التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٤

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٤

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0531-4
الصفحات: ٣٦٠

تفسير سورة المائدة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ)(١)

وقوله : (أَوْفُوا) من الإيفاء. ومعناه : الإتيان بالشيء وافيا تاما لا نقص فيه ، ولا نقص معه. يقال وفي بالعهد وأوفى به إذا أدى ما التزم به.

قال صاحب الانتصاف : ورد في الكتاب العزيز (وَفَّى) بالتضعيف في قوله ـ تعالى ـ : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى). وورد «أوفى» كثيرا. ومنه (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ). وأما (وَفَّى) ثلاثيا فلم يرد إلا في قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) لأنه بنى أفعل التفضيل من «وفى» : إذ لا يبنى إلا من ثلاثي» (١).

والعقود : جمع عقد ـ بفتح العين ـ. وهو العهد الموثق.

قال الراغب : الجمع بين أطراف الشيء. ويستعمل ذلك في الأجسام الصلبة كعقد الحبل ، وعقد البناء. ثم يستعار ذلك للمعاني نحو عقد البيع والعهد وغير هما : فيقال : عاقدته ، وعقدته ، وتعاقدنا.

وهو مصدر استعمل اسما فجمع نحو. (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (٢).

وقد فرق بعضهم بين العقد والعهد فقال : «والعقود جمع عقد وهو بمعنى المعقود وهو أوكد العهود. والفرق بين العقد والعهد أن العقد فيه معنى الاستيثاق والشد ، ولا يكون إلا بين متعاقدين. والعهد قد ينفرد به الواحد. فكل عقد عهد ولا يكون كل عهد عقدا» (٣).

__________________

(١) حاشية ابن المنير على الكشاف ج ١ ص ٦٠٠.

(٢) المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص ٢٤١.

(٣) تفسير الطبرسي ج ٦ ص ٧ طبعة مكتبة دار الحياة سنة ١٣٨٠ ه‍.

٢١

والمراد بالعقود هنا : ما يشمل العقود التي عقدها الله علينا وألزمنا بها من الفرائض والواجبات والمندوبات ، وما يشمل العقود التي تقع بين الناس بعضهم مع بعض في معاملاتهم المتنوعة وما يشمل العهود التي يقطعها الإنسان على نفسه ، والتي لا تتنافى مع شريعة الله ـ تعالى ـ.

وبعضهم يرى أن المراد بالعقود هنا : ما يتعاقد عليه الناس فيما بينهم كعقود البيع وعقود النكاح.

وبعضهم يرى أن المراد بها هنا : العهود التي كانت تؤخذ في الجاهلية على النصرة والمؤازرة للمظلوم حتى ينال حقه.

والأول أولى لأنه أليق بعموم اللفظ ، إذ هو جمع محلى بأل المفيدة للجنس وأوفى بعموم الفائدة.

قال القرطبي : والمعنى : أوفوا بعقد الله عليكم ، وبعقدكم بعضكم على بعض. وهذا كله راجع إلى القول بالعموم وهو الصحيح في الباب. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المؤمنون عند شروطهم». وقال : «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط».

فبين أن الشرط أو العقد الذي يجب الوفاء به ما وافق كتاب الله : أى : دين الله. فإن ظهر فيها ما يخالف رد ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» (١).

والبهيمة : اسم لذوات الأربع من دواب البر والبحر.

قال الفخر الرازي : قالوا كل حي لا عقل له فهو بهيمة من قولهم : استبهم الأمر على فلان إذا أشكل عليه. وهذا باب مبهم أى : مسدود الطريق. ثم اختص هذا الاسم بكل ذات أربع في البر والبحر».

والأنعام جمع نعم ـ بفتحتين ـ وأكثر ما يطلق على الإبل ، لأنها أعظم نعمة عند العرب. والمراد بالأنعام هنا : ما يشمل الإبل والبقر والغنم ويلحق بها كل حيوان أو طير يتغذى من النبات ، ولم يرد نص بتحريمه فيدخل الظبى وحمار الوحش وغير هما من آكلات العشب ، كما تدخل الطيور غير الجارحة وإضافة البهيمة إلى الأنعام إضافة بيانية من إضافة الجنس إلى ما هو أخص منه كشجر الأراك ، وثوب الخز.

أى : أحل الله لكم أيها المؤمنون الانتفاع ببهيمة الأنعام. وهذا الانتفاع بلحمها وجلدها وعظمها وصوفها وما أشبه ذلك مما أحله الله منها.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٣٣.

٢٢

قال الآلوسى ما ملخصه : وقال غير واحد : البهيمة اسم لكل ذات أربع من دواب البر والبحر. وإضافتها إلى الأنعام للبيان كثوب خز. أى : أحل لكم أكل البهيمة من الأنعام. وهي الأزواج الثمانية المذكورة في سورتها.

وأفردت البهيمة لإرادة الجنس : وجمع الأنعام ليشمل أنواعها. وألحق بها الظباء وبقر الوحش. وقيل : هما المراد بالبهيمة ونحو هما مما يماثل الأنعام في الاجترار وعدم الأنياب. وإضافتها إلى الأنعام حينئذ لملابسة المشابهة بينهما.

وقيل : المراد ببهيمة الأنعام : ما يخرج من بطونها من الأجنة بعد ذكاتها وهي ميتة ، فيكون مفاد الآية صريحا حل أكلها. وبه قال الشافعى (١).

وقوله : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) استثناء مما أحله ـ سبحانه ـ لهم من بهيمة الأنعام. أى : أحل الله لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم بعد ذلك في كتابه أو على لسان رسوله فإنه محرم عليكم.

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) أى يقرأ عليكم في القرآن والسنة من قوله ـ تعالى ـ في الآية الثالثة من السورة نفسها ـ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) .. إلخ ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كل ذي ناب من السباع فأكله حرام».

فإن قيل : الذي يتلى علينا الكتاب وليس السنة؟ قلنا : كل سنة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهي كتاب الله. والدليل عليه أمران :

أحدهما : حديث العسيف «لأقضين بينكما بكتاب الله» والرجم ليس منصوصا عليه في كتاب الله.

الثاني : حديث عبد الله بن مسعود : «ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في كتاب الله.

ويحتمل : إلا ما يتلى عليكم الآن. أو ما يتلى عليكم فيما بعد من مستقبل الزمان على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيكون فيه دليل على جواز تأخير البيان عن وقت لا يفتقر فيه إلى تعجيل الحاجة.

