التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٤

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٤

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0531-4
الصفحات: ٣٦٠

(وَرَسُولُهُ) الذي أخرجكم ـ بإذنه تعالى ـ من ظلمات الكفر إلى نور التوحيد. (وَالَّذِينَ آمَنُوا) الذين هم منكم وأنتم منهم والذين (يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) في مواقيتها بخشوع وإخلاص (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) لمستحقيها بسماحة وطيب نفس (وَهُمْ راكِعُونَ) أى : خاشعون متواضعون لله ، وليسوا مرائين أو منانين.

وقوله : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) جملة من مبتدأ وخبر. وقوله : (وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) معطوف على الخبر.

قال صاحب الكشاف : ومعنى (إِنَّما) وجوب اختصاصهم بالموالاة. فإن قلت قد ذكرت ـ الآية ـ جماعة فهلا قيل إنما أولياؤكم؟ قلت : أصل الكلام إنما وليكم الله ، فجعلت الولاية لله على طريق الأصالة ، ثم نظم في سلك إثباتها له ، إثباتها لرسوله وللمؤمنين على سبيل التبع. ولو قيل : إنما أولياؤكم الله ورسوله والذين آمنوا ، لم يكن في الكلام أصل وتبع (١).

والمراد بالذين آمنوا عامة المؤمنين وليس فردا معينا منهم.

قال ـ تعالى ـ : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ، أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢).

وما ورد من آثار تفيد أن المراد بالذين آمنوا شخصا معينا وهو على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ لا يعتمد عليها ، لأنها كما يقول ابن كثير ـ «لم يصح شيء منها بالكلية لضعف أسانيدها وجهالة رجالها».

وقد توسع الإمام الرازي في الرد على الشيعة الذين وضعوا هذه الآثار فارجع إليه إن شئت (٣).

وقوله : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) بدل من الذين آمنوا.

وهما وصفان لهم ساقهما ـ سبحانه ـ على سبيل الثناء عليهم والمدح لهم.

وقوله : (وَهُمْ راكِعُونَ) حال من فاعل الفعلين ـ يقيمون ويؤتون ـ أى : يعملون ما ذكر من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهم خاشعون خاضعون لله ـ تعالى ـ إذ الركوع قد يطلق بمعنى الخضوع لله ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦٤٨.

(٢) سورة التوبة الآية ٧١.

(٣) راجع تفسير الفخر الرازي ج ١٢ ص ٢٦ وما بعدها.

٢٠١

قال الراغب : الركوع : الانحناء وتارة يستعمل في الهيئة المخصوصة في الصلاة ، وتارة يستعمل في التذلل والتواضع إما في العبادة وإما في غيرها» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ حسن عاقبة الذين يوالون الله ورسوله والمؤمنين فقال : (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ). والحزب معناه الجمع من الناس يجتمعون على رأى واحد من أجل أمر حزبهم أى أهمهم وشغلهم.

والمعنى : (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ) ـ تعالى ـ بأن يطيعه ويتوكل عليه ، ويتول (رَسُولَهُ) بأن يتبعه ويتأسى به ، ويتول (الَّذِينَ آمَنُوا) بأن يناصرهم ويشد أزرهم ويتعاون معهم على البر والتقوى ، من يفعل ذلك لا شك في حسن عاقبته وظفره بالفلاح والنصر «فإن حزب الله هم الغالبون» لغيرهم من الأحزاب الأخرى التي استحوذ عليها الشيطان.

و (مَنْ) في قوله (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ) شرطية ، وقوله : (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) دليل على جواب الشرط.

أى : ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا يكن من حزب الله المنتصر القوى ، فإن حزب الله هم الغالبون.

وقال ـ سبحانه ـ فإن حزب الله ، ولم يقل حزب الله ورسوله ، للإشارة إلى أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يعمل إلا بأمر من الله ـ تعالى ـ وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يستمد العون والنصرة إلا منه ـ سبحانه ـ.

قال بعض العلماء : وقوله ـ تعالى ـ (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) معناه : فإنهم الغالبون.

فوضع الظاهر موضع الضمير العائد إلى من دلالة على علة الغلبة.

وهو أنهم حزب الله. فكأنه قيل : ومن يتول هؤلاء فهو حزب الله ، وحزب الله هم الغالبون. تنويها بذكرهم ، وتعظيما لشأنهم ، وتشريفا لهم بهذا الاسم ، وتعريضا لمن يوالى غير هؤلاء بأنه حزب الشيطان» (٢).

وبذلك ترى أن هذه الآيات الكريمة قد نهت المؤمنين نهيا شديدا عن موالاة أعداء الله ، لأن موالاتهم قد تجر إلى الارتداد عن الدين الحق ، ومن يرتد عن الدين الحق فلن يضر الله شيئا ، لأنه سبحانه ـ قادر على أن يأتى بقوم آخرين صادقين في إيمانهم بدل أولئك الذين ارتدوا على

__________________

(١) المفردات في غريب القرآن ص ٢٢.

(٢) تفسير القاسمى ج ٦ ص ٢٠٤٥.

٢٠٢

أعقابهم. كما نراها قد أرشدت المؤمنين إلى من تجب موالاتهم ، وبشرتهم بالفلاح والنصر متى جعلوا ولايتهم لله ولرسوله ولإخوانهم في العقيدة والدين.

ثم كرر ـ سبحانه ـ نهى المؤمنين عن موالاة أعدائه وأعدائهم الذين استخفوا بتعاليم الإسلام ، وشعائر دينه فقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)(٥٨)

قال الآلوسى : أخرج ابن إسحاق وجماعة عن ابن عباس قال : كان رفاعة بن زيد بن التابوت ، وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ونافقا ، وكان رجال من المسلمين يوادونهما. فأنزل الله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا) ... الآية (١).

والدين : هو ما عليه المرء من عقائد وأعمال ناشئة عن العقيدة. فهو عنوان عقل المتدين ، ورائد آماله ، وباعث أعماله. والذي يتخذ دين امرئ هزوا ولعبا ، فقد اتخذ ذلك المتدين بهذا الدين هزوا ولعبا.

