التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٤

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٤

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0531-4
الصفحات: ٣٦٠

الإيمان به عند ظهوره وتنفيذ ما اشتملا عليه من أحكام أيدتها تعاليم الإسلام ، وأصل الإقامة الثبات في المكان. ثم استعير في إقامة الشيء لتوفية حقه.

والمراد بما أنزل إليهم من ربهم القرآن الكريم ، لأنهم مخاطبون به ، وليسوا خارجين عن دائرة التكاليف التي دعا إليها.

قال ـ تعالى ـ (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (١) أى : لأنذركم به يا أهل مكة ، ولأنذر به أيضا جميع من بلغه هذا الكتاب من اليهود والنصارى وغيرهم.

وقيل : المراد بما أنزل إليهم من ربهم. كتب أنبيائهم السابقين مثل كتاب شعياء ، وكتاب حزقيل ، وكتاب دانيال. فإنها مشتملة أيضا على البشارة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والمراد بقوله : (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) المبالغة في شرح ما ينعم الله به عليهم من خيرات وأرزاق تعمهم من كل جهة من الجهات لا أن هناك فوقا وتحتا.

أى : لأكلوا أكلا متصلا وفيرا ، ولعمهم الخير والرزق من كل جهة بأن تعطيهم السماء مطرها وبركتها ، وتعطيهم الأرض نباتها وخيرها ، فيعيشوا في رغد من العيش ؛ وفي بسطة من الرزق.

وفي ذلك دلالة على أن الاستقامة على شرع الله ، تأتى بالرزق الرغيد ، ولقد أشار القرآن إلى هذا المعنى في آيات كثيرة ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ :

(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) (٢).

وقال ـ تعالى ـ حكاية عن هود أنه قال لقومه : (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) (٣).

والمعنى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ) أى اليهود والنصارى (أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) بأن عملوا بما فيهما من أقوال تدعوهم إلى الإيمان بالدين الحق الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتركوا تحريف الكلم عن مواضعه.

ولو أنهم ـ أيضا آمنوا بما (أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) من قرآن مجيد فيه هدايتهم وسعادتهم لو أنهم فعلوا ذلك لأتاهم الرزق الواسع من كل ناحية ولعمهم الخير من كل جهة ، ولعاشوا آمنين مطمئنين.

__________________

(١) سورة الأنعام الآية ١٩

(٢) سورة الجن الآية ١٦

(٣) سورة هود الآية ٥٢

٢٢١

والمراد بالأكل الانتفاع مطلقا ، وعبر عن ذلك به لكونه أعظم الانتفاعات ويستتبع سائرها.

ومفعول «أكلوا» محذوف لقصد التعميم. أو القصد إلى نفس الفعل كما في قولهم : فلان يعطى ويمنع.

وقوله : (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) مدح للقلة التي تستحق المدح من أهل الكتاب» وذم للكثيرين منهم الذين قبح عملهم وفسدت نفوسهم.

والأمة : الجماعة من الناس الذين يجمعهم دين واحد. أو جنس واحد. أو مكان واحد. ومقتصدة من الاقتصاد وهو الاعتدال في كل شيء والمراد به هنا : السير على الطريق المستقيم الذي يوصل إلى الحق والخير ، وهو طريق الإسلام.

والمعنى : من أهل الكتاب جماعة مستقيمة على طريق الحق ، وهم قلة آمنت بالنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلى جوار هذه الجماعة القليلة المستقيمة عدد كبير من أهل الكتاب ساء عملهم ، واعوج سلوكهم ، وكان من حالهم ما يثير العجب والدهشة.

والمراد بهذه الأمة المقتصدة من أهل الكتاب من دخل منهم في الإسلام واتبع ما جاء به النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وبذلك نرى هاتين الآيتين قد بشرت أهل الكتاب بالسعادة الدنيوية والأخروية متى آمنوا بالله تعالى ـ واتبعوا ما جاء به رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وبعد أن حكى الله ـ تعالى ـ في الآيات السابقة ما كان عليه أعداء الإسلام ـ وخصوصا اليهود ـ من محاولات لفتنة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن دسائس حاكوها لعرقلة سير الدعوة الإسلامية ، ومن استهزاء بتعاليم الإسلام ومن حقد على المؤمنين لإيمانهم برسل الله وكتبه ومن سوء أدب مع خالقهم ورازقهم. بعد أن حكى ـ سبحانه ـ كل ذلك ، أتبعه بتوجيه نداء إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره فيه بأن يمضى في تبليغ رسالته إلى الناس دون أن يلتفت إلى مكر الماكرين ، أو حقد الحاقدين. فإنه ـ سبحانه ـ قد حماه وعصمه منهم فقال :

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)(٦٧)

٢٢٢

روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه ابن أبى حاتم عن جابر بن عبد الله الأنصارى قال : لما غزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنى أنمار ، نزل ذات الرقاع بأعلى نخل. فبينما هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه ، فقال الحارث من بنى النجار : لأقتلن محمدا فقال له أصحابه : كيف تقتله؟ قال : أقول له أعطنى سيفك ، فإذا أعطانيه قتلته به. قال : فأتاه فقال يا محمد. أعطنى سيفك أشيمه ـ أى أراه ـ فأعطاه إياه ـ فرعدت يده حتى سقط السيف من يده : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حال الله بينك وبين ما تريد.

فأنزل الله ـ تعالى ـ (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) .. الآية (١).

قال الفخر الرازي ـ بعد أن ذكر عشرة أقوال في سبب نزولها ـ واعلم أن هذه الروايات وإن كثرت إلا أن الأولى حمل الآية على أن الله ـ تعالى ـ آمنه من مكر اليهود والنصارى ، وأمره بإظهار التبليغ من غير مبالاة منه بهم ، وذلك لأن ما قبل هذه الآية بكثير وما بعدها بكثير لما كان كلاما مع اليهود والنصارى ، امتنع إلقاء هذه الآية الواحدة على وجه تكون أجنبية عما قبلها وما بعدها» (٢).

وهذا الذي قاله الإمام الرازي هو الذي تسكن إليه النفس أى أن الآية الكريمة ساقها الله ـ تعالى ـ لتثبيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقوية قلبه وأمره بالمضي في تبليغ رسالته بدون خوف من أعدائه الذين حدثه عن مكرهم به وكراهتهم له ، حديثا مستفيضا ، وقد بشره ـ سبحانه ـ في هذه الآية بأنه حافظه من مكرهم وعاصمه من كيدهم.

