التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٤

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٤

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0531-4
الصفحات: ٣٦٠

درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله. وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد».

ثم قال : والتوسل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتوجه به في كلام الصحابة ، يريدون التوسل به وشفاعته. والتوسل به في عرف كثير من المتأخرين يراد به الإقسام به والسؤال به.

وحينئذ فلفظ التوسل به صلى‌الله‌عليه‌وسلم يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين ويراد به معنى ثالث لم ترد به سنة.

أما المعنيان الصحيحان. فأحدهما : التوسل بالإيمان به وبطاعته.

والثاني : دعاؤه وشفاعته. ومن هذا قول عمر بن الخطاب : اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا ـ العباس ـ فاسقنا أى بدعائه وشفاعته.

والتوسل بدعائه وشفاعته كما قال عمر ـ هو توسل بدعائه لا بذاته ، ولهذا عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بعمه العباس.

فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس ، علم أن ما يفعل في حياته قد تعذر بموته.

وأما المعنى الثالث الذي لم ترد به سنة فهو التوسل به بمعنى الإقسام على الله بذاته والسؤال بذاته ، فهذا لم يكن الصحابة يفعلونه لا في حياته ولا بعد مماته ولا عند قبره ولا غير قبره. ولا يعرف في شيء من الأدعية المشهورة بينهم وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة. أو عمن ليس قوله حجة» (١).

قال الآلوسى ما ملخصه : واستدل بعض الناس بهذه الآية على مشروعية الاستغاثة بالصالحين ، وجعلهم وسيلة بين الله ـ تعالى ـ وبين العباد والقسم على الله ـ تعالى ـ بهم ، بأن يقال : اللهم إنا نقسم عليك بفلان أن تعطينا كذا. ومنهم من يقول للغائب أو للميت من عباد الله الصالحين : يا فلان ادع الله أن يرزقني كذا وكذا ويزعمون أن ذلك من ابتغاء الوسيلة وكل ذلك بعيد عن الحق بمراحل.

وتحقيق الكلام في هذا المقام أن الاستغاثة بمخلوق وجعله وسيلة بمعنى طلب الدعاء منه لا شك في جوازه إن كان المطلوب منه حيا ، ولا يتوقف على أفضليته من الطالب ، بل قد يطلب الفاضل من المفضول ، فقد صح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعمر لما استأذنه في العمرة : «لا تنسنا يا أخى من دعائك». ولم يرد عن أحد من الصحابة ـ وهم أحرص الناس على كل خير ـ أنه طلب من ميت شيئا.

وأما القسم على الله ـ تعالى ـ بأحد من خلقه مثل أن يقال : اللهم إنى أقسم عليك أو

__________________

(١) من كتاب الوسيلة «للإمام ابن تيمية» نقلا عن تفسير القاسمى ج ٦ ص ١٩٦٨

١٤١

أسألك بفلان إلا ما قضيت لي حاجتي ، فعن ابن عبد السلام جواز ذلك في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه سيد ولد آدم. ولا يجوز أن يقسم على الله بغيره من الأنبياء أو الملائكة أو الأولياء. لأنهم ليسوا في درجته.

ومن الناس من منع التوسل بالذات ، والقسم على الله بأحد من خلقه مطلقا ، وهو الذي ترشح به كلام ابن تيمية ونقله عن أبى حنيفة وأبى يوسف ، وغيرهما من العلماء الأعلام. ثم قال بعد كلام طويل :

وبعد هذا كله فأنا لا أرى بأسا في التوسل إلى الله ـ تعالى ـ بجاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيا وميتا ويراد من الجاه معنى يرجع إلى صفة من صفاته ـ تعالى ـ مثل أن يراد به المحبة التامة المستدعية عدم رده وقبول شفاعته فيكون معنى القائل : إلهى أتوسل بجاه نبيك صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تقضى لي حاجتي ، أى : إلهى أجعل محبتك له وسيلة في قضاء حاجتي ، بل لا أرى بأسا ـ أيضا ـ في الإقسام على الله ـ تعالى ـ بجاهه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا المعنى.

ثم قال : وإن الناس قد أكثروا من دعاء غير الله ـ تعالى ـ من الأولياء. الأحياء منهم والأموات وغيرهم. مثل يا سيدي فلان أغثنى. وليس ذلك من التوسل المباح في شيء.

واللائق بحال المؤمن عدم التفوه بذلك. وأن لا يحوم حول حماه ، وقد عده بعض العلماء شركا ، وإن لا يكنه فهو قريب منه.

فالحزم التجنب عن ذلك وعدم الطلب إلا من الله ـ تعالى ـ القوى الغنى الفعال لما يريد» (١).

وبعد أن حض ـ سبحانه ـ عباده المؤمنين على تقواه والتقرب إليه بصالح الأعمال لكي ينالوا الفلاح والنجاح ، عقب ذلك ببيان ما أعده للكافرين من عذاب أليم فقال ـ تعالى ـ :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ)(٣٧)

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ١٢٤

١٤٢

والمعنى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بآياتنا وجحدوا الحق الذي جاءتهم به رسلنا (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) أى : لو أن لهم جميع ما في الأرض من أموال وخيرات ومنافع (وَمِثْلَهُ مَعَهُ) أى : وضعفه معه ، وقدموا كل ذلك (لِيَفْتَدُوا بِهِ) أى : ليخلصوا به أنفسهم (مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) أى : ما قبله الله منهم ، لأن سنته قد اقتضت أن تكون نجاة الإنسان من العذاب يوم القيامة متوقفة على الإيمان والعمل الصالح ، لا على الأموال وما يشبهها من حطام الدنيا مهما عظم شأنها وكثر عددها. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أى : شديد في آلامه وأوجاعه.

فالآية الكريمة تبين ما أعده الله ـ تعالى ـ يوم القيامة للكافرين بآياته من عذاب أليم ، لن يصرفه عنهم صارف مهما قدموا من ثمن ، أو بذلوا من أموال.

وقوله (لَوْ أَنَّ لَهُمْ). إلخ ، جملة شرطية جوابها قوله تعالى (ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) وهذه الجملة الشرطية وجوابها خبر إن في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا).

وصدرت الآية الكريمة بأداة التوكيد «إن» للرد على ما ينكره الكافرون من وقوع عذاب عليهم يوم القيامة فقد حكى القرآن عنهم أنهم قالوا : (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ).