وقوله : (هُزُواً) أى سخرية يقال : فلان هزئ من فلان إذا سخر منه ، واستخف به. وأصله هزءا ، فأبدلت الهمزة واوا لضم ما قبلها.

وقوله : (لَعِباً) أى ملهاة وعبثا. وأصله من لعاب الطفل. يقال عن الطفل لعب ـ بفتح العين ـ إذا سال لعابه.

والمعنى : يا أيها الذين اتصفوا بالإيمان (لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ) الذي هو سر سعادتكم وعزتكم (هُزُواً وَلَعِباً) أى : اتخذوا مادة لسخريتهم وتهكمهم ، وموضعا لعبثهم ولهوهم.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ١٧١.

٢٠٣

و (مِنَ) في قوله : (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ) بيانية.

أى : مبينة لأولئك الذين يستهزئون بدين الله ويجعلونه موضع عبثهم.

والمراد بالذين أوتوا الكتاب : اليهود والنصارى.

وسموا بذلك ؛ لأن أصل شرعهم ينتمى إلى كتاب منزل هو التوراة والإنجيل.

وفي وصفهم بذلك هنا ، توبيخ لهم ، حيث إنهم استهزءوا بالدين الحق ، مع أن كتابهم ينهاهم عن ذلك.

والمراد بالكفار هنا المشركون الذين لا كتاب لهم.

وقرأ الجمهور (الْكُفَّارَ) بالنصب عطفا على (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ) المبين بقوله : (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ).

وقرأ أبو عمرو والكسائي (الْكُفَّارَ) بالجر عطفا على (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ).

وقوله : (أَوْلِياءَ) أى : نصراء وأصفاء. وهو المفعول الثاني لقوله (لا تَتَّخِذُوا) والآية الكريمة تنهى المؤمنين عن ولاية كل عدو لله ـ تعالى ـ ولهم سواء أكان هذا العدو من أهل الكتاب أم من المشركين ؛ لأن الجميع يشتركون في الاستهزاء بتعاليم الإسلام ، وفي العبث بشعائره.

وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) تذييل قصد به استنهاض همتهم لامتثال أمر الله ـ تعالى ـ وإلهاب نفوسهم حتى يتركوا موالاة أعدائهم بسرعة ونشاط.

أى : واتقوا الله في سائر ما أمركم به وما نهاكم عنه ، فلا تضعوا موالاتكم في غير موضعها ، ولا تخالفوا لله أمرا. إن كنتم مؤمنين حقا ، ممتثلين صدقا ، فإن وصفكم بالإيمان يحتم عليكم الطاعة التامة لله رب العالمين.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ بعض مظاهر استهزاء أولئك الضالين بالدين وشعائره ، فقال ـ تعالى ـ : (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً).

والمراد بالنداء للصلاة : الإعلام بها عن طريق الأذان.

قال القرطبي : كان إذا أذن المؤذن وقام المسلمون إلى الصلاة قالت اليهود : قاموا لا قاموا ، وكانوا يضحكون إذا ركع المسلمون وسجدوا. وقالوا في حق الأذان : لقد ابتدعت شيئا لم نسمع به فيما مضى من الأمم. فمن أين لك صياح مثل صياح العير؟ فما أقبحه من صوت ، وما أسمجه من أمر (١).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٢٢٤.

٢٠٤

وروى ابن جرير وابن أبى حاتم عن السدى في قوله : (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً) قال : كان رجل من النصارى بالمدينة ، إذا سمع المنادى ينادى : أشهد أن محمدا رسول الله. قال : حرق الكاذب. فدخل خادمه ليلا من الليالى بنار ، وهو نائم وأهله نيام ، فسقطت شرارة فأحرقت البيت. فاحترق هو وأهله» (١).

وقيل : كان المنافقون يتضاحكون عند القيام إلى الصلاة تنفيرا للناس منها.

أى : وإذا ناديتم ـ أيها المؤمنون ـ بعضكم بعضا إلى الصلاة عن طريق الأذان ، اتخذ هؤلاء الضالون الصلاة والمناداة بها موضعا لسخريتهم وعبثهم وتهكمهم.

واسم الإشارة في قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) يعود إلى ما كان منهم من استهزاء وسخرية.

أى : ذلك الذي صدر عنهم من استهزاء وعبث سببه أنهم قوم سفهاء جهلاء ، لا يدركون الأمور على وجهها الصحيح ، ولا يستجيبون للحق الذي ظهر لهم بسبب عنادهم وأحقادهم.

قال ابن كثير : هذا تنفير من موالاة أعداء الإسلام من الكتابيين والمشركين الذين يتخذون أفضل ما يعمله العاملون وهي شرائع الإسلام المطهرة المحكمة المشتملة على كل خير دنيوى وأخروى ، يتخذونها هزوا يستهزئون بها ، ولعبا يعتقدون أنها نوع من اللعب في نظرهم الفاسد ، وفكرهم البارد ، كما قال القائل.

وكم من عائب قولا صحيحا

وآفته من الفهم السقيم (٢)

وبعد أن حذر ـ سبحانه ـ المؤمنين تحذيرا شديدا من موالاة أعدائه. عقب ذلك بتوبيخ أهل الكتاب على عنادهم وحسدهم ، ووصفهم بجملة من الصفات القبيحة التي ينأى عنها العقلاء وأصحاب المروءة فقال ـ تعالى ـ :

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٢٩١.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٧٢.

٢٠٥

مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ)(٦٣)

قال القرطبي : قال ابن عباس : جاء نفر من اليهود إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألوه عمن يؤمن به من الرسل ـ عليهم‌السلام ـ فقال : نؤمن بالله وما أنزل إلينا ، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل إلى قوله : ونحن له مسلمون». فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته ، وقالوا : والله ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم ، ولا دينا شرا من دينكم. فنزلت هذه الآية وما بعدها.

وتنقمون معناه : تسخطون. وقيل تكرهون. وقيل تنكرون. والمعنى متقارب يقال : نقم من كذا ينقم ونقم والأول أكثر .. وفي التنزيل «وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد». وانتقم منه أى : عاقبه : والاسم النقمة والجمع نقم (١) والاستفهام ، للإنكار والتعجب من حالهم حيث يعيبون على المؤمنين ما هو المدح والثناء والتكريم.