وقوله : (بَلِّغْ) من التبليغ بمعنى : إيصال الشيء إلى المطلوب إيصاله إليه.

والمعنى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) الكريم المرسل إلى الناس جميعا (بَلِّغْ) أى : أوصل إليهم (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أى : كل ما أنزل إليك من ربك من الأوامر والنواهي والأحكام والآداب والأخبار دون أن تخشى أحدا إلا الله. (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) ما أمرت به من إيصال وتبليغ جميع ما أنزل إليك من ربك إلى الناس (فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) أى : وإن لم تبلغ كل ما أنزل إليك من ربك كنت كمن لم يبلغ شيئا مما أوحاه الله إليه ، لأن ترك بعض الرسالة يعتبر تركا لها كلها.

وقد عبر عن هذا المعنى صاحب الكشاف بقوله : قوله : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) أى : وإن لم تبلغ جميعه كما أمرتك. (فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) أى : فلم تبلغ إذا ما كلفت به من أداء الرسالة ، ولم تؤد منها شيئا قط ، وذلك أن بعضها ليس بأولى بالأداء من بعض وإن لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعا ، كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها ، لإدلاء كل منها بما يدلى به

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٧٩.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٢ ص ٧٩

٢٢٣

غيرها ، وكونها لذلك في حكم شيء واحد. والشيء الواحد لا يكون مبلغا غير مبلغ ؛ مؤمنا به غير مؤمن به» (١).

وفي ندائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوصف الرسالة تشريف له وتكريم وتمهيد لما يأمره به الله من وجوب تبليغ ما كلف بتبليغه إلى الناس دون أن يخشى أحدا سواه.

لأن الله ـ تعالى ـ هو الذي خلقه ورباه وتعهده بالرعاية والحماية. وهو الذي اختاره لحمل هذه الرسالة دون غيره ، فمن الواجب عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبلغ جميع ما أنزل إليه منه ـ سبحانه ـ قال الجمل : وقوله : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) ظاهر هذا التركيب اتحاد الشرط والجزاء ، لأنه يؤول ظاهرا إلى وإن لم تفعل فما فعلت ، مع أنه لا بد وأن يكون الجواب مغايرا للشرط لتحصل الفائدة ومتى اتحدا اختل الكلام.

وقد أجاب عن ذلك ابن عطية بقوله أى : وإن تركت شيئا فقد تركت الكل وصار ما بلغته غير معتد به فصار المعنى : وإن لم تستوف ما أمرت بتبليغه فحكمك في العصيان وعدم الامتثال حكم من لم يبلغ شيئا أصلا» (٢).

وقال صاحب الانتصاف ما ملخصه : ولما كان عدم تبليغ الرسالة أمرا معلوما عند الناس أنه عظيم شنيع ، ينقم على مرتكبه بل إن عدم نشر العلم من العالم أمر فظيع ، فضلا عن كتمان الرسالة من الرسول : لما كان الأمر كذلك استغنى عن ذكر الزيادات التي يتفاوت بها الشرط والجزاء ، للصوقها بالجزاء في الأفهام وإن كان من سمع عدم تبليغ الرسالة فهم ما وراءه من الوعيد والتهديد ، وحسن هذا الأسلوب في الكتاب العزيز يذكر الشرط عاما بقوله : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) ولم يقل : فإن لم تبلغ الرسالة فما بلغت الرسالة ، حتى يكون اللفظ متغايرا ، وهذه المغايرة اللفظية ـ وإن كان المعنى واحدا ـ أحسن رونقا ، وأظهر طلاوة من تكرار اللفظ الواحد في الشرط والجزاء ، وهذا الفصل كاللباب من علم البيان» (٣).

هذا ، ومن المعلوم الذي لا خفاء فيه عند كل مسلم ، أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد بلغ ما أمره الله به البلاغ التام ، وقام به أتم القيام دون أن يزيد شيئا على ما كلفه به ربه أو ينقص شيئا.

وقد ساق ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من النصوص التي تشهد بأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد امتثل أمر الله في تبليغ رسالته ، ومن ذلك ما رواه الشيخان عن عائشة أنها قالت لمسروق : من حدثك أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتم شيئا مما أنزل الله عليه فقد كذب.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٩٥٦

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٥١٠

(٣) حاشية الكشاف ج ١ ص ٦٥٨

٢٢٤

والله يقول : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) .. الآية.

ثم قال : ابن كثير : وقد شهدت له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمته بإبلاغ الرسالة ، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع. فقد قال في خطبته يومئذ : «أيها الناس ، إنكم مسئولون عنى فماذا أنتم قائلون؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت» (١).

وقوله : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) وعد منه ـ سبحانه ـ بحفظ نبيه من كيد أعدائه.

وقوله : (يَعْصِمُكَ) من العصم بمعنى الإمساك والمنع. وأصله ـ كما يقول ابن جرير ـ من عصام القربة ، وهو ما تربط به من سير وخيط ومنه قول الشاعر :

وقلت عليكم بمالك إن مالكا

سيعصمكم إن كان في الناس عاصم

أى : سيمنعكم (٢).

والمعنى : عليك يا محمد أن تبلغ رسالة الله دون أن تخشى أحدا سواه ، والله ـ تعالى ـ يحفظك من كيد أعدائك ويمنعك من أن تعلق نفسك بشيء من شبهاتهم واعتراضاتهم ويصون حياتك عن أن يعتدى عليها أحد بالقتل أو الإهلاك :

فالمراد بالعصمة هنا : عصمة نفسه وجسمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القتل أو الإهلاك ، وعصمة دعوته من أن يحول دون نجاحها حائل. وهذا لا ينافي ما تعرض له صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بأساء وضراء وأذى بدني ، فقد رماه المشركون بالحجارة حتى سالت دماؤه ، وشج وجهه وكسرت رباعيته في غزوة أحد.

والمراد بالناس هنا : المشركون والمنافقون واليهود ومن على شاكلتهم في الكفر والضلال والعناد ، إذ ليس في المؤمنين الصادقين إلا كل محب لله ولرسوله.

ولقد تضمنت هذه الجملة الكريمة معجزة كبرى للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد عصم الله ـ تعالى ـ حياة رسوله عن أن يصيبها قتل أو إهلاك على أيدى الناس مهما دبروا له من مكر وكيد.

لقد نجاه من كيدهم عند ما اجتمعوا لقتله في دار الندوة ليلة هجرته إلى المدينة.

ونجاه من كيد اليهود عند ما هموا بإلقاء حجر عليه وهو جالس تحت دار من دورهم.

