التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٤

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٤

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0531-4
الصفحات: ٣٦٠

وقد ورد أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قسم غنائم بعض الغزوات وأعطى العطايا الجزيلة ، أعطى العباس ابن مرداس أقل من غيره ، فلم يرق ذلك العباس وقال شعرا يتضمن التعجيب من هذا التصرف. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اقطعوا لسانه». فزادوه حتى رضى. فهذا نوع من الرشوة رخص فيه السلف لدفع الظلم عن نفسه يدفعه إلى من يريد ظلمه أو انتهاك عرضه (١).

٢ ـ استدل بعض العلماء بقوله ـ تعالى ـ : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) على أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مخيرا في الحكم بين أهل الكتاب أو الإعراض عنهم ، وأن حكم التخيير غير منسوخ ، لأن ظاهر الآية يفيد ذلك.

ويرى فريق من العلماء أن هذا التخيير قد نسخ بقوله ـ تعالى ـ بعد ذلك (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ). قالوا : إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أولا مخيرا ثم أمر بعد ذلك بإجراء الأحكام عليهم.

وقد رد القائلون بثبوت التخيير على القائلين بالنسخ بأن التخيير ثابت بهذه الآية.

أما قوله : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) فهو بيان لكيفية الحكم عند اختياره له.

ويرى فريق ثالث من العلماء : أن التخيير ورد في المعاهدين الذين ليسوا من أهل الذمة كبني النضير وبنى قريظة ، فهؤلاء كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخيرا بين أن يحكم بينهم أو أن يعرض عنهم :

وقوله ـ تعالى ـ (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) ورد في أهل الذمة الذين لهم مالنا وعليهم ما علينا. وعلى هذا فلا نسخ في الآية.

قال الآلوسى : قال أصحابنا : أهل الذمة محمولون على أحكام الإسلام في البيوع والمواريث وسائر العقود ، إلا في بيع الخمر والخنزير ، فإنهم يقرون عليه ، ويمنعون من الزنا كالمسلمين ، ولا يرجمون لأنهم غير محصنين ، واختلف في مناكحتهم ، فقال أبو حنيفة : يقرون عليها ، وخالفه ـ في بعض ذلك. محمد وزفر. وليس لنا عليهم اعتراض قبل التراضي بأحكامنا ؛ فمتى تراضوا بها وترافعوا إلينا وجب إجراء الأحكام عليهم ، وتمام التفصيل في كتب الفروع.

٣ ـ أخذ العلماء من هذه الآية ـ أيضا ـ أن الحاكم ينفذ حكمه فيما حكم فيه لأن اليهود حكموا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض قضاياهم ، فحكم فيهم بما أنزل الله ، ونفذ هذا الحكم عليهم.

قال بعضهم : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد حكم بينهم بشريعة موسى ـ عليه‌السلام ـ ولكن هذا الحكم كان قبل أن تنزل عليه الحدود. أما الآن وقد أكمل الله الدين ، وتقررت الشريعة ، فلا يجوز لأى حاكم أن يحكم بغير الأحكام الإسلامية لا فرق بين المسلمين وغيرهم (٢).

__________________

(١) تفسير آيات الأحكام ج ٢ ص ١٩٣ لفضيلة الأستاذ محمد على السائس :

(٢) تفسير آيات الأحكام ج ٢ ص ١٩٥

١٦١

هذا ، وبعد أن وصف الله ـ تعالى ـ اليهود وأشباههم بجملة من الصفات القبيحة ، وخير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أن يحكم فيهم بشرع الله وبين أن يعرض عنهم. بعد كل ذلك أنكر عليهم مسالكهم الخبيثة ، وعجب كل عاقل من حالهم فقال ـ تعالى ـ : (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) أى أن أمر هؤلاء اليهود لمن أعجب العجب ، لأنهم يحكمونك ـ يا محمد ـ في قضاياهم مع أنهم لم يتبعوا شريعتك ومع أن كتابهم التوراة قد ذكر حكم الله صريحا واضحا فيما يحكمونك فيه.

فالاستفهام في قوله : (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ) للتعجب من أحوالهم حيث حكموا من لا يؤمنون به في قضية حكمها بين أيديهم ، ظنا منهم أنه سيحكم بينهم بما اتفقوا عليه مما يرضى أهواءهم وشهواتهم.

وقوله : (وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ) جملة حالية من الواو في (يُحَكِّمُونَكَ) والعامل ما في الاستفهام من التعجيب.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت (فِيها حُكْمُ اللهِ) ما موضعه من الإعراب؟ قلت : إما أن ينتصب على الحال من التوراة ، وكلمة التوراة هي مبتدأ والخبر (عِنْدَهُمُ) ، وإما أن يرتفع خبرا عنها كقولك : وعندهم التوراة ناطقة بحكم الله. وإما أن لا يكون له محل وتكون جملة مبينة ، لأن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم كما تقول : عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب فما تصنع بغيره (١).

وقوله (ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) معطوف على (يُحَكِّمُونَكَ) ـ وجاء العطف بثم المفيدة للتراخي للإشارة إلى التفاوت الكبير بين ما في التوراة من حق وبين ما هم عليه من باطل ومخادعة.

واسم الإشارة (ذلِكَ) يعود إلى حكم الله الذي في التوراة ، والذي حكم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أى : كيف يحكمونك يا محمد في قضاياهم والحال أنهم عندهم التوراة فيها حكم الله واضحا فيما تحاكموا إليك فيه ، ثم هم يعرضون من بعد تحكيمك عن حكمك الموافق لما قضى الله به في كتابهم التوراة.

وقوله : (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) تذييل مقرر لمضمون ما قبله.

ونفى الإيمان عنهم مع حذف متعلقه لقصد التعميم.

أى : وما أولئك الذين جاءوا يتحاكمون إليك من اليهود بالمؤمنين لا بكتابهم التوراة. لأنهم

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٣٣٦

١٦٢

لو كانوا مؤمنين به لنفذوا أحكامه ، ولا بك يا محمد لأنهم لو كانوا مؤمنين بك لاستجابوا لك فيما تأمرهم به وتنهاهم عنه.