والمعنى : قل يا محمد على سبيل التوبيخ لأهل الكتاب ، والتعجيب من أحوالهم قل لهم :

(يا أَهْلَ الْكِتابِ). يا من كتابكم عرفكم مواطن الذم (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا) أى : ما تعيبون وتنكرون وتكرهون منا (إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ) الذي يجب الإيمان به ، والخضوع له ، لأنه الخالق لكل شيء ، وآمنا بما أنزل إلينا من القرآن الكريم وآمنا بما أنزل من قبل من كتب سماوية كالتوراة والإنجيل والزبور وغير ذلك من الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه قبل إنزال القرآن الكريم.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٢٣٣.

٢٠٦

ولا شك أن إيماننا بذلك لا يعاب ولا ينكر ، بل يمدح ويشكر ، ولكن لأن (أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) ـ أى : خارجون عن دائرة هذا الايمان الحق ـ كرهتم منا ذلك ، وأنكرتموه علينا ، وحسدتمونا على توفيق الله إيانا لما يحبه ويرضاه.

وقال الجمل ما ملخصه : وقوله : (إِلَّا أَنْ آمَنَّا) مفعول لقوله (تَنْقِمُونَ) بمعنى تكرهون.

وهو استثناء مفرغ. وقوله : (مِنَّا) متعلق به. أى ما تكرهون من جهتنا إلا الإيمان بالله وبما أنزل إلينا وأصل نقم أن يتعدى بعلى. تقول : نقمت عليه بكذا. وإنما عدى هنا بمن ؛ لتضمنه معنى تكرهون وتنكرون.

وقوله : (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) يحتمل أن يكون في محل رفع أو نصب أو جر فالرفع على أن يكون مبتدأ والخبر محذوف أى : وفسقكم ثابت عندكم ، لأنكم علمتم أنا على الحق وأنكم على الباطل إلا أن حب الرياسة وجمع الأموال حملكم على العناد.

والنصب على أن يكون معطوفا على قوله (أَنْ آمَنَّا) ولكن الكلام فيه مضاف محذوف لفهم المعنى. والتقدير : واعتقاد أن أكثرهم فاسقون وهو معنى واضح فإن الكفار ينقمون اعتقاد المؤمنين أنهم ـ أى الكفار ـ فاسقون ـ أى : ما تعيبون منا إلا إيماننا بالله وما أنزل إلينا. واعتقادنا أن أكثرهم فاسقون ..

وأما الجر فعلى أن يكون معطوفا على علة محذوفة والتقدير : ما تنقمون منا إلا الإيمان بالله وبما أنزل. لقلة إنصافكم وفسقكم واتباعكم شهواتكم» (١).

هذا ومن بلاغة القرآن الكريم ، وإنصافه في الأحكام ، واحتراسه في التعبير أنه لم يعمم الحكم بالفسق على جميعهم. بل جعل الحكم بالفسق منصبا على الأكثرين منهم ، حتى يخرج عن هذا الحكم القلة المؤمنة من أهل الكتاب.

وشبيه بهذا قوله في آية أخرى : (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) قال بعض العلماء : في الآية تسجيل على أهل الكتاب بكمال المكابرة والتعكيس ، حيث جعلوا الإيمان بما ذكر ، موجبا للنقمة ، مع كونه في نفسه موجبا للقبول والرضا. وهذا مما تقصد العرب في مثله تأكيد النفي والمبالغة فيه بإثبات شيء وذلك الشيء لا يقتضى إثباته فهو منتف أبدا. ويسمى مثل ذلك عند علماء البيان تأكيد المدح بما يشبه الذم وبالعكس. فمن الأول قول القائل :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٥٠٥.

٢٠٧

وقول الآخر :

فتى كملت أخلاقه غير أنه

جواد ، فما يبقى من المال باقيا

ومن الثاني هذه الآية وما يشبهها. أى : ما ينبغي لهم أن ينقموا شيئا إلا هذا ، وهذا لا يوجب لهم أن ينقموا شيئا إذا فليس هناك شيء ينقمونه ، وما دام الأمر كذلك ، فينبغي لهم أن يؤمنوا ولا يكفروا. وفيه أيضا تقريع لهم حيث قابلوا الإحسان بسوء الصنيع» (١).

ثم تابع ـ سبحانه ـ التهكم بهم ، وتعجب الناس من أفن رأيهم ، مع تذكيرهم بسوء مصيرهم فقال : ـ (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ)؟

والمشار إليه بقوله : (ذلِكَ) يعود إلى ما نقمه اليهود على المؤمنين من إيمانهم بالله وبالكتب السماوية وقيل يعود إلى الكثرة الفاسقة من أهل الكتاب المعبر عنها بقوله : (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ). وتوحيد اسم الإشارة لكونه يشار به إلى الواحد وغيره. أو لتأويله بالمذكور ونحوه.

والخطاب لأهل الكتاب المتقدم ذكرهم وقيل للكفار مطلقا ، وقيل للمؤمنين.

والمثوبة : مصدر ميمى بمعنى الثواب الثابت على العمل ، وأكثر استعمالها في الخير.

وقد استعملت هنا بمعنى العقوبة على طريقة التهكم بهم كما في قوله ـ تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) وهي منصوبة على أنها تمييز لقوله (بِشَرٍّ).

وقوله : (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) خبر لمبتدأ محذوف أى : هو من لعنه الله : والمراد اليهود لأن الصفات التي ذكرت في الآية لا تنطبق إلا عليهم.

والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء اليهود الذين عابوا على المؤمنين إيمانهم بالله وبما أنزله من كتب سماوية والذين قالوا لكم : ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم ، ولا دينا شرا من دينكم قل لهم على سبيل التبكيت والتنبيه على ضلالهم : هل أخبركم بشر من أهل ذلك الدين عقوبة عند الله يوم القيامة؟ هو من (لَعَنَهُ اللهُ) أى أبعده من رحمته (وَغَضِبَ عَلَيْهِ) بأن منع عنه رضاه (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) بأن مسخ بعضهم قردة وبعضهم خنازير وجعل منهم من عبد الطاغوت أى : من عبد كل معبود باطل من دون الله كالأصنام والأوثان وغير ذلك من المعبودات الباطلة التي اتبعوها بسبب طغيانهم وفساد نفوسهم.

