التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٤

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٤

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0531-4
الصفحات: ٣٦٠

وهنا يسوق الله ـ تعالى ـ ما يبطل معاذيرهم ، بإثبات أن البشير والنذير قد جاءهم فقال ـ تعالى ـ : (فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ).

والفاء هنا للافصاح عن كلام مقدر قبلها. والتقدير. لا تعتذروا بقولكم ما جاءنا من بشير ولا نذير ، فقد جاءكم رسولنا الذي يبشركم بالخير إن آمنتم وينذركم بسوء المصير إذا ما بقيتم على كفركم. والتنكير هنا في قوله : (بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) للتعظيم من شأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي هو خاتم النبيين ، والذي أرسله الله ـ تعالى ـ رحمة للعالمين.

وقوله : (بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) وإن كانا وصفين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أن ثانيهما قد عطف على أولهما لتغايرهما في المعنى ، لأن التبشير عمل يختلف عن الإنذار ، وكلاهما من وظائف النبوة.

وقوله ـ تعالى ـ (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تذييل قصد به شمول قدرة الله وأنه ـ سبحانه ـ لا يعجزه شيء. أى : والله على كل شيء قدير ، فلا يعجزه أن يرسل رسله تترى ، كما لا يعجزه أيضا أن يرسلهم على فترات متباعدة.

وبذلك نرى الآية الكريمة قد بينت سمو الرسالة المحمدية وعظمتها ، وأنها جاءت والناس في أشد الحاجة إليها ، وأنه لا عذر لأهل الكتاب في عدم الاستجابة لها بعد أن بلغتهم ، وبشرتهم بالخير إن آمنوا وأطاعوا ، وبالعذاب الأليم إن استمروا على كفرهم وضلالهم.

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ جانبا من رذائل أهل الكتاب ، ومن أقوالهم الباطلة في حق الرسول الذي أرسله الله ـ تعالى ـ لهدايتهم وسعادتهم وإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.

بعد كل ذلك ساق ـ سبحانه ـ جانبا مما حدث بين موسى ـ عليه‌السلام ـ وبين قومه بنى إسرائيل ، ومما لقيه منهم من سفاهة وجبن وتخاذل وعصيان. إذ في ذلك تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما شاهده منهم من عناد وجحود. استمع إلى القرآن وهو يحكى بعض قصص بنى إسرائيل مع نبيهم موسى فيقول :

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ

١٠١

فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ)(٢٦)

هذه الآيات الكريمة تصور لنا ما جبل عليه بنو إسرائيل من جبن شديد ، وعزيمة خوارة ، وعصيان لرسلهم. وإيثار للذلة مع الراحة على العزة مع الجهاد وهي تحكى بأسلوبها البليغ قصة تاريخية معروفة ، وملخص هذه القصة :

أن بنى إسرائيل بعد أن ساروا مع نبيهم موسى ـ عليه‌السلام ـ إلى بلاد الشام ، عقب غرق فرعون أمام أعينهم. أوحى الله ـ تعالى ـ إلى موسى أن يختار من قومه اثنى عشر نقيبا ، وأمره أن يرسلهم إلى الأرض المقدسة التي كان يسكنها الكنعانيون حينئذ. ليتحسسوا أحوال سكانها ، وليعرفوا شيئا من أخبارهم.

وقد أشار القرآن قبل ذلك إلى هذه القصة بقوله : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) (١).

ولقد نفذ موسى ـ عليه‌السلام ـ ما أمره به ربه ـ سبحانه ـ ، وكان مما قاله موسى للنقباء

__________________

(١) راجع تفسيرنا للآية رقم ١٢ من هذه السورة.

١٠٢

عند إرسالهم لمعرفة أحوال سكان الأرض المقدسة : «لا تخبروا أحدا سواي عما ترونه».

فلما دخل النقباء الأرض المقدسة ، واطلعوا على أحوال سكانها. وجدوا منهم قوة عظيمة ، وأجساما ضخمة .. فعاد النقباء إلى موسى وقالوا له ـ وهو في جماعة من بنى إسرائيل ـ : قد جئنا إلى الأرض التي بعثتنا إليها ، فإذا هي في الحقيقة تدر لبنا وعسلا ، وهذا شيء من ثمارها ، غير أن الساكنين فيها أقوياء ، ومدينتهم حصينة. وأخذ كل نقيب منهم ينهى سبطه عن القتال. إلا اثنين منهم ، فإنهما نصحا القوم بطاعة نبيهم موسى ـ عليه‌السلام ـ وبقتال الكنعانيين معه. ولكن بنى إسرائيل عصوا أمر هذين النقيبين ، وأطاعوا أمر بقية النقباء العشرة «وأصروا على عدم الجهاد ، ورفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا : يا ليتنا متنا في مصر أو في هذه البرية. وحاول موسى ـ عليه‌السلام ـ أن يصدهم عما تردوا فيه من جبن وعصيان وأن يحملهم على قتال الجبارين ؛ ولكنهم عموا وصموا.

وأوحى الله ـ تعالى ـ إلى موسى أن الأرض المقدسة محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض جزاء عصيانهم وجبنهم.

هذا هو ملخص هذه القصة كما وردت في كتب التفسير والتاريخ. وقد حشا بعض المفسرين كتبهم بأوصاف للجبارين ـ الذين ورد ذكرهم في الآيات الكريمة ـ لا تقبلها العقول السليمة ، وليس لها أصل يعتمد عليه بل هي مما يستحى من ذكره كما قال ابن كثير (١).

هذا ، وقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) كلام مستأنف ساقه الله ـ تعالى ـ لبيان بعض ما فعله بنو إسرائيل من رذائل بعد أخذ الميثاق عليهم ، وتفصيل لكيفية نقضهم لهذا الميثاق.

و (إِذْ) ظرف للزمن الماضي بمعنى وقت. وهو مفعول به لفعل ملاحظ في الكلام ، تقديره اذكر. وقد خوطب بهذا الفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق قرينة الخطاب وصرفه عن أهل الكتاب ، ليعدد عليهم ما سلف من بعضهم من جنايات.