قال الفخر الرازي : قوله ـ تعالى ـ : (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ) .. إلخ : هذا تعجيب من الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتحكيم اليهود إياه بعد علمهم بما في التوراة من حد الزاني ، ثم تركهم قبول ذلك الحكم فعدلوا عما يعتقدونه حكما حقا إلى ما يعتقدونه باطلا طلبا للرخصة. فلا جرم ظهر جهلهم وعنادهم في هذه الواقعة من وجوه :

أحدها : عدولهم عن حكم كتابهم.

والثاني : رجوعهم إلى حكم من كانوا يعتقدون فيه أنه مبطل.

والثالث : إعراضهم عن حكمه بعد أن حكموه. فبين الله حال جهلهم وعنادهم لئلا يغتربهم مغتر أنهم أهل كتاب الله ، ومن المحافظين على أمر الله» (١).

وبعد أن وصف الله ـ تعالى ـ اليهود وأشباههم بجملة من الصفات القبيحة ، كمسارعتهم في الكفر. وكثرة سماعهم للكذب ، وتحريفهم للكلم عن مواضعه ، وتهافتهم على أكل أسحت. وبعد أن خير رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أن يحكم بينهم أو أن يعرض عنهم إذا ما تحاكموا إليه ، وبعد أن عجب كل عاقل من أحوالهم. بعد كل ذلك شرع ـ سبحانه ـ في بيان منزلة التوراة وفي بيان بعض ما اشتملت عليه من أحكام فقال ـ تعالى ـ :

(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ٢٣٦

١٦٣

فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(٤٥)

فقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) بيان لشرف التوراة قبل أن تمتد إليها الأيدى الأثيمة بالتحريف والتبديل. ويدل على شرفها وعلو مقامها أن الله ـ تعالى ـ هو الذي أنزلها لا غيره ، وأنه ـ سبحانه ـ جعلها مشتملة على الهدى والنور. والمراد بالهدى ، ما اشتملت عليه من بيان للأحكام والتكاليف والشرائع التي تهدى الناس إلى طريق السعادة.

والمراد بالنور : ما اشتملت عليه من بيان للعقائد السليمة ، والمواعظ الحكيمة ، والأخلاق القويمة.

والمعنى إنا أنزلنا التوراة على نبينا موسى ـ عليه‌السلام ـ مشتملة على ما يهدى الناس إلى الحق من أحكام وتكاليف وعلى ما يضيء لهم حياتهم من عقائد ومواعظ وأخلاق فاضلة.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض الوظائف التي جعلها للتوراة فقال : (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ).

والمراد بقوله : (النَّبِيُّونَ) من بعثهم الله في بنى إسرائيل من بعد موسى لإقامة التوراة.

وقوله : الذين أسلموا صفة للنبيين. أى : أسلموا وجوههم لله وأخلصوا له العبادة والطاعة.

وعن الحسن والزهري وقتادة : يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك لأنه حكم على اليهوديين الذين زنيا بالرجم ، وكان هذا حكم التوراة. وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيما له.

وقال ابن الأنبارى : هذا رد على اليهود والنصارى لأن بعضهم كانوا يقولون : الأنبياء كلهم يهود أو نصارى ـ فقال ـ تعالى ـ (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) يعنى أن الأنبياء ما كانوا موصوفين باليهودية أو النصرانية ، بل كانوا مسلمين لله منقادين لتكاليفة» (١).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٦ ص ٣ ـ طبعة عبد الرحمن محمد

١٦٤

وقوله : (لِلَّذِينَ هادُوا) أى : رجعوا عن الكفر. والمراد بهم اليهود. واللام للتعليل.

وقوله : (وَالرَّبَّانِيُّونَ) معطوف على (النَّبِيُّونَ) وهو جمع رباني. وهم ـ كما يقول ابن جرير ـ العلماء والحكماء البصراء بسياسة الناس وتدبير أمورهم ، والقيام بمصالحهم (١).

وقوله : (الْأَحْبارُ) معطوف أيضا على (النَّبِيُّونَ).

قال القرطبي ما ملخصه : والأحبار : قال ابن عباس : هم الفقهاء. والحبر بالفتح والكسر ـ الرجل العالم وهو مأخوذ من التحبير بمعنى التحسين والتزيين ، فهم يحبرون العلم.

أى : يبينونه ، وهو محبر في صدورهم (٢) والباء في قوله : (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ) متعلقة بقوله (يَحْكُمُ).

وقوله (اسْتُحْفِظُوا) من الاستحفاظ بمعنى طلب الحفظ بعناية وفهم ، إذ أن السين والتاء للطلب ، والضمير في (اسْتُحْفِظُوا) يعود على النبيين والربانيين والأحبار.

والمعنى : إنا أنزلنا التوراة فيها هداية للناس إلى الحق ، وضياء لهم من ظلمات الباطل ، وهذه التوراة يحكم بها بين اليهود أنبياؤهم الذين أسلموا وجوههم لله ، وأخلصوا له العبادة والطاعة ، ويحكم أيضا بينهم الربانيون والأحبار الذين هم خلفاء الأنبياء. وكان هذا الحكم منهم بالتوراة بين اليهود ، بسبب أنه ـ تعالى ـ حملهم أمانة حفظ كتابه ، وتنفيذ أحكامه وشرائعه وتعاليمه.

ويصح أن يكون قوله (بِمَا اسْتُحْفِظُوا) متعلقا بالربانيين والأحبار ، وأن يكون الضمير عائدا عليهم وحدهم. أى : على الربانيين والأحبار ويكون الاستحفاظ بمعنى أن الأنبياء قد طلبوا منهم حفظه وتطبيق أحكامه.

والمعنى : كذلك الربانيون والأحبار كانوا يحكمون بالتوراة بين اليهود. بسبب أمر أنبيائهم إياهم بأن يحفظوا كتاب الله من التغيير والتبديل.

وقوله : (وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) معطوف على (اسْتُحْفِظُوا).

أى : وكان الأنبياء والربانيون والأحبار شهداء على الكتاب الذي أنزله الله ـ وهو التوراة ـ بأنه حق ، وكانوا رقباء على تنفيذ حدوده ، وتطبيق أحكامه حتى لا يهمل شيء منها.

قال الفخر الرازي قوله : (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ) : حفظ كتاب الله على وجهين :

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٦ ص ٣٩

(٢) تفسير القرطبي ج ٦ ص ١٨٩

١٦٥

الأول : أن يحفظ فلا ينسى.