فإن قيل : إن قوله ـ (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً) يفيد أن ما عابه اليهود على المؤمنين من إيمانهم بالله فيه شر. إلا أن ما عليه اليهود أشد شرا ، مع أن إيمان المؤمنين لا شر فيه ألبتة بل هو عين الخير فكيف ذلك؟.

__________________

(١) تفسير القاسمى ج ٦ ص ٢٥١ وما بعدها بتصرف يسير.

٢٠٨

فالجواب ، أن الكلام مسوق على سبيل المشاكلة ، والمجاراة لتفكير اليهود الفاسد ، وزعمهم الباطل ، فكأنه ـ سبحانه ـ يقول لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن هؤلاء اليهود ـ يا محمد ـ ينكرون عليكم إيمانكم بالله وبالكتب السماوية ويعتبرون ذلك شرا ـ مع أنه عين الخير ـ قل لهم على سبيل التبكيت وإلزامهم الحجة :

لئن كنتم تعيبون علينا إيماننا وتعتبرونه شرا لا خير فيه ـ في زعمكم فشر منه عاقبة ومآلا ما أنتم عليه من لعن وطرد من رحمة الله ، وما أصاب أسلافكم من مسخ بعضهم قردة ، وبعضهم خنازير ، وما عرف عنكم من عبادة لغير الله ... وشبيه بهذه الآية في مجاراة الخصم في زعمه قوله ـ تعالى ـ (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١).

وقوله : (أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) بيان لسوء عاقبتهم وقبح مكانتهم .. أى : أولئك المتصفون بما ذكر من الفسوق واللعن والطرد من رحمة الله أولئك المتصفون بذلك (شَرٌّ مَكاناً) من غيرهم وأكثر ضلالا عن طريق الحق المستقيم من سواهم ، فهم في الدنيا يشركون بالله ، وينتهكون محارمه وفي الآخرة مأواهم النار وبئس القرار.

وقوله (أُولئِكَ) مبتدأ وقوله (شَرٌّ) خبره ، وقوله (مَكاناً) تمييز محول عن الفاعل.

وأثبت ـ سبحانه ـ الشرية لمكانهم ليكون أبلغ في الدلالة على كثرة شرورهم ، إذ أن إثبات الشرية لمكان الشيء كناية عن إثباتها للشيء نفسه. فكأن شرهم قد أثر في مكانهم ، أو عظم وضخم حتى صار متجسما.

وقوله : (وَأَضَلُ) معطوف على (شَرٌّ) مقرر له. والمقصود من صيغتي التفضيل في قوله : (أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُ) الزيادة مطلقا من غير نظر إلى مشاركة غيرهم في ذلك. أو بالنسبة إلى غيرهم من الكفار الذين لم يفجروا فجورهم ، ولم يحقدوا على المؤمنين حقدهم.

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك بعض مظاهر نفاقهم وخداعهم فقال : (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ).

قال الآلوسى : نزلت كما قال قتادة والسدى ـ في ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيظهرون له الإيمان والرضا بما جاء به نفاقا.

والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه. والضمير في (جاؤُكُمْ) يعود على اليهود المعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) سورة سبأ الآية ٢٤.

٢٠٩

أى : وإذا جاء إليكم ـ أيها المؤمنون ـ أولئك اليهود أظهروا أمامكم الإسلام ، وقالوا لكم آمنا بأنكم على حق ، وحالهم وحقيقتهم أنهم قد دخلوا إليكم وهم متلبسون بالكفر ، وخرجوا من عندكم وهم متلبسون به ـ أيضا ـ فهم يدخلون عليكم ويخرجون من عندكم وقلوبهم كما هي لا تتأثر بالمواعظ التي يلقيها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنهم قد قست قلوبهم ، وفسدت نفوسهم.

وقوله : (وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ ، وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) جملتان في موضع الحال من ضمير الجمع في (قالُوا).

والباء في قوله : (بِالْكُفْرِ) وقوله : (بِهِ) للملابسة. أى : دخلوا وخرجوا وهم متلبسون بالكفر من غير نقصان منه ولا تغيير فيه ألبتة.

قال الفخر الرازي : وذكر عند الدخول كلمة (قَدْ) وذكر عند الخروج كلمة (هُمْ) لأن الفائدة من ذكر كلمة (قَدْ) تقريب الماضي من الحال. والفائدة من ذكر كلمة (هُمْ) التأكيد في إضافة الكفر إليهم ، ونفى أن يكون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك فعل ، أى : لم يسمعوا منك يا محمد عند جلوسهم معك ما يوجب كفرا ، فتكون أنت الذي ألقيتهم في الكفر ، بل هم الذين خرجوا بالكفر باختيار أنفسهم» (١).

ويبدو لنا أنه عبر عن دخولهم بقوله (وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ) وعبر عن خروجهم بقوله : (وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) بإضافة ضميرهم مع قد ، للإشارة إلى أنهم عند خروجهم كانوا أشد كفرا ، وأقسى قلوبا منهم عند دخولهم.

وهذا شأن الجاحدين المنافقين ، لا تؤثر فيهم العظات مهما كانت بليغة ، ولا النذر مهما كانت قوية ، بخلاف قلوب المؤمنين فإن المواعظ تزيدها يقينا على يقينها ، وإيمانا على إيمانها. ألا ترى إلى قوله ـ تعالى ـ :

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً ، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) (٢).

وقوله ـ تعالى ـ (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) وعيد شديد لهم على كفرهم ونفاقهم.

أى : والله ـ تعالى ـ أعلم بما كانوا يخفونه من نفاق وخداع عند دخولهم وعند خروجهم ، لأنه ـ سبحانه ـ لا تخفى عليه خافية من أحوالهم.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٢ ص ٢٨.

(٢) سورة التوبة. الآيتان ١٢٤ و ١٢٥.

٢١٠

ثم حكى ـ سبحانه ـ لونا آخر من رذائلهم فقال : (وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ).

والرؤية في قوله : (وَتَرى) بصرية.

والإثم : هو كل قول أو عمل لا يرضاه الله ـ تعالى ـ.

