التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٤

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٤

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0531-4
الصفحات: ٣٦٠

والمعنى : (إِنِّي أُرِيدُ) بامتناعى عن التعرض لك ببسط يدي (أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) أى : ترجع بإثم قتلك إياى ، وبإثمك الذي قد كان منك قبل قتلى ، والذي بسببه لم يتقبل قربانك (فَتَكُونَ) بسبب الإثمين (مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) في الآخرة (وَذلِكَ) أى : كينونتك من أصحاب النار (جَزاءُ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم.

قال الإمام الرازي : فإن قيل : كما لا يجوز للإنسان أن يريد من نفسه أن يعصى الله ، فكذلك لا يجوز له أن يريد من غيره أن يعصى الله ، فلم قال : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ)؟

فالجواب : أن هذا الكلام إنما دار بينهما عند ما غلب على ظن المقتول أنه يريد قتله ، وكان ذلك قبل إقدام القاتل على إيقاع القتل به ، وكأنه لما وعظه ونصحه قال له : وإن كنت لا تنزجر عن هذه الكبيرة بسبب هذه النصيحة فلا بد وأن تترصد قتلى في وقت أكون غافلا عنك وعاجزا عن دفعك فحينئذ لا يمكنني أن أدفعك عن قتلى إلا إذا قتلتك ابتداء بمجرد الظن والحسبان. وهذا منى كبيرة ومعصية وإذا دار الأمر بين أن يكون فاعل هذه المعصية أنا ، وبين أن يكون أنت ، فأنا أحب أن تحصل هذه الكبيرة لك لا لي.

ومن المعلوم أن إرادة صدور الذنب من الغير في هذه الحالة ، وعلى هذا الشرط لا يكون حراما. ويجوز أن يكون المراد : إنى أريد أن تبوء بعقوبة قتلى. ولا شك أنه يجوز للمظلوم أن يريد من الله عقاب ظالمه» (١).

وقال صاحب الانتصاف : فأما إرادته ـ أى إرادة هابيل ـ لإثم أخيه وعقوبته ـ في قوله ـ تعالى (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) ـ فمعناه : إنى لا أريد أن أقتلك فأعاقب. ولما لم يكن بد من إرادة أحد الأمرين إما إثمه بتقدير أن يدفع عن نفسه فيقتل أخاه ، وإما إثم أخيه بتقدير أن يستسلم وكان غير مريد للأول. اضطر إلى الثاني.

فهو لم يرد إذا إثم أخيه لعينه ، وإنما أراد أن الإثم هو بالمدافعة المؤدية إلى القتل ـ ولم تكن حينئذ مشروعة ـ فلزم من ذلك إرادة إثم أخيه. وهذا كما يتمنى الإنسان الشهادة. ومعناه أن يبوء الكافر بقتله وبما عليه في ذلك من الإثم ، ولكن لم يقصد هو إثم الكافر لعينه ، وإنما أراد أن يبذل نفسه في سبيل الله» (٢).

وإلى هنا نرى. أن هابيل قد استعمل في صرف أخيه عن جريمة القتل وسائل متنوعة فهو

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ٢٠٧ ـ بتصرف وتلخيص ،

(٢) حاشية تفسير الكشاف ج ١ ص ٢٥.

١٢١

أولا أرشده إلى أن الله ـ تعالى ـ إنما يتقبل الأعمال من المتقين ، فإذا أراد أن يتقبل قربانه فعليه أن يكون منهم.

وأرشده ثانيا إلى حقوق الأخوة وما تقتضيه من محبة ومودة وتسامح.

وأرشده ثالثا إلى أنه لا يمنعه من بسط يده إليه إلا الخوف من الله رب العالمين.

وأرشده رابعا إلى أن ارتكابه لجريمة القتل سيؤدي به إلى عذاب النار يوم القيامة ، بسبب قتله لأخيه ظلما وحسدا.

فماذا كان وقع هذا النصح الحكيم ، والإرشاد القويم في نفس ذلك الإنسان الحاسد الظالم؟

لقد بين الله ذلك بقوله : (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ).

قال القرطبي : قوله (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ) : أى : سولت وسهلت نفسه له الأمر. وشجعته وصورت له أن قتل أخيه طوع سهل. يقال : طاع الشيء يطوع أى : سهل وانقاد. «وطوعه فلان له أى سهله» (١).

والمعنى : أن قابيل سهلت له نفسه وزينت له ـ بعد هذه المواعظ ـ (قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) في دنياه وفي أخراه.

أصبح من الخاسرين في دنياه لأنه قتل أخاه ، والأخ سند لأخيه وعون له ، لما بينهما من رحم قوية ورابطة متينة.

وأصبح من الخاسرين في آخرته ، لأنه ارتكب جريمة من أكبر الجرائم وأشنعها وقد توعد الله مرتكبها بالغضب واللعنة والعذاب العظيم.

والتعبير بقوله ـ تعالى (فَطَوَّعَتْ) تعبير دقيق بليغ ، فإن هذه الصيغة ـ صيغة التفعيل ـ تشير إلى أنه كانت هناك بواعث متعددة تتجاذب نفسه ، كانت هناك بواعث الشر التي تدعوه إلى الاقدام على قتله ، ودوافع الخير التي تمنعه من الإقدام على قتل أخيه ، وأخيرا تغلبت دوافع الشر على دوافع الخير فقتل أخاه.

وقد صور الإمام الرازي هذا المعنى تصويرا حسنا فقال :

قال المفسرون : فطوعت ، أى : سهلت له نفسه قتل أخيه ، وتحقيق الكلام أن الإنسان إذا تصور القتل العمد العدوان وكونه من أعظم الكبائر فهذا الاعتقاد يصير صارفا له عن فعله فيكون هذا الفعل كالشىء العاصي المتمرد عليه الذي لا يطيعه بوجه ألبتة. فإذا أوردت النفس

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ١٣٨

١٢٢

أنواع وساوسها ، صار هذا الفعل سهلا عليه ، فكأن النفس جعلت بوساوسها العجيبة هذا الفعل كالمطيع له ، بعد أن كان كالعاصى المتمرد عليه ، فهذا هو المراد بقوله : (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) (١).

هذا ، والآية الكريمة بعد كل ذلك ، تشير إلى شناعة الجريمة في ذاتها من حيث الباعث عليها ، إذ الباعث عليها هو الحسد ومن حيث الصلة بين القاتل والمقتول إذ هي صلة أخوة تقتضي المحبة والمودة والتراحم ومن حيث ذات الفعل فإنه أكبر جريمة بعد الإشراك بالله ـ تعالى ـ.

قال الآلوسى : أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها. لأنه أول من سن القتل» وأخرج ابن جرير والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر ـ رضى الله عنه ـ قال : «إنا لنجد ابن آدم القاتل ، يقاسم أهل النار العذاب. عليه شطر عذابهم» (٢).

ثم حكى القرآن بعض ما حدث بعد قتل الأخ أخاه فقال : (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ).