الثاني : أن يحفظ فلا يضيع.

وقد أخذ الله على العلماء حفظ كتابه من وجهين.

أحدهما : أن يحفظوه في صدورهم ويدرسوه بألسنتهم.

والثاني : ألا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه.

وقوله : (وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) أى : هؤلاء النبيون والربانيون والأحبار كانوا شهداء على أن كل ما في التوراة حق وصدق ومن عند الله فلا جرم كانوا يمضون أحكام التوراة ويحفظونها من التحريف والتغيير» (١).

ثم أمر الله ـ تعالى ـ اليهود ـ ولا سيما علماءهم وفقهاءهم ـ أن يجعلوا خشيتهم منه وحده. وألا يبيعوا دينهم بدنياهم فقال ـ تعالى ـ : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً).

والخشية ـ كما يقول الراغب ـ خوف يشوبه تعظيم ، وأكثر ما يكون ذلك على علم بما يخشى منه ، ولذلك خص العلماء بها في قوله : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (٢).

وكأن الراغب ـ رحمه‌الله ـ يريد أن يفرق بين الخوف والخشية فهو يرى أن الخشية خوف يشوبه تعظيم ومحبة للمخشى بخلاف الخوف فهو أعم من أن يكون من مرهوب معظم محبوب أو مرهوب مبغوض مذموم.

والفاء في قوله (فَلا تَخْشَوُا) للإفصاح عن كلام مقدر.

والمعنى : إذا كان الأمر كما ذكر من أن الله ـ تعالى ـ قد أنزل التوراة لتنفيذ أحكامها ، وتطبيق تعاليمها .. فمن الواجب عليكم يا معشر اليهود أن تقتدوا بأنبيائكم وصلحائكم في ذلك ، وأن تستجيبوا للحث الذي جاء به رسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن تجعلوا خشيتكم منى وحدي لا من أحد من الناس ، فأنا الذي بيدي نفع العباد وضرهم.

وقوله : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) معطوف على قوله (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) والاشتراء هنا المراد به الاستبدال.

والمراد بالآيات : ما اشتملت عليه التوراة من أحكام وتشريعات وبشارات بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٢ ص ٤

(٢) المفردات من غريب القرآن ص ١٤٩ للراغب الأصفهاني.

١٦٦

والمراد بالثمن القليل : حظوظ الدنيا وشهواتها من نحو الرياسة والمال والجاه وما إلى ذلك من متع الحياة الدنيا.

أى : ولا تستبدلوا بأحكام آياتي التي اشتملت عليها التوراة أحكاما أخرى تغايرها وتخالفها ، لكي تأخذوا في مقابل هذا الاستبدال ثمنا قليلا من حظوظ الدنيا وشهواتها كالمال والجاه وما يشبه ذلك.

وليس وصف الثمن بالقلة من الأوصاف المخصصة للنكرات ، بل هو من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل في مقابل استبدال الآيات ؛ لأنه لا يكون إلا قليلا ـ وإن بلغ ما بلغ من أعراض الدنيا ـ بالنسبة لطاعة الله ، والرجاء في رحمته ورضاه.

وهذا النهى الذي اشتملت عليه هاتان الجملتان الكريمتان : (فَلا تَخْشَوُا) ، و (لا تَشْتَرُوا) وإن كان موجها في الأصل إلى رؤساء اليهود وأحبارهم. إلا أنه يتناول الناس جميعا في كل زمان ومكان ، لأنه نهى عن رذائل يجب أن يبتعد عنها كل إنسان يتأتى له الخطاب.

وإلى هذا المعنى أشار الآلوسى بقوله : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ) خطاب لرؤساء اليهود وعلمائهم بطريق الالتفات ـ إذ انتقل من الحديث عن الأحبار السابقين منهم إلى خطاب هؤلاء المعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتناول غير أولئك المخاطبين بطريق الدلالة» (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية ببيان سوء عاقبة من يفعل فعل اليهود ، فيحكم بغير شريعة الله فقال ـ تعالى ـ (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ).

أى : كل من رغب عن الحكم بما أنزل الله : وقضى بغيره من الأحكام ، فأولئك هم الكافرون بما أنزله ـ سبحانه ـ لأنهم كتموا الحق الذي كان من الواجب عليهم إظهاره والعمل به. والجملة الكريمة ـ كما يقول الآلوسى ـ تذييل مقرر لمضمون ما قبلها أبلغ تقرير ، وتحذير من الإخلال به أشد تحذير.

هذا ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى :

١ ـ سمو منزلة التوراة التي أنزلها الله ـ تعالى ـ على نبيه موسى ـ عليه‌السلام ، فقد أضاف ـ سبحانه ـ إنزالها إليه ، فكان لهذه الإضافة ما لها من الدلالة على علو مقامها ، كما بين ـ سبحانه ـ شرفها الذاتي بذكر ما اشتملت عليه من هداية إلى الحق ، ومن نور يكشف للناس ما اشتبه عليهم من أمور دينهم ودنياهم.

وهذا السمو إنما هو للتوراة التي لم تمتد إليها أيدى اليهود بالتحريف والتبديل ، والزيادة

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ١٤٥

١٦٧

والنقصان. أما تلك التوراة التي بين أيديهم الآن ، والتي دخلها من التحريف ما دخلها فهي عارية عن الثقة في كثير مما اشتملت عليه من قصص وأحكام.

٢ ـ قال الفخر الرازي : «دلت الآية على أنه يحكم بالتوراة النبيون والربانيون والأحبار ، وهذا يقتضى كون الربانيين أعلى حالا من الأحبار ، فثبت أن يكون الربانيون كالمجتهدين. والأحبار كآحاد العلماء.

ثم قال : وقد احتج جماعة بأن شرع من قبلنا لازم علينا ـ إلا إذا قام الدليل على صيرورته منسوخا ـ بهذه الآية ، وتقريره أنه ـ تعالى ـ قال في التوراة هدى ونورا ، والمراد كونها هدى ونورا في أصول الشرع وفروعه ، ولو كان ما فيها منسوخا غير معتبر الحكم بالكلية لما كان فيها هدى ونور ، ولا يمكن أن يحمل الهدى والنور على ما يتعلق بأصول الدين فقط ، لأنه ذكر الهدى والنور ولو كان المراد منهما معا ما يتعلق بأصول الدين للزم التكرار ، وأيضا فإن هذه الآية إنما نزلت في مسألة الرجم فلا بد وأن تكون الأحكام الشرعية داخلة فيها لأنا ـ وإن اختلفنا في أن غير سبب نزول الآية هل يدخل فيها أم لا ـ لكنا توافقنا على أن سبب نزول الآية يجب أن يكون داخلا فيها» (١).