أى : واذكر يا محمد لهؤلاء اليهود المعاصرين لك ، قول موسى لآبائهم على سبيل النصح والإرشاد : يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم. أى : تذكروا إنعامه عليكم بالشكر والطاعة.

والمراد بذكر الوقت تذكر ما حدث فيه من وقائع وخطوب.

قال أبو السعود : وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت ، دون ما وقع فيه من حوادث ، ـ مع أنها

__________________

(١) من ذلك ما جاء في وصفهم من أن منهم عوج بن عنق الذي كان طوله ثلاثة آلاف ذراع. وأن سبعين رجلا من قوم موسى استظلوا في ظل واحد منهم. وقال الآلوسى بعد أن حكى ما قيل فيهم من صفات. وهي عندي حديث خرافة.

١٠٣

هي المقصودة ، لأن الوقت مشتمل على ما وقع فيه تفصيلا فإذا استحضر كان ما وقع فيه بتفاصيله كأنه مشاهد عيانا» (١).

وفي قول موسى لهم ـ كما حكى القرآن عنه ـ : (يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) تلطف معهم في الخطاب ، وحمل لهم على شكر النعمة ، واستعمالها فيما خلقت له لكي يزيدهم الله منها. وفيه كذلك تذكير لهم بما يربطهم به من رابطة الدم والقرابة التي تجعله منهم ، يهمه ما يهمهم ، ويسعده ما يسعدهم ، فهو يوجه إليهم ما هو كائن لهدايتهم وسعادتهم.

وقوله ـ تعالى ـ : (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) بيان لنعم ثلاث أسبغها الله عليهم.

أما النعمة الأولى : فهي جعل كثير من الأنبياء فيهم كموسى وهارون ، واسحق ، ، ويعقوب ، ويوسف ، ـ عليهم‌السلام ـ. وقد أرسل الله ـ تعالى ـ هؤلاء الأنبياء وغيرهم في بنى إسرائيل ، لكي يخرجوهم من ظلمات الكفر والفسوق والعصيان ، إلى نور الهداية والطاعة والإيمان.

والتنكير في قوله (أَنْبِياءَ) للتكثير والتعظيم. أى : تذكروا يا بنى إسرائيل نعم الله عليكم ، وأحسنوا شكرها ، حيث جعل فيكم أنبياء كثيرين يهدونكم إلى الرشد.

قال صاحب الكشاف : «لم يبعث الله في أمة ما بعث في بنى إسرائيل من الأنبياء» (٢).

وأما النعمة الثانية : فهي جعلهم ملوكا. أى : جعلكم أحرارا تملكون أمر أنفسكم بعد أن كنتم مملوكين لفرعون وقومه ، الذين كانوا يسومونكم سوء العذاب.

أى : جعلكم تملكون المساكن وتستعملون الخدم ، بعد أن كنتم لا تملكون شيئا من ذلك وأنتم تحت سيطرة فرعون وقومه.

قال الآلوسى : «أخرج البخاري عن عبد الله بن عمر أنه سأله رجل فقال : ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال عبد الله : ألك زوجة تأوى إليها؟ قال : نعم ، قال : ألك مسكن تسكنه؟ قال : نعم. قال : فأنت من الأغنياء. قال الرجل : فإن لي خادما. قال عبد الله : فأنت من الملوك.

واخرج ابن أبى حاتم عن أبى سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كانت بنو إسرائيل

__________________

(١) تفسير أبى السعود ج ٢ ص ١٧ ـ بتصرف وتلخيص ـ

(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦١٩

١٠٤

إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا» (١).

وهذه النعمة ـ أى : نعمة الحرية بعد الذل ، والسعة بعد الضيق ـ من النعم العظمى التي لا يقدرها ويحافظ عليها إلا أصحاب النفوس الكبيرة ، التي تعاف الظلم ، وتأبى الضيم ، وتحسن الشكر لله ـ تعالى ـ.

قال صاحب الانتصاف : فإن قلت : فلما ذا لم يقل إذ جعلكم أنبياء ، كما قال : (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً)؟ قلت. لأن النبوة مزية غير الملك. وآحاد الناس يشارك الملك في كثير مما به صار الملك ملكا ، ولا كذلك النبوة ، فإن درجتها أرفع من أن يشرك من لم تثبت له مع الثابتة نبوته في مزيتها وخصوصيتها ونعتها ، فهذا هو سر تمييز الأنبياء وتعميم الملوك» (٢).

وأما النعمة الثالثة : فهي أنه ـ سبحانه ـ : آتاهم من ألوان الإكرام والمنن ما لم يؤت أحدا من عالمي زمانهم. فقد فلق لهم البحر فساروا في طريق يابس حتى نجوا وغرق عدوهم. وأنزل عليهم المن والسلوى ليأكلوا من الطيبات ، وفجر لهم من الحجر اثنتي عشرة عينا حتى يعلم كل أناس مشربهم .. إلى غير ذلك من ألوان النعم التي حباهم الله ـ تعالى ـ بها ، والتي كانت تستلزم منهم المبادرة إلى امتثال أوامره ، واجتناب نواهيه.

قال الآلوسى : و «أل» في (الْعالَمِينَ) للعهد : والمراد عالمو زمانهم. أو للاستغراق. والتفضيل من وجه لا يستلزم التفضيل من جميع الوجوه ، فإنه قد يكون للمفضول ما ليس للفاضل : وعلى التقديرين لا يلزم تفضيلهم على هذه الأمة المحمدية ، لأن الخطابات السابقة واللاحقة لبنى إسرائيل ، فوجود خطاب في الأثناء لغيرهم مما يخل بالنظم الكريم» (٣).

وبعد هذا التذكير بالنعم ، وجه إليهم نداء ثانيا طلب منهم فيه دخول الأرض المقدسة فقال ـ كما حكى القرآن عنه : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ، وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ).

ومعنى المقدسة : المطهرة المباركة بسبب أنها كانت موطنا لكثير من الأنبياء.

والمراد بها. بيت المقدس وقيل المراد بها : اريحاء وقيل : الطور وما حوله.