وقوله : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) بيان لما حرم عليهم في أحوال معينة ، وبسبب أمور اقترنت به.

وقوله : (حُرُمٌ) جمع حرام. يقال. أحرم الرجل فهو محرم وحرام وهم حرم.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ٤٩.

٢٣

وقوله : (مُحِلِّي) جمع محل بمعنى مستحل. والصيد مصدر بمعنى الاصطياد. أو اسم للحيوان المصيد.

وقوله : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) حال من الضمير في (لَكُمْ).

وقوله : (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) ، حال من الضمير في (مُحِلِّي) والمعنى : يا أيها الذين آمنوا كونوا أوفياء بعهودكم مع الله ومع أنفسكم ومع غيركم ، فقد أحل الله ـ تعالى ـ بهيمة الأنعام لتنتفعوا بها فضلا منه وكرما ، إلا أنه ـ سبحانه ـ حرم عليكم أشياء رحمة بكم فاجتنبوها ، كما حرم عليكم الاصطياد أو الانتفاع بالمصيد وأنتم محرمون بحج أو عمرة ، سواء كنتم في الحل أم كنتم في الحرم ، ويدخل في حكم المحرم من كان في الحرم وليس محرما.

وذلك لأن المحرم أو من كان في أرض الحرم يجب عليه أن يكون مشتغلا بما يرضى الله ، وأن يحترم هذه الأماكن المقدسة التي جعلها الله أماكن أمان ، واطمئنان وعبادة لله رب العالمين.

وقد دعا الله ـ تعالى ـ المؤمنين إلى الوفاء بالعقود وناداهم بوصف الإيمان ، ليحثهم على امتثال ما كلفهم به ، لأن الشأن في المؤمن أن يمتثل لما أمره الله به أو لما نهاه عنه.

روى ابن أبى حاتم ، أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود فقال : اعهد إلى. فقال له : إذا سمعت الله يقول (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فارعها سمعك فإنه خير يأمر به ، أو شر ينهى عنه وقوله : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) تذييل قصد به بيان مشيئة الله النافذة ، وإرادته الشاملة ، وحكمه الذي لا يعقب عليه معقب.

أى : إن الله يحكم بما يريد أن يحكم به من الأحكام التي تتعلق بالحلال وبالحرام وبغيرهما ، بمقتضى مشيئته المبنية على الحكم البالغة ، دون أن ينازعه منازع ، أو يعارضه معارض ، فاستجيبوا ـ أيها المؤمنون ـ لحكمه لتنالوا السعادة في الدنيا والآخرة.

هذا ، وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة وجوب الوفاء بالعهود التي شرعها الله ـ تعالى ـ وهذا المعنى ترى سورة المائدة زاخرة به في كثير من آياتها.

فأنت ترى في مطلعها هذه الآية الكريمة التي تحض على الوفاء بالعقود ، ثم ترى الآية الثانية منها تنهى عن الإخلال بشيء من شعائر الله ، ثم تراها بعد ذلك بقليل تذكر المؤمنين بنعم الله عليهم وبميثاقه الذي واثقهم به : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ). ثم تحكى أن من الأسباب التي أدت إلى طرد بنى إسرائيل من رحمة الله ، نقضهم لمواثيقهم. (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ).

٢٤

وهكذا نرى السورة الكريمة حافلة بالتوجيهات التي تحض المؤمنين على التزام العهود والمواثيق التي شرعها الله وتحذرهم عاقبة إهمالها ، أو الإخلال بشيء منها.

كما أخذ العلماء منها حل بهيمة الأنعام من جهة الانتفاع بلحومها وجلودها وأصوافها. وحرمة ما حرم الله ـ تعالى ـ منها في مواطن أخرى.

كما أخذوا منها حرمة الاصطياد أو الانتفاع بالمصيد على من كان محرما بحج أو عمرة ، وعلى من كان في أرض الحرم ولو لم يكن محرما.

قال القرطبي : وهذه الآية تلوح فصاحتها. وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصيرة بالكلام فإنها تضمنت خمسة أحكام :

الأول : الأمر بالوفاء بالعقود.

الثاني : تحليل بهيمة الأنعام.

الثالث : استثناء ما يلي بعد ذلك.

الرابع : استثناء حال الإحرام فيما يصاد.

الخامس : ما تقتضيه الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم.

وحكى النقاش أن أصحاب الكندي قالوا له : أيها الحكيم اعمل لنا شيئا مثل هذا القرآن فقال : نعم أعمل مثل بعضه. فاحتجب أياما كثيرة ثم خرج فقال : والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد. إنى فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة. فنظرت فإذا هو نطق بالوفاء ونهى عن النكث ، وحلل تحليلا عاما ، ثم استثنى استثناء بعد استثناء ، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ، ولا يقدر أحد أن يأتى بهذا (١).

وبعد أن أشار ـ سبحانه ـ إلى ما أحل لعباده من طيبات ، وما حظره عليهم من أفعال ، أتبع ذلك بنداء آخر إليهم نهاهم فيه عن استحلال أشياء معينة فقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ٦ ص ٣١.

٢٥

وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(٢)

وقوله : (لا تُحِلُّوا) من الإحلال الذي هو ضد التحريم. ومعنى عدم إحلالهم لشعائر الله : تقرير حرمتها عملا واعتقادا ، والالتزام بها بالطريقة التي قررتها شريعة الله.

والشعائر : جمع شعيرة ـ على وزن فعيلة ـ وهي في الأصل ما جعلت شعارا على الشيء وعلامة عليه من الإشعار بمعنى الإعلام. وكل شيء اشتهر فقد علم. يقال : شعرت بكذا. أى علمته.

والمراد بشعائر الله هنا : حدوده التي حدها ، وفرائضه التي فرضها وأحكامه التي أوجبها على عباده.

ويرى بعضهم أن المراد بشعائر الله هنا : مناسك الحج وما حرمه فيه من لبس للثياب في أثناء الإحرام. ومن غير ذلك من الأفعال التي نهى الله عن فعلها في ذلك الوقت فيكون المعنى. لا تحلوا ما حرم عليكم حال إحرامكم.