والعدوان : مجاوزة الحد في الظلم والتعدي. والسحت : هو المال الحرام كالرشوة وغيرها.

أى : وترى ـ أيها الرسول الكريم أو أيها السامع ـ كثيرا من هؤلاء اليهود ، يسارعون في ارتكاب الآثام وفي التعدي والظلم وأكل المال الحرام بدون تردد أو تريث. والتعبير بقوله : (وَتَرى) يفيد أن ارتكابهم لهذه المنكرات لم يكن خافيا أو مستورا ، وإنما هم يرتكبونها مجاهرة وعلانية ، لأن فضيلة الحياء قد نضبت من وجوههم.

والمسارعة في الشيء : المبادرة إليه بسرعة وخفة ونشاط ، وأكثر استعمالها في الخير كما قال ـ تعالى ـ (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) (١) (نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) (٢) وقد استعملت هنا في مسارعتهم في الإثم والعدوان وأكلهم السحت ، للإشارة إلى أنهم كانوا يقدمون على هذه المنكرات وكأنهم محقون فيها.

والتعدية بحرف (فِي) تؤذن بأنهم مغمورون في الآثام ؛ وأنهم يتنقلون فيها من حال إلى حال أخرى شر منها ، حتى لكأن السير في طريق الحق والصدق والفضيلة صار غير مألوف عندهم.

وقوله : (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) تذييل قصد به تقبيح أعمالهم التي يأباها الدين والخلق الكريم.

أى : لبئس شيئا كانوا يعملونه هذه المنكرات التي منها مسارعتهم في الإثم والعدوان وأكلهم السحت.

وهذه الجملة هي حكم من الله ـ تعالى ـ عليهم بذم أعمالهم. وقد جمع ـ سبحانه ـ في حكمه بين صيغة الماضي (كانُوا) وصيغة المضارع (يَعْمَلُونَ) للإشارة إلى أن هذا العمل القبيح كان منهم في الماضي ، وأنهم قد استمروا عليه في حاضرهم ومستقبلهم بدون توبة أو ندم.

وقد أكد ـ سبحانه ـ هذا الحكم بالقسم ، وباللام الموطئة للقسم ، وبكلمة بئس الدالة على

__________________

(١) سورة المؤمنون. الآية ٦١.

(٢) سورة المؤمنون الآية ٥٦.

٢١١

شدة الذم. أى : أقسم لبئس العمل الذي كان هؤلاء يعملونه من مسارعتهم في الإثم والعدوان وأكلهم السحت.

ثم وبخ ـ سبحانه ـ رؤساء هؤلاء اليهود على سكوتهم على المنكر فقال :

(لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ).

و (لَوْ لا) هنا للحض على الفعل في المستقبل ، وللتوبيخ على تركه في الماضي فهي لتوبيخ علماء اليهود على تركهم فضيلة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر في الماضي. ولحضهم على مباشرتها في المستقبل. وهي هنا بمعنى هلا.

والربانيون : كما يقول ابن جرير ـ جمع رباني. وهم العلماء الحكماء البصراء بسياسة الناس ، وتدبير أمورهم ، والقيام بمصالحهم.

والأحبار ـ جمع حبر ـ وهم علماء اليهود وفقهاؤهم المفسرون لما ورد في التوراة من أقوال وأحكام.

والمعنى : إن هؤلاء اليهود دأبهم المسارعة إلى اقتراف الآثام وإلى أكل المال الحرام ، فهلا ينهاهم علماؤهم عن هذه الأقوال الكاذبة الباطلة ، وعن تلك المآكل الخبيثة التي أكلوها عن طريق السحت.

والسحت ـ كما سبق أن بينا ـ هو المال الحرام كالربا والرشوة. سمى سحتا من سحته إذا استأصله لأنه مسحوت البركة أى مقطوعها. أو لأنه يذهب فضيلة الإنسان ويستأصلها. واليهود أرغب الناس في المال الحرام وأحرصهم عليه.

وقد وبخ الله ـ تعالى ـ علماء اليهود وفقهاءهم على عدم نهيهم لهم عن قولهم الإثم وأكلهم السحت ، لأن هاتين الرذيلتين هما جماع الرذائل ، إذ القول الباطل الكاذب إذا ما تعود عليه الإنسان هانت عليه الفضائل ، وقال في الناس ما ليس فيهم بدون تحرج أو حياء. وأكل السحت يقتل في نفسه المروءة والشرف ، ويجعله يستهين بحقوق الناس وأموالهم.

ولقد ألف علماء اليهود أكل أموال الناس بالباطل بدعوى أن هذا الأكل سيغفره الله لهم ، ألا ترى قول الله ـ تعالى ـ : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا) (١).

قال بعض العلماء : واقتصر ـ سبحانه ـ في توبيخ الربانيين على ترك نهيهم عن قول الإثم

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ١٦٩.

٢١٢

وأكل السحت ، ولم يذكر العدوان ـ الذي ورد في الآية السابقة إيماء إلى أن العدوان يزجرهم عنه المسلمون ولا يلتجئون في زجرهم إلى غيرهم لأن الاعتماد في النصرة على غير المجنى عليه ضعف» (١).

وقوله : (لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) تذييل قصد به ذم علماء اليهود بسبب تركهم لفضيلة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

وقوله : (يَصْنَعُونَ) من الصنع وهو العمل بدقة ومهارة وإحكام.

أى : والله لبئس الصنع صنعهم حيث تركوا نهى عامتهم عن قول الإثم وأكل السحت.

وقد تكلم المفسرون عن السر في أن الله تعالى ـ ذم اليهود بقوله : (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وذم علماءهم وفقهاءهم بقوله : (لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ).

