحب الكشاف في تصوير هذا المعنى فقال : فإن قلت : ما معنى قوله : (تَفِيضُ

٢٥٦

مِنَ الدَّمْعِ) قلت : معناه تمتلئ من الدمع حتى تفيض ، لأن الفيض أن يمتلئ الإناء أو غيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه. فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الامتلاء وهو من إقامة المسبب مقام السبب ، أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها. أى : تسيل من الدمع من أجل البكاء من قولك : دمعت عينه دمعا.

فإن قلت : أى فرق بين من ومن في قوله : (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ)؟ قلت : الأولى لابتداء الغاية على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق وكان من أجله وبسببه ، والثانية لتبيين الموصول الذي هو ما عرفوا وتحتمل معنى التبعيض على أنهم عرفوا بعض الحق ، فأبكاهم وبلغ منهم فكيف إذا عرفوه كله وقرءوا القرآن وأحاطوا بالسنة؟ (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قالوه بعد سماعهم للحق فقال : (يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ).

أى : يقولون بعد أن سمعوا الحق : يا ربنا إننا آمنا بما سمعنا إيمانا صادقا فاكتبنا مع أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي آمنت به وشهدت بصدق رسولك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبصدق كل رسول أرسلته إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور.

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك عنهم ما علمه منهم من إصرارهم على الدخول في الدين الحق ، فقال. (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ).

فالآية الكريمة من تتمة قولهم.

والاستفهام هنا لإنكار انتفاء الإيمان منهم مع قيام موجباته ، وظهور أماراته ووضوح أدلته وشواهده.

والمعنى : وأى مانع يمنعنا من الإيمان بالله الواحد الأحد الفرد الصمد ، وبما جاءنا على لسان رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرآن يهدى إلى الرشد ومن توجيهات توصل إلى السعادة ونحن نطمع أن يدخلنا ربنا ـ بسبب إيماننا ـ مع القوم الذين صلحت أنفسهم بالعقيدة السليمة ، وبالعبادات الصحيحة وبالأخلاق الفاضلة وهم أتباع هذا النبي الأمى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنت تراهم بعد أن استمعوا إلى القرآن تأثرت نفوسهم به تأثرا شديدا فاضت معه أعينهم بالدمع. ثم بعد ذلك التمسوا من الله ـ تعالى ـ أن يكتبهم مع الأمة الإسلامية التي تشهد على غيرها يوم القيامة. ثم بعد ذلك استنكروا واستبعدوا أن يعوقهم معوق عن الإيمان الصحيح مع قيام موجباته. وهذا

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦٧٠

٢٥٧

كله يدل على صفاء نفوسهم وطهارة قلوبهم ومسارعتهم إلى قبول الحق عند ظهوره بدون تردد أو تقاعس :

وقولهم ـ كما حكى القرآن عنهم ـ (وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا) يدل على قوة إيمانهم ، وصدق يقينهم ، لأنهم مع هذا الإقبال الشديد على الدين الحق والمسارعة إلى العمل الصالح ، لم يجزموا بحسن عاقبتهم ، بل التمسوا من الله ـ تعالى ـ الطمع في مغفرته ، وفي أن يجعلهم مع القوم الصالحين من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وهكذا المؤمن الصادق يستصغر عمله بجانب فضل الله ونعمه ، ويقف من جزائه وثوابه ـ سبحانه ـ موقف الخوف والرجاء.

ولقد كان ما أعده الله ـ تعالى ـ لهؤلاء الأصفياء من ثواب شيئا عظيما ، عبر عنه ـ سبحانه ـ بقوله : (فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ؛ وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ).

أى : فكافأهم الله ـ تعالى ـ بسبب أقوالهم الطيبة الدالة على إيمانهم وإخلاصهم ، جنات تجرى من تحت بساتينها وأشجارها الأنهار (خالِدِينَ فِيها) أى : باقين في تلك الجنات بقاء لا موت معه ، (وَذلِكَ) العطاء الجزيل الذي منحه الله لهم (جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) أى : المؤمنين المخلصين في أقوالهم وأعمالهم.

والمراد بقوله (بِما قالُوا) : ما سبق أن حكاه عنهم ـ سبحانه ـ من قولهم : (رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) ورتب الثواب المذكور على القول : لأنه قد سبق وصفهم بما يدل على إخلاصهم ، وعلى صدق يقينهم ، والقول إذا اقترن بذلك فهو الإيمان.

قال الآلوسى : قوله. (فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا) أى بسبب قولهم أو بالذي قالوه عن اعتقاد ، فإن القول إذا لم يقيد بالخلو عن الاعتقاد يكون المراد به المقارن له ، كما إذا قيل : هذا قول فلان ، لأن القول إنما يصدر عن صاحبه لإفادة الاعتقاد.