والقول الأول أولى لشموله جميع التكاليف التي كلف الله بها عباده. وقد رجحه ابن جرير بقوله : وأولى التأويلات بقوله : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) قول من قال : لا تحلوا حرمات الله ، ولا تضيعوا فرائضه. فيدخل في ذلك مناسك الحج وغير ذلك من حدوده وفرائضه وحلاله وحرامه.

وإنما قلنا ذلك القول أولى ، لأن الله نهى عن استحلال شعائره ومعالم حدوده وإحلالها ، نهيا عاما من غير اختصاص شيء من ذلك دون شيء. فلم يجز لأحد أن يوجه معنى ذلك إلى الخصوص إلا بحجة يجب التسليم لها ولا حجة بذلك» (١).

وأضاف ـ سبحانه ـ الشعائر إليه. تشريفا لها ، وتهويلا للعقوبة التي تترتب على التهاون بحرمتها. وعلى مخالفة ما أمر الله به في شأنها.

وقوله. (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) معطوف على شعائر الله. والمراد به الجنس. فيدخل في ذلك

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٦ ص ٥٥ بتصرف يسير.

٢٦

جميع الأشهر الحرم. وهي أربعة : ذو القعدة ، وذو الحجة والمحرم ، ورجب.

وسمى الشهر حراما : باعتبار أن إيقاع القتال فيه حرام.

أى : لا تحلوا ـ أيها المؤمنون ـ القتال في الشهر الحرام ، ولا تبدأوا أعداءكم فيه بقتال.

قال ابن كثير : يعنى بقوله : (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) تحريمه ، والاعتراف بتعظيمه ، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه ، من الابتداء بالقتال كما قال ـ تعالى ـ (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ. قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ). وقال ـ تعالى ـ (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً) وفي صحيح البخاري عن أبى بكرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في حجة الوداع : «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض والسنة اثنا عشر شهرا. منها أربعة حرم». وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت. كما هو مذهب طائفة من السلف.

وذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ. وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم. واحتجوا بقوله ـ (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ).

والمراد أشهر التسيير الأربعة. قالوا : فلم يستثن شهرا حراما من غيره (١).

والمقصود بالهدى في قوله (وَلَا الْهَدْيَ) ما يتقرب به الإنسان إلى الله من النعم ليذبح في الحرم ، وهو جمع هدية ـ بتسكين الدال ـ ، أى : ولا تحلوا حرمة ما يهدى إلى البيت الحرام من الأنعام تقربا إلى الله ـ تعالى ـ بأن تتعرضوا له بنحو غصب وسرقة أو حبس عن بلوغه إلى محله.

وخص ذلك بالذكر مع دخوله في الشعائر ، لأن فيه نفعا للناس ، لأنه قد يتساهل فيه أكثر من غيره ، ولأن في ذكره تعظيما لشأنه.

وقوله : (وَلَا الْقَلائِدَ) جمع قلادة ، وهي ما يقلد به الهدى ليعلم أنه مهدى إلى البيت الحرام فلا يتعرض له أحد بسوء. وقد كانوا يضعون في أعناق الهدى ضفائر من صوف ، ويربط بعنقها نعلان أو قطعة من لحاء الشجر أو غيرهما ليعلم أنه هدى فلا يعتدى عليه.

والمراد : ولا تحلوا ذوات القلائد من الهدى بأن تتعرضوا لها بسوء.

وخصت بالذكر مع أنها من الهدى تشريفا لها واعتناء بشأنها ، لأن الثواب فيها أكثر ، وبهاء الحج بها أظهر. فكأنه قيل : لا تحلوا الهدى وخصوصا ذوات القلائد منه.

ويجوز أن يراد النهى عن التعرض لنفس القلائد مبالغة في النهى عن التعرض لذواتها أى : لا تتعرضوا لقلائد الهدى فضلا عن ذاته.

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٤

٢٧

وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذين الوجهين بقوله : وأما القلائد ففيها وجهان :

أحدهما : أن يراد بها ذوات القلائد من الهدى وهي البدن. وتعطف على الهدى للاختصاص وزيادة التوصية بها لأنها أشرف الهدى كقوله (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) كأنه قيل : والقلائد منها خصوصا.

والثاني : أن ينهى عن التعرض لقلائد الهدى مبالغة في النهى عن التعرض للهدى. على معنى : ولا تحلوا قلائدها فضلا عن أن تحلوها. كما قال (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) فنهى عن إبداء الزينة مبالغة في النهى عن إبداء مواقعها» (١).

وقوله : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) معطوف على قوله :

(لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ).

وقوله : (آمِّينَ) جمع آم من الأم وهو القصد المستقيم. يقال : أممت كذا أى : قصدته أى : ولا تحلوا أذى قوم قاصدين زيارة البيت الحرام بأن تصدوهم عن دخوله حال كونهم يطلبون من ربهم ثوابا. ورضوانا لتعبدهم في بيته المحرم.

ولكن ما المراد بهؤلاء الآمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا؟

قال بعضهم : المراد بهم المسلمون الذين يقصدون بيت الله للحج والزيارة. فلا يجوز لأحد أن يمنعهم من ذلك بسبب نزاع أو خصام لأن بيت الله ـ تعالى ـ مفتوح للجميع وعلى هذا يكون التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم في قوله (مِنْ رَبِّهِمْ) للتشريف والتكريم.

وجملة (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) حال من الضمير المستكن في قوله (آمِّينَ). وقد جيء بها لبيان مقصدهم الشريف ، ومسعاهم الجليل.

أى : قصدوا البيت الحرام يبتغون رزقا أو ثوابا من ربهم ، ويبتغون ما هو أكبر من كل ذلك وهو رضاه ـ سبحانه ـ عنهم وعلى هذا القول تكون الآية الكريمة محكمة ولا نسخ فيها ، وتكون توجيها عاما من الله ـ تعالى ـ لعباده بعدم التعرض بأذى لمن يقصد زيارة المسجد الحرام من إخوانهم المؤمنين ، مهما حدث بينهم من نزاع أو محلاف.

وقال آخرون : المراد بهم المشركون. واستدلوا بما رواه ابن جرير عن السدى من أن الآية

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦٠٢.

٢٨

نزلت في رجل من بنى ربيعة يقال له الحطيم بن هند ، وذلك أنه أتى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله إلام تدعو؟ فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله ، فقال له : حسن ما تدعو إليه إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم ، ولعلى أسلّم وآتى بهم. فلما خرج مر بسرح من سرح المدينة فساقه وانطلق به.