ونجاه من مكرهم عند ما هموا بإلقاء حجر عليه وهو جالس تحت دار من دورهم.

ونجاه من مكرهم عند ما وضعت إحدى نسائهم السم في طعام قدم إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

إلى غير ذلك من الأحداث التي تعرض لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أعدائه. ولكن الله ـ تعالى ـ نجاه منهم (٣).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٧٧

(٢) تفسير ابن جرير ج ٦ ص ٣٩

(٣) إذا أردت المزيد من ذلك فارجع إلى كتاب «أعلام النبوة» للماوردى.

٢٢٥

وهناك آثار تشهد بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحرس من بعض أصحابه فلما نزلت هذه الآية صرفهم عن حراسته.

فقد أخرج الترمذي والحاكم وابن أبى حاتم وابن جرير عن عائشة قالت : كان رسول الله يحرس ليلا حتى نزلت (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فأخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأسه من القبة فقال لهم : «أيها الناس انصرفوا لقد عصمنى الله» (١).

وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) تذييل قصد به تعليل عصمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتثبيت قلبه أى : إن الله ـ تعالى ـ لا يهدى القوم الكافرين إلى طريق الحق بسبب عنادهم وإيثارهم الغي على الرشد. ولا يوصلهم إلى ما يريدونه من قتلك ومن القضاء على دعوتك ، بل سينصرك عليهم ويجعل العاقبة لك.

وبعد هذا التثبيت والتكريم لنبيه. أمره ـ سبحانه ـ أن يصارح أهل الكتاب بما هم عليه من باطل وأن يدعوهم إلى اتباع الحق الذي جاء به فقال ـ تعالى ـ :

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)(٦٨)

قال الآلوسى : أخرج ابن إسحاق وابن جرير وغيرهما عن ابن عباس قال : جاء جماعة من اليهود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه ، وتؤمن بما عندنا من التوراة ، وتشهد أنها من الله حق ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلى ، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ عليكم من الميثاق وكتمتم منها ما أمركم أن تبينوه للناس فبرئت من أحداثكم. قالوا : فإن لم تأخذ بما في أيدينا فإنا على الحق والهدى ولا نؤمن بك ولا نتبعك فأنزل الله (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) الآية (٢).

والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى الذين امتدت أيديهم إلى كتبهم بالتغيير والتبديل. قل لهم (يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) يعتد به من الدين أو العلم أو المروءة

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٧٨.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ٢٠٠

٢٢٦

(حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ).

أى : لستم على شيء يقام له وزن من أمر الدين حتى تعملوا بما جاء في التوراة والإنجيل ، من أقوال تبشر برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحتى تؤمنوا بما أنزل إليكم من ربكم من قرآن كريم يهدى إلى الرشد : لأنكم مخاطبون به ، ومطالبون بتنفيذ أوامره ونواهيه ، ومحاسبون حسابا عسيرا على الكفر به ، وعدم الإذعان لما اشتمل عليه.

والتعبير بقوله ـ تعالى ـ (لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) فيه ما فيه من الاستخفاف بهم ، والتهوين من شأنهم ، أى : لستم على شيء يعتد به ألبتة من أمر الدين. وذلك كما يقول القائل عن أمر من الأمور : هذا الأمر ليس بشيء يريد تحقيره وتصغير شأنه. وفي الأمثال ، أقل من لا شيء.

فالجملة الكريمة تنفى عنهم أن يكون في أيديهم شيء من الحق والصواب ماداموا لم يؤمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي بشرت به التوراة والإنجيل وأنزل الله عليه القرآن وهو الكتاب المهيمن على الكتب السماوية السابقة.

وقوله : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) جملة مستأنفة مبينة لغلوهم في العناد والجحود ، وناعية عليهم عدم انتفاعهم بما يشفى النفوس ، ويصلح القلوب. والضمير في قوله (مِنْهُمْ) يعود إلى أهل الكتاب.

أى : وإن ما أنزلناه إليك يا محمد من هدايات وخيرات ليزيدن هؤلاء الضالين من أهل الكتاب طغيانا على طغيانهم. وكفرا على كفرهم ؛ لأن نفوسهم لا تميل إلى الحق والخير وإنما تنحدر نحو الباطل والشر.

وقوله : (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) تذييل قصد به تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والفاء للإفصاح. والأسى : الحزن. يقال : أسى فلان على كذا يأسى أسى إذا حزن.

أى : إذا كان شأن الكثيرين كذلك فلا تحزن عليهم ، ولا تتأسف على القوم الكافرين ؛ فإنهم هم الذين استحبوا العمى على الهدى ، وفي المؤمنين غنى لك عنهم.

وليس المراد نهيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحزن والأسى ، لأنهما أمران طبيعيان لا قدرة للإنسان عن صرفهما ، وإنما المراد نهيه عن لوازمهما ، كالإكثار من محاولة تجديد شأن المصائب وتعظيم أمرها وبذلك تتجدد الآلام ويحزن القلب.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك أن الناس أمامه سواء وأنه لا تفاضل بينهم إلا بالإيمان والعمل الصالح ، وأن الايمان الحق يقطع ما قبله من عقائد زائفة. وأفعال سيئة فقال ـ تعالى ـ :

٢٢٧

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٦٩)

فالآية الكريمة تبين أن أساس النجاة يوم القيامة هو الإيمان بالله واليوم الآخر ، وما يستتبع ذلك من أفعال طيبة وأعمال صالحة.

وقد ذكر ـ سبحانه ـ في هذه الآية أربع فرق من الناس :

أما الفرقة الأولى : فهي فرقة المؤمنين ، وهم الذين عبر عنهم ـ سبحانه ـ بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أى : آمنوا إيمانا صادقا ، بأن أذعنوا للحق الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم واتبعوه في كل ما جاء به.

وقد ابتدأ القرآن بهم لشرفهم وعلو منزلتهم وللإشعار بأن دين الإسلام دين قائم على أساس أن الفوز برضا الله لا ينال إلا بالإيمان الصادق والعمل الصالح ، ولا فضل لأمة على أمة إلا بذلك.

والفرقة الثانية : فرقة الذين هادوا. أى اليهود. يقال : هاد وتهود إذا دخل في اليهودية. وسموا يهودا نسبة إلى يهوذا أكبر أولاد يعقوب ـ عليه‌السلام ـ وقد قلبت الذال في كلمة يهوذا دالا في التعريب. أو سموا حين تابوا من عبادة العجل من هاد يهود هودا بمعنى تاب ومنه قوله ـ تعالى ـ (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) أى : تبنا ورجعنا إليك.

