التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٤

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٤

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0531-4
الصفحات: ٣٦٠

والفاء في قوله : (فَاحْكُمْ) للإفصاح عن شرط مقدر.

أى : إذا كان شأن القرآن كما ذكرت لك يا محمد فاحكم بين هؤلاء اليهود وبين غيرهم من الناس بما أنزله الله من أحكام ، فإن ما أنزله هو الحق الذي لا باطل معه ، ولا تتبع في حكمك أهواء هؤلاء اليهود وأشباههم لأن اتباعك لأهوائهم يجعلك منحرفا ومائلا عما جاءك من الحق الذي لا مرية فيه ولا ريب. ولم يقل ـ سبحانه ـ «فاحكم بينهم به» بل ترك الضمير وعبر بالموصول فقال : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) للتنبيه على علية ما في حيز الصلة للحكم ، لأن الموصول إذا كان في ضمن حكم تكون الصلة هي علة الحكم.

أى : التزم في حكمك بينهم بما يؤيده القرآن لأنه الكتاب الذي أنزله الله عليك.

قال بعض العلماء : «وهذا يفيد أن اليهود الذين عاشروا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن جاءوا بعدهم مخاطبون بشريعة القرآن ، وأنه نسخ ما قبله من الشرائع إلا ما جاء النص بوجوب العمل به كالقصاص ، أو ما لم يثبت أنه نسخ والمعول عليه في الحالين هو القرآن وما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولقد روى أنه ـ عليه‌السلام ـ ذكر أن موسى لو كان حيا ما وسعه إلا الإيمان به ـ عليه‌السلام» (١).

والضمير في قوله ، (أَهْواءَهُمْ) يعود إلى أولئك اليهود الذين كانوا يتحاكمون إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا بقصد الوصول إلى الحق ، وإنما بقصد الوصول إلى ما يسهل عليهم احتماله من أحكام.

قال الآلوسى : والنهى يجوز أن يكون لمن لا يتصور منه وقوع المنهي عنه ، ولا يقال : كيف نهى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن اتباع أهوائهم ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم معصوم عن ارتكاب ما دون ذلك. وقيل الخطاب له صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد سائر الحكام» (٢).

وقوله : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) استئناف جيء به لحمل أهل الكتاب على الانقياد لحكمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما أنزل الله إليه من الحق.

والشرعة والشريعة بمعنى واحد. وهي في الأصل الطريق الظاهر الموصل للماء. والمراد بها هنا ما اشتمل عليه الدين من أحكام تكليفية يجب العمل بها أمرا ونهيا وندبا وإباحة. وسمى ما اشتمل عليه الدين من أحكام شريعة تشبيها بشريعة الماء. من حيث إن كلا منهما سبب الحياة. إذ أن الشريعة الدينية سبب في حياة الأرواح حياة معنوية. كما أن الماء سبب في حياة الأرواح حياة مادية.

__________________

(١) تفسير الآية الكريمة لفضيلة الشيخ الأستاذ محمد أبو زهرة. مجلة لواء الإسلام العدد الرابع السنة ٢١

(٢) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ١٥٢

١٨١

والمنهاج : الطريق الواضح في الدين ، من نهج الأمر ينهج إذا وضح. والعطف باعتبار جمع الأوصاف.

قال بعضهم. هما كلمتان بمعنى واحد والتكرير للتأكيد.

وقيل : ليستا بمعنى واحد. فالشرعة ابتداء الطريق. والمنهاج الطريق المستقيم.

وقوله : (مِنْكُمْ) متعلق بمحذوف وقع صفة لما عوض عنه تنوين «كل».

أى : لكل أمة من الأمم الحاضرة والماضية وضعنا شرعة ومنهاجا خاصين بها ، فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى ـ عليهما‌السلام ـ ، كانت شرعتها ما في التوراة من أحكام. والأمة التي كانت من مبعث عيسى إلى مبعث محمد ـ عليهما الصلاة والسلام كانت شرعتها ما في الإنجيل. وأما هذه الأمة الإسلامية فشريعتها ما في القرآن من أحكام ، لأنه مشتمل على ما جاء في الكتب السابقة عليه من أصول الدين وكلياته التي لا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة وزاد عليها ما يناسب العصر الذي نزل فيه ، والعصور التي تلت ذلك إلى يوم القيامة.

وأهل الكتاب إنما أمروا بأن يتحاكموا إلى كتبهم قبل نسخها بالقرآن الكريم ، أما بعد نزوله ومجيء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتما للرسالات السماوية ، فقد أصبح من الواجب عليهم الدخول في الإسلام ، واتباع رسوله محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل ما أمر به أو نهى عنه ، وليس لأحد بعد بعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيمان مقبول إلا باتباعه وتصديقه في جميع أقواله وأعماله.

والاختلاف في الشرائع إنما يكون فيما يتعلق ببعض الأوامر والنواهي ، وببعض وجوه الحلال والحرام ، وبغير ذلك من فروع الشريعة ، فقد يحرم الله شيئا على قوم عقوبة لهم ، ويحله لقوم آخرين تخفيفا عنهم ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (١).

وكما قال ـ تعالى ـ حكاية عن عيسى ـ عليه‌السلام ـ : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) (٢).

أما ما يتعلق بأصول الشريعة ، وجوهر الدين ، وأساس العقيدة كالأمر بعبادة الله وحده ،

__________________

(١) سورة الأنعام. ص ١٤٦

(٢) سورة آل عمران الآية ٥٠

١٨٢

والتحلي بمكارم الأخلاق ، فلا يتعلق به اختلاف في أى شريعة من الشرائع ، أو أى دين من الأديان.

وقد تكلم عن هذا المعنى الإمام ابن كثير فقال : قوله : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام المتفقة في التوحيد. كما ثبت في صحيح البخاري عن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات ـ أمهاتهم شتى ـ ودينهم واحد» يعنى بذلك التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله ، وضمنه كل كتاب أنزله ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (١). وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حراما ثم يحل في الشريعة الأخرى. كما قال ـ تعالى ـ في شأن شريعة عيسى : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) وبالعكس ، قد يكون الشيء حلالا في هذه الشريعة ثم يحرم في شريعة أخرى ، فيزداد في الشدة في هذه دون هذه ، وذلك لما له ـ تعالى ـ في ذلك من الحكمة البالغة ، والحجة الدامغة» (٢).