والمراد بقوله : (لَوْ أَنَّ لَهُمْ) أى : لو أن لكل واحد منهم منفردا ، ما في الأرض جميعا ومثله معه ، وقدمه يوم القيامة ليخلص نفسه من العذاب ، ما قبل منه ذلك الذي قدمه. وفي ذلك ما فيه من ثبوت العذاب عليهم ووقوعه بهم لا محالة. وقوله : (جَمِيعاً) توكيد للموصول وهو (ما) في قوله : (ما فِي الْأَرْضِ) أو حال منه. وقوله : (وَمِثْلَهُ) معطوف على اسم أن وهو (ما) الموصولة.

وقوله : (مَعَهُ) ظرف واقع موقع الحال من المعطوف والضمير يعود إلى الموصول. وجاء الضمير المجرور في قوله (لِيَفْتَدُوا بِهِ) بصيغة الإفراد ، مع أن الذي تقدمه شيئان وهما : ما في الأرض جميعا ومثله. للإشارة إلى أنهما لتلازمهما قد صارا بمنزلة شيء واحد. أو لإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة بأن يؤول المرجع المتعدد بالمذكور أى ليفتدوا بذلك المذكور من عذاب يوم القيامة ما تقيل منهم.

ونفى ـ سبحانه ـ قبول الفدية منهم بقوله : (ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) لإفادة تأكيد هذا النفي واستبعاده ، إذ أن صيغة «التقبل» تدل على تكلف القبول أى : أنه لا يمكن قبول الفداء منهم مهما قدموا من أموال ومهما بذلوا من محاولات في سبيل الوصول لغرضهم.

قال الفخر الرازي : والمقصود من هذا الكلام التمثيل للزوم العذاب لهم ، فإنه لا سبيل لهم إلى الخلاص منه (١).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ٢٢١.

١٤٣

روى البخاري عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يؤتى بالرجل من أهل النار فيقال له : يا بن آدم كيف وجدت مضجعك؟ فيقول : شر مضجع. فيقال له. أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدى به؟ فيقول : نعم ، فيقال له : قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك : أن لا تشرك بالله شيئا فيؤمر به إلى النار» (١).

وقوله ـ تعالى ـ (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) بيان لدوام نزول العذاب بهم بعد بيان شدة آلامه وأوجاعه.

أى : يريد هؤلاء الكافرون (أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ) بعد أن ذاقوا عذابها وآلامها ، (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) أبدا ، بسبب ما ارتكبوه في الدنيا من قبائح ومنكرات (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) أى : دائم ثابت لا ينقطع.

فأنت ترى هاتين الآيتين قد بينتا سوء عاقبة الكافرين ، بعد أن رغب ـ سبحانه ـ المؤمنين في التقرب إليه بالإيمان والعمل الصالح ، وذلك لكي يزداد المؤمنون إيمانا. ولكي ينصرف الناس عن الكفر والفسوق والعصيان إلى الإيمان والطاعة والاستجابة لتعاليم الله الواحد القهار.

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ عقوبة الذين يحاربون الله ورسوله ، ودعا المؤمنين إلى التقرب إليه بالعمل الصالح وبين سوء عاقبة الكافرين. بعد أن بين كل ذلك أعقبه ببيان عقوبة السرقة فقال ـ تعالى :

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٤٠)

__________________

(١) رواه البخاري في باب «من نوقش الحساب عذب ، ومن كتاب الرقاق» ج ٨ ص ١٣٩

١٤٤

قال الجمل ما ملخصه : قوله ـ تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) .. إلخ. شروع في بيان حكم السرقة الصغرى بعد بيان أحكام الكبرى.

وقرأ الجمهور : والسارق بالرفع وفيها وجهان :

أحدهما : وهو مذهب سيبويه والمشهور من أقوال البصريين ـ أن السارق مبتدأ محذوف الخبر. والتقدير : فيما يتلى عليكم أو فيما فرض عليكم السارق والسارقة. أى : حكم السارق ، ويكون قوله (فَاقْطَعُوا) بيانا لذلك الحكم المقدر. فما بعد الفاء مرتبط بما قبلها ، ولذلك أتى بها فيه لأنه هو المقصود. ولو لم يؤت بالفاء لتوهم أنه أجنبى ، والكلام على هذا جملتان : الأولى خبرية والثانية أمرية.

والثاني : وهو مذهب الأخفش وجماعة كثيرة ـ أنه مبتدأ ـ أيضا ـ والخبر الجملة الأمرية من قوله (فَاقْطَعُوا) وإنما دخلت الفاء في الخبر ، لأنه يشبه الشرط إذ الألف واللام فيه موصولة بمعنى الذي والتي والصفة صلتها ، فهي في قوة قولك والذي يسرق والتي تسرق فاقطعوا» (١).

والمعنى : (السَّارِقُ) أى : من الرجال (وَالسَّارِقَةُ) أى : من النساء (فَاقْطَعُوا) أيديهما ، أى فاقطعوا يد كل منهما الذكر إذا سرق قطعت يده. والأنثى إذا سرقت قطعت يدها.

والخطاب في قوله : (فَاقْطَعُوا) لولاة الأمر الذين إليهم يرجع تنفيذ الحدود وجمع ـ سبحانه ـ اليد فقال «أيديهما» ولم يقل يديهما بالتثنية ، لأن فصحاء العرب يستثقلون إضافة المثنى إلى ضمير التثنية.

وقوله (جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ) بيان لسبب هذه العقوبة وللحكمة التي من أجلها شرعت. أى : اقطعوا أيديهما جزاء لهما بسبب فعلهما الخبيث ، وكسبهما السيئ ، وخيانتهما القبيحة ، ولكي يكون هذا القطع لأيديهما (نَكالاً) أى : عبرة وزجرا من الله ـ تعالى ـ لغيرهما حتى يكف الناس عن ارتكاب هذه الجريمة.

يقال : نكل فلان بفلان تنكيلا : أى : صنع به صنيعا يحذر غيره.

والاسم النكال وهو ما نكلت به غيرك. وأصله من النكل ـ بالكسر ـ وهو القيد الشديد ، وحديدة اللجام ، لكونهما مانعين وجمعه أنكال.