قال ابن جرير : وهي لا تخرج عن أن تكون من الأرض التي ما بين الفرات وعريش مصر ، لإجماع أهل التأويل والسير والعلماء بالأخبار على ذلك».

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ١٠٥.

(٢) حاشية الكشاف ج ١ ص ٦١٩

(٣) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ١٠٦

١٠٥

ومعنى (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) : قدر لكم سكناها ، ووعدكم إياها متى آمنتم به وأطعتم أنبياءه ، أو معناه : فرض عليكم دخولها وأمركم به كما أمركم بأداء الصلاة والزكاة ـ وسنفصل القول في هذه المسألة بعد تفسيرنا للآيات ـ.

ومفعول (كَتَبَ) محذوف. أى كتب لكم أن تدخلوها وفرض عليكم دخولها لإنقاذكم من الأهوال التي نزلت بكم في أرض مصر من فرعون وجنده.

وقد تعدى فعل (كَتَبَ) هنا باللام دون على ، للإشارة إلى أن ما فرضه عليهم إنما هو لمنفعتهم ولعزتهم ورفعة شأنهم.

وفي تكرير النداء من موسى لهم بقوله : (يا قَوْمِ) مبالغة في حثهم على الامتثال لما يأمرهم به ، وتنبيه إلى خطر ما يدعوهم إليه وعظم شأنه.

وقوله : (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) فيه حض شديد لهم على الاستجابة لأمره ، وإغراء لهم بالنصر والفوز ، لأن الذي كتب لهم أن يدخلوها متى آمنوا وأطاعوا هو الله الذي لا معقب لحكمه.

قال الإمام الرازي : في قوله : (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) فائدة عظيمة. وهي أن القوم كانوا جبارين إلا أن الله ـ تعالى ـ لما وعد هؤلاء الضعفاء بأن تلك الأرض لهم ، فإن كانوا مؤمنين مقرين بصدق موسى ـ عليه‌السلام ـ علموا قطعا أن الله ينصرهم عليهم ، فلا بد وأن يقدموا على قتالهم من غير جبن ولا خوف ولا هلع» (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) تحذير لهم من الجبن والإحجام ، بعد ترغيبهم الشديد في الشجاعة والإقدام.

وقوله (تَرْتَدُّوا) من الارتداد وهو الرجوع إلى الخلف.

والأدبار جمع دبر وهو الظهر.

وهذا التعبير استعارة تمثيلية فيها تشبيه حال من يرجع عن الجهاد بعد أن توافرت أسبابه ، يحال من يتراجع سائرا بظهره إلى الوراء ، بدل أن يسير بوجهه إلى الأمام. وهذا التعبير يصور قبح الجبن والتخاذل حسا ومعنى.

وقوله (فتنقلبوا) من الانقلاب بمعنى الرجوع والانصراف عن الشيء وهو مجزوم عطفا على فعل النهى وهو (وَلا تَرْتَدُّوا).

والمعنى : أمضوا أيها القوم لأمر الله ، وسيروا خلفي لقتال الأعداء ودخول الأرض المقدسة

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ١٩٨

١٠٦

التي أمركم ـ سبحانه ـ بدخولها ، ولا ترجعوا القهقرى منصرفين عن القتال خوفا من أعدائكم ، ومبتعدين عن طاعتي وأمرى ، فإن ذلك يؤدى بكم إلى الخسران في الدنيا والآخرة ، وإلى الحرمان من خيرات الأرض التي أوجب الله عليكم دخولها.

قال ابن جرير : فإن قال قائل : وما كان وجه قول موسى لقومه إذ أمرهم بدخول الأرض المقدسة : (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ). أو يستوجب الخسارة من لم يدخل أرضا جعلت له؟ قيل : إن الله ـ تعالى ـ كان أمره بقتال من فيها من أهل يستوجب الخسارة من لم يدخل أرضا جعلت له؟ قيل : إن الله ـ تعالى ـ كان أمره بقتال من فيها من أهل الكفر به ، وفرض عليهم دخولها ، فاستوجب القوم الخسارة بتركهم فرض الله عليهم من وجهين :

أحدهما : تضييع فرض الجهاد الذي كان الله فرضه عليهم.

والثاني : مخالفتهم أمر الله في تركهم دخول الأرض المقدسة» (١).

هذا ، وقد جاءت هذه الجملة الكريمة ، وهي قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) تحمل طابع التحذير الشديد ، وتنذرهم بالخسران المبين إذا لم يستجيبوا لأمر الله بعد أن ساق لهم موسى ألوانا من المشجعات والمرغبات في الجهاد ، وذلك لأنه ـ عليه‌السلام ـ كان متوقعا منهم الإحجام عن القتال ، بعد أن جرب عنادهم وعصيانهم ونكوصهم على أعقابهم في مواطن كثيرة ، فهذه التجارب جعلته وهو يأمرهم بدخول الأرض المقدسة يذكر لهم أكبر النعم ويسوق لهم أكرم الذكريات وأقوى الضمانات وأشد التحذيرات لكي يقبلوا على الجهاد بعزيمة صادقة.

ولكن بنى إسرائيل هم بنو إسرائيل ، مهما قيل لهم من ألوان الترغيب والترهيب فإن همتهم الساقطة وعزيمتهم الخائرة ، وطبيعتهم المنتكسة لم تتركهم فقد قالوا لنبيهم متذرعين بالمعاذير الكاذبة : (يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) وقوله : (جَبَّارِينَ) جمع جبار «والجبار صيغة مبالغة من جبر الثلاثي. ويطلق في اللغة على الطويل القوى العاتي الذي يجبر غيره على ما يريد. مأخوذ من قولهم : مخلة جبارة أى : طويلة لا ينال ثمرها بالأيدى.

أى : قال بنو إسرائيل لنبيهم موسى ـ عليه‌السلام ـ إن الأرض التي وعدتنا بدخولها فيها قوم متغلبون على من يقاتلهم ، ولا قدرة لنا على لقائهم وإنا لن ندخل هذه الأرض المقدسة التي أمرتنا بدخولها مادام هؤلاء الجبارون فيها ، فإن يخرجوا منها لأى سبب من الأسباب التي لا شأن لنا بها ، فنحن على استعداد لدخولها في راحة ويسر ، وبلا أدنى تعب أو جهد.