وقال الآلوسى ما ملخصه : وقوله : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) الخطاب فيه ـ كما قال جماعة من المفسرين ـ للناس كافة الموجودين والماضين بطريق التغليب. واستدل بالآية من ذهب إلى أننا غير متعبدين بشرائع من قبلنا ، لأن الخطاب يعم الأمم ، واللام للاختصاص فيكون لكل أمة دين يخصها.

والتحقيق في هذا المقام أننا متعبدون بأحكام الشرائع السابقة من حيث إنها أحكام شريعتنا لا من حيث إنها شريعة للأولين» (٣).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض مظاهر قدرته ، وبالغ حكمته فقال : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ).

ومفعول المشيئة هنا محذوف لدلالة الجزاء عليه.

وقوله : (وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ) متعلق بمحذوف يستدعيه المقام.

والابتلاء : الاختبار والامتحان ليميز المطيع من العاصي.

والمعنى : لو شاء الله ـ تعالى ـ أن يجعل الأمم جميعا أمة واحدة تدين بدين واحد وبشريعة

__________________

(١) سورة الأنبياء آية ٢٥.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٦٧

(٣) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ١٥٤.

١٨٣

واحدة لفعل ، لأنه ـ سبحانه ـ لا يعجزه شيء ولكنه ـ سبحانه ـ لم يشأ ذلك ، وإنما شاء أن يجعلكم أمما متعددة ليختبركم فيما آتاكم من شرائع مختلفة في بعض فروعها ولكنها متحدة في جوهرها وأصولها فيجازى من أطاعه بما يستحقه من ثواب ؛ ويجازى من خالف أمره بما يستحقه من عذاب.

وقوله : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) حض منه ـ سبحانه ـ لعباده على الاجتهاد في فعل الطاعات.

أى إذا كان الأمر كما وصفت لكم. فسارعوا إلى القيام بالأعمال الصالحة التي تسعدكم في الدنيا والآخرة ، وتنافسوا في تحصيلها بكل عزيمة ونشاط لتنالوا رضا الله ـ تعالى ـ وجزيل مثوبته.

(فَاسْتَبِقُوا) بمعنى فتسابقوا ، ولتضمنه معنى السبق والابتدار تعدى بنفسه من غير إلى كما في قوله ـ تعالى ـ (وَاسْتَبَقَا الْبابَ) أى : حاول كل واحد منهما الابتدار والوصول إلى الباب قبل الآخر.

وقوله (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) استئناف مسوق مساق التعليل لاستباق الخيرات.

وقوله (فَيُنَبِّئُكُمْ) أى فيخبركم والمراد بالإنباء والإخبار هنا المجازاة على الأعمال ، وإنما عبر عنها بالإنباء لوقوعها موقع إزالة الاختلاف التي هي وظيفة الأنبياء.

أى : إلى الله وحده مصيركم ومرجعكم ، فيخبركم عند الحساب بما كنتم تختلفون فيه في الدنيا ، ويجازيكم بما تستحقون : فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم منه ـ سبحانه ـ جزيل الثواب. وأما الذين طغوا وآثروا الحياة الدنيا فلهم منه شديد العقاب.

ثم كرر ـ سبحانه ـ الأمر لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يحكم بين اليهود وغيرهم بما أنزله الله ـ تعالى ـ وحذره من مكرهم وكيدهم فقال : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ).

أخرج ابن جرير عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال : قال كعب بن أسد وابن صوريا وشاس بن قيس بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه : فأتوه فقالوا : يا محمد ، إنك قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم وساداتهم وإنا إن اتبعناك اتبعك يهود ولم يخالفونا. وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك فتقضى لنا عليهم ، ونؤمن لك ونصدق فأبى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك. فأنزل الله فيهم : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ)

١٨٤

إلى قوله : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (١).

وقوله : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) في محل نصب عطفا على الكتاب في قوله : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ).

وقوله : (أَنْ يَفْتِنُوكَ) بدل اشتمال من المفعول في (وَاحْذَرْهُمْ) كأنه قيل : واحذر فتنتهم كما تقول : أعجبنى زيد علمه.

والمراد بالفتنة هنا محاولة إضلاله وصرفه عن الحكم بما أنزل الله.

والمعنى : وأنزلنا إليك الكتاب يا محمد فيه حكم الله ، وأنزلنا إليك فيه أن أحكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواء هؤلاء اليهود الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، واحذرهم أن يضلوك أو يصدوك عن بعض ما أنزلناه إليك ولو كان أقل قليل ؛ بأن يصوروا لك الباطل في صورة الحق ، أو بأن يحاولوا حملك على الحكم الذي يناسب شهواتهم :

وقد كرر ـ سبحانه ـ على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجوب التزامه في أحكامه بما أنزل الله ، لتأكيد هذا الأمر في مقام يستدعى التأكيد ، لأن اليهود كانوا لا يكفون عن محاولتهم فتنته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإغراءه بالميل إلى الأحكام التي تتفق مع أهوائهم ، ولأنه قد جاء في الآية السابقة ما قد يوهم بأن لكل قوم شريعة خاصة بهم (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) وأن حكم القرآن ليس له صفة العموم فأراد ـ سبحانه ـ أن ينفى هذا الوهم نفيا واضحا وأن يؤكد أن شريعة القرآن هي الشريعة العامة الخالدة التي يجب أن يتحاكم إليها الناس في كل زمان ومكان ، لأنها نسخت ما سبقها من شرائع.

وقوله ـ تعالى ـ (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) تيئيس لأولئك اليهود الذين حاولوا إغراء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقضى لهم بما يرضيهم لكي يتبعوه ، ونهى له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأتباعه عن الاستجابة لأهواء هؤلاء ولو في أقل القليل مما يتنافى مع الحق الذي أمره الله ـ تعالى ـ بالسير عليه في القضاء بين الناس.

ثم بين ـ سبحانه ـ سوء عاقبة كل من يعرض عن حكم الله ـ تعالى ـ فقال : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ).