وسميت هذه العقوبة نكالا ، لأنها تجعل غير من نزلت به يخاف من ارتكابها حتى لا ينزل به ما نزل بمرتكبها من قطع ليده ، وفضيحة لأمره.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٤٨٨

١٤٥

وقوله : (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أى : والله ـ تعالى ـ غالب على أمره ، حكيم في شرائعه وتكاليفه.

قال صاحب المنار ما ملخصه. وقد كانت العرب بدوها وحضرها تفهم الكثير من وضع أسماء الله ـ تعالى ـ في الآيات بحسب المناسبة.

ومن ذلك ما نقل الأصمعى أنه قال : كنت أقرأ سورة المائدة ، ومعى أعرابى ، فقرأت هذه الآية فقلت و (اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) سهوا فقال الأعرابى كلام من هذا؟ فقلت : كلام الله. قال : أعد فأعدت و (اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ثم تنبهت فقلت : (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فقال : الآن أصبت فقلت له. كيف عرفت؟ فقال : يا هذا (عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فأمر بالقطع ، فلو غفر ورحم لما أمر بالقطع.

فقد فهم الأعرابى الأمى أن مقتضى العزة والحكمة ، غير مقتضى المغفرة والرحمة وأن الله ـ تعالى ـ يضع كل اسم موضعه من كتابه» (١).

ثم فتح ـ سبحانه ـ لعباده باب التوبة فقال ـ تعالى ـ : (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ).

أى : فمن تاب إلى الله ـ تعالى ـ توبة صادقة من بعد ظلمه لنفسه بسبب إيقاعها في المعاصي التي من أكبرها السرقة وأصلح عمله بالطاعات التي تمحو السيئات (فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) أى : يقبل توبته ، ويغسل حوبته ، إن الله واسع المغفرة والرحمة ومن مظاهر ذلك أنه سبحانه ـ فتح لعباده باب التوبة والإنابة.

فالآية الكريمة ترغب العصاة من السراق وغيرهم في التوبة إلى الله ، وفي الرجوع إلى طاعته حتى ينالوا مغفرته ورحمته.

ثم ساق ـ سبحانه ـ ما يدل على شمول قدرته ، ونفاذ إرادته بصيغة الاستفهام التقريرى فقال ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بحيث يتصرف فيهما وفي غيرهما من خلقه تصرف المالك في ملكه بدون مدافع أو منازع.

فالاستفهام هنا لتقرير العلم وتأكيده. أى إنك تعلم أيها العاقل ذلك علما. متيقنا ، فاعمل بمقتضى هذا العلم ، بأن تكون مطيعا لخالقك في كل ما أمر ونهى وبأن تدعو غيرك إلى هذه الطاعة.

وقوله : (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) تأكيد لشمول قدرته ونفاذ إرادته ، أى : هو ـ

__________________

(١) تفسير المنار ج ٦ ص ٣٨٤

١٤٦

سبحانه ـ المالك لكل شيء ، والخالق لكل شيء وهو صاحب السلطان المطلق في خلقه ، فله ـ سبحانه ـ أن يعذب من يشاء تعذيبه وله أن يرحم من يشاء رحمته.

قال الآلوسى : وكان الظاهر لحديث : «سبقت رحمتي غضبى» ، تقديم المغفرة على التعذيب ، وإنما عكس هنا ، لأن التعذيب للمصر على السرقة ، والمغفرة للتائب منها. وقد قدمت السرقة في الآية أولا ثم ذكرت التوبة بعدها فجاء هذا اللاحق على ترتيب السابق.

أو لأن المراد بالتعذيب القطع ، وبالمغفرة التجاوز عن حق الله ـ تعالى ـ والأول في الدنيا والثاني في الآخرة ، فجيء به على ترتيب الوجود. ولأن المقام مقام الوعيد (١).

وقوله : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تذييل مؤكد لما قبله ، ومقرر لشمول قدرته ـ سبحانه ـ على كل شيء.

هذا وقد تكلم العلماء عن معنى السرقة ، وعن شروط إقامة حدها ، وعن طريقة إثباتها. وعن غير ذلك من المسائل المتعلقة بها ، تكلموا عن كل ذلك باستفاضة في كتب الفقه وفي بعض كتب التفسير.

ونرى أنه لا بأس من ذكر خلاصة لبعض المسائل التي تحدثوا عنها فنقول :

١ ـ عرف الفقهاء السرقة شرعا بأنها أخذ العاقل البالغ مقدارا مخصوصا من المال على طريق الاستخفاء من حرز بمكان أو حافظ وبدون شبهة.

٢ ـ وقد ذهب بعض الفقهاء من أهل الظاهر إلى أنه متى سرق السارق شيئا قطعت يده به ، سواء أكان قليلا أم كثيرا ، لعموم هذه الآية.

ولكن جمهور الفقهاء يرون أنه لا تقطع يد السارق إلا إذا بلغ المسروق قدرا معينا من المال ، وقد تفاوتت أنظارهم في هذا القدر.

فالاحناف يرون أنه لا قطع إلا في عشرة دراهم فصاعدا ، أو فيما قيمته عشرة دراهم. ومن حججهم ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا قطع فيما دون عشرة دراهم».

والمالكية والشافعية يرون أنه لا قطع إلا في ربع دينار أو فيما قيمته ذلك.

ومن حججهم ما روى عن عائشة أنها قالت : «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا».

قال القرطبي : وظاهر الآية العموم في كل سارق وليس كذلك لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تقطع يد

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ١٣٥

١٤٧

السارق إلا في ربع دينار فصاعدا» فبين أنه إنما أراد بقوله (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) بعض السراق دون بعض ، فلا تقطع يد السارق في أقل من ربع دينار ، ويقطع في ربع دينار أو فيما قيمته ربع دينار أو في ثلاثة دراهم .. وقال أحمد : إن سرق ذهبا فربع دينار. وإن سرق غير الذهب والفضة فالقيمة ربع دينار أو ثلاثة دراهم من الورق».

وقال أبو حنيفة وصاحباه والثوري : لا تقطع يد السارق إلا في عشرة دراهم كيلا ، أو في دينار ذهبا عينا أو وزنا. ولا يقطع حتى يخرج بالمتاع من ملك صاحبه .. ثم قال : وتقطع اليد من الرسغ. ولا خلاف في أن اليمنى هي التي تقطع أولا» (١).