والفرقة الثالثة : فرقة الصابئين جمع صابئ وهو الخارج من دين إلى دين. يقال صبا الظلف والناب والنجم ـ منع وكرم ـ إذا طلع.

والمراد بهم قوم يعبدون الملائكة ، أو الكواكب ويزعمون أنهم على دين صابئ بن شيث بن آدم ، ولا تزال بقية منهم تعيش في تخوم العراق ، ومن العسير الجزم بحقيقة معتقدهم ، لأنهم أكتم الناس لعقائدهم.

وأما الفرقة الرابعة : فهي فرقة النصارى جمع نصران بمعنى نصراني قيل سموا بذلك لأنهم ادعوا أنهم أنصار عيسى ـ عليه‌السلام ـ وقيل سموا بذلك نسبة إلى قرية الناصرة التي ظهر بها عيسى ـ عليه‌السلام ـ واتبعه بعض أهلها.

والإيمان المشار إليه في قوله : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) يفسره بعض العلماء بالنسبة

٢٢٨

لليهود والنصارى والصابئين بمعنى صدور الإيمان منهم على النحو الذي قرره الإسلام. فمن لم تبلغه منهم دعوة الإسلام ، وكان ينتمى إلى دين صحيح في أصله بحيث يؤمن بالله واليوم الآخر ويقوم بالعمل الصالح على الوجه الذي يرشده إليه دينه ، فله أجره على ذلك عند ربه.

أما الذين بلغتهم دعوة الإسلام من تلك الفرق ولكنهم لم يقبلوها ؛ فإنهم لا يكونون ناجين من عذاب الله مهما ادعوا أنهم يؤمنون بغيرها ؛ لأن شريعة الإسلام قد نسخت ما قبلها ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعى».

ويفسرونه ـ أى الإيمان المشار إليه سابقا ـ بالنسبة للمؤمنين الذين عبر الله عنهم بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) على أنه بمعنى الثبات والدوام والإذعان ، وبذلك ينتظم عطف قوله ـ تعالى ـ (وَعَمِلَ صالِحاً) على قوله (آمَنَ) مع مشاركته هؤلاء المؤمنين لتلك الفرق الثلاث فيما يترتب على العمل الصالح من ثواب جزيل وعاقبة حميدة.

وبعض العلماء يرى أن معنى (مَنْ آمَنَ) أى : من أحدث من هذه الفرق إيمانا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما جاء به من عند ربه.

قالوا : لأن مقتضى المقام هو الترغيب في دين الإسلام ، وأما بيان من مضى على دين آخر قبل نسخه فلا ملابسة له بالمقام ، فضلا عن أن الصابئين ليس لهم دين تجوز رعايته في وقت من الأوقات.

وقوله : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) بيان لحسن عاقبتهم ، وجزيل ثوابهم.

أى. فلا خوف عليهم من أهوال يوم القيامة بل هم في مأمن منها ، ولا هم يحزنون على ما مضى من أعمارهم لأنهم أنفقوها في العمل الصالح.

هذا وقد قرأ جمهور القراء (وَالصَّابِئُونَ) بالرفع. وقرأ ابن كثير بالنصب.

وقد ذكر النحويون وجوها من الإعراب لتخريج قراءة الرفع التي قرأها الأكثرون ، ولعل خير هذه الوجوه ما ذكره الشيخ الجمل في قوله : وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أى : إيمانا حقا لا نفاقا. وخبر إن محذوف تقديره : فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. دل عليه المذكور ، وقوله : (وَالَّذِينَ هادُوا) مبتدأ. فالواو لعطف الجمل أو للاستئناف وقوله (وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى) عطف على هذا المبتدأ. وقوله (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ). خبر عن هذه المبتدءات الثلاثة. وقوله : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) بدل من كل منها بدل بعض من كل فهو مخصص. فكأنه قال : الذين آمنوا من اليهود والنصارى ومن الصابئين لا خوف عليهم ولا هم

٢٢٩

يحزنون. فالإخبار عن اليهود ومن بعدهم بما ذكر مشروط بالإيمان لا مطلقا (١).

وقد ذكر صاحب الكشاف وجها آخر فقال : قوله : (وَالصَّابِئُونَ) رفع على الابتداء وخبره محذوف. والنية به التأخير عما في حيز إن من اسمها وخبرها. كأنه قيل : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا. والصابئون كذلك.

ثم قال : فإن قلت ما التأخير والتقديم إلا لفائدة فما فائدة هذا التقديم؟

قلت : فائدته التنبيه على أن الصابئين يتاب عليهم إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح فما الظن بغيرهم؟ وذلك لأن الصابئين أبين هؤلاء المعدودين ضلالا وأشدهم غيا ، وما سموا صابئين إلا لأنهم صبئوا عن الأديان كلها أى : خرجوا» (٢).

والخلاصة ، أن الآية الكريمة مسوقة للترغيب في الإيمان والعمل الصالح ببيان أن كل من آمن بالله واليوم الآخر ، واتبع ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستمر على هذا الإيمان وهذا الاتباع إلى أن فارق هذه الحياة ، فإن الله ـ تعالى ـ يرضى عنه ويثيبه ثوابا حسنا ، وبتجاوز عما فرط منه من ذنوب ، لأن الإيمان الصادق يجب ما قبله ، من عقائد زائفة ، وأعمال باطلة وأقوال فاسدة.

وبعد أن فتح ـ سبحانه ـ باب الإيمان أمام أهل الكتاب وغيرهم لكي يدخلوه فينالوا رضاه ومثوبته. عقب ذلك باستئناف الحديث من أنواع أخرى من الرذائل التي عرفت عن بنى إسرائيل فقال ـ تعالى ـ :

(لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ)(٧١)

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٥١١.

(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦٦١

٢٣٠

والمراد بالميثاق في قوله : (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) : العهد الموثق الذي أخذه الله عليهم بواسطة أنبيائهم بأن يؤدوا ما كلفهم به من تكاليف وأن يتبعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ظهوره.

وقد أكد الله هذا الميثاق الذي أخذه عليهم بلام القسم وبقد المفيدة للتحقيق أى : بالله لقد أخذنا الميثاق على بنى إسرائيل بأن يعبدوني ولا يشركوا بي شيئا ، وبأن ينفذوا ما كلفتهم به من المأمورات والمنهيات والشرائع والأحكام.