أى : فإن تولوا عن حكمك ، وأعرضوا عنك بعد تحاكمهم إليك وأرادوا الحكم بغير ما أنزل الله. فاعلم أن حكمة الله قد اقتضت أن يعاقبهم بسبب بعض هذه الذنوب التي اقترفوها بتوليهم عن حكم الله ، وإعراضهم عنك ، وانصرافهم عن الهدى والرشاد إلى الغي والضلال ، لأن الأمة التي لا تخضع لأحكام شرع الله ، وتسير وراء لذائذها ومتعها وشهواتها وأهوائها

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٦ ص ٢٧٣.

١٨٥

الباطلة ، لا بد أن يصيبها العقاب الشديد بسبب ذلك.

وعبر ـ سبحانه ـ عما يصيبهم من عقاب بأنه بسبب ارتكابهم لبعض الذنوب ، للإشارة بأن لهم ذنوبا كثيرة بعضها كاف لإنزال العقوبة الشديدة بهم.

وقوله : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) اعتراض تذييلى مقرر لمضمون ما قبله ، ومتضمن تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما لقيه من مخالفيه ولا سيما اليهود.

أى : وإن كثيرا من الناس لخارجون عن طاعتنا ، ومتمردون على أحكامنا ، ومتبعون لخطوات الشيطان الذي استحوذ عليهم ، وإذا كان الأمر كذلك فلا تبتئس يا محمد عما لقيته من أصحاب النفوس المريضة ، بل اصبر حتى يحكم الله بينك وبينهم.

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه الآية الكريمة بتوبيخ أولئك الذين يرغبون عن حكم الله إلى حكم غيره فقال : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ).

فالهمزة هنا للاستفهام الإنكارى التوبيخي. والفاء للعطف على مقدر يستدعيه المقام.

والمعنى : أينصرفون عن حكمك بما أنزل الله ويعرضون عنه فيبغون حكم الجاهلية مع أن ما أنزله الله إليك من قرآن فيه الأحكام العادلة التي ترضى كل ذي عقل سليم ، ومنطق قويم.

وقدم ـ سبحانه ـ المفعول «أفحكم» لإفادة التخصيص المفيد لتأكيد الإنكار والتعجيب من أحوال أولئك اليهود الذين يريدون حكم الجاهلية.

إذ أن التولي عن حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى حكم آخر منكر عجيب. وطلب حكم الجاهلية أقبح وأعجب.

والمراد بالجاهلية : الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى ، والمداهنة في الأحكام ، فيكون ذلك توبيخا لليهود بأنهم مع كونهم أهل كتاب ؛ يبغون حكم الملة الجاهلية. وعدم الأخذ بشريعة المساواة. فيكون ذلك ـ أيضا ـ تعييرا لهم لاقتدائهم بأهل الجاهلية.

قال الآلوسى : فقد روى أن بنى النضير لما تحاكموا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خصومة قتيل وقعت بينهم وبين بنى قريظة ، طلب بعضهم من رسول الله أن يحكم بينهم بما كان عليه أهل الجاهلية من التفاضل ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القتلى سواء» ـ أى : متساوون ـ فقال بنو النضير : نحن لا نرضى بحكمك ، فنزلت هذه الآية» (١).

وقوله ـ تعالى ـ (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) إنكار منه ـ سبحانه ـ لأن يكون هناك حكم أحسن من حكمه أو مساو له.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ١٥٦.

١٨٦

أى : لا أحد أحسن حكما من حكم الله ـ تعالى ـ عند قوم يوقنون بصحة دينه ، ويذعنون لتكاليف شريعته ، ويقرون بوحدانيته ، ويتبعون أنبياءه ورسله.

فاللام في قوله : (لِقَوْمٍ) بمعنى عند ، وهي متعلقة بأحسن ، ومفعول (يُوقِنُونَ) محذوف أى لقوم يوقنون بحكمه وأنه أعدل الأحكام. والجملة حالية متضمنة لمعنى الإنكار السابق.

وخص ـ سبحانه ـ الموقنين بالذكر ، لأنهم هم الذين يحسنون التدبر فيما شرعه الله من أحكام ، وينتفعون بما اشتملت عليه من عدل ومساواة.

هذا ، وقد شدد الإمام ابن كثير النكير على الذي يرغبون عن حكم الله إلى أحكام من عند البشر ، ووصف من يفعل ذلك بالكفر ، وأفتى بوجوب مقاتلته حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فقال ـ رحمه‌الله ـ :

«ينكر ـ تعالى ـ على من خرج عن حكم الله ـ المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر ـ وعدل عنه إلى ما سواه من الآراء والأهواء والإصلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله ، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات.

مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم ، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم «جنكزخان» الذي وضع لهم «الباسق» وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى. فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله ، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير.

قال ـ تعالى ـ (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أى : ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه وآمن به وأيقن. وعلم أنه ـ سبحانه ـ أحكم الحاكمين ، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها؟ فإنه ـ تعالى ـ هو العالم بكل شيء ، والقادر على كل شيء ، والعادل في كل شيء.

روى الطبراني عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبغض الناس إلى الله ـ تعالى ـ من يبتغى في الإسلام سنة الجاهلين ومن طلب دم امرئ بغير حق ليريق دمه (١).

وإلى هنا نرى الآيات الكريمة قد كشفت «باستفاضة» عن المسالك الخبيثة التي سلكها اليهود وأشباههم لكيد الإسلام والمسلمين.

فأنت تراها في مطلعها قد نادت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا النداء وأمرته بعدم المبالاة بما يصدر عن

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٦٧ ـ بتصرف وتلخيص ـ

١٨٧

أولئك الذين يسارعون في الكفر من مكر وخداع ووصفهم بجملة من الصفات القبيحة التي تجعل كل عاقل ينفر من الاقتراب منهم ، وخيرت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الحكم بينهم أو الإعراض عنهم إذا ما تحاكموا إليه.

ووبخت اليهود على إعراضهم عن الأحكام العادلة التي أنزلها الله ـ تعالى ـ ووصفت المعرضين عن حكمه سبحانه بالكفر تارة وبالظلم تارة وبالفسق تارة أخرى.