ثم أقبل من العام القادم حاجا ومعه تجارة عظيمة. فسأل المسلمون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأذن لهم في التعرض له. فأبى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم نزلت الآية» (١).

وعلى هذا القول يفسر ابتغاء الفضل بمطلق الرزق عن طريق التجارة. وابتغاء الرضوان بأنهم كانوا يزعمون أنهم على سداد من دينهم ، وأن الحج يقربهم من الله ، فوصفهم ـ سبحانه ـ على حسب ظنهم وزعمهم. ثم نسخ ذلك بقوله ـ تعالى ـ (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا).

وعليه يكون ابتغاء الفضل والرضوان عاما الدنيوي والأخروى ولو في زعم المشركين.

والذي نراه أولى هو القول الأول ، لأن الآية الكريمة مسوقة لبيان ما يجب على المؤمنين أن يفعلوه نحو شعائر الله التي هي حدوده وفرائضه ومعالم دينه ، ولأن قوله ـ تعالى ـ : (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) هذا الوصف إنما يليق بالمسلّم دون الكافر ، إذ المسلمون وحدهم الذين يقصدون بحجهم وزيارتهم لبيت الله الثواب والرضوان منه ـ سبحانه ـ.

قال الفخر الرازي : «أمرنا الله في هذه الآية أن لا نخيف من يقصد بيته من المسلمين ، وحرم علينا أخذ الهدى من المهدين إذا كانوا مسلمين. والدليل عليه أول الآية وآخرها.

أما أول الآية فهو : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) وشعائر الله إنما تليق بنسك المسلمين وطاعتهم لا بنسك الكفار.

وأما آخر الآية فهو قوله : (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) وهذا إنما يليق بالمسلم لا بالكافر» (٢).

وبذلك نرى الآية الكريمة قد نهت المؤمنين عن استحلال اى شيء من الشعائر التي حرم الله ـ تعالى ـ استحلالها ، وخصت بالذكر هذه الأمور الأربعة التي عطفت عليها اهتماما بشأنها وزجرا للنفوس عن انتهاك حرمتها ، لأن هذه الأمور الأربعة منها ما ترغب فيه النفوس بدافع

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٦ ص ٥٧ ـ بتصرف وتلخيص

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ١٣٠

٢٩

شهوة الانتقام ، ومنها ما ترغب فيه النفوس بدافع المتعة والميل القلبي ، ومنها ما ترغب فيه النفوس بدافع الطمع وحب التملك.

ثم أتبع ـ سبحانه ـ هذا النهى ببيان جانب من مظاهر فضله. حيث أباح لهم الصيد بعد الانتهاء من إحرامهم فقال : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا).

أى : وإذا خرجتم من إحرامكم أبيح لكم الصيد ، وأبيح لكم أيضا كل ما كان مباحا لكم قبل الإحرام.

وإنما خص الصيد بالذكر ، لأنهم كانوا يرغبون فيه كثيرا. كبيرهم وصغيرهم ، وغنيهم وفقيرهم. والإشارة إلى أن الذي ينبغي الحرص عليه هو ما يعد قوتا تندفع به الحاجة فقط لا ما يكون من الكماليات ولا ما يكون إرضاء للشهوات.

والأمر في قوله : (فَاصْطادُوا) للإباحة ، لأنه ليس من الواجب على المحرم إذا حل من إحرامه أن يصطاد. بل يباح له ذلك كما كان الشأن قبل الإحرام ومثله قوله ـ تعالى ـ (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) أى : أبيح لكم ذلك بعد الفراغ من الصلاة.

ثم نهى ـ سبحانه ـ المؤمنين على أن يحملهم البغض السابق لقوم لأنهم صدوهم عن المسجد الحرام على أن يمنعوهم من دخوله كما منعهم من دخوله أولئك القوم فقال ـ تعالى ـ : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا).

والجملة الكريمة معطوفة على قوله : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) لزيادة تقرير مضمونه.

ومعنى (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) ولا يحملنكم مأخوذ من جرمه على كذا إذا حمله عليه ، أو معناه : ولا يكسبنكم من جرم بمعنى كسب ، غير أنه في كسب ما لا خير فيه ومنه الجريمة.

وأصل الجرم : قطع الثمرة من الشجرة ، أطلق على الكسب ، لأن الكاسب ينقطع لكسبه.

قال صاحب الكشاف : جرم يجرى مجرى «كسب» في تعديه إلى مفعول واحد واثنين.

تقول : جرم ذنبا نحو كسبه وجرمته ذنبا ، نحو كسبته إياه. ويقال : أجرمته ذنبا ، على نقل المتعدى إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين. كقولهم : أكسبته ذنبا» (١).

والشنآن : البغض الشديد. يقال : شنئت الرجل أشنؤه شنأ وشنأة وشنآنا إذا أبغضته بغضا شديدا.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦٠٢

٣٠

والمعنى : ولا يحملنكم ـ أيها المؤمنون ـ بغضكم الشديد لقوم بسبب أنهم منعوكم من دخول المسجد الحرام ، لا يحملنكم ذلك على أن تعتدوا عليهم ، فإن الشرك إذا كان يبرر هذا العمل ، فإن الإسلام ـ وهو دين العدل والتسامح ـ لا يبرره ولا يقبله ، ولكن الذي يقبله الإسلام هو احترام المسجد الحرام ، وفتح الطريق إليه أمام الناس حتى يزداد المؤمن إيمانا ، ويفيء العاصي إلى رشده وصوابه.

قال ابن كثير : وقوله : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) أى : ولا يحملنكم بغض قوم ، «قد كانوا صدوكم عن المسجد الحرام ـ وذلك عام الحديبية ـ ، على أن تعتدوا حكم الله فيهم فتقتصوا منهم ظلما وعدوانا ، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد .. فإن العدل واجب على كل أحد. في كل أحد ، وفي كل حال. والعدل ، به قامت السموات والأرض.

وقال بعض السلف : ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه.

وعن زيد بن أسلّم ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه بالحديبية ، حين صدهم المشركون عن البيت ، وقد اشتد ذلك عليهم ، فمر بهم ناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة. فقال الصحابة. نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم ، فنزلت هذه الآية» (١).

وقوله : (شَنَآنُ قَوْمٍ) مصدر مضاف لمفعوله. أى : لا يحملنكم بغضكم قوما.