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١ ص ١٧٣

١٠٧

ولا شك أن قولهم هذا الذي حكته الآية الكريمة عنهم ليدل على منتهى الجبن والضعف ، لأنهم لا يريدون أن ينالوا نصرا باستخدام حواسهم البدنية أو العقلية ، وإنما يريدون أن ينالوا ما يبغون بقوة الخوارق والآيات ، وأمة هذا شأنها لا تستحق الحياة الكريمة ، لأنها لم تقدم العمل الذي يؤهلها لتلك الحياة :

وفي ندائهم لنبيهم باسمه مجردا (قالُوا يا مُوسى) سوء أدب منهم معه ، حيث استهانوا بمقام النبوة فنادوه باسمه حتى يكف عن دعوتهم إلى الجهاد. وفي قولهم (وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها) امتناع عن القتال بإصرار شديد ، حيث أكدوا عدم دخولهم بحرف النفي (لَنْ) وجعلوا غاية النفي أن يخرج الجبارون منها ، مع أن خروجهم منها بدون قتال أمر مستبعد ، وهم لا يريدون قتالا ، بل يريدون دخولا من غير معاناة ومجاهدة.

ثم بين القرآن بعد ذلك أن رجلين مؤمنين منهم قد استنكرا إحجام قومهما عن الجهاد ، وحرضاهم على طاعة نبيهم فقال : (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ، ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ ، وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

والمراد بالرجلين : يوشع بن نون ، وكالب بن يوقنا ، وكانا من الاثنى عشر نقيبا.

وقد وصف الله ـ تعالى ـ هذين الرجلين بوصفين.

أولهما : قوله : (مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) أى : من الذين يخافون الله وحده ويتقونه ولا يخافون سواه وفي وصفهم بذلك تعريض بأن من عداهما من القوم لا يخافونه ـ تعالى ـ بل يخافون العدو.

وقيل المعنى : من الذين يخافون الأعداء ويقدرون قوتهم إلا أن الله ـ تعالى ـ ربط على قلبيهما بطاعته. فجعلهما يقولان ما قالا :

الوصف الثاني : فهو قوله : (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) فهذه الجملة صفة ثانية للرجلين. أى : قال رجلان موصوفان بأنهما من الذين يخافون الله ـ تعالى ـ ولا يخافون سواه ، وبأنهما من الذين أنعم الله عليهما بالإيمان والتثبيت والثقة بوعده ، والطاعة لأمره قالا لقومهما. ادخلوا عليهم الباب.

هذا ، وقد ذكر صاحب الكشاف وغيره وجها ثالثا فقال : ويجوز أن تكون الواو في قوله : (يَخافُونَ) ـ لبنى إسرائيل. والراجع إلى الموصول محذوف. والتقدير : قال رجلان من الذين يخاف بنو إسرائيل منهم ، ـ وهم الجبارون ـ وهما رجلان منهم «أنعم الله عليهما» بالإيمان فآمنا ، قالا لهم : إن العمالقة أجسام لا قلوب فيها فلا تخافوهم وازحفوا إليهم فإنكم غالبوهم ،

١٠٨

يشجعانهم على قتالهم. وقراءة من قرأ : (يَخافُونَ) ـ يضم الياء ـ شاهدة له. وكذلك. أنعم الله عليهما» (١).

والذي نراه أن الرأى الأول أرجح وهو أن الرجلين من بنى إسرائيل ، وأن قوله ـ تعالى ـ (مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) صفتان للرجلين وأن مفعول يخافون محذوف للعلم به وهو الله ـ تعالى ـ أى : يخافون الله ويخشونه لأن هذا هو الظاهر من معنى الآية ، وهو الذي صدر به المفسرون تفسيرهم للآية ، ولأنه لم يرد نص يعتمد عليه في أن أحد الجبارين قد آمن وحرض بنى إسرائيل على قتال قومه ، بينما وردت الآثار في بيان اسمى الرجلين وأنهما كانا من الاثنى عشر نقيبا ـ كما سبق أن ذكرنا ـ وقوله ـ تعالى ـ (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) تشجيع من الرجلين لقومهما ليزيلا عنهم الخوف من قتال الجبارين.

أى : قال الرجلان اللذان يخافان الله لقومهما : ادخلوا على أعدائكم باب مدينتهم وفاجئوهم بسيوفكم ، وباغتوهم بقتالكم إياهم ، فإذا فعلتم ذلك أحرزتم النصر عليهم ، وأدركتم الفوز ، فإنه «ما غزى قوم في عقر دارهم إلا ذلوا».

قال صاحب الكشاف : فان قلت : من أين علما أنهم غالبون؟ قلت : من جهة إخبار موسى بذلك. ومن جهة قوله ـ تعالى ـ (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ). وقيل : من جهة غلبة الظن وما تبينا من عادة الله في نصرة رسله ، وما عهدا من صنع الله لموسى في قهر أعدائه ، وما عرفا من حال الجبابرة» (٢).

وقوله ـ تعالى : (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) دعوة من الرجلين المؤمنين لقومها ، بأن يكلوا أمورهم إلى خالقهم بعد مباشرة الأسباب ، وأن يعقدوا عزمهم على دخول الباب على أعدائهم ، إن كانوا مؤمنين حقا ، فإن النصر يحتاج إلى تأييد من الله ـ تعالى ـ لعباده ، وإلى توكل عليه وحده ، وإلى عزيمة صادقة ، ومباشرة للأسباب التي توصل إليه.

ولكن هذه النصيحة الحكيمة من هذين الرجلين المؤمنين ، لم تصادف من بنى إسرائيل قلوبا واعية ، ولا آذانا صاغية بل قابلوها بالتمرد والعناد وكرروا لنبيهم موسى عليه‌السلام ـ نفيهم القاطع للإقدام على دخول الأرض المقدسة مادام الجبارون فيها فقالوا ـ كما حكى القرآن عنهم : (يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها).