وقد أجاد الكلام عن ذلك الإمام الرازي فقال : والمعنى ، أن الله ـ تعالى ـ استبعد من علماء أهل الكتاب أنهم ما نهوا سفلتهم وعوامهم عن المعاصي ، وذلك يدل على أن تارك النهى عن المنكر بمنزلة مرتكبه ، لأنه ـ تعالى ـ ذم الفريقين .. بل نقول : إن ذم تارك النهى عن المنكر أقوى ، لأنه ـ سبحانه ـ قال في المقدمين على الإثم والعدوان وأكل السحت (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وقال في العلماء التاركين للنهى عن المنكر (لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) والصنع أقوى من العمل ، لأن العمل إنما يسمى صناعة إذا صار راسخا متمكنا ، فجعل جرم العاملين ذنبا غير راسخ. وذنب التاركين للنهى عن المنكر ذنبا راسخا. والأمر في الحقيقة كذلك ، لأن المعصية مرض الروح ، وعلاجه العلم بالله وبصفاته وبأحكامه ، فإذا حصل هذا العلم وما زالت المعصية كان كمثل المرض الذي شرب صاحبه الدواء إلا أن المرض بقي كما هو» (٢).

وقال ابن جرير : كان العلماء يقولون : ما في القرآن آية أشد توبيخا للعلماء من هذه الآية ، ولا أخوف عليهم منها (٣).

وقال ابن كثير : روى الإمام أحمد عن جرير قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي ، هم أعز منه وأمنع ، ولم يغيروا ، إلا أصابهم الله منه بعذاب.

وروى ابن أبى حاتم عن يحيى بن يعمر قال : خطب على بن أبى طالب ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس!! إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي ولم ينههم الربانيون

__________________

(١) تفسير التحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر بن عاشور ج ٦ ص ٢٤٨

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٢ ص ٣٩

(٣) تفسير ابن جرير ج ٦ ص ٢٩٨

٢١٣

والأحبار. فلما تمادوا أخذتهم العقوبات. فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم. واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لا يقطع رزقا ، ولا يقرب أجلا (١).

وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة قد وبخت اليهود على حسدهم للمؤمنين على ما آتاهم الله من فضله ، ووصفتهم بجملة من الصفات الذميمة حتى يحذرهم المؤمنون ، ويجعلوا ولاءهم لله ولرسوله ولإخوانهم في العقيدة والدين.

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك لونا آخر من سوء معتقد اليهود ، وخبث طويتهم ، وسوء أدبهم مع الله ـ تعالى ـ فقال :

(وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)(٦٤)

قال ابن عباس : قال رجل من اليهود يقال له شاس بن قيس : يا محمد إن ربك بخيل لا ينفق. فأنزل الله هذه الآية (٢).

وقد أضاف ـ سبحانه ـ المقالة إلى اليهود جميعا ، لأنهم لم ينكروا على القائل ما قاله ورضوا به.

وقال عكرمة : إنما قال هذا فنحاص بن عازوراء وأصحابه. فقد كانت لهم أموال فلما كفروا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قل ما لهم ، فقالوا ما قالوا.

وقيل : إنهم لما رأوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في فقر وقلة مال وسمعوا (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) قالوا : إن إله محمد بخيل (٣).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٧٤

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٧٥

(٣) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٢٣٨

٢١٤

وقوله ـ تعالى ـ حكاية عنهم : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) إخبار من الله عن جراءة اليهود عليه ـ سبحانه ـ وسوء أدبهم معه ، وتوبيخ لهم على جحودهم نعمه التي لا تحصى.

وأرادوا بقولهم : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) : أنه ـ سبحانه ـ بخيل عليهم ، ممسك خيره عنهم ، مانع فضله عن أن يصل إليهم ، حابس عطاءه عن الاتساع لهم ، كالمغلولة يده الذي لا يقدر أن يبسطها بعطاء ولا بذل معروف.

وأصل الغل ـ كما يقول الراغب ـ تدرع الشيء وتوسطه ، ومنه الغلل للماء الجاري بين الشجر. والغل مختص بما يقيد به الشخص فيجعل الأعضاء وسطه ، وجمعه أغلال (١).

وليس المراد باليد هنا الجارحة المعروفة بهذا الاسم ، لأن الله ـ تعالى ـ منزه عن مشابهة الحوادث. وإنما غل اليد وبسطها مجاز مشهور عن التقتير والعطاء.

والسبب فيه أن اليد آلة لأكثر الأعمال ، لا سيما في دفع المال وإنفاقه. فأطلقوا اسم السبب على المسبب ، وأسندوا الجود والبخل إلى اليد والكف فقيل للجواد فياض اليد ، مبسوط الكف ، وقيل للبخيل : مقبوض اليد ، كز الكف.

وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف بقوله : «غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ، ومنه قوله ـ تعالى ـ (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط. ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازا عنه ، لأنهما كلامان معتقبان على حقيقة واحدة ، حتى إنه يستعمله في ملك لا يعطى عطاء قط ولا يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يد وقبضها وبسطها. ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلا لقالوا : ما أبسط يده بالنوال ، لأن بسط اليد وقبضها عبارتان معاقبتان البخل والجود. وقد استعملوهما حيث لا تصح اليد كقول القائل :

جاد الحمى بسط اليدين بوابل

شكرت نداه تلاعه ووهاده

ويقال : بسط اليأس كفيه في صدري ، فجعلت لليأس الذي هو من المعاني لا من الأعيان كفين.

وقد علق صاحب الانتصاف على قول صاحب الكشاف «غل اليد وبسطها مجاز» فقال : والنكتة في استعمال هذا المجاز تصوير الحقيقة المعنوية بصورة حسية تلزمها غالبا ، وهي بسط اليد للجود وقبضها للبخل ، ولا شيء أثبت من الصور الحسية في الذهن ، فلما كان الجود

__________________

(١) المفردات في غريب القرآن ص ٢٦٣

٢١٥

والبخل معنيين لا يدر كان بالحس. عبر عنهما بلازمهما لفائدة الإيضاح والانتقال من المعنويات إلى المحسوسات (١).

وقوله : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا) دعاء عليهم بالشح المرير والبخل الشنيع بأن يخلق ـ سبحانه ـ فيهم الشح الذي يجعلهم منبوذين من الناس ومن ثم كان اليهود أبخل خلق الله ، وحكم عليهم بالطرد من رحمة الله ـ تعالى ـ بسبب سوء أدبهم معه ـ سبحانه ـ وجحودهم لنعمه.