وقوله : (أَنْ صَدُّوكُمْ) ـ بفتح همزة أن ـ مفعول لأجله بتقدير اللام. أى : لأن صدوكم. فهو متعلق بالشنآن.

وقوله (أَنْ تَعْتَدُوا) في موضع نصب على أنه مفعول به.

أى : لا يحملنكم بغضكم قوما لصدهم إياكم عن المسجد الحرام الاعتداء عليهم.

وقراءة (أَنْ صَدُّوكُمْ) بفتح الهمزة ـ هي قراءة الجمهور ، وهي تشير إلى أن الصد كان في الماضي ، وهي واضحة ولا إشكال عليها.

قال الجمل : وفي قراءة لأبى عمرو وابن كثير بكسر همزة أن على أنها شرطية وجواب الشرط دل عليه ما قبله. وفيها إشكال من حيث إن الشرط يقتضى أن الأمر المشروط لم يقع. مع أن الصد كان قد وقع. لأنه كان في عام الحديبية وهي سنة ست. والآية نزلت عام الفتح سنة ثمان ، وكانت مكة عام الفتح في أيدى المسلمين فكيف يصدون عنه؟ وأجيب بوجهين :

أو لهما : لا نسلّم أن الصد كان قبل نزول الآية فإن نزولها عام الفتح غير مجمع عليه.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥

٣١

والثاني : أنه وإن سلمنا أن الصد كان متقدما على نزولها فيكون المعنى : إن وقع صد مثل ذلك الصد الذي وقع عام الحديبية ـ فلا تعتدوا ـ (١).

قال بعضهم : وهذا لا يمنع من الجزاء على الاعتداء بالمثل ، لأن النهى عن استئناف الاعتداء على سبيل الانتقام ، فإن من يحمله البغض والعداوة على الاعتداء على من يبغضه يكون منتصرا لنفسه لا للحق. وحينئذ لا يراعى المماثلة ولا يقف عند حدود العدل» (٢).

ثم أمر الله ـ تعالى ـ عباده بالتعاون على فعل الخيرات وعلى ترك المنكرات فقال : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ).

والبر معناه : التوسع في فعل الخير ، وإسداء المعروف إلى الناس.

والتقوى تصفية النفس وتطهيرها وإبعادها عن كل ما نهى الله عنه.

قال القرطبي : قال الماوردي : ندب الله ـ تعالى ـ إلى التعاون بالبر ، وقرنه بالتقوى له ، لأن في التقوى رضا الله ، وفي البر رضا الناس. ومن جمع بين رضا الله ورضا الناس فقد تمت سعادته وعمت نعمته.

والإثم ـ كما يقول الراغب ـ اسم للأفعال المبطئة عن الثواب وجمعه آثام ، والآثم هو المتحمل للإثم. ثم أطلق على كل ذنب ومعصية.

والعدوان : تجاوز الحدود التي أمر الشارع الناس بالوقوف عندها.

أى : وتعاونوا ـ أيها المؤمنون ـ على كل ما هو خير وبر وطاعة لله ـ تعالى ـ ، ولا تتعاونوا على ارتكاب الآثام ولا على الاعتداء على حدوده ، فإن التعاون على الطاعات والخيرات يؤدى إلى السعادة ، أما التعاون على ما يغضب الله ـ تعالى ـ فيؤدى إلى الشقاء.

قال الآلوسى : والجملة عطف على قوله (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) من حيث المعنى ، فكأنه قيل : لا تعتدوا على قاصدي المسجد الحرام لأجل أن صدوكم عنه ، وتعاونوا على العفو والإغضاء.

وقال بعضهم : هو استئناف ، والوقف على (أَنْ تَعْتَدُوا) لازم.

هذا ، وفي معنى هذه الجملة الكريمة وردت أحاديث كثيرة منها ما رواه مسلّم عن أبى مسعود الأنصاري قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إنى أبدع بي ـ أى : هلكت دابتي التي أركبها ـ فاحملني فقال : «ما عندي». فقال رجل : يا رسول الله ، أنا أدله على من يحمله

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٤٥٩

(٢) تفسير المنار ج ٦ ص ١٢٦

٣٢

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من دل على خير فله مثل أجر فاعله» (١) وروى الإمام مسلّم ـ أيضا ـ عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه. لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» (٢).

وقوله ـ تعالى ـ (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) تذييل قصد به إنذار الذين يتعاونون على الإثم والعدوان. أى : اتقوا الله ـ أيها الناس ـ واخشوه فيما أمركم ونهاكم ، فإنه ـ سبحانه شديد العقاب لمن خالف أمره ، وانحرف عن طريقه القويم.

وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد نهت المؤمنين عن استحلال ما حرمه الله عليهم من محارم ، وعن الإخلال بشيء من أحكامها ، كما نهتهم عن أن يحملهم بغضهم لغيرهم على الاعتداء عليه وأمرتهم بأن يتعاونوا على فعل الخير الذي ينفعهم وينفع غيرهم من الناس وعلى ما يوصلهم إلى طاعته ـ سبحانه ـ وحسن مثوبته ، ولا يتعاونوا على الأفعال التي يأثم فاعلها ، وعلى مجاوزة حدود الله بالاعتداء على غيرهم. ثم حذرتهم في نهايتها من العقاب الشديد الذي ينزله سبحانه ـ بكل من عصاه ، وانحرف عن هداه.

ثم شرع ـ سبحانه ـ في بيان المحرمات التي أشار إليها قبل ذلك بقوله : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) فبين ما يحرم أكله من الحيوان لأسباب معينة فقال ـ تعالى ـ :

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ

__________________

(١) صحيح مسلّم ـ كتاب الإمارة ـ ج ٦ ص ٤١ ـ طبعة مصطفى الحلبي سنة ١٣٨٠ ه‍ سنة ١٩٦٠

(٢) صحيح مسلّم ـ كتاب العلم ـ ج ٨ ص ٦٢

٣٣

عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٣)

ففي هذه المحرمات يتلى في قوله ـ تعالى ـ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) ..

والميتة كما يقول ابن جرير ـ كل ما له نفس ـ أى دم ونحوه ـ سائلة من دواب البر وطيره ، مما أباح الله أكلها. أهليها ووحشيها فارقتها روحها بغير تذكية.