أى : قالوا غير عابئين بالنصيحة. بل معلنين العصيان والمخالفة : يا موسى إنا لن ندخل

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦٣٠

(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ١٢٦

١٠٩

هذه الأرض التي أمرتنا بدخولها في أى وقت من الأوقات ، مادام أولئك الجبارون يقيمون فيها ، لأننا لا قدرة لنا على مواجهتهم.

وقد أكدوا امتناعهم عن دخول هذه الأرض في هذه المرة بثلاثة مؤكدات ، هي : إن ، ولن ، وكلمة أبدا.

أى : لن ندخلها بأى حال من الأحوال مادام الجبارون على قيد الحياة ويسكنون فيها.

ثم أضافوا إلى هذا القول الذي يدل على جبنهم وخورهم ، سلاطة في اللسان ، وسوء أدب في التعبير ، وتطاولا على نبيهم فقالوا : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ).

أى : إذا كان دخول هذه الأرض يهمك أمره ، فاذهب أنت وربك لقتال سكانها الجبابرة وأخرجاهم منها لأنه ـ سبحانه ـ ليس ربا لهم ـ في زعمهم ـ إن كانت ربوبيته تكلفهم قتال سكان تلك الأرض.

وقولهم : (إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) تأكيد منهم لعدم دخولهم لتلك الأرض المقدسة.

أى : إنا ها هنا قاعدون في مكاننا لن نبرجه ، ولن نتقدم خطوة إلى الأمام لأن كل مجد وخير يأتينا عن طريق قتال الجبارين فنحن في غنى عنه ، ولا رغبة لنا فيه.

وإن هذا الوصف الذي وصفوا به أنفسهم ، ليدل على الخسة وسقوط الهمة ، لأن القعود في وقت وجوب النشاط للعمل الصالح يؤدى بصاحبه إلى المذمة ، والمذلة ، قال ـ تعالى ـ ذمّا لأمثالهم : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) (١).

قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله ـ تعالى ـ حكاية عنهم : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) قالوا ذلك استهانة واستهزاء به ـ سبحانه ـ وبرسوله موسى وعدم مبالاة. وقصدوا ذهابهما حقيقة كما ينبئ عنه غاية جهلهم ، وقسوة قلوبهم والمقابلة : (إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ).

ولم يذكروا أخاه هارون ولا الرجلين اللذين قالا ، كأنهم لم يجزموا بذهابهم ، أو يعبئوا بقتالهم وأرادوا بالقعود عدم التقدم لا عدم التأخر ثم قصت علينا السورة الكريمة أن موسى ـ عليه‌السلام ـ بعد أن رأى من قومه ما رأى من عناد وجبن ، لجأ إلى ربه يشكو إليه منهم ، يلتمس منه أن يفرق بينه وبينهم ، فقال : (رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ، فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ).

أى : قال موسى باثا شكواه وحزنه إلى الله ، ومعتذرا إليه من فسوق قومه وسفاهتهم

__________________

(١) سورة التوبة الآية ٤٦

١١٠

وجبنهم : رب إنك تعلم أنى لا أملك لنصرة دينك أمر أحد ألزمه بطاعتك سوى أمر نفسي ، وأمر أخى هارون ، ولا ثقة لي في غيرنا أن يطيعك في العسر واليسر والمنشط والمكره.

ولم يذكر الرجلين اللذين قالا لقومهما فيما سبق (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) لعدم ثقته الكاملة في دخولهما معه أرض الجبارين ، وفي وقوفهما بجانبه عند القتال إذا تخلى بقية القوم عنه فإن بعض الناس كثيرا ما يقدم على القتال مع الجيش الكبير ، ولكنه قد يحجم إذا رأى أن عدد المجاهدين قليل. ومن هنا لم يذكر أنه يملك أمر هذين الرجلين كما يملك أمر نفسه وأمر أخيه.

وصرح موسى ـ عليه‌السلام ـ بأنه يملك أمر أخيه هارون كما يملك أمر نفسه ، لمؤازرته التامة له في كفاحه ظلم فرعون ، ولوقوفه إلى جانبه بعزيمة صادقة في كل موطن من مواطن الشدة وليقينه بأنه مؤيد بروح من الله ـ تعالى.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : أما كان معه الرجلان المذكوران؟ قلت كأنه لم يثق بهما كل الوثوق ، ولم يطمئن إلى ثباتهما لما ذاق على طول الزمان واتصال الصحبة من أحوال قومه ، وتلونهم وقسوة قلوبهم فلم يذكر إلا النبي المعصوم الذي لا شبهة في أمره. ويجوز أن يكون قال ذلك لفرط ضجره عند ما سمع منهم تقليلا لمن يوافقه. ويجوز أن يريد ومن يؤاخينى على ديني» (١).

هذا وقد ذكر النحويون وجوها من الإعراب لقوله (وَأَخِي) منها : أنه منصوب عطفا على قوله : (نَفْسِي) أى : ولا أملك إلا أخى مع ملكي نفسي دون غيرهما.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) بيان لما يرجوه موسى من ربه ـ عزوجل ـ بعد أن خرج بنو إسرائيل عن طاعته.

والفاء هنا لترتيب الفرق والدعاء به على ما قبله. والفرق معناه الفصل بين شيئين.

والمعنى : قال موسى مخاطبا ربه : لقد علمت يا إلهى أنى لا أملك لنصرة دينك إلا أمر نفسي وأمر أخى ، أما قومي فقد خرجوا عن طاعتي وفسقوا عن أمرك ومادام هذا شأنهم فافصل بيننا وبينهم بقضائك العادل ، بأن تحكم لنا بما نستحق ، وتحكم عليهم بما يستحقون فإنك أنت الحكم العدل بين العباد.

وهذا الرجاء من موسى لربه في معنى الدعاء عليهم بسبب جبنهم وعصيانهم وقد أجاب الله ـ تعالى ـ دعاءه فيهم ، بأن أضلهم ظاهرا كما ضلوا باطنا وجاء الحكم الفاصل ممن يملكه فقال ـ تعالى ـ : (قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ، فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦٢٣

١١١

وقوله : (يَتِيهُونَ) من التيه وهو الحيرة. يقال : تاه يتيه ويتوه إذا تحير وضل الطريق. ووقع فلان في التيه. أى : في مواضع الحيرة.