وقوله : (فَبَعَثَ) من البعث بمعنى الإرسال. وهو هنا مستعمل في الإلهام بالطير إلى ذلك المكان بحيث يراه قابيل.

والغراب : طائر معروف. قالوا : والحكمة في كونه المبعوث دون غيره من الطيور أو الحيوان ، لأنه يتشاءم به في الفراق والاغتراب. أو لأن من عادة الغراب دفن الأشياء.

وقوله : (يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ) أى : ينبش التراب بمنقاره ورجليه بحيث يستخرجه من الأرض ، ليعمل ما يشبه الحفرة.

والتعبير بالمضارع ، للإشارة إلى أن البحث قد مكث وقتا ، وكان مجال استمرار.

وقوله : (لِيُرِيَهُ) إما متعلق بقوله (فَبَعَثَ) فيكون الضمير في الفعل لله ـ تعالى ـ أو متعلق بقوله : (يَبْحَثُ) فيكون الضمير للغراب.

قال القرطبي : قال مجاهد : بعث الله غرابين فاقتتلا حتى قتل أحدهما الآخر ثم حفر فدفنه ـ فتعلم قابيل ذلك من الغراب ـ وكان ابن آدم هذا أول من قتل. وقيل إن الغراب

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ٢٠٧

(٢) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ١١٥

١٢٣

بحث الأرض على طعمه ـ أى : أكله ـ ليخفيه إلى وقت الحاجة إليه ، لأن عادة الغراب فعل ذلك ، فتنبه قابيل بذلك على مواراة أخيه» (١).

«والسوءة» ما تسوء رؤيته من الجسد ، والمراد بها هنا : جميع جسد الميت وقيل : المراد بها العورة ، لأنها تسوء ناظرها. وخصت بالذكر مع أن المراد مواراة جميع الجسد للاهتمام بها ، لأن سترها آكد.

وهذه الآية الكريمة مرتبطة بكلام يسبقها لم يذكره القرآن الكريم لفهمه من السياق.

والتقدير : أن القاتل بعد أن ارتكب جريمته. ورأى جثة أخيه أمامه ملقاة في العراء. تحير ماذا يفعل فيها حتى لا يتركها عرضة لنهش السباع والطيور. (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ) أى : يحفر وينبش بمنقاره ورجليه متعمقا (فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ) أى : ليعلم ذلك القاتل ويعرفه (كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) أى : كيف يستر في التراب جسم أخيه بعد أن فارقته الحياة ، وأصبح عرضة للتغير والتعفن.

وقوله ـ تعالى ـ (قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي) بيان لما اعترى هذا القاتل من تحسر وندم.

وكلمة (يا وَيْلَتى) أصلها : يا ويلتى. وهي كلمة جزع وتحسر. تستعمل عند وقوع المصيبة العظيمة كأن المتحسر ينادى ويلته ويطلب حضورها ، بعد تنزيلها منزلة من ينادى. ولا يكون ذلك إلا في أشد الأحوال ألما ، والويلة كالويل : ومعناهما الفضيحة والبلية والهلاك.

أى : قال القاتل لأخيه ظلما وحسدا بجزع وحسرة ـ بعد أن أرى غرابا يحفر حفرة ليدفن فيها شيئا ـ قال (يا وَيْلَتى) أى : يا فضحيتى وبليتى أقبلى فهذا وقتك ، لأنى قد نزلت بي أسبابك.

وقوله : (أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي) أى : أضعفت عن الحيلة التي تجعلني مثل هذا الغراب فأستر جسد أخى في التراب كما دفن الغراب بمنقاره ورجليه في الأرض ما أراد دفنه؟! والاستفهام في (أَعَجَزْتُ) للتعجب من عدم اهتدائه إلى ما اهتدى إليه الغراب ، مع أنه إنسان فيه عقل ، والغراب طائر من أخس الطيور.

وقوله : (فَأُوارِيَ) معطوف على قوله : (أَنْ أَكُونَ).

وقوله : (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) ، تذييل قصد به بيان ما أصاب قابيل بعد أن قتل أخاه عدوانا وحسدا ، ولم يعرف كيف يستر جثته إلا من الغراب.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ١٢٥

١٢٤

والندم : أسف الفاعل على فعل صدر منه.

قال الراغب : الندم والندامة التحسر من تغير رأى في أمر فائت. قال ـ تعالى ـ : (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ). وأصله من منادمة الحزن له وملازمته إياه» (١).

والمعنى : فأصبح قابيل الذي قتل أخاه هابيل بغيا وحسدا من النادمين على ما اقترف من فواحش تدل على جهله ، وبغيه ، وتمكن الحقد من نفسه.

قال صاحب المنار : والندم الذي ندمه ـ قابيل ـ هو ما يعرض لكل إنسان عقب ما يصدر عنه من الخطأ في فعل إذا ظهر له أن فعله كان شرا له لا خيرا. وقد يكون الندم توبة إذا كان سببه الخوف من الله ، والتألم من تعدى حدوده ، وهذا هو المراد بحديث «الندم توبة» ـ رواه أحمد والبخاري في تاريخه والحاكم والبيهقي.

وأما الندم الطبيعي الذي أشرنا إليه فلا يعد وحده توبة. وفي حديث ابن مسعود في الصحيحين مرفوعا : «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم كفل ـ أى نصيب ـ من دمها ؛ لأنه أول من سن القتل» (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد أن ساق ما جرى بين ابني آدم ـ ما شرعه من شرائع تردع المعتدى ، وتبشر التقى فقال ـ تعالى ـ : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ، وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً).

وأصل معنى الأجل : الجناية التي يخشى منها آجلا. يقال : أجل الرجل على أهله شرا يأجله ـ بضم الجيم وكسرها ـ أجلا إذا جناه أو أثاره وهيجه ، ثم استعمل في تعليل الجنايات كما في قولهم : من أجلك فعلت كذا. أى بسببك ، ثم اتسع فيه فاستعمل في كل تعليل.

والجار والمجرور (مِنْ أَجْلِ) متعلق بالفعل (كَتَبْنا) واسم الإشارة (ذلِكَ) يعود إلى ما ذكر في تضاعيف قصة ابن آدم من أنواع المفاسد المترتبة على هذا القتل الحرام.

والمعنى : بسبب قتل قابيل لأخيه هابيل حسدا وظلما ، ومن أجل ما يترتب على القتل بغير حق من مفاسد (كَتَبْنا) أى فرضنا وأوجبنا (عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) في التوراة ما يردع المعتدى وما يبشر المتقى.

قال الجمل : قال بعضهم : إن قوله : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) من تمام الكلام الذي قبله ـ أى أنه

__________________

(١) مفردات القرآن للراغب الاصفهانى ج ٤٨٦.

(٢) تفسير المنار ج ٦ ص ٣٤٧.