وقال : بعضهم : الميتة : هو كل ما فارقته الحياة من دواب البر وطيره بغير تذكية شرعية ، مما أحل الله أكله» (١) أى : حرم الله عليكم ـ أيها المؤمنون ـ أكل الميتة لخبث لحمها ، ببقاء بعض المواد الضارة في جسمها.

وقد أجمع العلماء على حرمة أكل الميتة ، أما شعرها وعظمها فقال الأحناف بطهارتهما وبجواز الانتفاع بهما. وقال الشافعية بنجاستهما وبعدم جواز استعمالهما.

وقد استثنى العلماء من الميتة المحرمة السمك والجراد. فقد أخرج البخاري ومسلّم وغيرهما من حديث ابن أبى أو في قال : «غزونا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبع غزوات نأكل الجراد» (٢).

وفيهما ـ أيضا ـ من حديث جابر ، «إن البحر ألقى حوتا ميتا فأكل منه الجيش. فلما قدموا قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فقال : «كلوا رزقا أخرجه الله لكم : أطعمونا منه إن كان معكم. فأتاه بعضهم بشيء منه» (٣).

وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أحل لنا ميتتان ودمان. فأما الميتتان فالسمك والجراد. وأما الدمان فالكبد والطحال» (٤).

وثانى هذه المحرمات ما ذكره ـ سبحانه ـ في قوله : (وَالدَّمُ) أى : وحرم عليكم أكل الدم.

والمراد به : الدم المسفوح. أى السائل من الحيوان عند التذكية. لقوله ـ تعالى ـ في آية

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٦ ص ٦٧

(٢) أخرجه البخاري في باب غزوة سيف البحر من كتاب المغازي ج ٥ ص ٢١١

(٣) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٧

(٤) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٧

٣٤

أخرى (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) (١) وهي خاصة. والآية التي معنا عامة. والخاص مقدم على العام.

وكان أهل الجاهلية يجعلونه في الماعز ويشوونه ويأكلونه ، فحرمه الله ـ تعالى ـ لأنه يضر الأجسام. أما الدم الذي يكون جامدا بأصل خلقته كالكبد والطحال فإنه حلال كما جاء في حديث ابن عمر الذي سقناه منذ قليل.

وثالث هذه المحرمات ما جاء في قوله ـ تعالى ـ (وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) أى : وحرم عليكم لحم الخنزير وكذلك شحمه وجلده وجميع أجزائه ، لأنه مستقذر تعافه الفطرة ، وتتضرر به الأجسام.

وخص لحم الخنزير بالذكر مع أن جميع أجزائه محرمة لأنه هو المقصود بالأكل قال ابن كثير ما ملخصه : وقوله ـ تعالى ـ : (وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) يعنى إنسيه ووحشيه ، واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم. كما هو المفهوم من لغة العرب ، ومن العرف المطرد .. وفي الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. فقيل : يا رسول الله ، أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن ، وتدهن بها الجلود. ويستصبح بها الناس؟ فقال : لا. هو حرام : ثم قال : قاتل الله اليهود. إن الله لما حرم شحومها جملوه ـ أى أذابوه ـ ثم باعوه فأكلوا ثمنه» (٢).

ورابع هذه المحرمات بينه ـ سبحانه ـ بقوله : (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ).

الإهلال : رفع الصوت عند رؤية الهلال ثم استعمل لرفع الصوت مطلقا. ومنه : إهلال الصبى أى : صراخه بعد ولادته ، والإهلال بالحج أى رفع الصوت بالتلبية.

وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا ذبح ما قربوه إلى آلهتهم ، سموا عليها أسماءها ـ كاللات والعزى ـ ورفعوا بها أصواتهم ، وسمى ذلك إهلالا. ثم توسع فيه فقيل لكل ذابح : مهل سمى أو لم يسم. جهر بالتسمية أو لم يجهر.

والمعنى : وحرم عليكم ـ سبحانه ـ أن تأكلوا مما ذبح فذكر عليه عند ذبحه غير اسم الله تعالى ـ سواء اقتصر على ذكر غيره كقوله عند الذبح باسم الصنم فلان ، أو باسم المسيح أو عزير أو فلان ، أو جمع بين ذكر الله وذكر غيره بالعطف عليه كقوله : باسم الله واسم فلان.

أما إذا جمع الذابح بين اسم الله واسم غيره بدون عطف بأن قال : باسم الله المسيح نبي الله ، أو باسم الله محمد رسول الله ، فالأحناف يجوزون الأكل من الذبيحة ويعتبرون ذكر غير الله كلاما مبتدأ بخلاف العطف فإنه يكون نصا في ذكر غير الله.

__________________

(١) الآية ١٤٥ من سورة الأنعام.

(٢) ابن كثير ج ٢ ص ٧

٣٥

وجمهور العلماء يحرمون الأكل من الذبيحة متى ذكر مع اسم الله آخر سواء أكان ذلك بالعطف أم بدونه.

وذهب جماعة من التابعين إلى تخصيص الغير بالأصنام ، وإلى حل ذبائح أهل الكتاب مطلقا والتحريم هنا ليس لذات الحيوان ، بل لما صحبه من عمل فيه شرك بالله ـ تعالى ـ ثم ذكر ـ سبحانه ـ أربعة أنواع أخرى من المحرمات فقال : (وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ ، وَالْمُتَرَدِّيَةُ ، وَالنَّطِيحَةُ).

والمنخنقة : هي التي تموت خنقا إما قصدا بأن يخنقها آدمي. وإما اتفاقا بأن يعرض لها من ذاتها ما يخنقها.

والموقوذة : هي التي تضرب بمثقل غير محدد كخشب أو حجر حتى تموت وكانوا في الجاهلية يضربون البهيمة بالعصى حتى إذا ماتت أكلوها.

والوقذ : شدة الضرب. وفلان وقيذ أى : مثخن ضربا. ويقال : وقذه يقذه وقذا : ضربه ضربا حتى استرخى وأشرف على الموت.

قال القرطبي : وفي صحيح مسلّم عن عدى بن حاتم قال قلت يا رسول الله فإنى أرمى بالمعراض الصيد فأصيب؟ ـ والمعراض : وهو سهم يرمى به بلا ريش وأكثر ما يصيب بعرض عوده دون حده ـ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا رميت بالمعراض فخزق ـ أى نفذ وأسال الدم ـ فكله. وإن أصاب بعرضه فلا تأكله».