٣ ـ وقد اشترط الفقهاء في المال المسروق الذي تقطع فيه يد السارق أن يكون ما لا محرزا ، أى مصونا محفوظا معنيا بحفظه العناية اللائقة بمثله.

قال القرطبي : الحرز هو ما نصب عادة لحفظ أموال الناس ، وهو يختلف في كل شيء بحسب حاله. قال ابن المنذر : ليس في هذا الباب خبر ثابت لا مقال فيه لأهل العلم. وإنما ذلك كالإجماع من أهل العلم. وحكى عن الحسن وأهل الظاهر أنهم لم يشترطوا الحرز. وفي الموطأ لمالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا قطع في ثمر معلق ـ أى في ثمر على الأشجار ـ ولا حريسة جبل ـ أى ما يحرس بالجبل ـ فإذا أواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن» (٢).

كذلك اشترطوا عدم الشبهة في المال المسروق ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم».

فلا يقطع من سرق ما لا له فيه شركة ، أو سرق من مدينه مثل دينه ، ولا يقطع العبد إذا سرق من مال سيده. ولا الأب إذا سرق من مال ابنه وما أشبه ذلك لوجود الشبهة.

كذلك اشترطوا في المسروق الذي يجب فيه الحد أن يكون ما لا متقوما. أى : مما يتموّله الناس ، ويعدونه لمقاصدهم المختلفة فلا تقطع يد السارق إذا سرق شيئا تافها ، أو سرق شيئا مما لا يتمول كالتراب والطين والماء وما يشبه ذلك.

كذلك اشترطوا فيه ألا يكون مما يحرم تناوله أو استعماله. فإذا كان مما يحرم تناوله أو استعماله كالخمر أو الخنزير أو أدوات اللهو والمجون فإنه في تلك الأحوال لا تقطع يد السارق.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ١٦٠ بتصرف وتلخيص.

(٢) في المعجم الوسيط : المراح : مأوى الماشية ج ١ ص ٣٨١. والجرين : الجرن ، وهو الموضع الذي يداس به البر ونحوه وتجفف فيه الثمار ج ١ ص ١١٩ ، والمجن : الترس يتقى به في الحرب وثمنه ثلاثة دراهم.

١٤٨

وهكذا نرى أن الشريعة الإسلامية وإن كانت قد شرعت العقوبات الشديدة لزجر العصاة والمفسدين والخائنين .. إلا أنها لا تطبق هذه العقوبات إلا على الذين يستحقونها ، وفي أضيق الحدود ، وبأدق الشروط ، عملا بقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم».

ولو أن المسلمين ساروا على هدى شريعة الله لنالوا الأمان والاطمئنان في دنياهم ، والفوز والرضا من الله ـ تعالى ـ في أخراهم.

٤ ـ كذلك أخذ أكثر الشافعية والحنابلة من قوله ـ تعالى ـ (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) أن التوبة تمنع إقامة الحد.

قالوا : لأن هذه الآية قد اقترنت بقوله ـ تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) فكانت مخصصة للعموم في الأمر بالقطع ، وإلا ما اقترنت به ولأنه قد ورد في الأحاديث الصحيحة أن التوبة تجب ما قبلها ومن ذلك قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» ويرى الأحناف والمالكية أن التوبة لا تسقط الحد ، لأن الأمر بالقطع عام يشمل التائب وغير التائب ، والتوبة المنصوص عليها في هذه الآية هي ما يكون بعد إقامة الحد كما جاءت بذلك الأحاديث النبوية.

قال ابن كثير : قوله ـ تعالى ـ (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ). إلخ. أى : من تاب بعد سرقته وأناب إلى الله إن الله يتوب عليه فيما بينه وبينه. فأما أموال الناس فلا بد من ردها إليهم أو رد بدلها. وهذا عند الجمهور.

وقال أبو حنيفة : متى قطع وقد تلفت في يده فإنه لا يرد بدلها.

وقد روى الدّارقطنيّ عن أبى هريرة أن رسول الله أتى بسارق قد سرق شملة فقال «ما إخاله قد سرق». فقال السارق : بلى يا رسول الله. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم ائتوني به». فقطع فأتى به فقال : تب إلى الله ، فقال : تبت إلى الله. فقال : «تاب الله عليك» ـ أى : قبل توبتك.

وروى ابن ماجة عن ثعلبة الأنصارى : أن عمر بن سمرة جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا رسول الله ، إنى سرقت جملا لبنى فلان فطهرني. فأرسل إليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : إنا افتقدنا جملا لنا. فأمر به فقطعت يده وهو يقول : الحمد لله الذي طهرني منك. أردت أن تدخلي جسدي النار».

روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاء بها الذين سرقتهم فقالوا : يا رسول الله : إن هذه المرأة سرقتنا ، قال قومها : فنحن نفديها فقال

١٤٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «اقطعوا يدها. فقطعت يدها اليمنى. فقالت المرأة : هل لي من توبة يا رسول الله؟ قال : نعم. أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك ، فأنزل الله ـ تعالى ـ : (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) الآية (١).

هذه خلاصة لبعض المسائل والأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآيات الكريمة ، ومن أراد المزيد من ذلك فليرجع إلى ما كتبه الفقهاء في كتبهم ، وإلى ما كتبه بعض المفسرين في تفاسيرهم (٢).

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ ما بين من تكاليف قويمة ، وشرائع حكيمة ، تهدى من اتبعها إلى السعادة في الدنيا والآخرة. أتبع ذلك بالحديث عن بعض الوسائل الخبيثة التي اتبعها اليهود وأشباههم لكيد الدعوة الإسلامية ، فذكر تلاعبهم بأحكامه ـ تعالى ـ ، ومحاولتهم فتنة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند تقاضيهم أمامه ، وحذر ـ سبحانه ـ رسوله من مكرهم وساق له ما يسليه ويشرح صدره ، فقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١)

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٦

(٢) تفسير القرطبي ج ٦ ص ١٥٩ وما بعدها.