١٢٥

متعلق بقوله : (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) ـ والمعنى : فأصبح من النادمين من أجل ذلك. يعنى من أجل أنه قتل أخاه هابيل ولم يواره ، ويروى عن نافع أنه كان يقف على قوله : من أجل ذلك ويجعله من تمام الكلام الأول ، ولكن جمهور المفسرين وأصحاب المعاني على أن قوله (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) ابتداء كلام متعلق بقوله (كَتَبْنا) فلا يوقف عليه (١).

و (مِنْ) هنا للسببية. أى : بسبب هذه الجناية شرعنا ما شرعنا من أحكام لدفع الشر وإشاعة الخير.

وعبر ـ سبحانه ـ عن السببية. بمن لبيان الابتداء في الحكم. وأنه اقترن بوقوع تلك الجريمة النكراء التي ستكون آثارها سيئة إذا لم تشرع الأحكام لمنعها.

وقدم الجار والمجرور على ما تعلق به وهو (كَتَبْنا) لإفادة الحصر أى : من ذلك ابتدئ الكتب ومنه نشأ لا من شيء آخر.

وعبر ـ سبحانه ـ بقوله (كَتَبْنا) للإشارة إلى أن الأحكام التي كتبها ، قد سجلت بحيث لا تقبل المحو أو التبديل ، بل من الواجب على الناس أن يلتزموا بها ، ولا يفرطوا في شيء منها.

وخص بنو إسرائيل بالذكر مع أن الحكم عام ـ لأنهم أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل الأنفس مكتوبا ، وكان قبل ذلك قولا مطلقا ، ولأنهم أكثر الناس سفكا للدماء ، وقتلا للمصلحين ، فقد قتلوا كثيرا من الأنبياء ، كما قتلوا أكثر المرشدين والناصحين ، ولأن الأسباب التي أدت إلى قتل قابيل لهابيل من أهمها الحسد ، وهو رذيلة معروفة فيهم ، فقد حملهم حسدهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الكفر به مع أنهم يعرفون صدقه كما يعرفون أبناءهم ، كما حملهم على محاولة قتله ولكن الله ـ تعالى ـ نجاه من شرورهم.

وما أشبههم في قتلهم للذين يأمرونهم بالخير بقابيل الذي قتل أخاه هابيل ؛ لأنه أرشده إلى ما يصلحه.

وقوله ـ تعالى ـ : (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ، وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) بيان لما كتبه ـ سبحانه ـ من أحكام تسعد الناس متى اتبعوها.

والمعنى : بسبب قتل قابيل لأخيه هابيل ظلما وعدوانا ، كتبنا في التوراة على بنى إسرائيل (أَنَّهُ) أى : الحال والشأن (مَنْ قَتَلَ نَفْساً) واحدة من النفوس الإنسانية (بِغَيْرِ نَفْسٍ).

أى : بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص منه (أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ) أى : أو بغير فساد في

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٤٨٥ ـ بتصرف يسير.

١٢٦

الأرض يوجب إهدار الدم ـ كالردة وزنا المحصن ـ (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) لأن الذي يقتل نفسا بغير حق ، يكون قد استباح دما مصونا قد حماه الإسلام بشرائعه وأحكامه ، ومن استباح هذا الدم في نفس واحدة ، فكأنه قد استباحه في نفوس الناس جميعا ، إذ النفس الواحدة تمثل النوع الإنسانى كله. (وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) أى : ومن تسبب في إحيائها وصيانتها من العدوان عليها ، كأن استنقذها مما يؤدى بها إلى الهلاك والأذى الشديد ، أو مكن الحاكم من إقامة الحد على قاتلها بغير حق ، من فعل ذلك فكأنما تسبب في إحياء الناس جميعا.

وفي هذه الجملة الكريمة أسمى ألوان الترغيب في صيانة الدماء ، وحفظ النفوس من العدوان عليها ، حيث شبه ـ سبحانه ـ قتل النفس الواحدة بقتل الناس جميعا ، وإحياءها بإحياء الناس جميعا.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف شبه الواحد بالجميع ، وجعل حكمه كحكمهم؟ قلت : لأن كل إنسان يدلى بما يدلى به الآخر من الكرامة على الله ، وثبوت الحرمة. فإذا قتل فقد أهين ما كرم على الله وهتكت حرمته ، وعلى العكس. فلا فرق إذا بين الواحد والجميع في ذلك.

فإن قلت : فما الفائدة في ذكر ذلك؟ قلت : تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب وليشمئز الناس عن الجسارة عليها ، ويتراغبوا في المحاماة على حرمتها ، لأن المتعرض لقتل النفس إذا تصور قتلها بصورة قتل الناس جميعا ، عظم ذلك عليه فثبطه ـ عن القتل ـ وكذلك الذي أراد إحياءها (١)».

وقال الإمام ابن كثير : قال الحسن وقتادة في قوله ـ تعالى ـ (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً) .. إلخ. هذا تعظيم لتعاطى القتل. قال قتادة : عظيم والله وزرها ، وعظيم والله أجرها. وقيل للحسن : هذه الآية لنا كما كانت لبنى إسرائيل؟ فقال : إى والذي لا إله غيره ـ هي لنا ـ كما كانت لهم. وما جعل ـ سبحانه ـ دماءهم أكرم من دمائنا (٢).

وعلى هذا التفسير الذي سرنا عليه يكون المراد بالنفس في قوله (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً) : العموم أى : نفسا يحرم قتلها من بنى الإنسان.

وبعضهم يرى أن المراد نفس الامام العادل ، لأن القتل في هذه الحالة يؤدى إلى اضطراب أحوال الجماعة ، وإشاعة الفتنة فيها. قال القرطبي : روى عن ابن عباس أنه قال : المعنى :

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦١٧.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٥١.

١٢٧

من قتل نبيا أو إمام عدل فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياه بأن شد عضده ونصره ، فكأنما أحيا الناس جميعا» (١).

ويبدو لنا أن تفسير النفس بالعموم أولى ، لأنه هو الذي عليه جمهور العلماء ، ولأنه أدعى لحفظ الدماء الإنسانية ، وإعطائها ما تستحقه من صيانة واحترام.

وقوله. (بِغَيْرِ نَفْسٍ) متعلق بالفعل قبله وهو (قتل). وقوله (أَوْ فَسادٍ) مجرور عطفا على نفس المجرورة بإضافه غير إليها.

و «ما» في قوله (فَكَأَنَّما) كافة مهيئة لوقوع الفعل بعدها.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) بيان لموقف بنى إسرائيل القبيح مما جاءهم من هدايات على أيدى أنبيائهم ومرشديهم.