والمتردية : هي التي تتردى أى : تسقط من أعلى إلى أسفل فتموت من التردي مأخوذ من الردى بمعنى الهلاك سواء تردت بنفسها أم رداها غيرها.

والنطيحة : هي التي تنطحها أخرى فتموت من النطاح يقال : نطحه ينطحه وينطحه أى أصابه بقرنه.

والمعنى : وحرم الله عليكم كذلك ـ أيها المؤمنون ـ الأكل من المنخنقة ، والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، إذا ماتت كل واحدة من هذه الأنواع لهذه الأسباب دون أن تذكوها ذكاة شرعية ، لأن الأكل منها في هذه الحالة يعود عليكم بالضرر.

وتاسع هذه المحرمات ذكره ـ سبحانه ـ في قوله : (وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ).

المراد بالسبع كل ذي ناب وأظفار من الحيوان. كالأسد والنمر والذئب ونحوها من الحيوانات المفترسة.

وقوله (ذَكَّيْتُمْ) من التذكية وهي الإتمام. يقال : ذكيت النار إذا أتممت اشتعالها.

٣٦

والمراد هنا : إسالة الدم وفرى الأوداج في المذبوح ، والنحر في المنحور.

والمعنى : وحرم عليكم ـ أيضا ـ الأكل مما افترسه السبع حتى مات سواء أكل منه أم لم يأكل ، إلا ما أدركتموه من هذه الأنواع وقد بقيت فيه حياة يضطرب معها اضطراب المذبوح وذكيتموه أى ذبحتموه ذبحا شرعيا : فإنه في هذه الحالة يحل لكم الأكل منه. فقوله (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) الاستثناء هنا يرجع إلى هذه الأنواع الخمسة.

وقيل : إن الاستثناء هنا مختص بقوله : (وَما أَكَلَ السَّبُعُ).

أى : وحرم عليكم ما أكل السبع بعضه فمات بسبب جرحه ، إلا ما أدركتموه حيا فذكيتموه ذكاة شرعية فإنه في هذه الحالة يحل الأكل منه ، والأول أولى ، لأن هذه الأنواع الخمسة تشترك في أنها تعلقت بها أحوال قد تفضى بها إلى الهلاك ، فإن هلكت بتلك الأحوال لم يبح أكلها لأنها حينئذ ميتة ، وإذا أدركت بالذكاة في وقت تنفع فيه الذكاة لها جاز الأكل منها.

أما النوع العاشر من هذه المحرمات فيتجلى في قوله ـ تعالى ـ (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) والنصب : جمع نصاب : ككتب وكتاب. أو جمع نصب كسقف وسقف. ويصح أن يكون لفظ النصب واحدا وجمعه أنصاب مثل : طنب أطناب.

وعلى كل فهي حجارة كان الجاهليون ينصبونها حول الكعبة ، وكان عددها ثلاثمائة وستين حجرا ، وكانوا يذبحون عليها قرابينهم التي يتقربون بها إلى أصنامهم. ويعتبرون الذبح أكثر قربة إلى معبوداتهم متى تم على هذه النصب. وليست هذه النصب هي الأوثان ، فإن النصب حجارة غير منقوشة بخلاف الأوثان فإنها حجارة مصورة منقوشة.

والمعنى : وحرم عليكم ـ سبحانه ـ أن تأكلوا مما ذبح على النصب لأنه لم يتقرب به إلى الله ، وإنما تقرب به إلى الأصنام وما تقرب به إلى غير الله فهو فسق ورجس يجب البعد عنه.

هذه عشرة أنواع من المأكولان حرمت الآية الكريمة الأكل منها ، لما اشتملت عليه من مضرة وأذى ، ولما صاحب بعضها من تقرب لغير الله ، ويكفى لتجنب الأكل من هذه المطعومات أن الله ـ تعالى ـ قد حرمها ، لأنه سبحانه ـ لا يحرم إلا الخبائث. ومن شأن المؤمن الصادق في إيمانه أن يقف عند ما أحله الله ـ تعالى ـ وحرم.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ نوعا من الأفعال المحرمة ، بعد ذكره لعشرة أنواع من المطاعم المحرمة فقال : (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ).

وإنما ذكر ـ سبحانه ـ هذا الفعل المحرم مع جملة المطاعم المحرمة ، لأنه مما ابتدعه أهل الجاهلية ؛ كما ابتدعوا ما ابتدعوه في شأن المطاعم.

٣٧

والاستقسام : طلب معرفة ما قسم للإنسان من خير أو شر.

والأزلام : قداح الميسر واحدها زلم ـ بفتح اللام وبفتح الزاى أو ضمها ـ وسميت قداح الميسر بالأزلام ، لأنها زلمت أى سويت ، ويقال : رجل مزلم وامرأة مزلمة ، إذا كان جيد القد ، جميل القوام.

وكان لأهل الجاهلية طرق للاستقسام بالأزلام من أشهرها : أنه كانت لديهم سهام مكتوب على أحدها : أمرنى ربي وعلى الآخر : نهاني ربي. والثالث غفل من الكتابة ، فإذا أرادوا سفرا أو حربا أو زواجا أو غير ذلك أتوا إلى بيت الأصنام واستقسموها فإن خرج الآمر أقدموا على ما يريدونه وإن خرج الناهي أمسكوا عنه ، وإن خرج الغفل أجالوها ثانية حتى يخرج الآمر أو الناهي.

والمعنى : وحرم عليكم ـ سبحانه ـ أن تطلبوا معرفة ما قسم لكم في سفر أو غزو أو زواج أو ما يشبه ذلك بواسطة الأزلام ، لأن هذا الفعل فسق ، أى : خروج عن أمر الله وطاعته.

فاسم الإشارة «ذلكم» يعود إلى الاستقسام بالأزلام خاصة. ويجوز أن يعود إليه وإلى تناول ما حرم عليهم.

قال ابن كثير : وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دخل الكعبة ، وجد إبراهيم وإسماعيل مصورين فيها. وفي أيديهما الأزلام. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قاتلهم الله. لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبدا».

وثبت في الصحيحين أيضا أن سراقة بن مالك بن جعشم لما خرج في طلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبى بكر ، وهما ذاهبان إلى المدينة مهاجرين : قال فاستقسمت بالأزلام. هل أضرهم أولا؟ فخرج الذي أكره : لا تضرهم ، قال : فعصيت الأزلام واتبعتهم. ثم استقسم بها ثانية وثالثة. كل ذلك يخرج الذي يكره : لا تضرهم. وكان كذلك وكان سراقة لم يسلم إذ ذاك ، ثم أسلم بعد ذلك» (١).