وقوله (وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً) معطوف على (أَخَذْنا) والتنكير في قوله : (رُسُلاً) للتكثير والتعظيم.

أى : أخذنا العهد المؤكد عليهم بأن يسيروا على الطريق المستقيم ، وأرسلنا إليهم رسلا ذوى عدد كثير ، وأولى شأن خطير ، لكي يتعهدوهم بالتبشير والإنذار ، ولكي يرشدوهم إلى ما يأتون وما يذرون من أمور دينهم.

فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ مع أخذه الميثاق عليهم لم يتركهم هملا ، بل أرسل إليهم الرسل ليعينوهم على تنفيذ ما جاء به.

ولم يذكر ـ سبحانه ـ هنا موضوع هذا الميثاق ، اكتفاء بذكره في مواطن أخرى كثيرة. ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك في هذه السورة :

(وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً ، وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ ، لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ. وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ ، وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) الآية (١).

وقوله ـ تعالى ـ في سورة البقرة : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) .. الآية (٢).

وقوله : (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) بيان لموقفهم الذميم من الميثاق الذي أخذ عليهم ومن الرسل الكرام الذين أرسلهم الله لهدايتهم وسعادتهم.

أى : أخذنا الميثاق المؤكد عليهم ، وأرسلنا إليهم رسلا كثيرين لهدايتهم ولكنهم نقضوا الميثاق ، وعصوا الرسل ، فكانوا (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ) بما لا تشتهيه نفوسهم الشقية ، وبما لا تميل إليه قلوبهم الردية ، ناصبوه العداء ؛ فكذبوا بعض الرسل ، ولم يكتفوا مع البعض الآخر بالتكذيب بل أضافوا إليه القتل.

ولقد كذب اليهود جميع الرسل الذين جاءوا لهدايتهم ولم يؤمن بهم إلا قلة منهم. وقتلوا من

__________________

(١) سورة المائدة الآية ١٢

(٢) سورة البقرة الآية ٨٣

٢٣١

بين من قتلوا من الرسل بعد أن كذبوهم : زكريا ويحيى ، وحاولوا قتل عيسى ـ عليه‌السلام ـ كما حاولوا قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أن الله ـ تعالى ـ نجاهما من مكرهم وكيدهم.

قال صاحب الكشاف : وقوله : (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ) جملة شرطية وقعت صفة لقوله : (رُسُلاً). والرابط محذوف : أى : رسول منهم (بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ) أى بما يخالف هواهم ويضاد شهواتهم.

فإن قلت : أين جواب الشرط قلت : هو محذوف يدل عليه (فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) فكأنه قيل : كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه» (١).

والتعبير بقوله : (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) يدل على أن حال بنى إسرائيل بالنسبة للرسل يدور بين أمرين إما التكذيب لهم ، والاستهانة بتعاليمهم وإما أن يجمعوا مع التكذيب قتلهم وإزهاق أرواحهم الشريفة. فكأن التكذيب والقتل قد صارا سجيتين لهم لا تتخلفان في أى زمان ومع أى رسول ، وذلك لأن لفظ «كل» يدل على العموم. «وما» مصدرية ظرفية دالة على الزمان ، فكأنه ـ سبحانه ـ يقول : في كل أوقات مجيء الرسل إليهم كذبوا ويقتلون دون أن يفرقوا بين رسول ورسول أو بين زمان وزمان.

وقال ـ سبحانه ـ (بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ) للمبالغة في ذمهم ، إذ هوى النفس ميلها في الغالب إلى الشهوات التي لا تنبغي ، والرسل ما أرسلهم الله ـ تعالى ـ إلا لهداية الأنفس ، وكفها عن شهواتها التي يؤدى الوقوع فيها إلى المفاسد.

وبنو إسرائيل لا يكذبون الرسل ، ويقتلونهم إلا لأنهم جاءوهم بما يخالف هواهم ، ويتعارض مع أنانيتهم وشرههم ومطامعهم الباطلة.

وهكذا الأمم عند ما تفسد عقولها ؛ وتسيطر عليها الأطماع والشهوات ، ترى الحسن قبيحا ، وتحارب من يهديها إلى الرشاد حتى لكأنه عدو لها.

وقدم ـ سبحانه ـ المفعول به في قوله (فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) للاهتمام بتفصيل أحوال بنى إسرائيل السيئة ، وبيان ما لقيه الرسل الكرام منهم.

وعبر عن التكذيب بالفعل الماضي فقال : (فَرِيقاً كَذَّبُوا) وعن القتل بالفعل المضارع فقال : (وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) لحكاية الحال الماضية التي صدرت من أسلافهم بتصوير ما حصل في الماضي كأنه حاصل وقت التكلم ، ولاستحضار جريمتهم البشعة في النفوس حتى لكأنها واقعة

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦٦٢

٢٣٢

في الحال ، وفي ذلك ما فيه من النعي عليهم. والتوبيخ لهم والتعجيب من أحوالهم التي بلغت نهاية الشناعة والقبح.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك أنهم مع ما فعلوه مع رسلهم من التكذيب والقتل لم ينزجروا ، ولم يندموا ... بلغ بهم الغرور والسفه أنهم ظنوا أن ما فعلوه شيء هين وأنه لن يكون له أثر سىء في حياتهم. فقال ـ تعالى ـ (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ).

وقوله : (وَحَسِبُوا) معطوف على قوله (كَذَّبُوا) وهو من الحسبان بمعنى الظن : وقوله : (فِتْنَةٌ) من الفتن وهو إدخال الذهب في النار لتظهر جودته. والمراد بها هنا : الشدائد والمحن والمصائب التي تنزل بالناس.

وقوله : (فَعَمُوا وَصَمُّوا) من العمى الذي هو ضد الإبصار ، ومن الصمم الذي هو ضد السمع. وقد استعير هنا للإعراض عن دلائل الهدى والرشاد التي جاء بها الرسل.