أى : ولقد جاءت رسلنا لبنى إسرائيل بالآيات البينات ، والمعجزات الواضحات ، (ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ) أى : بعد الذي كتبناه عليهم من شرائع ، وبعد مجيء الرسل إليهم بالبينات (فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) أى : لمجاوزون الحد في ارتكاب المعاصي والآثام ، إذ الإسراف مجاوزة حدود الحق والعدل بدون مبالاة أو اهتمام بهما. وأكد ـ سبحانه ـ جملة (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا) بالقسم ، لكمال العناية بمضمونها ، ولبيان أن الرسل ـ عليهم‌السلام ـ ما قصروا في إرشاد بنى إسرائيل إلى ما يسعدهم ويهديهم ، فقد جاءوهم بالشرائع البينة الواضحة التي تحمل في نفسها دليل صلاحها. والتعبير «بجاءتهم» يشير إلى أن الرسل ـ عليهم‌السلام ـ وصلوا إليهم ، وصاروا قريبين منهم ، بحيث يرونهم ويخاطبونهم ولا يتركون أمرا يهمهم إلا بينوه لهم.

وجملة (ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ) معطوفة على جملة (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ).

وكان العطف «بثم» المفيدة هنا للتراخي في الرتبة ، للإشارة إلى الفرق الشاسع بين ما جاءتهم به الرسل من بينات وهدايات ، وبينات وهدايات ، وبين ما كان عليه بنو إسرائيل من جحود وعناد وإفساد في الأرض.

واسم الإشارة «ذلك» يعود إلى المذكور من مجيء الرسل إليهم بالبينات ومن كتابة الشرائع عليهم. وفي وصف الكثيرين من بنى إسرائيل بالإسراف احتراس في الحكم ، وإنصاف للقلة التي آمنت منهم ، وهذا من عدالة القرآن الكريم في أحكامه ، ودقته في تعبيراته.

وذكر ـ سبحانه ـ أن إسراف الكثيرين منهم (فِي الْأَرْضِ) مع أنه لا يكون إلا فيها ، للإيذان بأن فسادهم وإسرافهم في القتل والمعاصي لم يكن فيما بينهم فحسب ، بل انتشر شره في

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ١٤٦

١٢٨

الأرض ، وسرى إلى غيرهم من سكانها المنتشرين فيها. وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد حكت لنا ما دار بين ابني آدم من محاورات أدت إلى قتل أحدهما للآخر ظلما وحسدا ، إذ الحسد يأكل القلوب ، ويشعلها بالشر كما تشتعل النار في الحطب ، وبسببه ارتكبت أول جريمة قتل على ظهر الأرض ، وبسببه كانت أكثر الجرائم في كل زمان ومكان .. كما حكت لنا أن بنى إسرائيل ـ مع علمهم بشناعة جريمة القتل ـ قد أسرفوا في قتل الأنبياء والمصلحين مما يدل على قسوة قلوبهم ، وفي كل ذلك تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأصحابه عما كانوا يلاقونه من اليهود المعاصرين لهم من عناد ومكر وأذى.

وبعد أن ذكر ـ سبحانه ـ تغليظ الإثم في قتل النفس بغير حق ، وتعظيم الأجر لمن عمل على إحيائها ، أتبع ذلك ببيان الفساد المبيح للقتل ، فقال ـ تعالى ـ :

(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٣٤)

قال ابن جرير : اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية؟ فقال بعضهم : نزلت في قوم من أهل الكتاب كانوا أهل موادعة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنقضوا العهد ، وأفسدوا في الأرض ، فعرف الله نبيه الحكم فيهم ...

وقال آخرون : نزلت في قوم من المشركين.

وقال آخرون : بل نزلت في قوم من عرينة وعكل ـ بضم العين وسكون الكاف ـ ارتدوا عن الإسلام ، وحاربوا الله ورسوله ، فعن أنس أن رهطا من عكل وعرينة أتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا رسول الله إنا أهل ضرع ، ولم نكن أهل ريف ، وإنا استوخمنا المدينة ـ أى : وجدناها

١٢٩

رديئة المناخ ـ فأمر لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذود وراع ـ أى : بعدد من الإبل ومعهم راع ـ ، وأمرهم أن يخرجوا بها ، فيشربوا من ألبانها وأبوالها ، فقتلوا الراعي ، واستاقوا الذود ، وكفروا بعد إسلامهم ، فأتى بهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقطع أيديهم وأرجلهم ، وسمل أعينهم ، وتركهم في الحرة حتى ماتوا ، فذكر لنا أن هذه الآية نزلت فيهم.

ثم قال ابن جرير : وأولى الأقوال في ذلك عندي أن يقال : أنزل الله هذه الآية على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لمعرفة حكمه على من حارب الله ورسوله ، وسعى في الأرض فسادا ، بعد الذي كان من فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعرنيين» (١).

والذي يراه ابن جرير أولى هو الذي تطمئن إليه النفس ، فإن الآية الكريمة تبين عقاب قطاع الطرق الذين يحاربون النظام القائم للأمة ، ويرتكبون جرائم القتل والنهب والسلب والسرقة سواء أكانوا من المشركين أم من غيرهم؟ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

وقوله : سبحانه (يُحارِبُونَ) من المحاربة. والمحاربة : مفاعلة من الحرب وهي ضد السلم ، والأصل في معنى كلمة الحرب : الأخذ والسلب. يقال : حربه ، إذا سلبه ماله ، والمراد بالمحاربة هنا : قطع الطريق على الآمنين بالاعتداء عليهم بالقتل أو السلب أو ما يشبه ذلك من الجرائم التي حرمها الله ـ تعالى ـ :

ومحاربة الناس لله ـ تعالى ـ على وجه الحقيقة غير ممكنة ، لتنزهه ـ سبحانه ـ عن أن يكون من الجواهر والأجسام التي تقاتل ؛ ولأن ، المحاربة تستلزم أن يكون كل من المتحاربين في وجهة ومكان والله منزه عن ذلك ، فيكون التعبير مجازا عن المخالفة لشرع الله ، وارتكاب ما يغضبه أو المعنى : يحاربون أولياء الله وأولياء رسوله وهم المسلمون ؛ فيكون الكلام على تقدير حذف مضاف.

وصدر ـ سبحانه ـ الآية بلفظ إنما المفيد للقصر ، لتأكيد العقاب ، ولبيان أنه عقاب لا هوادة فيه ، لأنه حد من حدود الله ـ تعالى ـ على تلك الجريمة النكراء التي تقوض بنيان الجماعة ، وتهدم أمنها ، وتزلزل كيانها ، وتبعث الرعب والخوف في نفوس أفرادها.

وعبر ـ سبحانه ـ عمن يحارب أولياءه وشرعه بأنهم محاربون له ولرسوله لزيادة التشنيع عليهم ، ولبيان أن كل من يهدد أمن المسلمين ويعتدى عليهم يكون محاربا لله ولرسوله ومستحقا لغضبه ـ سبحانه ـ وعقوبته.

وقوله : (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) معطوف على قوله (يُحارِبُونَ).

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٦ ص ٢٠٨.

١٣٠

وقوله : (وَيَسْعَوْنَ) من السعى وهو الحركة السريعة المستمرة.

والفساد : ضد الصلاح. فكل ما خرج عن وضعه الذي يكون به صالحا نافعا ، يقال إنه قد فسد. والسعى في الأرض بالفساد المراد به هنا : قطع الطريق على الناس ، وتهديد أمنهم ، والتعرض لهم بالأذى في أنفسهم أو أموالهم أو أعراضهم.