١٥٠

سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ)(٤٣)

وردت أحاديث متعددة في سبب نزول هذه الآيات الكريمة ، ومن ذلك : ما أخرجه البخاري عن ابن عمر ـ رضى الله عنهما ـ أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة قد زنيا. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا : نفضحهم ويجلدون. فقال عبد الله بن سلام : كذبتم. إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها.

فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها. فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك. فرفع يده فإذا آية الرجم ، فقالوا : صدق يا محمد ؛ فيها آية الرجم. فأمر بهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرجما.

فقال عبد الله بن عمر : فرأيت الرجل يميل نحو المرأة يقيها الحجارة (١).

وروى مسلم في صحيحه عن البراء بن عازب قال : مر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيهودي محمم مجلود ـ أى قد وضع الفحم الأسود على وجهه للتنكيل به ـ فدعاهم فقال. هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقالوا : نعم فدعا رجلا من علمائهم فقال : أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقال : لا والله ولو لا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك ، تجد حد الزاني في كتابنا الرجم ، ولكنه كثر في أشرافنا ، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه. وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد. فقلنا : تعالوا حتى نجعل شيئا نقيمه على الشريف والوضيع. فاجتمعنا على التحميم والجلد ـ مكان الرجم.

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللهم إنى أول من أحيا أمرك إذ أماتوه قال : فأمر به فرجم. قال : فأنزل

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب الحدود ج ٨ ص ٢١٣ طبعه مصطفى الحلبي سنة ١٣٤٥ ه

١٥١

الله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ) (١).

وأخرج الإمام أحمد عن ابن عباس قال : إن الله أنزل : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) و (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).

قال ابن عباس : أنزلها الله في الطائفتين من اليهود. وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية ، حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا (٢). وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق. فكانوا على ذلك حتى قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا ، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا لنا بمائة وسق فقالت الذليلة : وهل كان في حيين دينهما واحد ونسبهما واحد ، وبلدهما واحد ، دية بعضهم نصف دية بعض؟ إنما أعطيناكم هذا خوفا منكم ، فأما إذ قدم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا نعطيكم ، فكادت الحرب تهيج بينهما. ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حكما بينهم. ثم ذكرت العزيزة فقالت : والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم. ولقد صدقوا. ما أعطونا هذا إلا خوفا منا. فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه. إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه ، وإن لم يعطكم لا تحكموه. فدسوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ناسا من المنافقين ليخبروا لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما جاءوه أخبر الله رسوله بأمرهم كله وما أرادوا. فأنزل الله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ) إلى قوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٣).

قال ابن كثير ـ بعد أن ساق هذه الأحاديث وغيرها ـ فهذه الأحاديث دالة على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حكم بما يوافق حكم التوراة. وليس هذا من باب الإكرام لهم بما يعتقدون صحته ، لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة ، ولكن هذا بوحي خاص من الله ـ تعالى ـ إليه بذلك وسؤالهم إياه عن ذلك ليقررهم على ما بأيديهم مما تواطأوا على كتمانه وجحوده وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة. فلما اعترفوا به مع عملهم على خلافه ، ظهر زيفهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم ، وعدولهم إلى تحكيم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما كان عن هوى منهم وشهوة لموافقة آرائهم لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به ، ولهذا قالوا : (إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ) ، أى : إن حكم بالجلد والتحميم فاقبلوا حكمه ، (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) أى : وإن لم يحكم بذلك فاحذروا من قبوله واتباعه (٤).

__________________

(١) صحيح مسلم ـ كتاب الحدود ج ٥ ص ١٢٢ طبعة مصطفى الحلبي سنة ١٣٨٠ ه

(٢) الوسق : ستون صاعا.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٦٠

(٤) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٨

١٥٢

وبمطالعتنا لهذه الأحاديث التي وردت في سبب نزول الآيات ، نراها جميعها قد وردت بأسانيدها صحيحة وفي كتب السنة المعتمدة ، وأن بعضها قد حكى أن الآيات نزلت في شأن القضية التي تحاكم فيها اليهود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعضها قد حكى أنها نزلت في قضية دماء. ولا تعارض بين هذه الأحاديث ، فقد يكون هذان السببان قد حصلا في وقت واحد ، أو متقارب ، فنزلت هذه الآيات فيهما معا. وقد قرر العلماء أنه لا مانع من تعدد أسباب النزول للآية الواحدة أو للطائفة من الآيات.

هذا ، وقد افتتحت هذه الآيات الكريمة بنداء من الله ـ تعالى ـ لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ـ سبحانه ـ : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا).

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ (لا يَحْزُنْكَ) قرأ نافع بضم الياء وكسر الزاى وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الزاى. والحزن خلاف السرور. ويقال : حزن الرجل ـ بالكسر ـ فهو حزن وحزين» (١).

والمعنى : يا أيها الرسول الكريم إن ربك يقول لك : لا تهتم ولا تبال بهؤلاء المنافقين ، وبأولئك اليهود الذين يقعون في الكفر بسرعة ورغبة ، ويقولون بأفواههم آمنا بك وصدقناك ، مع أن قلوبهم خالية من الإيمان ، ومليئة بالنفاق والفسوق والعصيان .. لا تهتم ـ أيها الرسول الكريم ـ بهؤلاء جميعا ، فإنى ناصرك عليهم ، وكافيك شرهم.

وفي ندائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعنوان الرسالة (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) تشريف له وتكريم وإشعار بأن وظيفته كرسول أن يبلغ رسالة الله دون أن يصرفه عن ذلك عناد المعاندين ، أو كفر الكافرين ، فإن تكاليف الرسالة تحتم عليه الصبر على أذى أعدائه حتى يحكم الله بينه وبينهم.

والنهى عن الحزن ـ وهو أمر نفسي لا اختيار للإنسان فيه ـ المراد به هنا : النهى عن لوازمه ، كالإكثار من محاولة تجديد شأن المصائب. وتعظيم أمرها ، وبذلك تتجدد الآلام ، وتعز السلوى.

وفي هذه الجملة الكريمة تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتأنيس لقلبه ، وإرشاد له إلى ما سيقع له من أعدائه من شرور حتى لا يتأثر بها عند وقوعها.

وفي التعبير بقوله : (يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) ذم لهم على انحدارهم في دركات الكفر بسرعة من غير مواناة ولا تدبر ولا تفكر. فهم يتنقلون بحركات سريعة في ثنايا الكفر ومداخله دون أن

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ١٨١

١٥٣

يزعهم وازع من خلق أو دين.