وقوله : (فَلا تَأْسَ) أى : فلا تحزن عليهم من الأسى وهو الحزن. يقال : أسى ـ كتعب ـ أى : حزن. فهو آس مثل حزين. وأسا على مصيبته ـ من باب عدا ـ أى : حزن قال امرؤ القيس :

وقوفا بها صحبي على مطيهم

يقولون لا تهلك أسى وتجمل

أى : يقولون لا تهلك نفسك حزنا وتجمل بالصبر.

والمعنى : قال الله ـ تعالى ـ لنبيه موسى مجيبا لدعائه : يا موسى إن الأرض المقدسة محرمة على هؤلاء الجبناء العصاة مدة أربعين سنة ، يسيرون خلالها في الصحراء تائهين حيارى لا يستقيم لهم أمر ، ولا يستقر لهم قرار ، فلا تحزن عليهم بسبب هذه العقوبة ؛ فإننا ما عاقبناهم بهذه العقوبة إلا بسبب خروجهم عن طاعتنا ، وتمردهم على أوامرنا ، وجبنهم عن قتال أعدائنا ، وسوء أدبهم مع أنبيائنا.

قال الآلوسى. قوله : (مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) أى : لا يدخلونها ولا يملكونها. والتحريم تحريم منع لا تحريم تعبد ، وجوز أن يكون تحريم تعبد والأول أظهر وقوله (أَرْبَعِينَ سَنَةً) متعلق بقوله : محرمة فيكون التحريم مؤقتا لا مؤبدا ، فلا يكون مخالفا لظاهر قوله ـ تعالى ـ (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ). والمراد بتحريمها عليهم أنه لا يدخلها أحد منهم هذه المدة ، لكن لا بمعنى أن كلهم يدخلونها بعدها ، بل بعضهم ممن بقي ـ يجوز له دخولها ـ فقد روى أن موسى سار بمن بقي من بنى إسرائيل ـ بعد انقضاء هذه المدة ـ إلى الأرض المقدسة.

وقوله : (يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) استئناف لبيان كيفية حرمانهم. وقيل حال من ضمير (عَلَيْهِمْ). وقيل : الظرف متعلق بقوله : (يَتِيهُونَ) فيكون التيه مؤقتا والتحريم مطلقا يحتمل التأبيد وعدمه» (١).

وقال الفخر الرازي : اختلف الناس في أن موسى وهارون ـ عليهما‌السلام ـ هل بقيا في التيه أو لا؟ فقال قوم : إنهما ما كانا في التيه ؛ لأن موسى دعا الله أن يفرق بينه وبين القوم الفاسقين ، ودعوات الأنبياء مجابة ، لأن التيه كان عذابا والأنبياء لا يعذبون.

وقال آخرون : إنهما كانا مع القوم في ذلك التيه ، إلا أن الله ـ تعالى ـ سهل عليهما ذلك العذاب كما سهل النار على إبراهيم فجعلها بردا وسلاما. وإنهما قد ماتا في التيه وبقي يوشع بن

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ١٠٩ ـ بتصرف وتلخيص ـ

١١٢

نون ـ وكان ابن أخت موسى ووصيه بعد موته ـ وهو الذي فتح الأرض المقدسة ـ بعد انقضاء مدة التيه وقيل بل بقي موسى بعد ذلك وخرج من التيه وحارب الجبارين وقهرهم وأخذ الأرض المقدسة» (١).

هذا ونرى من المناسب في هذا المقام أن نتعرض بشيء من التفصيل للمسائل الآتية :

أولا : الرد على اليهود في دعواهم أن الأرض المقدسة ـ فلسطين ـ ملك لهم مستندين إلى قوله ـ تعالى ـ : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) ثانيا : الحكمة في كون عقابهم أربعين سنة يتيهون في الأرض.

ثالثا : ما يؤخذ من هذه الآيات من العبر والعظات.

وللإجابة على المسألة الأولى نقول : للمفسرين أقوال في المراد من الكتابة في قوله ـ تعالى ـ (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) أشهرها قولان :

أولهما : أن معنى (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) : أمركم بدخولها ، وفرضه عليكم كما أمركم بالصلاة والزكاة فالكتب هنا مثله في قوله ـ تعالى ـ (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) : أى : فرض عليكم وهذا قول قتادة والسدى والثاني : أن معنى (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) قدرها لكم وقضى أن تكون مساكن لكم دون الجبارين. وهذا القضاء مشروط بالإيمان ، وطاعة الأنبياء ، والجهاد في سبيل نصرة الحق ، فإذا لم يكونوا كذلك ـ وهم لم يكونوا كذلك فعلا ـ لم يتحقق لهم التمكين في الأرض المقدسة ، ولذا بعد أن أغراهم نبيهم موسى ـ عليه‌السلام ـ بدخولها ، حذرهم من الجبن والعصيان فقال لهم : (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ).

قال الآلوسى : «وترتيب الخيبة والخسران على الارتداد يدل على اشتراط الكتب بالمجاهدة المترتبة على الإيمان قطعا» (٢).

وقال ابن عباس : كانت هبة من الله لهم ثم حرمها ـ سبحانه ـ عليهم بشؤم تمردهم وعصيانهم.

وقال الفخر الرازي : إن الوعد بقوله (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) مشروط بقيد الطاعة فلما لم يوجد الشرط لا جرم لم يوجد المشروط» (٣).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ١٩٩.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ١٠٦

(٣) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ١٩٧

١١٣

والخلاصة أن الكتابة في قوله ـ تعالى ـ (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) : إما أن تكون تكليفية على معنى : أن الله ـ تعالى ـ كتب عليكم وفرض أن تدخلوها مجاهدين مطيعين لنبيكم فإذا خالفتم ذلك حقت عليكم العقوبة.

وإما أن تكون كتابة قدرية. أى : قضى وقدر ـ سبحانه ـ أن تكون لكم متى آمنتم وأطعتم. وبنو إسرائيل ما آمنوا وما أطاعوا ، بل كفروا وعصوا فحرمها ـ سبحانه ـ عليهم.

وبذلك ترى أن دعوى اليهود بأن الأرض المقدسة ملك لهم ، بدليل قوله ـ تعالى ـ (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) لا أساس لها من الصحة ولا يشهد لها عقل أو نقل.