وقوله : (فَساداً) مفعول لأجله أى : يحاربون ويسعون لأجل الفساد. أو هو حال من فاعل (يَسْعَوْنَ) بتأويله بمفسدين ، أو ذوى فساد.

وقوله : أن يقتّلوا أو يصلّبوا إلخ. خبر عن المبتدأ الذي هو (جَزاءُ) والمعنى : (إِنَّما جَزاءُ) أى : عقاب (الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أى : يخالفونهما ويعصون أمرهما ، ويعتدون على أوليائهما (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) أى : يعملون بسرعة ونشاط في الأرض لا من أجل الإصلاح وإنما من أجل الإفساد فيها عن طريق تهديد أمن الناس ، والاعتداء على أموالهم وأنفسهم. جزاء هؤلاء (أَنْ يُقَتَّلُوا) والتقتيل هو القتل ، إلا أنه ذكر بصيغة التضعيف لإفادة الشدة في القتل وعدم التهاون في إيقاعه عليهم لكونه حق الشرع وللإشارة إلى الاستمرار في قتلهم ماداموا مستمرين في الجريمة فكلما كان منهم قتل قتلوا.

(أَوْ يُصَلَّبُوا) والتصليب : وضع الجاني الذي يراد قتله مشدودا على مكان مرتفع بحيث يرى بعد القتل ليكون عبرة لغيره ، وردعا له عن ارتكاب المعاصي والجرائم. قالوا : ويكون الصلب لمدة ثلاثة أيام وقيل : لمدة يوم واحد. وجيء هنا أيضا بصيغة التضعيف لإفادة التشديد في تنفيذ هذه العقوبة وإثبات أنه لا هوادة فيها.

(أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ) أى : تقطع مختلفة ، فقوله (مِنْ خِلافٍ) حال من أيديهم وأرجلهم أى : لا تكون اليد والرجل المقطوعتان من جانب واحد بل تكونان من جانبين مختلفين.

(أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) أى ، يطردوا من الأرض التي اتفقوا فيها على الإجرام إلى أرض أخرى ليتشتت شملهم ، ويتفرق جمعهم ، مع مراقبتهم والتضييق عليهم. وفسر بعضهم النفي بالحبس في السجون ، لأن فيه إبعادا لهم وتفريقا لجمعهم.

واسم الإشارة في قوله ـ تعالى ـ (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا) يعود إلى العقاب المذكور في الآية من القتل والصلب .. إلخ.

والخزي : الذل والفضيحة أى ذلك العقاب المذكور (لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا) أى : ذل وفضيحة وعار عليهم ، لأنه كشف أمرهم ، وهتك سترهم ، وجعلهم عبرة لغيرهم.

١٣١

هذا هو عقاب الدنيا أما عقاب الآخرة فقد بينه ـ سبحانه ـ بقوله : (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) أى : لهم في الآخرة عذاب عظيم في شدته وآلامه جزاء ما اقترفوا من جرائم.

وقوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) بيان لحكم هؤلاء المحاربين إذا ما تابوا قبل القدرة عليهم.

أى نفذوا ـ أيها المسلمون ـ هذه العقوبات على هؤلاء المحاربين لأولياء الله وأولياء رسوله ، والساعين في الأرض بالفساد ماداموا مستمرين في غيهم وعدوانهم (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) منهم (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) أى : من قبل أن تتمكنوا من أخذهم ، بأن أتوكم طائعين نادمين ، (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أى واسع المغفرة والرحمة بعباده.

هذا وهناك مسائل تتعلق بهاتين الآيتين من أهمها ما يأتى :

١ ـ احتج بعموم هذه الآية جمهور العلماء في أن المحاربة في الأمصار وفي القرى وفي الصحراء على السواء ، فحيثما تحققت إخافة المسلمين ، كان الفاعلون لتلك الإخافة محاربين لله ولرسوله ويجب إنزال العقاب بهم ، لقوله ـ تعالى ـ (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) وكل هذه الأماكن من الأرض. وعلى هذا الرأى سار الإمام مالك والشافعى وأحمد وغيرهم.

ويرى الإمام أبو حنيفة أن قطع الطريق لا يتصور في داخل المصر ، إذ يمكن الإغاثة عند الاستغاثة ويد السلطان مبسوطة في داخل الأمصار والقرى وإنما يتصور قطع الطريق في الصحراء وخارج المدن والقرى.

والذي نراه متفقا مع الآية الكريمة أنه حيثما تحقق الوصف ـ وهو محاربة الآمنين ؛ واستلاب أموالهم ، والاعتداء على أرواحهم ـ كانت الحرابة ، ولزمت العقوبة التي تردع هؤلاء المعتدين على أموال الناس وأنفسهم.

قال القرطبي : واختلف العلماء فيمن يستحق اسم المحاربة. فقال مالك : المحارب عندنا من حمل على الناس في مصر أو في برية وكابرهم على أنفسهم وأموالهم دون نائرة (١).

قال ابن المنذر : اختلف عن مالك في هذه المسألة فأثبت المحاربة في المصر مرة ونفى ذلك مرة. وقالت طائفة حكم ذلك في المصر أو في المنازل والطرق ، وديار أهل البادية والقرى سواء وحدودهم واحدة.

قال ابن المنذر : كذلك هو ، لأن كلا يقع عليه اسم المحاربة. والآية على العموم. وليس

__________________

(١) نائرة : أى هاجة يقال : نارت ناره في الناس بمعنى : هاجت هائجة.

١٣٢

لأحد أن يخرج من جملة الآية قوما بغير حجة. وقالت طائفة : لا تكون المحاربة في المصر إنما تكون خارجة عن المصر (١).

وقال ابن العربي : والذي نختاره أن الحرابة عامة في المصر والقفر ، وإن كان بعضها أفحش من بعض. ولكن اسم الحرابة يتناولها ، ومعنى الحرابة موجود فيها. ولو خرج بعض من في المصر لقتل بالسيف. ويؤخذ فيه بأشد ذلك لا بأيسره. فإنه سلب وغيلة ، وفعل الغيلة أقبح من فعل الظاهرة ولذلك دخل العفو في قتل المجاهرة فكان قصاصا ، ولم يدخل في قتل الغيلة وكان حدا» (٢) ٢ ـ اختلف الفقهاء في معنى التخيير في قوله ـ تعالى ـ (أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ ، أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ).

فقال قوم من السلف : الآية تدل على التخيير بين هذه الأجزية. فمتى خرج المحاربون بقطع الطريق ، وقدر الإمام عليهم ، فهو مخير بين أن يوقع بهم أى نوع من العقاب من هذه الأنواع الأربعة : القتل أو الصلب أو التقطيع أو النفي ، حتى ولو لم يقتلوا ولم يأخذوا مالا ، ماداموا قد اجتمعوا وقصدوا تهديد أمن الناس. فالمسألة متروكة لتقدير الحاكم ، وعليه أن يوقع بهم ما يراه مناسبا لزجرهم وردعهم وجعلهم عبرة لغيرهم حتى لا يستشرى الشر في الأمة.