والمعنى إن بنى إسرائيل قد أخذنا عليهم العهد المؤكد ، وأرسلنا إليهم الرسل لهدايتهم ، فكان حالهم أنهم كذبوا بعض الرسل ، وقتلوا البعض الآخر. ولم يكتفوا بهذا بل ظنوا ـ لسوء أعمالهم وفساد قلوبهم واستيلاء الغرور والتكبر على نفوسهم ـ أنهم لن يصيبهم بلاء ولا عقاب بتكذيبهم للرسل وقتلهم لهم فأمنوا عقاب الله وتمادوا في فنون البغي والفساد وعموا وصموا عن دلائل الهدى والرشاد التي جاء بها الرسل واشتملت عليها الكتب السماوية (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أى : قبل توبتهم بعد أن رجعوا عما كانوا عليه من فساد (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) أى : ثم نكسوا على رءوسهم مرة أخرى فعادوا إلى فسادهم وضلالهم وعدوانهم على هدايتهم ، إلا عددا قليلا منهم بقي على إيمانه وتوبته فأنت ترى أن الآية الكريمة مسوقة لبيان فساد معتقدات بنى إسرائيل وما جبلت عليه نفوسهم من جحود وغرور. حيث ارتكبوا ما ارتكبوا من جرائم ومنكرات تقشعر لها الأبدان ومع كل ذلك حسبوا أن الله ـ تعالى ـ لا يعاقبهم عليها ، لأنهم ـ كما يزعمون ـ أبناء الله وأحباؤه. ثم إنهم بعد أن تاب الله عليهم نقضوا عهودهم معه وعادوا إلى عماهم عن الدين الذي جاءتهم به رسلهم وإلى صممهم عن الاستماع إلى الحق الذي ألقوه إليهم.

وقوله : (أَلَّا تَكُونَ) قراءة أبو عمر والكسائي وحمزة بضم النون على اعتبار «أن» هي المخففة من الثقيلة ، وأصله أنه لا تكون فتنة. فخففت أن وحذف ضمير الشأن ـ وهو اسمها ـ وحسبوا على هذه القراءة بمعنى علموا.

وتعليق فعل الحسبان بها وهي للتحقيق لتنزيله منزلة العلم لتمكنه في قلوبهم.

٢٣٣

وقرأه الباقون بفتح النون على اعتبار أن «أن» ناصبة لتكون. وحسب على هذه القراءة على بابها من الشك والظن.

وسد مسد مفعولي حسب على القراءتين ما اشتمل عليه الكلام من المسند والمسند إليه وهو أن وما في حيزها.

وقوله (فَعَمُوا) معطوف على (حَسِبُوا) وجيء بالفاء التي للسببية للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها.

أى أن عماهم عن الطريق القويم وصممهم عن سماع الحق كان سببه ظنهم الفاسد ، واعتقادهم الباطل أن ما ارتكبوه من قبائح لن يعاقبوا عليه في الدنيا.

ومن بديع إيجاز القرآن الكريم أن أومأ إلى عدم اهتمامهم بمصيرهم في الآخرة ببيان أن ظنهم لن تنزل بهم مصائب في الدنيا يسبب مفاسدهم ، هذا الظن هو الذي جعلهم يرتكبون ما يرتكبون من قبائح .. أما الآخرة فلا مكان لها في تفكيرهم ، لأنهم قوم تعساء يحرصون على الدنيا حرصا شديدا دون أن يعيروا الآخرة وما فيها من حساب وثواب وعقاب أى اهتمام.

وهذا شأن الأمم إذا ما استحوذ عليها الشيطان وتغلب عليها حب الشهوات وضعف الوازع الديني في نفوس أفرادها. إنهم في هذه الحالة يصير همهم مقصورا على تدبير شئون دنياهم ، فإذا ما وجدوا فيها مأكلهم وشربهم وملذاتهم اغمضوا أعينهم عن آخرتهم ، بل وربما استهانوا وتهكموا بمن يذكرهم بها فتكون نتيجة إيثارهم الدنيا على الآخرة الشقاء والتعاسة.

وجيء بحرف العطف (ثُمَ) المفيد للتراخي في قوله (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) للإشارة إلى أن قبول توبتهم كان بعد مفاسد عظيمة وقعت منهم أى : ثم تاب الله عليهم بعد أن كان منهم ما كان من منكرات وجرائم وإعراض عن الرشد والهدى.

وقوله (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) بيان لنقضهم لعهودهم مع الله ، وارتكاسهم في الذنوب والخطايا والمنكرات. ارتكاسا شديدا بحيث صاروا ليسوا أهلا لقبول التوبة منهم بعد ذلك.

أى : بعد أن قبل الله توبتهم من جرائمهم المنكرة. عادوا إلى الانتكاس مرة أخرى فوقعوا في الذنوب والجرائم بإصرار وعناد فأصابهم ما أصابهم من عقوبات لم يتب الله عليهم بعدها.

وقوله (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) بدل من الضمير في قوله (عَمُوا وَصَمُّوا) وهذا الإبدال في غاية الحسن. لأنه لو قال (عَمُوا وَصَمُّوا) بدون هذا البدل لأوهم ذلك أنهم جميعا صاروا كذلك. فلما قال (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) دل على أن العمى والصمم قد حدث للكثيرين منهم ، وهناك قلة منهم لم تنقض عهودها مع الله ـ تعالى ـ بل بقيت على إيمانها وصدق توبتها.

٢٣٤

وهذا ـ كما قلنا مرارا ـ من إنصاف القرآن للناس في أحكامه ، ودقته في ألفاظه ، واحتراسه فيما يصدر من أحكامه.

وقوله : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) تذييل قصد به بطلان حسبانهم المذكور ، والبصير مبالغة في المبصر وهو هنا بمعنى العليم بكل ما يكون منهم من أعمال سواه أبصرها الناس أم لم يبصروها.

والمقصود من هذا الخبر لازم معناه ، وهو الإنذار والتذكير بأن الله لا يخفى عليه شيء. وسيحاسبهم على أعمالهم.

أى : والله ـ تعالى ـ عليم بما يعملونه علم من يبصر كل شيء دون أن تخفى عليه خافية ، وسيجازيهم على أعمالهم بما يستحقونه من عذاب أليم.

هذا ، وقد تكلم المفسرون عن وقت التوبة التي كانت بعد عماهم وصممهم وعن العمى والصمم الذي أصابهم بعد ذلك وقد أجمل الإمام الرازي كلامهم فقال :

والآية تدل على أن عماهم وصممهم عن الهداية إلى الحق حصل مرتين. واختلف المفسرون في المراد بهاتين المرتين على وجوه :

الأول : المراد أنهم عموا وصموا في زمان زكريا ويحيى وعيسى ـ عليهم‌السلام ـ ثم تاب الله على بعضهم حيث وفق بعضهم للإيمان : ثم عموا وصموا كثير منهم في زمان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن أنكروا نبوته. وقلة منهم هي التي آمنت به.

الثاني : المراد أنهم عموا وصموا حين عبدوا العجل ، ثم تابوا عنه فتاب الله عليهم ، ثم عموا وصموا كثير منهم بالتعنت وهو طلبهم رؤية الله جهرة.