٣ ـ استدل العلماء بهذه الآية على أن الحاكم من الواجب عليه أن ينفذ أحكام الله دون أن يخشى أحدا سواه ، وأن عليه كذلك أن يبتعد عن أكل المحرم بكل صوره وأشكاله ، وألا يغير حكم الله في نظير أى عرض من أعراض الدنيا ، لأن الله ـ تعالى ـ يقول : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ، وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً).

وقد أشار إلى هذا المعنى صاحب الكشاف بقوله : قوله : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) نهى للحكام عن خشيتهم غير الله في حكومتهم ، وادهانهم فيها ـ أى ومصانعتهم فيها ـ وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل لخشية سلطان ظالم ، أو خيفة أذية أحد من الأقرباء والأصدقاء وقوله : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) وهو الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس ، كما حرف أحبار اليهود كتاب الله وغيروا أحكامه رغبة في الدنيا وطلبا للرياسة فهلكوا» (٢).

٤ ـ قال بعض العلماء : في قوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) تغليظ في الحكم بخلاف المنصوص عليه ، حيث علق عليه الكفر هنا والظلم والفسق بعد. وكفر الحاكم لحكمه بغير ما أنزل الله مقيد بقيد الاستهانة به. والجحود له ، وهذا ما سار عليه كثير من العلماء وأثروه عن عكرمة وابن عباس.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٢ ص ٤٠٢

(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦٧٣

١٦٨

وعن عطاء : هو كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق. أى : أن كفر المسلم وظلمه وفسقه ليس مثل كفر الكافر وظلمه وفسقه. فإن كفر المسلم قد يحمل على جحود النعمة» (١).

وقال فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف : قوله (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) : اختلف المفسرون فيمن نزلت هذه الآية والآيتان بعدها. فقيل في اليهود خاصة وقيل : في الكفار عامة. وقيل : الأولى في هذه الأمة والثانية في اليهود. والثالثة في النصارى والكفر إذا نسب إلى المؤمنين حمل على التشديد والتغليظ ، لا على الكفر الذي ينقل عن الملة. والكافر إذا وصف بالفسق والظلم أريد منهما العتو والتمرد في الكفر. وعن ابن عباس : من لم يحكم بما أنزل الله جاحدا به فهو كافر. ومن أقربه ولم يحكم به فهو ظالم فاسق» (٢).

وقال الآلوسى ما ملخصه : واحتجت الخوارج بهذه الآية على أن الفاسق كافر غير مؤمن. ووجه استدلالهم بها أن كلمة (مِنْ) في قوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ) عامة شاملة لكل من لم يحكم بما أنزل الله فيدخل الفاسق المصدق أيضا لأنه غير حاكم وغير عامل بما أنزل الله.

وأجيب عن شبهتهم بأن الآية متروكة الظاهر فإن الحكم وإن كان شاملا لفعل القلب والجوارح لكن المراد به هنا عمل القلب وهو التصديق ولا نزاع في كفر من لم يصدق بما أنزل الله ـ تعالى» (٣).

والذي يبدو لنا أن هذه الجملة الكريمة عامة في اليهود وفي غيرهم فكل من حكم بغير ما أنزل الله ، مستهينا بحكمه ـ تعالى ـ أو منكرا له ، يعد كافرا لأن فعله هذا جحود وإنكار واستهزاء بحكم الله ومن فعل ذلك كان كافرا.

أما الذي يحكم بغير حكم الله مع إقراره بحكم الله واعترافه به ، فإنه لا يصل في عصيانه وفسقه إلى درجة الكفر.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض ما اشتملت عليه التوراة من أحكام فقال (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ، وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ ، وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ ، وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ ، وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ).

فالآية الكريمة معطوفة على ما سبقها وهو قوله ـ تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ).

__________________

(١) تفسير القاسمى ج ١ ص ٢٠٠٠

(٢) تفسير «صفوة البيان» ص ١٩٤

(٣) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ١٤٥

١٦٩

وقوله : (كَتَبْنا) بمعنى فرضنا وأوجبنا وقررنا. والمراد بالنفس : الذات.

أى : أنزلنا التوراة على موسى لتكون هداية ونورا لبنى إسرائيل ، وفرضنا عليهم (أن النفس بالنفس) أى : مقتولة أو مأخوذة بها إذا قتلتها بغير حق. وأن (العين) مفقوءة (بِالْعَيْنِ) وأن (الْأَنْفَ) مجدوع (بِالْأَنْفِ) وأن (الْأُذُنَ) مقطوعة (بِالْأُذُنِ) وأن (السِّنَ) مقلوعة (بِالسِّنِ) وأن (الْجُرُوحَ قِصاصٌ) أى : ذات قصاص ، بأن يقتص فيها إذا أمكن ذلك ، وإلا فما لا يمكن القصاص فيه ـ ككسر عظم وجرح لحم لا يمكن الوقوف على نهايته ـ ففيه حكومة عدل.

وعبر ـ سبحانه ـ عما فرض عليهم من عقوبات في التوراة بقوله : (كَتَبْنا) للإشارة إلى أن هذه العقوبات وتلك الأحكام لا يمكن جحدها أو محوها ، لأنها مكتوبة والكتابة تزيد الكلام توثيقا وقوة.

قال القرطبي ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ). ألخ قرأ نافع وعاصم والأعمش وحمزة بالنصب في جميعها على العطف.

وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بنصب الكل إلا الجروح ؛ فإنه بالرفع على القطع عما قبله والاستئناف به ـ أى أن الجروح مبتدأ وقصاص خبره.

وقرأ الكسائي وأبو عبيد : (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ ، وَالْجُرُوحَ) بالرفع فيها كلها.

قال أبو عبيد : حدثنا حجاج عن هارون عن عباد بن كثير ، عن عقيل عن الزهري ، عن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ ، وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ).