قال ابن كثير : قال ابن أبى طلحة عن ابن عباس فيمن شهر السلاح في قبة الإسلام. وأخاف السبيل ثم ظفر به الإمام وقدر عليه ، فإمام المسلمين فيه بالخيار : إن شاء قتله وإن شاء صلبه وإن شاء قطع يده ورجله ، وكذا قال : سعيد بن المسيب ومجاهد ، وعطاء ، والحسن البصري ، وإبراهيم النخعي ، والضحاك ، كما رواه ابن جرير عن أنس ـ وهو مذهب المالكية.

ومستند هذا القول أن ظاهر (أَوْ) للتخيير كما في نظائر ذلك من القرآن ، كما في قوله ـ تعالى ـ في كفارة الفدية : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) فأو هنا للتخيير ، وكذلك في الآية التي معنا» (٣).

وقال قوم آخرون من السلف : الآية تدل على ترتيب الأحكام وتوزيعها على ما يليق بها من الجنايات. أى : أن (أَوْ) لتنويع العقوبات على حسب طبيعة الجرائم. فإذا قتل هؤلاء المحاربون غيرهم وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا فقط قتلوا ، وإذا أخذوا المال فحسب قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف. وإذا تجمعوا واتفقوا على ارتكاب الجرائم من غير أن

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ١٥١.

(٢) أحكام القرآن لابن العربي ج ٢ ص ٥٩٥.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥١ ـ بتلخيص يسير ـ

١٣٣

يرتكبوا بالفعل نفوا من الأرض.

وبهذا الرأى قال ابن عباس وقتادة والأوزاعى ، وهو مذهب الشافعية والأحناف والحنابلة.

قال ابن كثير : وقال الجمهور : هذه الآية منزلة على أحوال ، فعن ابن عباس أنه قال في قطاع الطريق : إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا ، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا ، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال نفوا من الأرض.

ثم قال ابن كثير : ويشهد لهذا التفصيل الحديث الذي رواه ابن جرير في تفسيره أن عبد الله بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية ، فكتب إليه يخبره أنها نزلت في أولئك النفر العرنيين الذين ارتدوا عن الإسلام وقتلوا الراعي ، واستاقوا الإبل وأخافوا السبيل .. قال أنس : فسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل عن القضاء فيمن حارب ، فقال جبريل : من سرق ما لا وأخاف السبيل فاقطع يده بسرقته ورجله بإخافته ومن قتل فاقتله. ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام فاصلبه» (١).

وقال الفخر الرازي : والذي يدل على ضعف القول الأول وجهان :

الأول : أنه لو كان المراد من الآية التخيير لوجب أن يمكن الإمام من الاقتصار على النفي ، ولما أجمعوا على أنه ليس له ذلك علمنا أنه ليس المراد من الآية التخيير.

الثاني : أن هذا المحارب إذا لم يقتل ولم يأخذ المال فقدهم بالمعصية ولم يفعل ، وذلك لا يوجب القتل كالعزم على سائر المعاصي فثبت أنه لا يجوز حمل الآية على التخيير ، فيجب أن يضمر في كل فعل على حدة فعلا على حدة ، فصار التقدير : أن يقتلوا إن قتلوا ، أو يصلبوا إن جمعوا بين أخذ المال والقتل أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن اقتصروا على أخذ المال. أو ينفوا من الأرض إن أخافوا السبيل» (٢).

والخلاصة أن أصحاب هذا الرأى الثاني يستدلون بأدلة نقلية ـ سبق بيانها ـ كما يستدلون بأدلة عقلية منها ما ذكر الإمام الرازي ومنها أن العقل يقضى أن يكون الجزاء مناسبا للجناية بحيث يزداد بازديادها ، وينقص بنقصها ، وليس من المعقول أن تكون جريمة الاتفاق على الإرهاب بدون تنفيذ ، متساوية مع جريمة الإرهاب والقتل والسلب. إذا فالعدالة توجب تنويع العقوبة.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥١.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ٢١٦.

١٣٤

ومنها أن التخيير الوارد في الأحكام المختلفة بحرف التخيير إنما يجرى على ظاهره إذا كان سبب الوجوب واحدا كما في كفارة اليمين وكفارة الفدية ، أما إذا كان السبب مختلفا فإنه يخرج التخيير عن ظاهره ـ كما هنا ـ ، ويكون الغرض بيان الحكم لكل واحد في نفسه ، وذلك لأن قطع الطريق متنوع وبين أنواعه تتفاوت الجريمة : فقد يكون باستلاب المال فقط ، وقد يكون بالقتل فقط ، وقد يكون بهما ومادام الأمر كذلك وجب أن يكون العقاب مختلفا ووجب أن يحمل ظاهر النص على غير التخيير. بأن يحمل على بيان الحكم لكل نوع.

قالوا : ونظير ذلك قوله ـ تعالى ـ (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) فإنه ليس الغرض التخيير وإنما الغرض : ليكن شأنك مع قومك تعذيب من جحد وظلم ، والإحسان إلى من آمن وعمل صالحا.

وإنما قلنا : ليس الغرض التخيير ، لأنه لا يمكن أن يكون له الحق في أى الأمرين من غير مرجح لأحدهما في الاعتبار ، إذ منطق العدالة يقتضى أن يكون العذاب لمن فسق وجحد ، وأن يكون الإحسان لمن آمن واستقام.

قال بعض العلماء : «وإن الفقه في التفرقة بين الرأيين أن الرأى الثاني يحدد جرائم معينة ، ويعتبرها موضوع قطع بفعلها أو بالشروع فيها وهي القتل والسرقة. وأن الجرائم لا تخلو عن ذلك ، ولذلك كانت العقوبات مترددة بين القطع والقتل ، وأنه يكون ثمة تغليظ إذا ارتكبت الجريمتان معا.

وإن كان الشروع بالتجمع واتخاذ الأسباب ، فإن العقوبة تكون بمنع الجريمة من الوقوع باتخاذ أسباب الوقاية بالنفي من الأرض ، ولذلك كان التنويع ، وكان تخريج حرف (أَوْ) على ذلك الأساس ، ليكون التكافؤ بين الجريمة والعقوبة ، وإن لم تكن جريمة كانت الوقاية.

أما الرأى الأول فهو يتجه إلى أن عقوبة الحرابة لذات الحرابة والسعى في الأرض بالفساد ، ومنع الناس من السير والاستمتاع بأموالهم وحرياتهم الشخصية. وظاهر هذا الرأى أنه لا ينظر إلا إلى ذات الحرابة التي هي التخويف والإرهاب ، ولا ينظر إلى الجرائم التي ارتكبوها فعلا ، ولذلك يعمم الجرائم ولا يقصرها على القتل والسرقة كالرأى الثاني.