وللإجابة عن المسألة الثانية نقول : اقتضت حكمة الله ـ تعالى ـ أن يجعل عقوبته لقوم مناسبة لما اجترحوا من ذنوب وآثام وبنو إسرائيل لطول ما ألفوا من ذل واستعباد ، هانت عليهم نعمة الحرية. وضعف عندهم الشعور بالعزة. وأصبحت حياة الذلة مع القعود. أحب إليهم من حياة العزة مع الجهاد ولهذا عند ما أمرهم نبيهم موسى ـ عليه‌السلام ـ بدخول الأرض المقدسة اعتذروا بشتى المعاذير الواهية وأكدوا له عدم اقترابهم منها مادام الجبارون فيها : وقالوا : (إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ).

فاقتضت حكمة الله ـ تعالى ـ أن يحرمهم منها جزاء جبنهم وعصيانهم وأن يعاقبهم بما يشبه القعود ، بأن يحكم عليهم بالتيهان في بقعة محدودة من الأرض ، يذهبون فيها ويجيئون وهم حيارى لا يعرفون لهم مقرا وأن يستمروا على تلك الحالة أربعين سنة حتى ينشأ من بينهم جيل آخر سوى ذلك الجيل الذي استمرأ الذل والهوان.

قال ابن خلدون في مقدمته .. ويظهر من مساق قوله ـ تعالى ـ (قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) ومن مفهومه : أن حكمة ذلك التيه مقصودة ، وهي فناء الأجيال الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر ، وأفسدوا من عصبيتهم ، حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف القهر ولا يسام بالمذلة. فنشأت لهم بذلك عصبية أخرى اقتدروا بها على المطالبة والتغلب ويظهر لك من ذلك أن الأربعين سنة أقل ما يأتى فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر. فسبحان الحكيم العليم» (١).

هذا ولصاحب المنار كلام حسن في حكمة هذه العقوبة ، نرى من المناسب إثباته هنا ، فقد قال ـ رحمه‌الله ـ في ختام تفسيره لهذه الآيات :

«إن الشعوب التي تنشأ في مهد الاستبداد ، والإحساس بالظلم والاضطهاد ، تفسد

__________________

(١) مقدمة ابن خلدون. نقلا عن تفسير القاسمى ج ٦ ص ١٩٤٢

١١٤

أخلاقها ، وتذل نفوسها. وإذا طال عليها أمد الظلم تصير هذه الأخلاق موروثة ومكتسبة ، حتى تكون كالغرائز الفطرية. والطبائع الخلقية ، وإذا أخرجت صاحبها من بيئتها ، ورفعت عن رقبته نيرها ، ألفيته ينزع بطبعه إليها ويتفلت منك ليقتحم فيها ، وهذا شأن البشر في كل ما يألفونه ، ويجرون عليه من خير وشر ، وإيمان وكفر.

أفسد ظلم فرعون فطرة بنى إسرائيل في مصر ، وطبع عليها بطابع المهانة والذل. وقد أراهم الله ـ تعالى ـ من الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته وصدق رسوله موسى ـ عليه‌السلام ـ وبين لهم أنه أخرجهم من مصر لينقذهم من الذل إلى الحرية. ولكنهم كانوا مع هذا كله إذا أصابهم ضرر يتطيرون بموسى ، ويذكرون مصر ويحنون إليها.

وكان الله ـ تعالى ـ يعلم أنهم لا تطاوعهم أنفسهم المهينة على دخول أرض الجبارين ، وأن وعده ـ تعالى ـ لأجدادهم إنما يتم على وفق سنته في طبيعة الاجتماع البشرى ، إذا هلك ذلك الجيل الذي نشأ في الوثنية والعبودية. ونشأ بعده جيل جديد في حرية البداوة ، وعدل الشريعة ، ونور الآيات الإلهية ، وما كان الله ليهلك قوما بذنوبهم ، حتى يبين لهم حجته عليهم ، ليعلموا أنه لم يظلمهم إنما يظلمون أنفسهم.

وعلى هذه السّنة العادلة أمر الله ـ تعالى ـ بنى إسرائيل بدخول الأرض المقدسة ، فأبوا واستكبروا. فأخذهم الله بذنوبهم وأنشأ من بعدهم قوما آخرين.

فعلينا أن نعتبر بهذه الأمثال التي ضربها الله لنا ، وأن نعلم أن إصلاح الأمم من بعد فسادها بالظلم والاستبداد إنما يكون بإنشاء جيل جديد جمع بين حرية البداوة واستقلالها وعزتها ، وبين معرفة الشريعة والفضائل والعمل بها (١).

وللإجابة عن المسألة الثالثة ـ وهي ما يؤخذ من هذه الآيات من عظات وعبر ـ نقول : إن هذه الآيات الكريمة قد اشتملت على لون حكيم في أسلوب الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ فقد بدأت بتذكير بنى إسرائيل بأمجادهم وبعظم نعم الله عليهم ، لتغرس فيهم الشعور بالعزة ؛ ولتغريهم بالاستجابة لما أمر به ـ سبحانه ـ.

كما اشتملت على تحذيرهم من مغبة الجبن والمخالفة لأن ذلك يؤدى إلى الخسران.

وفوق ذلك فقد صورت تصويرا معجزا طبيعة بنى إسرائيل على حقيقتها وكشفت عن خور عزيمتهم ، وسقوط همتهم وسوء اختيارهم لأنفسهم .. بما جعلهم أهلا للعقوبات الرادعة وفي كل ذلك تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما لحقه من اليهود المعاصرين له من أذى ، وتحذير لهم من السير

__________________

(١) تفسير المنار ج ٦ ص ٣٣٧ ـ بتصرف يسير.

١١٥

على طريقة آبائهم المعوجة ، حتى لا يعرضوا أنفسهم للعقوبات التي حلت بأسلافهم.