قال صاحب الكشاف : يقال : أسرع فيه الشيب ، وأسرع فيه الفساد بمعنى : وقع فيه سريعا. فكذلك مسارعتهم في الكفر عبارة عن إلقائهم أنفسهم فيه على أسرع الوجوه ، بحيث إذا وجدوا فرصة لم يخطئوها» (١) وقال أبو السعود : والمسارعة في الشيء : الوقوع فيه بسرعة ورغبة. وإيثار كلمة (فِي) على كلمة إلى ، للإيمان إلى أنهم مستقرون في الكفر لا يبرحونه.

وإنما ينتقلون بالمسارعة عن بعض فنونه وأحكامه إلى بعض آخر منها ، كإظهار موالاة المشركين ، وإبراز آثار الكيد للإسلام ونحو ذلك» (٢) وقوله : (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) بيان لأولئك المسارعين في الكفر. والمتنقلين في دركاته من دركة إلى دركة.

وقوله (بِأَفْواهِهِمْ) متعلق بقوله : (قالُوا) وقوله : (وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) جملة حالية من ضمير ، قالوا.

وقوله : (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) معطوف على قوله : (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ) وعليه فيكون الذين هادوا داخلين في الذين يسارعون في الكفر.

أى أن المسارعين في الكفر فريقان : فريق المنافقين الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، وفريق اليهود الذين تميزوا بهذا الإسم واشتركوا مع المنافقين في نفاقهم والمعنى : لا تهتم يا محمد بأولئك الذين يسارعون في الكفر من المنافقين واليهود الذين من صفاتهم أنهم يظهرون الإيمان على أطراف ألسنتهم والحال أن قلوبهم خالية منه.

وعلى هذا المعنى يكون الكلام قد تم عند قوله ـ تعالى ـ (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) ، ويكون ما بعده وهو قوله : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ). ألخ. من أوصاف الفريقين معا ، لأنهم مشتركون في المسارعة في الكفر.

ومنهم من يرى أن قوله تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) جمله مستأنفة لبيان أحوال فريق آخر من الناس وهم اليهود ، وأن قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) إلخ. من أوصاف هؤلاء اليهود ، وأن الكلام قد تم عند قوله ـ تعالى ـ (وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) وأن البيان بقوله : (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) لفريق المنافقين.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦٣٢ بتصرف يسير

(٢) تفسير أبو السعود ج ٢ ص ٢٧

١٥٤

قال الفخر الرازي : قوله (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) ذكر الفراء والزجاج ها هنا وجهين :

الأول : أن الكلام إنما يتم عند قوله : (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) ثم يبدأ الكلام من قوله (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ) وتقدير الكلام لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من المنافقين ومن اليهود ثم بعد ذلك وصف الكل بكونهم سماعين للكذب.

الثاني : أن الكلام تم عند قوله ـ تعالى ـ : (وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) ثم ابتدأ من قوله : (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) وعلى هذا التقدير فقوله (سَمَّاعُونَ) صفة لمحذوف. والتقدير : ومن الذين هادوا قوم سماعون (١).

قال الجمل : الأولى والأحسن أن يكون قوله : و (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) معطوفا على البيان وهو قوله : (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا) فيكون البيان بشيئين المنافقين واليهود. أما على القول الثاني فيكون البيان بشيء واحد وهو المنافقون» (٢).

وقوله : (سَمَّاعُونَ) للكذب ؛ سماعون لقوم آخرين لم يأتوك صفتان أخريان لأولئك الذين يقعون في الكفر بسرعة ورغبة.

وقوله : (سَمَّاعُونَ) جمع سماع. وهو صيغة مبالغة جيء بها لإفادة أنهم كثير والسماع للكذب ، وأنهم لفساد نفوسهم يجدون لذة في الاستماع إليه من رؤسائهم وأحبارهم ، ومن هم على شاكلتهم في العناد والضلال.

واللام في قوله : (لِلْكَذِبِ) للتقوية أى : أنهم يسمعون الكذب كثيرا سماع قبول وتلذذ ، ويأخذونه ممن يقوله من أعداء الإسلام على أنه حقائق ثابتة لا مجال للريب فيها.

وقيل إن اللام للتعليل أى أنهم كثير والسماع لكلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأخباره من أجل الكذب عليه ، عن طريق تغيير وتبديل ما سمعوه على حسب ما تهواه نفوسهم المريضة.

وقوله : (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) بيان لمسلك آخر من مسالكهم الخبيثة بعد بيان احتفالهم بالأخبار الكاذبة ، وتقبلها بفرح وسرور.

أى : أن هؤلاء المسارعين في الكفر من المنافقين واليهود من صفاتهم أنهم كثير والسماع للأكاذيب التي يروجها أعداء الدعوة الإسلامية ضدها كثير والسماع والقبول والاستجابة لما يقوله عنها قوم آخرون من أعدائها لم يحضروا مجالس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكبرا وعتوا.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ٢٣٢

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٤٠٠

١٥٥

ويجوز أن يكون المعنى : أنهم كثير والسماع للكذب عن محبة ورغبة ، وأنهم كثير والسماع لما يقوله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لينقلوه إلى قوم آخرين ـ من أشباههم في الكفر والعناد ـ ولم يحضروا مجالس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنفة وبغضا فأنت ترى أن القرآن قد وصفهم بفساد بواطنهم حيث استحبوا الكذب على الصدق. كما وصفهم بضعف نفوسهم حيث صاروا مطايا لغيرهم يطيعون أمرهم ويبلغون أخبار المسلمين ، فهم عيون على المسلمين ليبلغوا أخبارهم إلى زعماء الكفر والنفاق.

وإلى هذين المعنيين أشار صاحب الكشاف بقوله : ومعنى (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) : قابلون لما يفتريه الأحبار ويفتعلونه من الكذب على الله وتحريف كتابه ، من قولك : الملك يسمع كلام فلان ، ومنه سمع الله لمن حمده.