وهذه الجملة تعليم من الله لنا بأن ندعو على من فسدت قلوبهم ، وأساءوا الأدب مع خالقهم ورازقهم ، فقالوا في شأنه ما هو منزه عنه ـ تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.

قال الآلوسى ما ملخصه : ويجوز أن يكون المراد بغل الأيدى الحقيقة ، بأن يغلوا في الدنيا أسارى ـ وفي الآخرة معذبين في أغلال جهنم. ومناسبة هذا لما قبله حينئذ من حيث اللفظ فقط فيكون تجنيسا. وقيل من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز كما تقوله : سبني سب الله دابره أى قطعه ، لأن السب أصله القطع (٢).

وقوله : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) معطوف على مقدر يقتضيه المقام ، وتكذيب لهم فيما قالوه من باطل.

والمعنى : كلا ـ أيها اليهود ـ ليس الأمر كما زعمتم من قول باطل ، بل هو ـ سبحانه ـ الواسع الفضل ، الجزيل العطاء ، الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه.

فبسط اليد هنا كناية عن الجود والفضل والإنعام منه ـ سبحانه ـ على خلقه.

وعبر بالمثنى فقال : (بَلْ يَداهُ) للإشارة إلى كثرة الفيض والإنعام ، لأن الجواد السخي إذا أراد أن يبالغ في العطاء أعطى بكلتا يديه.

قال ابن كثير قوله : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) أى : بل هو الواسع الفضل. الذي ما يخلقه من نعمة فمنه وحده لا شريك له. كما قال : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) والآيات في هذا كثيرة.

وقد روى الإمام أحمد والشيخان عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة ـ أى لا ينقصها الإنفاق ـ سحاء ـ أى مليئة ـ الليل والنهار. أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض ، فإنه لم يغض ما في يمينه. وكان عرشه على الماء ، وفي يده الأخرى

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦٥٥

(٢) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ١٠٨

٢١٦

الفيض ـ أو القبض ـ يرفع ويخفض وقال : يقول الله ـ تعالى ـ : أنفق أنفق عليك» (١).

وقوله : (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) جملة مستأنفة واردة لتأكيد كمال جوده ، والدلالة على أنه على مقتضى حكمته ومشيئته فهو ـ سبحانه ـ يبسط الرزق لمن يشاء أن يبسطه له ويقبضه عمن يشاء أن يقبضه عنه ، وقبضه الرزق عمن يشاء من خلقه لا ينافي سعة كرمه ، لأنه يعطى ويمنع على حسب مشيئته التي أقام بها نظام خلقه.

ثم بين ـ سبحانه ـ موقفهم الجحودى مما أنزله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً).

أى : إن ما أنزلنا عليك يا محمد من قرآن كريم ، وما أطلعناك عليه من خفى أمور هؤلاء اليهود ، ومن أحوال سلفهم كل ذلك ليزيدن الكثيرين منهم كفرا على كفرهم ، وطغيانا على طغيانهم ، وذلك لأنهم قوم أكل الحقد قلوبهم ، واستولى الحسد على نفوسهم.

وإذا كان ما أنزلناه إليك يا محمد فيه الشفاء لنفوس المؤمنين ، فإنه بالنسبة لهؤلاء اليهود يزيدهم بغيا وظلما وكفرا.

قال ـ تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) (٢).

فالجملة الكريمة بيان لموقف اليهود الجحودى من الآيات التي أنزلها الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي في الوقت ذاته تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يلقاه منهم.

وقد أكد ـ سبحانه ـ هذه الجملة بالقسم المطوى ، وباللام الموطئة له ، ونون التوكيد الثقيلة لكي ينتفى الرجاء في إيمانهم ، وليعاملهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتباعه على أساس مكنون نفوسهم الخبيثة ، وقلوبهم المريضة بالحسد والخداع.

وقوله (كَثِيراً) هو المفعول الأول لقوله (وَلَيَزِيدَنَ) وفاعله ما الموصولة في قوله (ما أُنْزِلَ) وقوله (طُغْياناً) هو المفعول الثاني.

ثم زاد ـ سبحانه ـ في تسلية رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأصدر حكمه فيهم بدوام العداوة والبغضاء بين طوائفهم وفرقهم فقال : (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) فالضمير في قوله (بَيْنَهُمُ) يعود إلى فرق اليهود المختلفة من فريسيين وصدوقيين وقرائين ، وكتبة وغير ذلك من فرقهم المتعددة.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٧٥

(٢) سورة الإسراء الآية ٨٢

٢١٧

وقيل : الضمير يعود إلى طائفتى اليهود والنصارى.

والأول أرجح لأن الحديث في هذه الآية عن اليهود الذين وصفوا الله ـ تعالى ـ بما هو منزه عنه.

والعداوة والبغضاء يرى بعضهم أنهما اسمان لمعنى واحد.

ويرى آخرون أن معناهما مختلف. فالعداوة معناها المناوأة الظاهرة ، والبغضاء هي الكراهية التي تكون في القلب. فهما معنيان متغايران وإن كانا متلازمين أحيانا. فلا عداوة من غير بغضاء ، ولكن قد يفترقان فتوجد البغضاء من غير إعلان للعداوة.

قال أبو حيان : والعداوة أخص من البغضاء لأن كل عدو مبغض وقد يبغض من ليس التي تكون في القلب. فهما معنيان متغايران وإن كانا متلازمين أحيانا. فلا عداوة من غير بغضاء ، ولكن قد يفترقان فتوجد البغضاء من غير إعلان للعداوة.

قال أبو حيان : والعداوة أخص من البغضاء لأن كل عدو مبغض وقد يبغض من ليس بعدو. وقال ابن عطية. وكأن العداوة شيء يشهد ، يكون عنه عمل وحرب ، والبغضاء لا تتجاوز النفوس (١).

والمعنى : وألقينا بين طوائف اليهود المتعددة العداوة الدائمة ، والبغضاء المستمرة ، فأنت تراهم كلمتهم مختلفة ، وقلوبهم شتى وكل فرقة منهم تلصق النقائص بالأخرى ، وهم على هذه الحال إلى يوم القيامة.