وبعد أن مدحت التوراة والإنجيل ، وبينت بعض ما اشتملا عليه من هدايات ... عقبت ذلك ببيان منزلة القرآن الكريم وأنه الكتاب الجامع في هدايته وفضله وتشريعاته لكل ما جاء في الكتب السابقة.

ثم ختمت بتكرير الأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يلتزم في أحكامه بما أنزله الله ، وبتحذيره وتحذير أتباعه من خداع أعدائهم ومكرهم ، وتتوعد كل من يرغب عن حكم الله إلى حكم غيره ، بسوء العاقبة ، وشديد العذاب.

وبعد هذا الحديث المستفيض عن الكتب السماوية : وعن وجوب الحكم بما أنزل الله ، وعن المسالك الخبيثة التي استعملها اليهود ومن على شاكلتهم لكيد الدعوة الإسلامية بعد كل ذلك وجه ـ سبحانه ـ نداء إلى المؤمنين حذرهم فيه من موالاة أعدائهم فقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ)(٥٣)

١٨٨

ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات الكريمة روايات منها :

ما رواه السدى من أنها نزلت في رجلين قال أحدهما لصاحبه بعد واقعة أحد : أما أنا فإنى ذاهب إلى ذلك اليهودي فأواليه وأتهود معه لعله ينفعني إذا وقع أمر أو حدث حادث. وقال الآخر : وأما أنا فإنى ذاهب إلى فلان النصراني بالشام فأواليه وأتنصر معه. فأنزل الله تعالى الآيات.

وقال عكرمة : نزلت في أبى لبابة بن عبد المنذر ، حين بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إلى بنى قريظة فسألوه : ماذا هو صانع بنا؟ فأشار بيده إلى حلقه ، أى : إنه الذبح.

وقيل نزلت في عبد الله بن أبى بن سلول فقد أخرج ابن جرير عن عطية بن سعد قال : جاء عبادة بن الصامت من بنى الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم. وإنى أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود وأتولى الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبى : إنى رجل أخاف الدوائر ، لا أبرأ من ولاية موالي. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعبد الله بن أبى : يا أبا الحباب ، ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو إليك دونه قال : قد قبلت. فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ ...) إلى قوله : (نادِمِينَ) (١).

والخطاب في قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) للمؤمنين جميعا في كل زمان ومكان ، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

الأولياء جمع ولى ويطلق بمعنى النصير والصديق والحبيب.

والمراد بالولاية هنا : مصافاة أعداء الإسلام والاستنصار بهم ، والتحالف معهم دون المسلمين.

أى : يا أيها الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. ، لا يتخذ أحد منكم أحدا من اليهود والنصارى وليا ونصيرا ، أى : لا تصافوهم مصافاة الأحباب ، ولا تستنصروا بهم ، فإنهم جميعا يد واحدة عليكم ، يبغونكم الغوائل ، ويتربصون بكم الدوائر ، فكيف يتوهم بينكم وبينهم موالاة؟.

وقد نادى ـ سبحانه ـ المؤمنين بصفة الإيمان ، لحملهم من أول الأمر على الانزجار عما نهوا عنه ، إذ أن وصفهم بما هو ضد صفات الفريقين ـ اليهود والنصارى ـ من أقوى الزواجر عن موالاتهما :

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٦ ص ٢٥٧ وتفسير ابن كثير ج ٢ ص ٦٨.

١٨٩

وقوله : (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) جملة مستأنفة بمثابة التعليل للنهى ، والتأكيد لوجوب اجتناب المنهي عنه.

أى لا تتخذوا أيها المؤمنون اليهود والنصارى أولياء ، لأن بعض اليهود أولياء لبعض منهم ، وبعض النصارى أولياء لبعض منهم ، والكل يضمرون لكم البغضاء والشر ، وهم وإن اختلفوا فيما بينهم ، لكنهم متفقون على كراهية الإسلام والمسلمين.

وقوله (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) تنفير من موالاة اليهود والنصارى بعد النهى عن ذلك.

والولاية لليهود والنصارى إن كانت على سبيل الرضا بدينهم ، والطعن في دين الإسلام ، كانت كفرا وخروجا عن دين الإسلام.

وإلى هذا المعنى أشار ابن جرير بقوله : قوله : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) أى : ومن يتول اليهود والنصارى دون المؤمنين فإنه منهم ، فإنه لا يتولى متول أحدا إلا وهو به وبدينه راض. وإذا رضى دينه ، فقد عادى من خالفه وسخطه. وصار حكمه حكمه».

وإذا كانت الولاية لهم ليست على سبيل الرضا بدينهم وإنما هي على سبيل المصافاة والمصادقة كانت معصية تختلف درجتها بحسب قوة الموالاة وبحسب اختلاف أحوال المسلمين وتأثرهم بهذه الموالاة.

قال الفخر الرازي : قوله : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) قال ابن عباس : يريد كأنه مثلهم. وهذا تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين.

روى عن أبى موسى الأشعرى أنه قال : قلت لعمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ إن لي كاتبا نصرانيا فقال : مالك؟ قاتلك الله ، ألا اتخذت حنيفيا أما سمعت قول الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) قلت : له دينه ولى كتابته. فقال : لا أكرمهم إذ أهانهم الله ، ولا أعزهم إذ أذلهم الله. ولا أدنيهم إذ أبعدهم الله قلت لا يتم أمر البصرة إلا به. فقال : مات النصراني والسلام.

يعنى : هب أنه مات فما تصنع بعد ، فما تعمله بعد موته فاعمله الآن واستغن عنه بغيره» (١).

وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) تعليل لكون من يواليهم منهم وتأكيد للنهى عن موالاتهم.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٢ ص ١٦.

١٩٠

أى : إن الله لا يهدى القوم الظالمين لأنفسهم إلى الطريق المستقيم ، وإنما يخليهم وشأنهم فيقعون في الكفر والضلال ، والفسوق والعصيان ، بسبب وضعهم الولاية في غير موضعها الحق ، وسيرهم في طريق أعداء الله.

وبعد هذا النهى الشديد عن موالاة أعداء الله ، صور القرآن حالة من حالات المنافقين بين فيها كيفية توليهم لأعداء الله ، وأشعر بسببه فقال : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ).