ويرى أن العقوبات في جملتها هي لعلاج ذلك الشر ، وحسم مادته ، والقضاء على التفكير لمن يهم بمحاكاة من وقعوا فيه ، ولذلك يجب إطلاق يد ولى الأمر واعتبار تلك العقوبات في يده كالدواء بين يدي الطبيب ، يختار من أصنافه ما يراه أنجح في علاج الآفة التي أصابت الجسم الاجتماعى.

وإنا نرى الرأى الثاني بالنسبة لتنويع العقاب ، ونرى الرأى الأول بالنسبة لتعميم الجرائم

١٣٥

التي تفسد المجتمع. فإذا كانت عصابة تعمل لجمع الرجال على النساء وتخطف النساء لذلك الغرض ، أو كانت عصابة لتجميع المواد المخدرة المحرم دينا وقانونا تناولها ، فإنهم يكونون كقطاع الطريق ، ويدخلون في باب الحرابة (١).

٣ ـ تدل الآية بظاهرها على أن المحاربين يعاقبون في الدنيا والآخرة ، ولا يكون العقاب الدنيوي طهرة لهم ولو كانوا مسلمين لقوله ـ تعالى ـ (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ).

قال القرطبي : فقوله : (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا) لشناعة المحاربة ، وعظم ضررها وإنما كانت المحاربة عظيمة الضرر ، لأن فيها سد سبيل الكسب على الناس. لأنه إذا أخيف الطريق انقطع الناس عن السفر ، واحتاجوا إلى لزوم البيوت ، فانسد باب التجارة عليهم ، وانقطعت أكسابهم ، فشرع الله على قطاع الطريق الحدود المغلظة ، وذلك الخزي في الدنيا ردعا لهم عن سوء فعلهم ، وفتحا لباب التجارة التي أباحها الله لعباده. وتكون هذه المعصية خارجة عن المعاصي ومستثناة من حديث عبادة بن الصامت في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فمن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له».

ويحتمل أن يكون الخزي لمن عوقب ، وعذاب الآخرة لمن سلم في الدنيا ، ويجرى هذا الذنب مجرى غيره. ولا خلود لمؤمن في النار على ما تقدم ، ولكن يعظم عقابه لعظم ذنبه ، ثم يخرج إما بالشفاعة وإما بالقبضة وهذا الوعيد كغيره مقيد بالمشيئة ، وله ـ تعالى ـ أن يغفر هذا الذنب» (٢).

٤ ـ دل قوله ـ تعالى ـ : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) على أن توبة المحاربين قبل الظفر بهم ، تسقط عنهم حد المحاربين المذكور في الآية ، إلا أن كثيرا من الفقهاء قالوا إن الذي يسقط عنهم هو ما يتعلق بحقوق الله ، أما ما يتعلق بحقوق العباد فلا يسقط عنهم بالتوبة قبل القدرة عليهم.

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) : استثنى ـ جل شأنه ـ التائبين قبل أن يقدر عليهم ، وأخبر بسقوط حقه عنهم بقوله : (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). أما القصاص وحقوق الآدميين فلا تسقط ، وظاهر الآية أن من تاب بعد القدرة عليه فتوبته لا تنفع ، وتقام الحدود عليه كما تقدم» (٣).

__________________

(١) تفسير الآية الكريمة لفضيلة الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة. مجلة لواء الإسلام العدد السابع. السنة العشرون.

(٢) تفسير القرطبي ج ٦ ص ١٥٧.

(٣) تفسير القرطبي ج ٦ ص ١٨٥.

١٣٦

وقال الآلوسى : قوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) استثناء مخصوص بما هو من حقوق الله ـ تعالى ـ كما ينبئ عنه قوله (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). وأما ما هو من حقوق العباد ـ كحقوق الأولياء من القصاص ونحوه ـ فيسقط بالتوبة وجوبه على الإمام من حيث كونه حدا ، ولا يسقط جوازه بالنظر إلى الأولياء من حيث كونه قصاصا ؛ فإنهم إن شاءوا عفوا ، وإن أحبوا استوفوا» (١).

ويرى ابن جرير وابن كثير أن توبة المحاربين قبل القدرة عليهم تسقط عنهم جميع الحدود.

فقد قال ابن جرير ـ بعد أن ساق الأقوال في ذلك ـ : «وأولى هذه الأقوال بالصواب عندي ، قول من قال : توبة المحارب الممتنع بنفسه ، أو بجماعة معه ، قبل القدرة عليه ، تضع عنه تبعات الدنيا التي كانت لزمته أيام حربه وحرابته ، من حدود الله ، وغرم لازم ، وقود وقصاص ، إلا ما كان قائما في يده من أموال المسلمين والمعاهدين فيرد على أهله» (٢).

وقال ابن كثير : وقوله ـ تعالى ـ (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) أما على قول من قال إنها في أهل الشرك ، فظاهر. ـ أى : فإنهم إذا آمنوا قبل القدرة عليهم سقطت عنهم جميع الحدود المذكورة ـ : وأما المحاربون المسلمون فإذا تابوا قبل القدرة عليهم فإنه يسقط عنهم تحتم القتل والصلب وقطع الرجل.

وهل يسقط قطع اليد؟ فيه قولان للعلماء. وظاهر الآية يقتضى سقوط الجميع ، وعليه عمل الصحابة.

ثم ساق آثارا في هذا المعنى منها : ما رواه ابن أبى حاتم عن الشعبي قال : كان حارثة بن بدر التميمي من أهل البصرة ـ وكان قد أفسد في الأرض وحارب ـ فكلم رجالا من قريش فكلموا عليا فيه فلم يؤمنه. فأتى سعيد بن قيس الهمدانى فخلفه في داره ثم أتى عليا فقال : يا أمير المؤمنين : أرأيت من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا ، فقرأ حتى بلغ (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) فقال على : اكتب له أمانا ..» (٣).

وبعد ، فهذه بعض الأحكام التي تتعلق بقطاع الطريق الذين سماهم الله ـ تعالى ـ محاربين لله ولرسوله ، وسمى الفقهاء عملهم حرابة.

وقد رأينا أن الله ـ تعالى ـ قد عاقبهم بتلك العقوبات الرادعة في الدنيا. وأعد لهم العذاب

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ١٢٠.

(٢) تفسير ابن جرير ج ٦ ص ٢٢٥.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٢.

١٣٧

العظيم في الآخرة ، ما داموا مستمرين في عدوانهم وتهديدهم لأمن الناس ، واستلابهم لأموالهم.