وقوله : (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) يعنى اليهود الذين لم يصلوا إلى مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتجافوا عنه لما أفرط فيهم من شدة البغضاء. وتبالغ من العداوة ، أى : قابلون من الأحبار ومن أولئك المفرطين في العداوة الذين لا يقدرون أن ينظروا إليك وقيل : سماعون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأجل أن يكذبوا عليه ، بأن يمسخوا ما سمعوا منه بالزيادة والنقصان والتبديل والتغيير سماعون من رسول الله لأجل قوم آخرين من اليهود وجهوهم عيونا ليبلغوهم ما سمعوا منه» (١).

وقوله : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ). صفة أخرى للقوم الآخرين الذين لم يأتوا إلى مجالس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنفة وبغضا. أو للمسارعين في الكفر من الفريقين.

وقوله : (يُحَرِّفُونَ) من التحريف وأصله من الحرف وهو طرف الشيء.

ومعناه إمالة الكلام عن معناه ، وإخراجه عن أطرافه وحدوده.

والكلم : اسم جنس جمعى للفظ كلمة ومعناه الكلام.

أى أن هؤلاء القوم الآخرين الذين لم يحضروا مجلسك نفورا منك ، أو هم والمسارعون في الكفر من المنافقين واليهود من صفاتهم ودأبهم تحريف جنس الكلم عن مواضعه. فهو يحرفون كلامك يا محمد ، ويحرفون التوراة ، ويحرفون معاني القرآن حسب أهوائهم وشهواتهم ويحرفون الحق الذي جئت به تارة تحريفا لفظيا ، وتارة تحريفا معنويا ، وتارة بغير ذلك من وجوه التحريف والتبديل.

وقوله : (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) أى : يحرفون الكلم من بعد استقرار مواضعه وبيان حلالها وحرامها.

__________________

(١) تفسير الكشاف وحاشيته ج ١ ص ٦٣٣

١٥٦

وعبر هنا بقوله «من بعد مواضعه» وفي مواطن أخرى بقوله (عَنْ مَواضِعِهِ) لأن المقام هنا للحديث عن الأحكام المستقرة الثابتة التي حاول أولئك المسارعون في الكفر تغييرها وإحلال أحكام أخرى محلها تبعا لأهوائهم كما حدث في قضية الزنا وفي غيرها من القضايا التي تحاكموا فيها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان من المناسب هنا التعبير بقوله : (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) أى : من بعد استقرار مواضعه وثبوتها ثبوتا لا يقبل التحريف أو التغيير أو الإهمال.

وقوله : (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) بيان لما نطقت به أفواه أولئك الذين لم يحضروا مجالس رسول الله من مكر وخداع وضلال.

أى : أن أولئك القوم الآخرين الذين لم يحضروا مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنادا وتكبرا لم يكتفوا بتحريف الكلم عن مواضعه هم وأشياعهم. بل كانوا إلى جانب ذلك يقولون لمطاياهم السامعين منهم أو السامعين من أجلهم : يقولون لهم عند ما أرسلوهم إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليحكم بينهم (إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ) أى : إن أفتاكم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمثل هذا الذي نفتيكم به ـ كالجلد والتحميم بدل الرجم ـ فاقبلوا حكمه وخذوه واعملوا به (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) أى : وإن أفتاكم بغير ما أفتيناكم به فاحذروا قبول حكمه ، وإياكم أن تستجيبوا له ، أو تميلوا إلى ما قاله لكم.

واسم الإشارة هذا في قوله : (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا) يعود إلى القول المحرف الذي تواضع أحبار اليهود على الإفتاء به تبعا لأهوائهم. كما حدث منهم في قضية الزنا حيث غيروا حكم الرجم بحكم آخر هو الجلد والتحميم.

وفي ترتيب الأمر بالحذر على مجرد عدم إيتاء المحرف ، إشارة إلى تخوفهم الشديد من ميل أتباعهم إلى حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهم يحذرونهم بشدة من الاستماع إلى ما يقوله لهم مما يخالف ما تواضعوا عليه من أباطيل.

وقوله : (إِنْ أُوتِيتُمْ) مفعول لقوله (قَدِيرٌ). واسم الإشارة (يَقُولُونَ) مفعول ثان «لأوتيتم» والأول نائب الفاعل وقوله : (فَخُذُوهُ) جواب الشرط ثم بين ـ سبحانه ـ سوء عاقبتهم فقال : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً ، أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ).

أى : ومن يقض الله بكفره وضلاله ، فلن تملك له ـ أيها الرسول الكريم ـ شيئا من الهداية لتدفع بها ضلاله وكفره ، أولئك الموصوفون بما ذكر من الصفات الذميمة لم يرد الله ـ تعالى ـ أن يطهر قلوبهم من النفاق والضلال ؛ لأنهم استحبوا العمى على الهدى ، (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) أى : فضيحة وهوان بسبب ظهور كذبهم ، وفساد نفوسهم ، وانتشار تعاليم

١٥٧

الإسلام التي يحاربونها ويشيعون الأباطيل حولها وحول من جاء بها صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) وهو خلودهم في النار بسبب اجتراحهم السيئات ، ومحاربتهم لمن جاءهم بالحق والهدى والسعادة.

ثم كشف ـ سبحانه ـ عن رذيلة أخرى من رذائلهم المتعددة فقال ـ تعالى ـ : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ).

والسحت : هو كل ما خبث كسبه وقبح مصدره ، كالتعامل بالربا وأخذ الرشوة وما إلى ذلك من وجوه الكسب الحرام.

وقد بسط الإمام القرطبي هذا المعنى فقال : والسحت في اللغة أصله الهلاك والشدة.

قال ـ تعالى ـ (فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) أى : ـ فيهلككم ويستأصلكم بعذاب ـ ويقال للحالق : أسحت أى استأصل. وقال الفراء : أصل السحت كلب الجوع. يقال رجل مسحوت المعدة أى : أكول ، فكأن بالمسترشى وآكل الحرام من الشره إلى ما يعطى مثل الذي بالمسحوت المعدة من النهم.

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كل لحم نبت بالسحت فالنار أولى به» قالوا يا رسول الله وما السحت؟ قال : «الرشوة في الحكم».

وقال بعضهم : من السحت أن يأكل الرجل بجاهه. وذلك بأن يكون له جاه عند السلطان فيسأله إنسان حاجة فلا يقضيها إلا برشوة يأخذها» (١).