والرفع من ثلاث جهات ، بالابتداء والخبر. والوجه الثاني : بالعطف على المعنى على موضع (أن النفس) ، لأن المعنى قلنا لهم : النفس بالنفس والوجه الثالث ـ قاله الزجاج ـ يكون عطفا على المضمر في النفس. لأن الضمير في النفس في موضع رفع ، لأن التقدير أن النفس هي مأخوذة بالنفس فالأسماء معطوفة على هي (١).

وقوله : (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) ترغيب في العفو والصفح.

والضمير في (به) يعود إلى القصاص. والتعبير عنه بالتصدق للمبالغة في الحث عليه فإنه أدعى إلى صفاء النفوس. وإلى فتح باب التسامح بين الناس.

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ٦ ص ١٩٢

١٧٠

وقوله : (فَهُوَ) يعود إلى التصدق المدلول عليه بالفعل (تصدق) والضمير في قوله (لَهُ) يعود إلى العافي المتصدق وهو المجنى عليه أو من يقوم مقامه.

والمعنى : (فَمَنْ تَصَدَّقَ) بما ثبت له من حق القصاص ، بأن عفا عن الجاني فإن هذا التصدق يكون كفارة لذنوب هذا المتصدق ، حيث قدم العفو مع تمكنه من القصاص.

وقيل إن الضمير في (لَهُ) يعود على الجاني فيكون المعنى : فمن تصدق بما ثبت له من حق القصاص ، بأن عفا عن الجاني ، فإن هذا التصدق يكون كفارة له. أى لذنوب الجاني ، بأن لا يؤاخذه الله بعد ذلك العفو. وأما المتصدق فأجره على الله.

وقد رجح ابن جرير عودة الضمير إلى العافي المتصدق وهو المجنى عليه أو ولى دمه فقال : وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب : قول من قال : عنى به : فمن تصدق به فهو كفارة له أى المجروح ، ولأنه لأن تكون الهاء في قوله (له) عائدة على (من) أولى من أن تكون عائدة على من لم يجر له ذكر إلا بالمعنى دون التصريح ، إذ الصدقة هي المكفرة ذنب صاحبها دون المتصدق عليه في سائر الصدقات) (١).

وقوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) تذييل قصد به التحذير من مخالفة حكم الله. أى : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون لأنفسهم ، حيث تركوا الحكم العدل واتجهوا إلى الحكم الجائر الظالم.

قال الرازي : وفيه سؤال وهو أنه ـ تعالى ـ. قال : أولا : (فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) وثانيا (هُمُ الظَّالِمُونَ) والكفر أعظم من الظلم ، فلما ذا ذكر أعظم التهديدات أولا وأى فائدة في ذكر الأخف بعده؟

وجوابه : أن الكفر من حيث إنه إنكار لنعمة المولى وجحود لها فهو كفر ، ومن حيث إنه يقتضى إبقاء النفس في العقاب الدائم الشديد فهو ظلم على النفس. ففي الآية الأولى ذكر الله ما يتعلق بتقصيره في حق الخالق ـ سبحانه ـ وفي هذه الآية ذكر ما يتعلق بالتقصير في حق نفسه» (٢).

هذا ، ومما أخذه العلماء من هذه الآية ما يأتى :

١ ـ أن الآية الكريمة ـ ككثير غيرها ـ تنعى على بنى إسرائيل إهمالهم لأحكام الله ـ تعالى ـ وتهافتهم على ما يتفق مع أهوائهم.

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٦ ص ٢٦٢ بتصريف وتلخيص.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٢ ص ١٢

١٧١

قال ابن كثير : هذه الآية مما وبخت به اليهود أيضا وقرعت عليه ، فإن عندهم في نص التوراة أن النفس بالنفس. وقد خالفوا حكم ذلك عمدا وعنادا فأقادوا النضري من القرظي ، ولم يقيدوا القرظي من النضري وعدلوا إلى الدية ، كما خالفوا حكم التوراة في رجم الزاني المحصن ، وعدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإشهار. ولهذا قال هناك (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) ، لأنهم جحدوا حكم الله قصدا منهم وعنادا وعمدا. وقال هنا في تتمة الآية (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه ، فخانوا وظلموا وتعدى بعضهم على بعض.

ثم قال : واستدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا بهذه الآية. وذلك إذا حكى مقررا ولم ينسخ. والحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة. وقال الحسن البصري : هي عليهم وعلى الناس عامة» (١).

٢ ـ استدل جمهور الفقهاء بعموم هذه الآية على أن الرجل يقتل بالمرأة. ويؤيد ذلك ما رواه النسائي وغيره أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم : أن الرجل يقتل بالمرأة .. وفي رواية للإمام أحمد أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها ، بل تجب ديتها (٢).

قال الآلوسى : واستدل بعموم (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) من قال : يقتل المسلم بالكافر ، والحر بالعبد ، والرجل بالمرأة ومن خالف استدل بقوله ـ تعالى :

(الْحُرُّ بِالْحُرِّ ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ، وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يقتل مؤمن بكافر».

وأجاب بعض أصحابنا بأن النص تخصيص بالذكر فلا يدل على نفى ما عداه. والمراد بما روى في الحديث الكافر الحربي وقد روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتل مسلما بذمي» (٣).

٣ ـ استدل العلماء بجريان القصاص في الأطراف لقوله ـ تعالى ـ (الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ، وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ) إلخ. إلا أنهم قالوا بوجوب استيفاء ما يماثل فعل الجاني بدون تعد أو ظلم فتؤخذ العين اليمنى باليمنى عند وجودها ، ولا تؤخذ اليسرى باليمنى.

وقالوا : إنما تؤخذ العين بالعين إذا فقأها الجاني متعمدا. فإن أصابها خطأ ففيها نصف الدية : إن أصاب العينين معا خطأ ففيهما الدية كاملة.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٦١ بتصرف يسير.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٦١ بتصرف يسير.

(٣) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ١١٨

١٧٢

ويرى بعضهم أن في عين الأعور الدية كاملة لأن منفعته بها كمنفعة ذي عينين أو قريبة منها.

وقد توسع الإمام القرطبي في بسط هذه المسائل فارجع إليه إن شئت (١).