الثالث : قال القفال : ذكر الله ـ تعالى ـ في سورة الإسراء ما يجوز أن يكون تفسيرا لهذه الآية فقال : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) (١).

والذي نراه أن تحديد عماهم وصممهم وتوبتهم بزمان معين أو بجريمة أو جرائم معينة تابوا بعدها هذا التحديد غير مقنع.

ولعل أحسن منه أن نقول : إن القرآن الكريم يصور ما عليه بنو إسرائيل من صفات ذميمة ، وطبائع معوجة ، ومن نقض للعهود والمواثيق. فهم أخذ الله عليهم العهود فنقضوها ، وأرسل إليهم الرسل فاعتدوا عليهم وظنوا أن عدوانهم هذا شيء هين ولن يصيبهم بسببه عقاب

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٢ ص ٥٧

٢٣٥

دنيوى ، فلما أصابهم العقاب الدنيوي كالقحط والوباء والهزائم. بسبب مفاسدهم ، تابوا إلى الله فقبل الله توبتهم ورفع عنهم عقابه ، فعادوا إلى عماهم وصممهم ـ إلا قليلا منهم ـ ، وارتكبوا ما ارتكبوا من منكرات بتصميم وتكرار فأصابهم ـ سبحانه ـ بفتن لم يتب عليهم منها. (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١).

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ أنماطا من قبائح اليهود ومن صفاتهم الذميمة شرع في بيان قبائح النصارى وضلالاتهم وأرشدهم إلى طريق الحق والصواب ، وحذرهم من السير في طريق الغواية والعناد فقال ـ تعالى :

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ(٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(٧٥)

__________________

(١) سورة العنكبوت الآية ٤٠

٢٣٦

قال الفخر الرازي : اعلم أنه ـ تعالى ـ لما استقصى الكلام مع اليهود ، شرع هاهنا في الكلام مع النصارى ، فحكى عن فريق منهم أنهم قالوا : إن الله هو المسيح بن مريم.

وهذا هو قول اليعقوبية ؛ لأنهم يقولون : إن مريم ولدت إلها ، ولعل معنى هذا المذهب أنهم يقولون : إن الله ـ تعالى ـ حل في ذات عيسى واتحد بذات عيسى (١).

واللام في قوله : (لَقَدْ كَفَرَ) واقعة جوابا لقسم مقدر.

والمراد بالكفر : ستر الحق وإنكاره والانغماس في الباطل والضلال.

أى : اقسم لقد كفر أولئك النصارى الذين قالوا كذبا وزورا : إن الله المستحق للعبادة والخضوع هو المسيح ابن مريم.

وقد أكد ـ سبحانه ـ كفرهم بالقسم المقدر ؛ لأنهم غالوا في إطراء عيسى وفي وضعه في غير موضعه كما غالت اليهود في الكفر به وفي وصفه بالأوصاف التي هو برىء منها.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قاله عيسى في الرد على من جعلوه إلها فقال : (وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ).

أى : وقال المسيح مكذبا لمن وصفه بالألوهية : يا بنى إسرائيل اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا ، فهو ربي الذي خلقني وتعهدنى بالتربية والرعاية ، وهو ربكم ـ أيضا ـ الذي أنشأكم وأوجدكم ورزقكم من الطيبات.

والواو في قوله : (وَقالَ الْمَسِيحُ) للحال. والجملة حالية من الواو التي هي فاعل (قالُوا).

أى : قالوا ما قالوا ، والحال أن عيسى قد تبرأ مما قالوه. وقال لبنى إسرائيل حين إرساله إليهم : اعبدوا الله ربي وربكم.

وقوله : (رَبِّي وَرَبَّكُمْ) تنبيه إلى ما هو الحجة القاطعة على فساد قولهم المذكور ؛ لأن عيسى لم يفرق بينه وبين غيره في العبودية لله ـ تعالى ـ لأنه ـ سبحانه ـ هو الخالق له ولهم ولكل شيء.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قاله عيسى محذرا من الإشراك فقال : (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ).

وهذه الجملة تعليل للأمر بعبادة الله وحده. والضمير المقترن بإن ضمير الشأن والمراد بتحريم الجنة على المشرك : منعه من دخولها ، لإشراكه مع الله آلهة أخرى.

والمأوى : المكان الذي يأوى إليه الإنسان. أى يرجع إليه ويستقر فيه.

__________________

(١) راجع تفسير الفخر الرازي ج ١٢ ص ٥٩

٢٣٧

أى : قال المسيح لبنى إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم ، لأنه أى الحال والشأن (مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) شيئا في عبادته ـ سبحانه ـ (فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) أى : منعه من دخولها ، بسبب شركه وكفره ، وجعل (مَأْواهُ النَّارُ) أى : جعل مستقره ومكانه النار بدل الجنة (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) ينصرونهم بأن ينقذوهم مما هم فيه من بلاء وشقاء مقيم.

فالجملة الكريمة تحذير شديد من الإشراك بالله ، وبيان لما سيؤول إليه حال المشركين من تعاسة وشقاء.

وجمع ـ سبحانه ـ بين العقوبة السلبية للمشركين وهي حرمانهم من الجنة وبين العقوبة الإيجابية وهي استقرارهم في النار ، للإشارة إلى عظيم جرمهم حيث أشركوا بالله ، وتقولوا عليه الأقاويل الباطلة التي تدل على جهلهم وسفاهتهم.

والمراد بالظالمين : المشركون الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم فتكون ال للعهد.

ويجوز أن يراد بهم كل ظالم بسبب إشراكه وكفره ويدخل فيه هؤلاء دخولا أوليا فتكون أل للجنس.

وقال ـ سبحانه ـ (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) بصيغة الجمع لكلمة «أنصار» ، وبالتأكيد بمن المفيدة للاستغراق ، للإيذان بأنه إذا كان الظالمون لن يستطيع الأنصار مجتمعين أن ينصروهم فمن باب أولى لن يستطيع واحد أن ينصرهم.

أى : مالهم من أحد كائنا من كان أن ينقذهم من عقاب الله بأى طريقة من الطرق.

وهذه الجملة الكريمة يحتمل أن تكون من كلام عيسى الذي حكاه الله عنه ـ كما سبق أن ذكرنا ـ ويحتمل أن تكون من كلام الله ـ تعالى ـ وقد ساقها ـ سبحانه ـ لتأكيد ما قاله المسيح من أمره لقومه بعبادة الله وحده ولتقرير مضمونه المفيد للتحذير من الإشراك.