وما أظهره اليهود في هذا العصر من تعاون وتساند جعلهم ينشئون دولة لهم بفلسطين ، هو أمر مؤقت ، فإن هذه الدولة لن تستمر طويلا ، بل ستعود إلى أهلها المسلمين متى صدقوا في جهادهم واتبعوا تعاليم دينهم.

قال الفخر الرازي : واعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها ، هو أنه ـ تعالى ـ بين أن هؤلاء اليهود إنما ينكرون نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ظهور الدلائل على صحتها ، لأجل الحسد. ولأجل حب الجاه والمال. ثم إنه ـ تعالى ـ بين أنهم لما رجحوا الدنيا على الآخرة ، لا جرم أنه ـ تعالى ـ كما حرمهم سعادة الدين ، فكذلك حرمهم سعادة الدنيا ، لأن كل فريق منهم بقي مصرا على مذهبه ومقالته .. فصار ذلك سببا لوقوع الخصومة الشديدة بين فرقهم وطوائفهم. وانتهى الأمر فيه إلى أن بعضهم يكفر بعضا. ويحارب بعضهم بعضا.

فإن قلت : فهذا المعنى حاصل أيضا بين فرق المسلمين فكيف يمكن جعله عيبا على الكتابيين حتى يذموا عليه؟

قلنا : بدعة التفرق التي حصلت في المسلمين إنما حدثت بعد عصر النبوة وعصر الصحابة والتابعين. أما في الصدر الأول فلم يكن شيء من ذلك حاصلا بينهم فحسن جعل ذلك عيبا

__________________

(١) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج ٣ ص ٥٢٤

٢١٨

على الكتابيين في ذلك العصر الذي نزل فيه القرآن» (١).

وقوله : (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) أى : كلما أرادوا حرب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين وهيئوا الأسباب لذلك وحاولوا تفريق كلمتهم وإثارة العداوة بينهم. كلما فعلوا ذلك أفسد الله عليهم خطتهم ، وأحبط مكرهم ، وألقى الرعب في قلوبهم.

والتعبير بهذه الجملة الكريمة جاء على وفق ما جرى عليه العرب من أنهم كانوا إذا أرادوا حربا بالإغارة على غيرهم أوقدوا نارا يسمونها نار الحرب.

والتعبير هنا لذلك على سبيل المجاز إذ عبر ـ سبحانه ـ عن إثارة الحروب بإيقاد نارها. باعتبار أن الحروب في ذاتها وبما تشتمل عليه من مذابح بشرية تشبه النار المستعرة في أخطارها ومصائبها.

وقوله : (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) تذييل مقرر لما قبله من الصفات الذميمة التي دمغ الله ـ تعالى ـ بها اليهود.

أى : أن حال هؤلاء اليهود أنهم يجتهدون في الكيد للإسلام وأهله وأنهم يسعون سعيا حثيثا للإفساد في الأرض عن طريق إثارة الفتن ، وإيقاظ الأحقاد بين الناس. والله ـ تعالى ـ لا يحب المفسدين بل يبغضهم ويمقتهم ، لإيثارهم الضلالة على الهدى ، والشر على الخير.

وبهذا نرى الآية الكريمة قد ردت على اليهود في نسبتهم البخل إلى الله ـ تعالى ـ وبينت أنه ـ سبحانه ـ هو الواسع الفضل ، الجزيل العطاء وكشفت عن جوانب من رذائلهم وعنادهم وأوضحت أنه ـ سبحانه ـ يبغضهم لأنهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون.

ولقد بسطنا القول في مظاهر فسادهم في الأرض في غير هذا الموطن فارجع إليه إن شئت (٢).

وبعد أن حكى ـ سبحانه ـ ما حكى من رذائل أهل الكتاب وخصوصا اليهود عقب ذلك بفتح باب الخير لهم متى آمنوا واتقوا فقال ـ تعالى :

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٢ ص ٤٥

(٢) راجع كتابنا «بنو إسرائيل في القرآن والسنة» ج ٢ من ص ٢٨٨ إلى ص ٣٢٠

٢١٩

فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ)(٦٦)

والمعنى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ) من اليهود والنصارى (آمَنُوا) برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما جاء به من حق ونور (وَاتَّقَوْا) الله ـ تعالى ـ بأن صانوا أنفسهم عن كل ما لا يرضاه. لو أنهم فعلوا ذلك (لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) بأن رفعنا عنهم العقاب وسترنا عليهم معاصيهم فلم نحاسبهم عليها ، (وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) في الآخرة.

قال الفخر الرازي : واعلم أنه ـ سبحانه ـ لما بالغ في ذمهم وفي تهجين طريقتهم عقب ذلك ببيان أنهم لو آمنوا واتقوا لوجدوا سعادات الآخرة والدنيا. أما سعادات الآخرة فهي محصورة في نوعين :

أحدهما : رفع العقاب.

والثاني : إيصال الثواب.

أما رفع العقاب فهو المراد بقوله : (لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ). وأما إيصال التواب فهو المراد بقوله : (وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ).

وأما سعادات الدنيا فقد ذكرها في قوله بعد ذلك : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ) (١).

وكرر ـ سبحانه ـ اللام في قوله : (لَكَفَّرْنا). (وَلَأَدْخَلْناهُمْ) لتأكيد الوعد. وفيه تنبيه إلى كثرة ذنوبهم ومعاصيهم وإلى أن الإسلام يجب ما قبله من ذنوب مهما كثرت.

وفي إضافة الجنات إلى النعيم إشارة إلى ما يستحقونه من العذاب لو لم يؤمنوا ويتقوا.

وجمع ـ سبحانه ـ بين الإيمان والتقوى ، للإيذان بأن الإيمان الذي ينجى صاحبه ، ويرفع درجاته ، هو ما كان نابعا عن يقين وإخلاص وخشية من الله ، لا إيمان المنافقين الذين يدعون الإيمان وهو منهم برىء والضمير في قوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) يعود إلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين فتح الله لهم باب الإيمان ليدخلوا فيه كي ينالوا رضاه.

والمراد بإقامة التوراة والإنجيل : العمل بما فيهما من بشارات بصدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحضهم على

__________________

(١) راجع تفسير الفخر الرازي ج ١٢ ص ٤٦ ـ بتصريف وتلخيص ـ

٢٢٠