٤ ـ أخذ العلماء من هذه الآية أن الله ـ تعالى ـ رغب في العفو ، وحض عليه ، وأجزل المثوبة لمن يقوم به فقد قال ـ تعالى ـ (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ). أى : فمن تصدق بما ثبت له من حق القصاص فتصدقه كفارة لذنوبه.

وقد وردت في الحض على العفو نصوص كثيرة ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) (٢) وقوله ـ تعالى ـ (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ ، وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (٣).

وروى الإمام أحمد عن الشعبي أن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما من رجل يجرح في جسده جراحة فيتصدق بها إلا كفر الله عنه مثل ما تصدق به» (٤).

وروى ابن جرير عن أبى السفر قال : دفع رجل من قريش رجلا من الأنصار ، فاندقت ثنيته. فرفعه الأنصارى إلى معاوية. فلما ألح عليه الرجل قال معاوية : شأنك وصاحبك. قال : وأبو الدرداء عند معاوية. فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما من مسلم يصاب بشيء من جسده ، فيهبه إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة». فقال الأنصارى : أنت سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال : سمعته أذناى ووعاه قلبي ـ فخلى سبيل القرشي. فقال معاوية : «مروا له بمال» (٥) ومن هذه الآية وغيرها نرى أن الإسلام قد جمع فيما شرع من عقوبات بين العدل والرحمة فقد شرع القصاص زجرا للمعتدى. وإشعارا له بأن سوط العقاب مسلط عليه إذا ما تجاوز حده ، جبرا لخاطر المعتدى عليه ، وتمكينا له من أخذ حقه ممن اعتدى عليه.

ومع هذا التمكين التام للمجنى عليه من الجاني فقد رغب الإسلام المجنى عليه في العفو عن الجاني حتى تشيع المحبة والمودة بين أفراد الأمة ، ووعده على ذلك بتكفير خطاياه ، وارتفاع درجاته عند الله ـ تعالى ـ

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ٦ ص ١٩١ ـ ٢٠٩

(٢) سورة الشورى الآية ٤٠

(٣) سورة آل عمران الآية ١٣٤

(٤) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٦٤.

(٥) تفسير ابن جرير ج ٦ ص ٢٦٠

١٧٣

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ منزلة التوراة وما اشتملت عليه من هدايات وتشريعات أتبع ذلك ببيان منزلة الإنجيل وما اشتمل عليه من مواعظ وأحكام .. فقال ـ تعالى ـ :

(وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(٤٧)

وقوله : (وَقَفَّيْنا) معطوف على قوله قبل ذلك (أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ) وأصل القفو اتباع الأثر : يقال قفاه يقفوه أى : اتبع أثره ، والتقفية : الاتباع ، يقال : قفيته بكذا أى أتبعته. وإنما سميت قافية الشعر قافية ؛ لأنها تتبع الوزن ، والقفا مؤخر الرقبة. ويقال : قفا أثره إذا سار وراءه واتبعه.

قال صاحب الكشاف : قفيته مثل عقبته ، إذا أتبعته. ثم يقال قفيته وعقبته به ، فتعديه إلى الثاني بزيادة الباء.

فإن قلت فأين المفعول الأول في الآية؟ قلت هو محذوف. والظرف الذي هو «على آثارهم» كالسّاد مسدّه ، لأنه إذا قفى به على أثره فقد قفى به إياه. والضمير في قوله : (عَلى آثارِهِمْ) يعود على النبيين في قوله : (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) (١).

وقوله : (آثارِهِمْ) جمع أثر وهو العلم الذي يظهر للحس. وآثار القوم : ما أبقوا من أعمالهم. وقوله (عَلى آثارِهِمْ) تأكيد لمدلول فعل «قفينا» وإيماء إلى سرعة التقفية.

وقوله. (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أى : لما تقدمه ، لأن ما بين يدي الإنسان كأنه حاضر أمامه.

والمعنى وأتبعنا على آثار أولئك النبيين الذين أسلموا وجوههم لله ، وأخلصوا له العبادة ، والذين كانوا يحكمون بالتوراة ـ كموسى وهارون وداود وسليمان وغيرهم ـ أتبعنا على آثارهم

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦٣٩

١٧٤

بعيسى ابن مريم ناهجا نهجهم في الخضوع والطاعة والإخلاص لله رب العالمين ومصدقا للتوراة التي تقدمته ، ومنفذا لأحكامها إلا ما جاء نسخه في الإنجيل منها.

وفي التعبير بقوله (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ) إشارة إلى أن عيسى ـ عليه‌السلام ـ لم يكن بدعة من الرسل ، وإنما هو واحد منهم ، جاء على آثار من سبقوه ، سالكا مسلكهم في الدعوة إلى عبادة الله وحده وإلى التحلي بمكارم الأخلاق.

وفي التعبير بقوله (بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) إيذان بأنه محدث كجميع المحدثات ، وأنه قد ولد من أمه كما يولد سائر البشر من أمهاتهم ، وأنه لا نسب له إلا من جهتها ، فليس له أب ، وليس ابنا لله ـ تعالى ـ ، وإنما هو عبد من عباد الله أو جده بقدرته ، وأرسله ـ سبحانه ـ لدعوة الناس إلى توحيده وعبادته.

وقوله : (مُصَدِّقاً) حال من عيسى ـ عليه‌السلام ـ :

قال بعض العلماء : «ولو سايرنا الواقع عند النصارى في هذه الأيام ، لكان لذكر كلمة التصديق في هذا المقام معنى أعمق من مجرد التصديق بأصل النزول ، بل بالتنفيذ ، لأن الإنجيل ليس فيه أحكام عملية كثيرة ، فأحكام الأسرة كلها مأخوذة عند النصارى من التوراة ، وليس ثمة نص قاطع في الأناجيل التي بين أيدينا يغاير ما جاء في التوراة من أحكام تتعلق بالأسرة ، ولا بأحكام العقوبات من حدود وقصاصر ولقد رويت عبارات عندهم منسوبة للمسيح ـ عليه‌السلام ـ تدل على العمل بأحكام التوراة ، مثل قوله ـ عليه‌السلام ـ «ما جئت لأنقض الناموس» أى التوراة.

وكلمة (بَيْنَ يَدَيْهِ) تعبير قرآنى ، للدلالة على أن التوراة كانت حاضرة قائمة وقت مجيء عيسى ـ عليه‌السلام ـ وعلما عنده ، وهو علم خال من التحريف والتبديل ، أوحى الله به إليه.