فإن قيل إن الاستقسام بالأزلام هو لون من التفاؤل ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب الفأل الحسن فلم صار فسقا؟

فالجواب أن هناك فرقا واسعا بين الاستقسام بالأزلام وبين الفأل ؛ فإن الفأل أمر اتفاقي تنفعل به النفس وتنشرح للعمل مع رجاء الخير منه بخلاف الاستقسام بالأزلام فان القوم كانوا يستقسمون بالأزلام عند الأصنام ويعتقدون أن ما يخرج من الأمر والنهى على تلك الأزلام

__________________

(١) ابن كثير ج ٣ ص ١١.

٣٨

بإرشاد من الأصنام فلهذا كان الاستقسام بها فسقا وخروجا عن طاعة الله.

وفضلا عن هذا فإن الاستقسام بالأزلام طلب لمعرفة علم الغيب الذي استأثر الله به ، وذلك حرام وافتراء على الله ـ تعالى ـ وإلى هنا تكون الآية الكريمة قد ذكرت أحد عشر نوعا من المحرمات عشرة منها تتعلق بالمأكولات ، وواحدا يتعلق بالأفعال.

وهناك مطعومات أخرى جاء تحريمها عن طريق السنة النبوية ، كتحريمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأكل من لحوم الحمر الأهلية.

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ هذه الأنواع من المحرمات التي حرمها على المؤمنين رحمة بهم ، ورعاية لهم ، أتبع ذلك ببيان مظاهر فضله عليهم ، وأمرهم بأن يجعلوا خشيتهم منه وحده ، فقال ـ تعالى ـ : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ).

وقوله (الْيَوْمَ) ظرف منصوب على الظرفية بقوله (يَئِسَ). والألف واللام فيه للعهد الحضوري ، فيكون المراد به يوما معينا وهو يوم عرفة من عام حجة الوداع.

ويصح أن لا يكون المراد به يوما بعينه ، وإنما أراد به الزمان الحاضر وما يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضية والآتية.

وقد حكى الإمام الرازي هذين الوجهين فقال ما ملخصه : وقوله : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) فيه قولان :

الأول : أنه ليس المراد به ذلك اليوم بعينه حتى يقال إنهم ما يئسوا قبله بيوم أو يومين ، وإنما هو كلام خارج على عادة أهل اللسان أى لا حاجة بكم الآن إلى مداهنة هؤلاء الكفار ، لأنكم الآن صرتم بحيث لا يطمع أحد من أعدائكم في توهين أمركم ، ونظيره قوله : كنت بالأمس شابا واليوم قد صرت شيخا. لا يريد بالأمس اليوم الذي قبل يومك ، ولا باليوم يومك الذي أنت فيه.

الثاني : أن المراد به يوم نزول هذه الآية. وقد نزلت يوم الجمعة من يوم عرفة بعد العصر في عام حجة الوداع سنة عشر من الهجرة ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء» (١) وقوله : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) أى انقطع رجاؤهم في التغلب عليكم ، وفي إبطال أمر دينكم. وفي صرف الناس عنه بعد أن دخلوا فيه أفواجا وبعد أن صار المشركون

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ١٣٧.

٣٩

مقهورين لكم. أذلة أمام قوتكم. ومادام الأمر كذلك (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) أى : فلا تجعلوا مكانا لخشية المشركين في قلوبكم فقد ضعفوا واستكانوا ، بل اجعلوا خشيتكم وخوفكم وهيبتكم من الله وحده الذي جعل لكم الغلبة والنصر عليهم.

ثم عقب ذلك ـ سبحانه ـ ببيان أكبر نعمه وأعظم مننه على هذه الأمة الإسلامية فقال : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً).

أى ؛ اليوم أكملت لكم حدودي وفرائضي وحلالي وحرامى ، ونصرى لكم على أعدائكم وتمكينى إياكم من أداء فريضة الحج دون أن يشارككم في الطواف بالبيت أحد من المشركين.

وأتممت عليكم نعمتي ، بأن أزلت دولة الشرك من مكة ، وجعلت كلمتكم هي العليا وكلمة أعدائكم هي السفلى ، ورضيت لكم الإسلام دينا ، بأن اخترته لكم من بين الأديان. وجعلته الدين المقبول عندي ، فيجب عليكم الالتزام بأحكامه وآدابه وأوامره ونواهيه قال ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) وليس المراد بإكمال الدين أنه كان ناقصا قبل اليوم ثم أكمله ، وإنما المراد أن من أحكامه قبل اليوم ما كان مؤقتا في علم الله قابلا للنسخ. ولكنها اليوم كملت وصارت مؤبدة وصالحة لكل زمان ومكان ، وغير قابلة للنسخ ، وقد بسط هذا المعنى كثير من المفسرين فقال الإمام الرازي : قال القفال : إن الدين ما كان ناقصا البتة بل كان أبدا كاملا. يعنى : كانت الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت كافية في ذلك الوقت إلا أنه ـ تعالى ـ كان عالما في أول وقت المبعث بأن ما هو كامل في هذا اليوم ليس بكامل في الغد ولا صلاح فيه. فلا جرم كان ينسخ بعد الثبوت. وكان يزيد بعد العدم. وأما في آخر زمان المبعث فأنزل الله شريعة كاملة وحكم ببقائها إلى يوم القيامة. فالشرع أبدا كان كاملا. إلا أن الأول كمال إلى زمان مخصوص. والثاني كمال إلى يوم القيامة. فالأجل هذا قال : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (١).

وقال القرطبي ما ملخصه : لعل قائلا يقول : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) يدل على أن الدين كان غير كامل في وقت من الأوقات. وذلك يوجب أن يكون جميع من مات من المهاجرين والأنصار. قبل نزول هذه الآية ـ ماتوا على دين ناقص. ومعلوم أن النقص عيب؟

فالجواب أن يقال له : لم قلت إن كل نقص فهو عيب وما دليلك عليه؟ ثم يقال له : أرأيت نقصان الشهر هل يكون عيبا ، ونقصان صلاة المسافر أهو عيب لها ..؟ لا شك أن هذا النقصان ليس بعيب.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ١٣٨.

٤٠