والدائرة : من الصفات الغالبة التي لا يذكر معها موصوفها. وأصلها داورة. لأنها من دار يدور. ومعناها لغة : ما أحاط بالشيء. والمراد بها هنا : المصيبة من مصائب الدهر التي تحيط بالناس كما تحيط الدائرة بما في داخلها.

والمعنى : فترى ـ يا محمد أولئك المنافقين الذين ضعف إيمانهم ، وذهب يقينهم ، يسارعون في مناصرة أعداء الإسلام مسارعة الداخل في الشيء ، قائلين في أنفسهم أو للناصحين لهم بالثبات على الحق : اتركونا وشأننا فإننا نخشى أن تنزل بنا مصيبة من المصائب التي يدور بها الزمان كأن تمسنا أزمة مالية ، أو ضائقة اقتصادية ، أو أن يكون النصر في النهاية لهؤلاء الذين نواليهم فنحن نصادقهم ونصافيهم لنتقى شرهم ، ولننال عونهم عند الملمات والضوائق.

قال الجمل : والفاء في قوله (فَتَرَى) إما للسببية المحضة : أى : بسبب أن الله لا يهدى القوم الظالمين المتصفين بما ذكر (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ) وإما للعطف على قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) من حيث المعنى.

والرؤية في قوله (فَتَرَى). بصرية ، فتكون جملة يسارعون حال. وقيل علمية فتكون جملة يسارعون مفعولا ثانيا. والأول أنسب بظهور نفاقهم.

وقوله : (يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) حال من ضمير يسارعون (١).

والتعبير بقوله : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) تعبير قوى رائع ، وصف القرآن به المنافقين وأشباههم في الكفر والضلال في مواطن كثيرة ، لأنه لما كانت قوة القلب تضرب مثلا للثبات والتماسك. كان ضعف القلب الذي عبر عنه بالمرض يضرب مثلا للخور ، والتردد والتزلزل ، وانهيار النفس.

وهذه طبيعة المنافقين ومن على شاكلتهم في كل زمان ومكان. إنهم لا يمكن أن يكونوا صرحاء في انحيازهم إلى ناحية معينة. وإنما هم يترددون بين الناحيتين ، ويلتمسون الحظوة في

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٥٠٠.

١٩١

الجانبين ـ فهم كما يقال : يصلون خلف على ويأكلون على مائدة معاوية ـ وأبلغ من كل ذلك وصف الله لهم بقوله : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ).

والتعبير بقوله ـ سبحانه ـ ترى .. تصوير للحال الواقعة منهم بأنها كالمرئية المكشوفة التي لا تخفى على العقلاء البصراء.

وفي ذلك تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتحذير له ولأصحابه من مكر أولئك الذين في قلوبهم مرض.

والتعبير بقوله : (يُسارِعُونَ فِيهِمْ) يشير إلى أنهم لا يدخلون ابتداء في صفوف الأعداء «وإنما هم منغمرون فيهم دائما» ولا يخرجون عن دائرتهم بل ينتقلون في صفوفهم بسرعة ونشاط من دركة إلى دركة ، ومن إثم إلى آثام.

وقوله ـ تعالى ـ حكاية عنهم : (يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) بيان لما اعتذروا به من معاذير كاذبة تدل على سقوط همتهم ، وقلة ثقتهم بما وعد الله به المؤمنين من حسن العاقبة.

ولذا فقد رد الله عليهم بما يكبتهم ، وبما يزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم فقال تعالى : (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ).

وعسى : لفظ يدل على الرجاء والطمع في الحصول على المأمول ، وإذا صدر من الله ـ تعالى ـ كان متحقق الوقوع لأنه صادر من أكرم الأكرمين الذي لا يخلف وعده ، ولا يخيب من رجاه.

والفتح يطلق بمعنى التوسعة بعد الضيق كما في قوله : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ). ويطلق بمعنى الفصل بين الحق والباطل. ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) ويطلق بمعنى الظفر والنصر كما في قوله ـ تعالى ـ (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً).

ولفظ الفتح هنا يشمل هذه الأمور الثلاثة فهو سعة بعد ضيق ، وفصل بين حق وباطل ، ونصر بعد جهاد طويل.

والمعنى : لا تهتموا أيها المؤمنون بمسارعة هؤلاء الذين في قلوبهم مرض إلى صفوف أعدائكم وارتمائهم في أحضانهم خشية أن تصيبهم دائرة ، فلعل الله ـ عزوجل ـ بفضله وصدق وعده أن يأتى بالخير العميم والنصر المؤزر الذي يظهر دينه. ويجعل كلمته هي العليا .. أو يأتى بأمر من عنده لا أثر لكم فيه فيزلزل قلوب أعدائكم ، وينصركم عليهم ، ويجعل الهزيمة والندم للموالين لأعدائكم ، وبسبب شكهم في أن تكون العاقبة للإسلام والمسلمين.

ولقد صدق الله وعده ، ففضح المنافقين وأذلهم ، وأنزل الهزيمة باليهود ، وأورث المؤمنين

١٩٢

أرضهم وديارهم وأموالهم.

وقد جاء التعبير في قوله ـ تعالى ـ : (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) بصيغة الرجاء ، لتعليم المؤمنين عدم اليأس من رحمة الله ، ومن مجيء نصره ، ولتعويدهم على أن يتوجهوا إليه ـ سبحانه ـ في مطالبهم بالرجاء الصادق ، والأمل الخالص.

قال الفخر الرازي : فإن قيل : شرط صحة التقسيم أن يكون ذلك بين قسمين متنافيين.

وقوله : (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) ليس كذلك ، لأن الإتيان بالفتح داخل في قوله : (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ).

قلنا : قوله : (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) معناه : أو أمر من عنده لا يكون للناس فيه فعل ألبتة ، كبني النضير الذين طرح الله في قلوبهم الرعب فأعطوا بأيديهم من غير محاربة ولا عسكر (١).

والضمير في قوله : (فَيُصْبِحُوا) يعود على أولئك المنافقين الذين في قلوبهم مرض والجملة معطوفة على (أَنْ يَأْتِيَ) داخل معه في حيز خبر عسى.