ولفظ بين يديه في دلالته على الأمر المهيأ القائم من الاستعارات الرائعة ، ومضمونها أن الأمر معلوم علما يقينا لعيسى بن مريم ـ عليه‌السلام ـ كعلم المحسوس يكون موضوعا بين يديه (١).

وقوله : (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ ، وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ ، وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) معطوف على (قَفَّيْنا).

وقد وصف الله ـ تعالى ـ الإنجيل الذي أعطاه لعيسى بخمس صفات :

__________________

(١) تفسير الآية الكريمة لفضيلة الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة مجلة لواء الإسلام العدد الثالث من السنة ٢١

١٧٥

أولها : أنه فيه (هُدىً) أى : فيه هداية للناس إلى الحق الذي متى اتبعوه سعدوا في دنياهم وآخرتهم.

وثانيها : أنه فيه (نُورٌ) أى : ضياء يكشف لهم ما التبس عليهم من أمور دينية ودنيوية.

وثالثها : كونه (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) أى أن الإنجيل مؤيد ومقرر لما جاءت به التوراة من أحكام وآداب وشرائع أنزلها الله فيها.

ورابعها : كونه : (هُدىً) أى : هو بذاته هدى فضلا على اشتماله عليه.

وخامسها : كونه : (مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أى : تذكير لهم بما يرق له القلب ، وتصفو به النفس ، وتنزجر به القلوب عن غشيان المحرمات.

وقوله (فِيهِ هُدىً) جملة مكونة من خبر مقدم ومبتدأ مؤخر. وقوله (وَنُورٌ) معطوف على قوله (هُدىً) والجملة كلها في موضع نصب على أنها حال من الإنجيل.

أى : أعطينا عيسى الإنجيل حالة كونه مشتملا على الهدى والنور.

وقوله : (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) حال أيضا من الإنجيل. ولا تكرار بين (مُصَدِّقاً) الأولى وبين (مُصَدِّقاً) الثانية ، لأن الأولى لبيان حال عيسى وأنه جاء يدعو الناس إلى التصديق بالتوراة وإلى تنفيذ أحكامها ، والثانية لبيان حال الإنجيل وأنه جاء مقررا لما اشتملت عليه التوراة من أحكام أنزلها الله ، وأن من الواجب على بنى إسرائيل أن يسيروا على هدى هذه الأحكام إلا ما نسخه الإنجيل منها فعليهم أن يتبعوا أحكام الإنجيل فيها.

قال ابن كثير : وقوله : (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) أى : متبعا لها غير مخالف لما فيها إلا في القليل. مما بين لبنى إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه ـ كما قال ـ تعالى ـ إخبارا عن المسيح أنه قال لبنى إسرائيل : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ). ولهذا كان المشهور من قول العلماء : «أن الإنجيل نسخ بعض أحكام التوراة» (١).

وقوله : (وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) معطوف على ما تقدم ومنتظم معه في سلك الحالية.

وقال أولا (فِيهِ هُدىً) وقال ثانيا (هُدىً) لزيادة المبالغة في التنويه بشأن الإنجيل ، فهو مشتمل على ما يهدى الناس إلى الحق والخير ، وهو في ذاته هدى ، لأنه منزل من عند الله ، ولأنه بشارة بنبي يرسل من بعد عيسى اسمه أحمد.

قال الفخر الرازي : «وأما كونه (هُدىً) مرة أخرى ، فلأن اشتمال الإنجيل على البشارة

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٦٤

١٧٦

بمجيء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبب لاهتداء الناس إلى نبوته. ولما كان أشد وجوه الاختلاف والمنازعة بين المسلمين وبين اليهود ، والنصارى في ذلك ، لا جرم أعاده الله ـ تعالى ـ مرة أخرى تنبيها على أن الإنجيل يدل دلالة ظاهرة على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان هدى في هذه المسألة التي هي أشد المسائل احتياجا إلى البيان والتقرير.

وأما كونه موعظة : فلاشتمال الإنجيل على النصائح والمواعظ والزواجر البليغة المتأكدة. وإنما خصها بالمتقين ، لأنهم هم الذين ينتفعون بها» (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) أمر من الله ـ تعالى ـ لأتباع سيدنا عيسى ـ عليه‌السلام ـ الذين وجدوا قبل بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يحكموا فيما بينهم بمقتضى أحكام الإنجيل بدون تحريف أو تبديل. أما الذين وجدوا بعد بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمن الواجب عليهم أن يصدقوه ويتبعوا شريعته ، لأن الشريعة التي جاء بها صلى‌الله‌عليه‌وسلم نسخت ما قبلها من شرائع.

قال الآلوسى ما ملخصه ، قوله : (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) أمر مبتدأ لهم بأن يحكموا ويعلموا بما فيه من الأمور التي من جملتها دلائل رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما قررته شريعته الشريفة من أحكام ، وأما الأحكام المنسوخة فليس الحكم بها حكما بما أنزل الله ، بل هو إبطال وتعطيل له إذ هو شاهد بنسخها وانتهاء وقت العمل بها ، لأن شهادته بصحة ما ينسخها من الشريعة الأحمدية شاهدة بنسخها. واختار كونه أمرا مبتدأ الجبائي.

وقيل هو حكاية للأمر الوارد عليهم بتقدير فعل معطوف على قوله (وَآتَيْناهُ).

أى : ـ وآتينا عيسى ابن مريم الإنجيل فيه هدى ونور ـ وقلنا ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه. وحذف القول ـ لدلالة ما قبله عليه ـ كثير في الكلام. ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ).

واختار ذلك على بن عيسى.

وقرأ حمزة (وَلْيَحْكُمْ) ـ بكسر اللام وفتح الميم ـ بأن مضمرة ـ بعد لام كي ـ والمصدر معطوف على (هُدىً وَمَوْعِظَةً) على تقدير كونهما معللين. أى : وآتيناه ليحكم (٢).

وقوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) تذييل مقرر ومؤكد لوجوب الامتثال لأحكام الله ـ تعالى ـ. أى : ومن لم يحكم بما أنزل الله ، فأولئك هم المتمردون الخارجون عن جادة الحق. وعن السنن القويم ، والصراط المستقيم.