والمعنى : أن هؤلاء المنافقين واليهود من صفاتهم ـ أيضا ـ أنهم كثير والسماع للكذب ، وكثير والأكل للمال الحرام بجميع صوره وألوانه. ومن كان هذا شأنه فلا تنتظر منه خيرا ، ولا تؤمل فيه رشدا.

وقوله : (سَمَّاعُونَ) خبر لمبتدأ محذوف أى : هم سماعون. وكرر تأكيدا لما قبله ، وتمهيدا لما بعده وهو قوله : (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ).

وجاءت هاتان الصفتان ـ سماعون وأكالون ـ بصيغة المبالغة ، للإيذان بأنهم محبون حبا جما لما يأباه الدين والخلق الكريم. فهم يستمرئون سماع الباطل من القول ، كما يستمرئون أكل أموال الناس بالباطل :

إن اليهود بصفة خاصة قد اشتهروا في كل زمان بتقبل السحت ، وقد أرشد الله ـ تعالى ـ

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٨٣ بتصرف وتلخيص.

١٥٨

نبيه إلى ما يجب عليه نحوهم إذا ما تحاكموا إليه فقال : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ، وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً ، وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

أى : فإن جاءك هؤلاء اليهود متحاكمين إليك ـ يا محمد ـ في قضاياهم ، فأنت مخير بين أن تحكم بما أراك الله ، وبين أن تتركهم وتهملهم وتعرض عنهم ، وإن تعرض عنهم ، فيما احتكموا فيه إليك ، قاصدين مضرتك وإيذاءك فلا تبال بشيء من كيدهم ، لأن الله حافظك وناصرك عليهم ، وإن اخترت الحكم في قضاياهم ، فليكن حكمك بالعدل الذي أمرت به ، لأن الله ـ تعالى ـ يحب العادلين في أحكامهم.

والفاء في قوله : (فَإِنْ جاؤُكَ) للإفصاح أى : إذا كان هذا حالهم وتلك صفاتهم فإن جاءوك متحاكمين إليك فيما شجر بينهم من خصومات (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ).

وجاء التعبير بإن المفيدة للشك ـ مع أنهم قد جاءوا إليه ـ للإيذان بأنهم كانوا مترددين في التحاكم إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنهم ما ذهبوا إليه إلا ظنا منهم بأنه سيحكم فيهم بما يتفق مع أهوائهم ، فلما حكم فيهم بما هو الحق كبتوا وندموا على مجيئهم إليه.

قال أبو السعود : وقوله : (وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ) بيان لحال الأمرين إثر تخييره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهما. وتقديم حال الإعراض ، للمسارعة إلى بيان أنه لا ضرر فيه ، حيث كان مظنة الضرر ، لما أنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأيسر والأهون عليهم ، فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة بينهم شق ذلك عليهم ؛ فتشتد عداوتهم ومضارتهم له ، فأمنه الله بقوله : (فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) من الضر (١).

وكان التعبير بإن أيضا في قوله (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) للإشارة إلى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس حريصا على الحكم بينهم بل هو زاهد فيه ، لأنهم ليسوا طلاب حق وانصاف بل هم يريدون الحكم كما يهوون ويشتهون ، والدليل على ذلك أن التوراة التي بين أيديهم فيها حكم الله ، إلا أنهم جاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤملين أن يقضى بينهم بغير ما أنزل الله ، فيشيعوا ذلك بين الناس ، ويعلنوا عدم صدقه في نبوته ، فلما حكم بما أنزل الله خاب أملهم وانقلبوا صاغرين.

وقوله : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) تذييل مقرر لما قبله من وجوب الحكم بينهم بالعدل إذا ما اختار أن يقضى بينهم.

يقال : أقسط الحاكم في حكمه ، إذا عدل وقضى بالحق فهو مقسط أى عادل ومنه قوله ـ

__________________

(١) تفسير أبى السعود ج ٢ ص ٢٩

١٥٩

تعالى ـ (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن. وكلتا يديه يمين. الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا» (١).

هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة ما يأتى :

١ ـ أن أكل السحت حرام سواء أكان عن طريق الرشوة أم عن أى طريق محرم سواها.

ولقد كان السابقون من السلف الصالح يتحرون الحلال. وينفرون من الحرام ، بل ومن الشبهات ، وكانوا يرون أن تأييد الحق ودفع الباطل واجب عليهم ، وأنه لا يصح أن يأخذوا عليه أجرا ..

قال ابن جرير : شفع مسروق لرجل في حاجة فأهدى إليه جارية ، فغضب مسروق غضبا شديدا وقال : لو علمت أنك تفعل هذا ما كلمت في حاجتك ، ولا أكلمه فيما بقي من حاجتك. سمعت ابن مسعود يقول : من شفع شفاعة ليرد بها حقا ، أو يرفع بها ظلما ، فأهدى له ، فقبل ، فهو سحت».

وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به». قيل يا رسول الله وما السحت؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الرشوة في الحكم».

وعن الحكم بن عبد الله قال : قال لي أنس بن مالك : إذا انقلبت إلى أبيك فقل له : إياك والرشوة فإنها سحت. وكان أبوه على شرط المدينة» (٢).

قال بعض العلماء : والرشوة قد تكون في الحكم وهي محرمه على الراشي والمرتشي. وقد روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لعن الراشي والمرتشي والذي يمشى بينهما» لأن الحاكم حينئذ إن حكم له بما هو حقه كان فاسقا من جهه أنه قبل الرشوة على أن يحكم بما يعرض عليه الحكم به. وإن حكم بالباطل كان فاسقا من جهة أنه أخذ الرشوة. ومن جهة أنه حكم بالباطل.

وقد تكون الرشوة في غير الحكم مثل أن يرشو الحاكم ليدفع ظلمه عنه فهذه الرشوة محرمة على آخذها غير محرمة على معطيها ، فقد روى عن الحسن أنه قال : «لا بأس أن يدفع الرجل من ماله ما يصون به عرضه». وروى عن جابر بن زيد والشعبي أنهما قالا : «لا بأس بأن يصانع الرجل عن نفسه وما له إذا خاف الظلم».

__________________

(١) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة ج ٦ ص ٧

(٢) تفسير ابن جرير ج ٦ ص ٢٤٠ ـ بتصرف يسير.

١٦٠