وعبر ـ سبحانه ـ عن ندمهم بالوصف (نادِمِينَ) لا بالفعل ، للإيذان بأنه ندم دائم تصحبه الحسرات والآلام المستمرة ، بسبب ما وقعوا فيه من ظن فاسد ، وأمل خائب.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قاله المؤمنون الصادقون على سبيل الإنكار لمسالك المنافقين الخبيثة وتوبيخهم على ضعف إيمانهم ، وهوان نفوسهم فقال ـ تعالى ـ : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ).

قال الآلوسى : قوله : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) كلام مستأنف لبيان كمال سوء حال الطائفة المذكورة : ـ وهي قراءة عاصم وحمزه والكسائي بإثبات الواو مع الرفع.

وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر بغير واو على أنه استئناف بيانى ، كأنه قيل : فماذا يقول المؤمنون حينئذ؟.

وقرأ أبو عمرو ويعقوب : ويقول بالنصب عطفا على (فَيُصْبِحُوا) (٢).

وقوله : (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أى : أقوى أيمانهم وأغلظها. والجهد : الوسع والطاقة والمشقة. يقال جهد نفسه يجهدها في الأمر إذا بلغ بها أقصى وسعها وطاقتها فيه. والمراد : أنهم أكدوا الإيمان ووثقوها بكل ألفاظ التأكيد والتوثيق.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ١٩٢.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ١٥٩.

١٩٣

والمعنى : ويقول الذين آمنوا بعضهم لبعض مستنكرين ما صدر عن المنافقين من خداع وكذب ، ومتعجبين من ذبذبتهم والتوائهم : يقولون مشيرين إلى المنافقين : أهؤلاء الذين أقسموا بالله مؤكدين إيمانهم بأقوى المؤكدات وأوثقها ، بأن يكونوا مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعنا في ولايتهم ونصرتهم ومعونتهم ...؟.

فالاستفهام للإنكار والتعجيب من أحوال هؤلاء المنافقين الذين مردوا على الخداع والكذب. وقد ذكر صاحب الكشاف وجها آخر في معنى ويقول الذين آمنوا فقال : فإن قلت : لمن يقولون هذا القول؟ قلت : إما أن يقوله بعضهم لبعض تعجبا من حالهم ، واغتباطا بما من الله عليهم من التوفيق في الإخلاص (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا) لكم بأغلظ الإيمان أنهم أولياؤكم ومعاضدوكم على الكفار.

وإما أن يقولوه لليهود ، لأنهم ـ أى المنافقون ـ حلفوا لهم بالمعاضدة والنصرة كما حكى الله عنهم (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) ـ ثم خذلوهم ـ ، (١) :

وعلى كلا الوجهين فالجملة الكريمة تنعى على المنافقين كذبهم وجبنهم ، وتعجب الناس من طباعهم الذميمة ، وأخلاقهم المرذولة.

وقوله : (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ) أى : فسدت أعمالهم وبطلت فصاروا خاسرين في الدنيا والآخرة.

ويحتمل أن تكون هذه الجملة مما حكاه الله ـ تعالى ـ من قول المؤمنين ويحتمل أنها من كلام الله ـ تعالى ـ وقد ساقها على سبيل الحكم عليهم بفساد أعمالهم ، وسوء مصيرهم.

هذا ، وقد اشتملت هذه الآيات الكريمة على ضروب من توكيد النهى عن موالاة أعداء الله ـ تعالى ـ بأساليب متعددة.

منها : النهى الصريح كما في قوله ـ تعالى ـ : (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ).

ومنها : بيان علة النهى كما في قوله : (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ).

ومنها : التصريح بأن من يواليهم فهو منهم وذلك في قوله : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ).

ومنها : تسجيل الظلم على من يواليهم كما في قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

ومنها : الإخبار بأن موالاتهم من طبيعة الذين في قلوبهم مرض قال ـ تعالى ـ : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦٣٤.

١٩٤

ومنها : قطع أطماع الموالين لهم وتبشير المؤمنين بالفوز قال ـ تعالى ـ : (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ).

ومنها : الإخبار عن حال الموالين لهم بقوله : (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ).

وهنا قد يرد سؤال وهو : إن الآيات الكريمة وما يشبهها من الآيات القرآنية تؤكد النهى عن موالاة غير المسلمين ومودتهم فهل هذا النهى على إطلاقه؟

والجواب عن ذلك أن غير المسلمين أقسام ثلاثة : القسم الأول : وهم الذين يعيشون مع المسلمين ويسالمونهم ، ولا يعملون لحساب غيرهم ؛ ولم يبدر منهم ما يفضى إلى سوء الظن بهم. وهؤلاء لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم ، ولا مانع من مودتهم والإحسان إليهم كما في قوله ـ تعالى ـ (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ، وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ، أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (١).

والقسم الثاني : وهم الذين يقاتلون المسلمين ، ويسيئون إليهم بشتى الطرق وهؤلاء لا تصح مصافاتهم ، ولا تجوز موالاتهم ، وهم الذين عناهم الله في الآيات التي معنا وفيما يشبهها من آيات كما في قوله ـ تعالى ـ (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢).

والقسم الثالث : قوم لا يعلنون العداوة لنا ولكن القرائن تدل على أنهم لا يحبوننا بل يحبون أعداءنا ، وهؤلاء يأمرنا ديننا بأن نأخذ حذرنا منهم دون أن نعتدى.

ومهما تكن أحوال غير المسلمين ؛ فإنه لا يجوز لولى الأمر المسلم أن يوكل إليهم ما يتعلق بأسرار الدولة الإسلامية. أو أن يتخذهم بطانة له بحيث يطلعون على الأمور التي يؤدى إفشاؤها إلى خسارة الأمة في السلم أو الحرب.

وبعد أن حذر ـ سبحانه ـ المؤمنين من ولاية اليهود والنصارى ، عقب ذلك بنداء آخر وجهه إليهم ، وبين لهم فيه أن موالاة أعداء الله قد تجر إلى الارتداد عن الدين ، وأنهم إن ارتدوا فسوف يأتى الله بقوم آخرين لن يكونوا مثلهم ، وأن من الواجب عليهم أن يجعلوا ولا يتهم لله ولرسوله وللمؤمنين فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) سورة الممتحنة آية ٨.