وقيل : إن القول هنا مجاز عن الرأى والاعتقاد والمذهب كما يقال : هذا قول الامام الأعظم أى : هذا مذهبه واعتقاده. وذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد بهذا القول قولهم : (رَبَّنا آمَنَّا). وقولهم (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ) (١) وقد بينت هذه الآية الكريمة أنه ـ سبحانه ـ قد أجابهم إلى ما طلبوا ، بل أكبر مما طلبوا ، فقد كانوا يطمعون في أن يكونوا مع القوم الصالحين ، وأن يكتبهم مع الشاهدين. فأعطاهم ـ

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٧ ص ٦

٢٥٨

سبحانه ـ جنات تجرى من تحتها الأنهار. وسماهم محسنين. والإحسان أعلى درجات الإيمان ، وأكرم أوصاف المتقين.

هذا جزاء الذين سمعوا ما أنزل إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فآمنوا به ، وقالوا ما قالوا مما يشهد بصفاء نفوسهم. أما الذين سمعوا فأعرضوا وجحدوا فقد بين ـ سبحانه ـ مصيرهم السيئ بقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ).

أى : والذين كفروا وجحدوا الحق الذي جاءهم ، وكذبوا بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وصدق رسلنا فأولئك أصحاب الجحيم ، أى : النار الشديدة الاتقاد. يقال : جحم فلان النار إذا شدد إيقادها.

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد مدحت أولئك الذين قالوا إنا نصارى ، لأنهم تأثروا بالقرآن عند سماعه فدخلوا في الدين الحق بسرعة ورغبة ، فأكرمهم الله غاية الإكرام ، وهذا ينطبق على كل نصراني ينهج نهجهم ، ويسلك مسلكهم ، فيدخل في الدين الحق كما دخل هؤلاء المحسنون.

أما الذين كفروا وكذبوا بآيات الله وحججه فأولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير.

ثم وجه ـ سبحانه ـ نداء إلى المؤمنين نهاهم عن تحريم الطيبات التي أحلها الله لهم ، وأمرهم أن يتمتعوا بما رزقهم من رزق طيب حلال فقال ـ تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ)(٨٨)

قال صاحب المنار بدأ الله ـ هذه السورة بآيات من أحكام الحلال والحرام والنسك.

ثم جاء بهذا السياق الطويل في بيان أحوال أهل الكتاب ومحاجتهم ، فكان أوفى وأتم ما ورد في القرآن من ذلك ، ولم يتخلله إلا قليل من الأحكام. وهاتان الآيتان وما بعدهما عود إلى أحكام الحلال والحرام والنسك التي بدئت بها السورة.

وإنما لم تجعل آيات الأحكام كلها في أول السورة وتجعل الآيات في أهل الكتاب مفصلا

٢٥٩

بعضها ببعض في باقيها. لما بيناه غير مرة من حكمة مزج المسائل والموضوعات في القرآن من حيث هو مثاني تتلى دائما للاهتداء بها ، لا كتابا فنيا ولا قانونا يتخذ لأجل مراجعة كل مسألة من كل طائفة من المعاني في باب معين.

على أن نظمه وترتيب آياته يدهش أصحاب الأفهام الدقيقة بحسنه وتنسيقه كما ترى في مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما مباشرة.

ذلك أنه ـ تعالى ـ ذكر أن النصارى أقرب الناس مودة للذين آمنوا وذكر من سبب ذلك أن منهم قسيسين ورهبانا فكان من مقتضى هذا أن يرغب المؤمنون في الرهبانية ويظن الميالون للتقشف والزهد أنها مرتبة كمال تقربهم إلى الله ـ تعالى ـ وهي إنما تتحقق بتحريم التمتع بالطيبات. وقد أزال الله ـ تعالى ـ هذا الظن وقطع طريق تلك الرغبة بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) (١).

هذا ، وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هاتين الآيتين روايات متعددة منها ما أخرجه الترمذي وابن جرير عن ابن عباس : أن رجلا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إنى إذا أكلت انتشرت للنساء ، وأخذتنى شهوتي فحرمت على اللحم. فأنزل الله ـ تعالى ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا). الآية (٢).

وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال ، كان : أناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هموا بالخصاء وترك اللحم والنساء ، فنزلت هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) وعن أبى قلابة قال : أراد أناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرفضوا الدنيا ، ويتركوا النساء ويترهبوا فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فغلظ فيهم المقالة. ثم قال : «إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع ، واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وحجوا واعتمروا واستقيموا». قال : ونزلت فيهم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا) الآية وعن أبى طلحة عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : نقطع مذاكيرنا ، ونترك شهوات الدنيا ، ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأرسل إليهم ، فذكر لهم ذلك فقالوا : نعم. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لكني أصوم وأفطر ، وأصلى وأنام ، وأنكح النساء ، فمن أخذ بسنتي فهو منى ، ومن لم يأخذ بسنتي فليس منى».

وقد وجه سبحانه النداء للمؤمنين بوصف الإيمان ؛ لتحريك حرارة العقيدة في قلوبهم حتى يمتثلوا أوامر الله ونواهيه.

__________________

(١) تفسير المنار ج ٧ ص ١٨ بتصرف وبتلخيص

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٨٧

٢٦٠