وقوله ـ تعالى ـ (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) بيان لما قالته طائفة أخرى من طوائف النصارى الذين يتفرقون في العقائد والنحل ، ويتجمعون على الكفر والضلال ، فهم شيع شتى ، وفرق متنابذة ، كل شيعة منهم تكفر الأخرى وتعارضها في معتقداتها.

قال الفخر الرازي ما ملخصه : في تفسير قول النصارى (إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) طريقان :

الأول : أنهم أرادوا بذلك أن الله ومريم وعيسى آلهة ثلاثة. والذي يؤكد ذلك قوله ـ تعالى ـ للمسيح (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) فقوله : (ثالِثُ ثَلاثَةٍ) أى : أحد ثلاثة آلهة. أو واحد من ثلاثة آلهة.

والطريق الثاني : أن المتكلمين حكوا عن النصارى أنهم يقولون : جوهر واحد ، ثلاثة

٢٣٨

أقانيم : أب ، وابن وروح القدس وهذه الثلاثة إله واحد ، كما أن الشمس اسم يتناول القرص والشعاع والحرارة. وعنوا بالأب الذات. وبالابن الكلمة.

وبالروح الحياة. وأثبتوا الذات والكلمة والحياة وقالوا : إن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء بالخمر أو اللبن فزعموا أن الأب إله ، والابن إله ، والروح إله ، والكل إله واحد.

ثم قال الإمام الرازي : واعلم أن هذا معلوم البطلان ببديهة العقل. فإن الثلاثة لا تكون واحدا ، والواحد لا يكون ثلاثة ، ولا يرى في الدنيا مقالة أشد فسادا وأظهر بطلانا من مقالة النصارى» (١) :

وقد ذكر بعض المفسرين أن الذين قالوا من النصارى إن الله ثالث ثلاثة هم النسطورية والمرقوسية (٢).

ومعنى ثالث ثلاثة : واحد من ثلاثة. أى : أحد هذه الأعداد مطلقا وليس الوصف بالثالث فقد ذكر النحاة أن اسم الفاعل المصوغ من لفظ اثنين وعشرة وما بينهما لك أن تستعمله على وجوه منها : أن تستعمله مع أصله الذي صيغ هو منه ، ليفيد أن الموصوف به بعض تلك العدة المعينة لا غير. فتقول : رابع أربعة أى : واحد من أربعة وليس زائدا عليها ، ويجب حينئذ إضافته إلى أصله.

وقوله : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) بيان للاعتقاد الحق بعد ذكر الاعتقاد الباطل.

وقد جاءت هذه الجملة بأقوى أساليب القصر وهو اشتمالها على «ما» و «إلا». مع تأكيد النفي بمن المفيدة لاستغراق النفي.

والمعنى : لقد كفر الذين قالوا كذبا وزورا إن الله واحد من آلهة ثلاثة ، والحق أنه ليس في هذا الوجود إله مستحق للعبادة والخضوع سوى إله واحد وهو الله رب العالمين ، الذي خلق الخلق بقدرته ، ورباهم بنعمته. وإليه وحده مرجعهم وإيابهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ سوء عاقبة هؤلاء الضالين الذين قالوا ما قالوا من ضلال وكذب فقال ـ تعالى ـ : (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

وهذه الجملة الكريمة معطوفة على قوله : (لَقَدْ كَفَرَ) والمراد بانتهائهم : رجوعهم عما هم عليه من ضلال وكفر.

والمراد بقوله : ـ (عَمَّا يَقُولُونَ) : أى عما يعتقدون وينطقون به من زور وبهتان.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٢ س ٦٠

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٥١٣

٢٣٩

أى : لقد كفر أولئك الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة كفرا شديدا بينا والحق أنه ليس في الوجود سوى إله واحد مستحق للعبادة ، وإن لم يرجع هؤلاء الذين قالوا بالتثليث عن عقائدهم الزائفة وأقوالهم الفاسدة ويعتصموا بعروة التوحيد (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) أى : ليصيبن الذين استمروا على الكفر منهم عذاب أليم.

فالجملة الكريمة تحذير من الله ـ تعالى ـ لهم عن الاستمرار في هذا القول الكاذب. والاعتقاد الفاسد الذي يتنافى مع العقول السليمة ، والأفكار القويمة.

وقوله : (لَيَمَسَّنَ) جواب لقسم محذوف ، وهو ساد مسد جواب الشرط المحذوف في قوله (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا) والتقدير : والله إن لم ينتهوا ليمسن.

وأكد ـ سبحانه ـ وعيدهم بلام القسم في قوله (لَيَمَسَّنَ) ردا على اعتقادهم أنهم لا تمسهم النار ، لأن صلب عيسى ـ في زعمهم ـ كان كفارة عن خطايا البشر.

وعبر بالمس للإشارة إلى شدة ما يصيبهم من آلام : لأن المراد أن هذا العذاب الأليم يصيب جلدهم وهو موضع الإحساس فيهم إصابة مستمرة ، كما قال ـ تعالى ـ في آية أخرى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) (١).

وقال ـ سبحانه ـ (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالتعبير بالظاهر دون الضمير للإشارة إلى سبب العذاب وهو كفرهم ؛ لأن التعبير بالموصول يشير إلى أن الصلة هي سبب الحكم.

ومن في قوله (مِنْهُمْ) يصح أن تكون تبعيضية أى : ليمسن الذين استمروا على الكفر من هؤلاء النصارى عذاب أليم ، لأن كثيرا منهم لم يستمروا على الكفر بل رجعوا عنه ودخلوا في دين الإسلام.

ويصح أن تكون بيانية ، وقد وضح ذلك صاحب الكشاف بقوله : ومن في قوله : (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) للبيان كالتي في قوله (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ).

والمعنى : ليمسن الذين كفروا من النصارى خاصة (عَذابٌ أَلِيمٌ) أى نوع شديد الألم من العذاب .. كما تقول : أعطنى عشرين من الثياب. تريد من الثياب خاصة لا من غيرها من الأجناس التي يجوز أن يتناولها عشرون» (٢).

وبعد هذا الترهيب الشديد للكافرين من العذاب الأليم ، فتح لهم ـ سبحانه ـ باب رحمته ، حيث رغبهم في الإيمان ، وأنكر عليهم تقاعسهم عنه بعد أن ثبت بطلان ما هم عليه من عقائد فقال ـ تعالى ـ : (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

__________________

(١) سورة النساء : الآية ٥٦

(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦٦٤

٢٤٠