(٢) سورة الممتحنة آية ٩.

١٩٥

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ)(٥٦)

قوله ـ تعالى ـ (مَنْ يَرْتَدَّ) من الارتداد. ومعناه : الرجوع إلى الخلف ومنه قوله ـ تعالى ـ (رُدُّوها عَلَيَ) أى : ارجعوها على. وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ).

والمراد بالارتداد هنا : الرجوع عن دين الإسلام إلى الكفر والضلال ، والخروج من الحق الذي جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى غيره من الأباطيل والأكاذيب.

قالوا : وفي هذه الآية الكريمة إشارة إلى أن من الذين دخلوا في الإسلام من سيرتد عنه إلى غيره من الكفر والضلال ، وقد كان الأمر كما أشارت الآية الكريمة ؛ فقد ارتد عن الإسلام بعض القبائل كقبيلة بنى حنيفة ـ قوم مسيلمة الكذاب ـ وقبيلة بنى أسد ، وقبيلة بنى مدلج وغيرهم.

وقد تصدى سيدنا أبو بكر الصديق ومن معه من المؤمنين الصادقين للمرتدين فكسروا شوكة الردة ، وأعادوا لكلمة الإسلام هيبتها وقوتها.

قال الآلوسى ما ملخصه : هذه الآية من الكائنات التي أخبر عنها القرآن قبل وقوعها ـ وقد وقع المخبر به على وفقها فيكون معجزا ـ فقد روى أنه ارتد عن الإسلام إحدى عشرة فرقة.

ثلاث في عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم : «بنو مدلج ، ورئيسهم الأسود العنسي و «بنو حنيفة» قوم مسيلمة الكذاب و «بنو أسد» قوم طليحة بن خويلد الأسدى. وسبع في عهد أبى بكر وهم : فزارة. وغطفان ، وبنو سليم ، وبنو يربوع ، وبعض بنى تميم ، وكنده ، وبنو بكر ابن وائل.

١٩٦

وارتدت فرقة واحدة في عهد عمر وهي قبيلة «غسان قوم جبلة بن الأيهم» (١).

والمعنى : يا أيها الذين آمنوا لا يتخذ أحد منكم أحدا من أعداء الله وليا ونصيرا لأن ولايتهم تفضى إلى مضرتكم وخسرانكم. بل وإلى ردتكم عن الحق الذي آمنتم به ، ومن يرتدد منكم عن دينه الحق إلى غيره من الأديان الباطلة فلن يضر الله شيئا ، لأنه ـ سبحانه ـ سوف يأتى بقوم آخرين مخلصين له ، ومطيعين لأوامره ، ومستجيبين لتعاليمه. بدل أولئك الذين ارتدوا على أدبارهم ، وكفروا بعد إيمانهم. قال ـ تعالى ـ : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) (٢).

ولفظ (فَسَوْفَ) جيء به هنا لتأكيد وقوع الأمر في المستقبل ، إذا ما ارتد بعض الناس على أدبارهم.

وقد وصف الله ـ تعالى ـ أولئك القوم الذين يأتى بهم بدل الذين كفروا بعد إيمانهم ، وصفهم بعدد من الصفات الحميدة ، والسجايا الكريمة.

وصفهم ـ أولا ـ بقوله : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) :

ومحبة الله ـ تعالى ـ للمؤمنين هي أسمى نعمة يتعشقونها ويتطلعون إليها ، ويرجون حصولها ودوامها. وهي ـ كما يقول الآلوسى ـ محبة تليق بشأنه على المعنى الذي أراده.

ومن علاماتها : أن يوفقهم ـ سبحانه ـ لطاعته ، وأن ييسر لهم الخير في كل شئونهم.

ومحبة المؤمنين لله ـ تعالى ـ معناها : التوجه إليه وحده بالعبادة ، واتباع نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل ما جاء به ، والاستجابة لتعاليمه برغبة وشوق.

وقوله : (يُحِبُّهُمْ) جملة في محل جر صفة لقوم. وقوله «ويحبونه» معطوف على (يُحِبُّهُمْ).

وقدم ـ سبحانه ـ محبته لهم على محبتهم له ، لشرفها وسبقها ، إذ لو لا محبته لهم لما وصلوا إلى طاعته.

وصفهم ـ ثانيا ـ بقوله : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ).

وقوله : (أَذِلَّةٍ) جمع ذليل ، من تذلل إذا تواضع وحنا على غيره ، وليس المراد بكونهم أذلة أنهم مهانون ، بل المراد المبالغة في وصفهم بالرفق ولين الجانب للمؤمنين.

وقوله : (أَعِزَّةٍ) جمع عزيز وهو المتصف بالعزة بمعنى القوة والامتناع عن أن يغلب أو يقهر

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ١٦٠.

(٢) سورة محمد. الآية الأخيرة.

١٩٧

ومنه قوله ـ تعالى ـ (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) أى : غلبني في الخطاب.

والمعنى : إن من صفات هؤلاء القوم الذين يأتى الله بهم بدل الذين كفروا بعد إيمانهم ، أنهم أرقاء على المؤمنين ، عاطفون عليهم متواضعون لهم ، تفيض قلوبهم حنوا وشفقة بهم. وأنهم في الوقت نفسه أشداء على الكافرين ، ينظرون إليهم نظرة العزيز الغالب ، لا نظرة الضعيف الخانع.

وهذه ـ كما يقول ابن كثير ـ صفات المؤمنين الكمل. أن يكون أحدهم متواضعا لأخيه ووليه ، متعززا على خصمه وعدوه كما قال ـ تعالى ـ : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) ومن صفات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنه الضحوك القتال» فهو ضحوك لأوليائه قتال لأعدائه» (١).

وقال صاحب الكشاف : فإن قلت : هلا قيل أذلة للمؤمنين أعزة على الكافرين؟ قلت : فيه وجهان :

أحدهما : أن يضمن الذل معنى الحنو والعطف كأنه قيل : عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع.

والثاني : أنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين ـ خافضون لهم أجنحتهم» (٢).