__________________

(١) تفسير الرازي ج ١٢ ص ٩

(٢) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ١٥٠

١٧٧

قال أبو حيان : قوله (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) ناسب هنا ذكر الفسق ، لأنه خرج عن أمر الله ـ تعالى ـ إذ تقدم قوله : (وَلْيَحْكُمْ) وهو أمر كما قال ـ تعالى ـ للملائكة (اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ).

أى : خرج عن طاعته» (١) وقال صاحب المنار ما ملخصه : وأنت إذا تأملت الآيات السابقة ظهر لك نكتة التعبير بالكفر في الأولى وبوصف الظلم في الثانية ، وبوصف الفسوق في الثالثة.

ففي الآية الأولى كان الكلام في التشريع ، وإنزال الكتاب مشتملا على الهدى والنور ، والتزام الأنبياء وحكماء العلماء بالعمل والحكم به. فكان من المناسب أن يختم الكلام ببيان أن كل معرض عن الحكم به لعدم الإذعان له ، مؤثرا لغيره عليه. يكون كافرا به.

وأما الآية الثانية فلم يكن الكلام فيها في أصل الكتاب الذي هو ركن الإيمان ، بل في عقاب المعتدين على الأنفس أو الأعضاء. فمن لم يحكم بحكم الله في ذلك يكون ظالما في حكمه.

وأما الآية الثالثة فهي في بيان هداية الإنجيل وأكثرها مواعظ وآداب وترغيب في إقامة الشريعة على الوجه الذي يطابق مراد الشارع وحكمته. فمن لم يحكم بهذه الهداية ممن خوطبوا فهم الفاسقون بالمعصية ، والخروج عن محيط تأديب الشريعة (٢).

وبعد أن تحدث ـ سبحانه ـ عن التوراة والإنجيل وما فيهما من الهدى والنور ، وأمر باتباع تعاليمهما .. عقب ذلك بالحديث عن القرآن الكريم الذي أنزله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ـ تعالى ـ :

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً

__________________

(١) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج ٣ ص ٥٠

(٢) تفسير المنار ج ٦ ص ٤٠٤.

١٧٨

وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(٥٠)

قوله : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ). معطوف على قوله قبل ذلك (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ).

والمراد بالكتاب الأول : القرآن الكريم وأل فيه للعهد.

والمراد بالكتاب الثاني : جنس الكتب السماوية المتقدمة فيشمل التوراة والإنجيل وأل فيه للجنس وقوله (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) أى : رقيبا على ما سبقه من الكتب السماوية المحفوظة من التغيير ، وأمينا وحاكما عليها ؛ لأنه هو الذي يشهد لها بالصحة ويقرر أصول شرائعها.

قال ابن جرير : وأصل الهيمنة الحفظ والارتقاب. يقال : إذا رقب الرجل الشيء وحفظه وشهده : قد هيمن فلان عليه. فهو يهيمن هيمنة ، وهو عليه مهيمن» (١).

وقال صاحب الكشاف : وقرئ (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) ـ بفتح الميم ـ أى هومن عليه بأن حفظ من التغيير والتبديل كما قال ـ تعالى ـ : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ).

والذي هيمن عليه هو الله ـ عزوجل. أو الحفاظ في كل بلد ، لو حرّف حرف منه أو حركة أو سكون لتنبه له كل أحد ، ولاشمأزوا ، رادين ومنكرين» (٢).

والمعنى : لقد أنزلنا التوراة على موسى ، والإنجيل على عيسى ، وأنزلنا إليك يا محمد الكتاب

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٦ ص ٢٦٦

(٢) تفسير الكشاف ج ٦ ص ٦٤٠

١٧٩

الجامع لكل ما اشتملت عليه الكتب السماوية من هدايات وقد أنزلناه ملتبسا بالحق الذي لا يحوم حوله باطل ، وجعلناه (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ) أى : مؤيدا لما في تلك الكتب التي تقدمته : من دعوة إلى عبادة الله وحده ، وإلى التمسك بمكارم الأخلاق. وجعلناه كذلك «مهيمنا عليها» أى : أمينا ورقيبا وحاكما عليها.

فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد أشار إلى سمو مكانة القرآن من بين الكتب السماوية بإشارات من أهمها :

أنه ـ سبحانه ـ لم يقل : وقفينا على آثارهم ـ أى على آثار الأنبياء السابقين ـ بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآتيناه القرآن. كما قال في شأن عيسى ابن مريم (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) .. إلخ.

لم يقل ذلك في شأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي شأن القرآن الكريم ، وإنما قال : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) للإشارة إلى معنى استقلاله وعدم تبعيته لغيره من الكتب التي سبقته ، وللإيذان بأن الشريعة التي هذا كتابها هي الشريعة الباقية الخالدة التي لا تقبل النسخ أو التغيير.

وأنه ـ سبحانه ـ لم يزد في تعريف الكتاب الذي أنزله على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تعريفه بلام العهد فقال : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) للإشارة إلى كماله وتفوقه على سائر الكتب.

أى : أنه الكتاب الذي هو جدير بهذا الاسم ، بحيث إذا أطلق اسم الكتاب لا ينصرف إلا إليه لأنه الفرد الكامل من بين الكتب في هذا الوجود.

وأنه ـ سبحانه ـ قد وصفه بأنه قد أنزله ملتبسا بالحق والصدق ، وأنه مؤيد ومقرر لما اشتملت عليه الكتب السماوية من الدعوة إلى الحق والخير ، وأنه ـ فضلا عن كل ذلك ـ أمين على تلك الكتب ، وحاكم عليها ، فما أيده من أحكامها وأقوالها فهو حق ، وما لم يؤيده منها فهو باطل.

قال ابن كثير : جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها ، جعله أشملها وأعظمها وأكملها ، لأنه ـ سبحانه ـ جمع فيه محاسن ما قبله من الكتب وزاد فيه من الكمالات ما ليس في غيره ، فلهذا جعله شاهدا وأمينا وحاكما عليها كلها ، وتكفل ـ سبحانه ـ بحفظه بنفسه فقال : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١).

وقوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ) أمر من الله ـ تعالى ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يلتزم في حكمه بين الناس الأحكام التي أنزلها ـ سبحانه ـ

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٢ ص ٦٥

١٨٠