وإن المقصد من هذه العقوبات الشديدة ، أن يكف المعتدون عن عدوانهم ، وأن يحس الناس في حياتهم بالأمان والاطمئنان على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ، فإن الأمة التي ترتكب فيها الجرائم بدون خوف أو وجل ، ويفتقد أبناؤها الأمان والاطمئنان ، هذه الأمة التي هذا شأنها ، لا بد أن تضطرب كلمتها ، ويهون أمرها ، وتنتزع الثقة بين الحاكمين والمحكومين فيها ، لذا فقد أوجب الإسلام على أتباعه أن يتكاتفوا ويتعاونوا للقضاء على كل من يحاول إثارة الفتن والاضطراب بين صفوفهم ، حتى يعيشوا آمنين مطمئنين ، مؤدين لما يجب عليهم نحو دينهم ودنياهم بدون خوف أو إزعاج.

وقد قال القرطبي في هذا المعنى : «وإذا أخاف المحاربون السبيل ، وقطعوا الطريق ، وجب على الإمام قتالهم من غير أن يدعوهم ، ووجب على المسلمين التعاون على قتالهم وكفهم عن أذى المسلمين ، فإن انهزموا لم يتبع منهم مدبرا إلا أن يكون قد قتل وأخذ مالا ، فإن كان كذلك أتبع ليؤخذ ويقام عليه ما وجب لجنايته (١).

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ سوء عاقبة المحاربين له ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخرج منهم من تاب إليه ـ سبحانه ـ قبل القدرة عليه بعد كل ذلك وجه ـ سبحانه ـ نداء إلى المؤمنين أمرهم فيه بتقواه ، وبالتقرب إليه بالعمل الصالح فقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٣٥)

وقوله : (اتَّقُوا) من التقوى بمعنى صيانة النفس عن كل ما يبغضه الله ـ تعالى ـ.

وقوله : (وَابْتَغُوا) من الابتغاء وهو الاجتهاد في طلب الشيء.

و (الْوَسِيلَةَ) على وزن فعيلة بمعنى ما يتوصل به ويتقرب به إلى الله ـ تعالى ـ ، من فعل

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ١٥٥.

١٣٨

الطاعات ، واجتناب المعاصي ، مأخوذة من وسل إلى كذا ، أى. تقرب إليه بشيء. وقيل : الوسيلة الحاجة.

قال الراغب : الوسيلة : التوصل إلى الشيء برغبة ، وهي أخص من الوصيلة ، لتضمنها معنى الرغبة ، وحقيقة الوسيلة إلى الله مراعاة سبيله بالعلم والعبادة وتحرى مكارم الشريعة ، وهي كالقربة. والواسل : الراغب إلى الله ـ تعالى ... (١).

والمعنى : يا أيها الذين آمنوا بالحق الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (اتَّقُوا اللهَ) أى : خافوه وصونوا أنفسكم عن كل ما لا يرضيه (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) : أى : اطلبوا باجتهاد ونشاط الزلفى والقربى إليه عن طريق مداومتكم على فعل الطاعات ، والتزود من الأعمال الصالحات ، واجتناب المعاصي والمنكرات.

(وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أى : وجاهدوا أنفسكم بكفها عن الأهواء ، وكذلك جاهدوا أعداءكم حتى تكون كلمة الله هي العليا ، رجاء أن تفوزوا بالفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة. وقد ناداهم ـ سبحانه ـ بصفة الإيمان ، لتحريك حرارة العقيدة في قلوبهم وتوجيه عقولهم إلى ما يستدعيه الإيمان من طاعة وإخلاص.

وقوله : (إِلَيْهِ) متعلق بالفعل قبله وهو (وَابْتَغُوا). أو بلفظ (الْوَسِيلَةَ) لأنها بمعنى المتوسل به ، وقدم الجار والمجرور لإفادة التخصيص.

أى. اطلبوا برغبة وشدة ما يقربكم إلى الله من الأعمال الصالحة ، ولا تتقربوا إلى غيره إلا في ظل طلب رضاه ـ سبحانه ـ.

أو : اطلبوا متوجهين إليه ـ سبحانه ـ حاجتكم ، فإن بيده مقاليد السموات والأرض ، ولا تطلبوها متوجهين إلى غيره.

وقد جاء لفظ الوسيلة في الأحاديث النبوية على أنه اسم لأعلى الدرجات في الجنة ، وهذا المعنى متلاق مع أصل المعنى ، وهو التقرب إلى الله والتوسل إليه وحده بالطاعات ، لأن من يفعل ذلك ينال من الله ـ تعالى ـ أسمى الدرجات.

وقد ساق الامام ابن كثير جملة من الأحاديث في هذا المعنى فقال ما ملخصه :

والوسيلة : القربة. كذا قال ابن عباس ومجاهد وأبو وائل والحسن وقتادة وغير واحد.

قال قتادة : أى تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه.

والوسيلة أيضا : علم على أعلى منزلة في الجنة وهي منزلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وداره في الجنة ،

__________________

(١) المرادات في غريب القرآن ص ٥٢٣.

١٣٩

وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش. وقد ثبت في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال حين سمع النداء ـ أى الأذان ـ : اللهم رب هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة. آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة».

وثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا على ، فإنه من صلى على صلاة صلى الله عليه بها عشرا ، ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو. فمن سأل الوسيلة حلت له شفاعتي» (١).

والمتأمل في هذه الآية الكريمة يراها قد أرشدت المؤمنين إلى ما يسعدهم بأن ذكرت لهم ثلاث وسائل وغاية ، أو ثلاث مقدمات ونتيجة.

أما الوسائل الثلاث أو المقدمات الثلاث فهي : تقوى الله ، والتقرب إليه بما يرضيه ، والجهاد في سبيله. وأما الغاية أو النتيجة لكل ذلك فهي الفلاح والفوز والنجاح.

ولو أن المسلمين تمسكوا بهذه الوسائل حق التمسك لو صلوا إلى ما يسعدهم في دنياهم وفي آخرتهم.

هذا ، وللعلماء كلام طويل في التوسل والوسيلة ، نرى أنه لا بأس من ذكر جانب منه.

قال الامام ابن تيمية : إن لفظ الوسيلة والتوسل فيه إجمال واشتباه ، يجب أن تعرف معانيه ويعطى كل ذي حق حقه. فيعرف ما ورد به الكتاب والسنة من ذلك ومعناه : وما كان يتكلم به الصحابة ويفعلونه ومعنى ذلك ، ويعرف ما أحدثه المحدثون في هذا اللفظ ومعناه فإن كثيرا من اضطراب الناس في هذا الباب هو بسبب ما وقع من الإجمال والاشتراك في الألفاظ ومعانيها حتى تجد أكثرهم لا يعرف في هذا الباب فصل الخطاب.

إن لفظ الوسيلة ورد في القرآن ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ).

الوسيلة التي أمر الله أن تبتغى إليه. هي ما يتقرب به إليه من الواجبات والمستحبات.

فجماع الوسيلة التي أمر الله الخلق بابتغائها ، هو التوسل إليه باتباع ما جاء به الرسول ، لا وسيلة لأحد إلى الله إلا ذلك.

ولفظ الوسيلة ورد ـ أيضا ـ في الأحاديث الصحيحة كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سلوا الله لي الوسيلة فإنها

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٣

١٤٠