وقال الطيبي : إن قوله ـ تعالى ـ (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) جيء به للتكميل ، لأنه لما وصفهم قبل ذلك بالتذلل ، ربما يتوهم أحد أنهم أذلاء محقرون في أنفسهم فدفع ذلك الوهم بأنهم مع ذلتهم على المؤمنين أعزة على الكافرين على حد قول القائل :

جلوس في مجالسهم رزان

وإن ضيم ألم بهم خفاف

ثم وصفهم ـ ثالثا ـ بقوله : (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) وقوله : (يُجاهِدُونَ) من المجاهدة وهي بذل الجهد ونهاية الطاقة من أجل الوصول إلى المقصد الذي يسعى إليه الساعى.

وقوله : (فِي سَبِيلِ اللهِ) أى في سبيل إعلاء دين الله ، وإعزاز كلمته وليس في سبيل الهوى أو الشيطان.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٧٠.

(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦٩٨.

١٩٨

واللومة : هي المرة الواحدة من اللوم. وهو بمعنى اعتراض المعترضين ، ومخالفة المخالفين وعدم رضاهم عن هؤلاء القوم.

والمعنى : أن من صفات هؤلاء القوم ـ أيضا ـ أنهم يبذلون أقصى جهدهم في سبيل إعلاء كلمة الله والعمل على مرضاته ، وأنهم في جهادهم وجهرهم بكلمة الحق ، وحرصهم على ما يرضيه ـ سبحانه ـ لا يخافون لوما قط من أى لائم كائنا من كان. لأن خشيتهم ليست إلا من الله وحده.

وعبر ـ سبحانه ـ بلومة ـ بصيغة الإفراد والتنكير ، للمبالغة في نفى الخوف عنهم سواء أصدر اللوم لهم من كبير أم من صغير. وسواء أكانت اللومة شديدة أم رفيقة ..

فهم ـ كما يقول الزمخشري ـ : صلاب في دينهم ، إذا شرعوا في أمر من أمور الدين لإنكار منكر أو أمر بمعروف ـ مضوا فيه كالمسامير المحماة ، لا يرعبهم قول قائل ، ولا اعتراض معترض ، ولا لومة لائم ، والجملة على هذا معطوفة على (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ). ويحتمل أن تكون الواو للحال. أى أنهم يجاهدون وحالهم في المجاهدة خلاف حال المنافقين الذين كانوا إذا خرجوا في جيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود ، فلا يعملون شيئا مما يعلمون أنه يلحقهم فيه لوم من جهتهم ، وأما المؤمنون فكانوا يجاهدون لوجه الله لا يخافون لومة لائم» (١).

وقد ذكر المفسرون أقوالا متعددة في المراد بهؤلاء القوم الذين وصفهم الله ـ تعالى ـ بتلك الصفات الكريمة ، والذين يأتى بهم بدل أولئك الذين يرتدون على أعقابهم.

قال بعضهم : المراد بهم أبو بكر ومن معه من المؤمنين الذين قاتلوا المرتدين.

وقال آخرون : المراد بهم الأنصار الذين نصروا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأيدوه.

وقال مجاهد : المراد بهم أهل اليمن ... وقيل غير ذلك.

والذي نراه أنهم قوم ليسوا مخصوصين بزمن معين أو بلد معين ، أو أشخاص معينين ، وإنما هم كل من تنطبق عليهم هذه الصفات الجليلة. فكل من أحب الله وأحبه الله ، وتواضع للمؤمنين وأغلظ على الكافرين. وجاهد في سبيل الله دون أن يخشى أحدا سواه فهو منهم ، أما ذواتهم فيعلمها الله وحده ، لأنه لم يرد نص صحيح يعتمد عليه في بيان المراد بهؤلاء القوم.

واسم الإشارة في قوله : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) يعود على ما تقدم ذكره من أوصاف القوم.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦٩٨.

١٩٩

أى : ذلك الذي أعطيناه لهم من صفات كريمة فضل الله وإحسانه ، يؤتيه من يشاء إيتاءه من عباده ، والله ـ تعالى ـ واسع الفضل والجود والعطاء ، عليم بأحوال خلقه ، لا تخفى عليه خافية من شئونهم.

هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة : وجوب المجاهدة في سبيل إعلاء كلمة الله عن طريق قتال أعدائه ـ سبحانه ـ أو عن طريق الجهر بكلمة الحق ، أو عن طريق إحقاق الحق وإبطال الباطل ـ دون أن يخاف المجاهد لومة لائم.

ولقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأحاديث في هذا المعنى ومن ذلك :

ما رواه الإمام أحمد عن أبى ذر : أمرنى خليلي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبع : أمرنى بحب المساكين والدنو منهم ، وأمرنى أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقى ، وأمرنى أن أصل الرحم وإن أدبرت ، وأمرنى أن لا أسأل أحدا شيئا ، وأمرنى أن أقول الحق وإن كان مرا ، وأمرنى أن لا أخاف في الله لومة لائم ، وأمرنى أن أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله فإنهن كنز تحت العرش».

وعن أبى سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده. فإنه لا يقرب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقول بحق أو أن يذكر بعظيم».

وعنه ـ أيضا ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يحقرن أحدكم نفسه قالوا : وكيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال : أن يرى أمر الله فيه مقال فلا يقول فيه. فيقال له يوم القيامة. ما منعك أن تكون قلت في كذا وكذا؟ فيقول مخافة الناس. فيقول : إياى أحق أن تخاف» (١).

وهناك أحاديث أخرى في هذا المعنى سوى التي ذكرها الإمام ابن كثير ومن ذلك ما أخرجه الشيخان عن عبادة بن الصامت قال : بايعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمنكرة. وأن لا ننازع الأمر أهله. وأن نقول بالحق حيثما كنا. لا نخاف في الله لومة لائم» (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ من تجب موالاتهم ، بعد النهى عن تولى من تجب معاداتهم فقال : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ، وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ ، وَهُمْ راكِعُونَ).

أى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) المفيض عليكم كل خير ، والمرجو وحده في الشدائد والكروب

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٧٠.

(٢) أخرجه البخاري في باب كيف يبايع الإمام الناس من كتاب الأحكام ج ٩ ص ٩٦.

٢٠٠