قال الإمام ابن جرير : عند تفسيره للآيات الكريمة : وهذا ـ أيضا ـ من الله ـ تعالى تعريف ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتمادي هؤلاء اليهود في الغي ، وبعدهم عن الحق ، وسوء اختيارهم لأنفسهم ، وشدة خلافهم لأنبيائهم وبطء إثابتهم إلى الرشاد ، مع كثرة نعم الله عندهم ، وتتابع آياته وآلائه عليهم ، مسليا بذلك نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما ينزل به من مجادلاتهم في ذات الله ، يقول الله ـ له : لا تأس على ما أصابك منهم ، فإن الذهاب عن الله ، والبعد عن الحق ، وما فيه من الحظ لهم في الدنيا والآخرة ، من عاداتهم وعادات أسلافهم ، وأوائلهم ، وتعزّ بما لاقى منهم أخوك موسى ـ عليه‌السلام ـ (١).

وقال الإمام ابن كثير : وهذه القصة تضمنت تقريع اليهود ، وبيان فضائحهم ، ومخالفتهم لله ولرسوله ، ونكولهم عن طاعتهما فيما أمرهم به من الجهاد ، فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجالدتهم ومقاتلتهم ، مع أن بين أظهرهم كليم الله وصفيه من خلقه في ذلك الزمان. وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم. هذا مع ما شاهدوا من فعل الله بعدوهم فرعون من الغرق له ولجنوده في اليم وهم ينظرون. لتقر به أعينهم ـ وما بالعهد من قدم ـ ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازن عشر المعشار في عدة أهلها وعددهم. وظهرت قبائح صنيعهم للخاص والعام وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل ، ولا يسترها الذيل.

وقال ـ رحمه‌الله ـ قبل ذلك : وما أحسن ما أجاب به الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ يوم بدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين استشارهم في قتال قريش. فقد قالوا فأحسنوا.

لقد قال المقداد : يا رسول الله ، إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى ؛ (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ولكن نقول لك : «اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون» (٢) كذلك يؤخذ من هذه القصة أن معصية الله ورسله تؤدى إلى الخسران ، فإن بنى إسرائيل لما جبنوا عن دخول الأرض المقدسة ، وعصوا أمر نبيهم ، عاقبهم الله بالتيه مدة أربعين سنة ، صارت قصتهم عبرة للمعتبرين ، وموعظة للمتقين.

وبعد أن ساق ـ سبحانه ـ جوانب متعددة من أحوال أهل الكتاب وما جبلوا عليه من أخلاق سيئة ، أتبع ذلك بقصة ابني آدم ، فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٦ ص ١٦٨

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٩ بتصرف وتلخيص.

١١٦

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١) مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ)(٣٢)

قال أبو حيان في البحر «مناسبة هذه الآيات لما قبلها ، هو أن الله لما ذكر تمرد بنى إسرائيل وعصيانهم أمره في النهوض لقتال الجبارين ، أتبع ذلك بذكر قصة ابني آدم وعصيان قابيل أمر الله ، وأنهم اقتفوا في العصيان أول عاص لله وأنهم انتهوا في خور الطبيعة. وهلع النفوس

١١٧

والجبن والفزع إلى غاية بحيث قالوا لنبيهم الذي ظهرت على يديه خوارق عظيمة ـ (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) وانتهى قابيل إلى طرف نقيض منهم من الجسارة والعتو بأن أقدم على أكبر المعاصي بعد الشرك وهو قتل النفس التي حرم الله قتلها ، بحيث كان أول من سن القتل ، وكان عليه وزره ووزر من عمل به إلى يوم القيامة. فاشتبهت القصتان من حيث الجبن عن القتل والإقدام عليه. ومن حيث المعصية بهما وأيضا فتقدم قوله في أوائل الآيات :

(إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) وتبين ان عدم اتباع بنى إسرائيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما سببه الحسد ، وقصة بنى آدم انطوت على الحسد : وأن بسببه وقعت أول جريمة قتل على ظهر الأرض (١).

وقوله : (وَاتْلُ) من التلاوة. وأصل التلاوة القراءة المتتابعة الواضحة في مخارج حروفها. وفي النطق بها. والمراد بابني آدم : ولداه وهما قابيل وهابيل.

قال القرطبي : واختلف في ابني آدم. فقال الحسن البصري : ليسا من صلبه كانا رجلين من بنى إسرائيل ـ ضرب الله بهما المثل في إبانة حسد اليهود ـ وكان بينهما خصومة ، فتقربا بقربانين ، ولم تكن القرابين إلا في بنى إسرائيل قال ابن عطية : وهذا وهم ، وكيف يجهل صورة الدفن أحد من بنى إسرائيل يقتدى بالغراب؟ والصحيح أنهما ابناه لصلبه. هذا قول الجمهور من المفسرين وهما قابيل وهابيل (٢).

والضمير في قوله : (عَلَيْهِمْ) يعود على بنى إسرائيل الذين سبق الحديث عنهم. أو على جميع الذين أرسل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهدايتهم ويدخل فيه بنو إسرائيل دخولا أوليا ، لإعلامهم بما هو في كتبهم حيث وردت هذه القصة في التوراة.

وقوله (بِالْحَقِ) متعلق بمحذوف وقع صفة لمصدر (اتْلُ) أى : اتل عليهم تلاوة ملتبسة بالحق والصدق. والقربان : اسم لما يتقرب به إلى الله ـ تعالى ـ من صدقة أو غيرها. ويطلق في أكثر الأحوال على الذبائح التي يتقرب إلى الله ـ بذبحها.

قال أبو حيان : وقد طول المفسرون في سبب تقريب هذا القربان ـ من قابيل وهابيل ـ وملخصه : أن حواء كانت تلد في كل بطن ذكرا وأنثى ، وكان آدم يزوج ذكر هذا البطن أنثى ذلك البطن الآخر. ولا يحل للذكر نكاح توأمته : فولد مع قابيل أخت جميلة ، وولد مع هابيل أخت دون ذلك. فأبى قابيل إلا أن يتزوج توأمته لا توأمة هابيل ، وأن يخالف سنة النكاح ونازع قابيل هابيل في ذلك ، فاتفقا على أن يقدما قربانا ـ فأيهما قبل قربانه تزوجها ، والقربان الذي

__________________

(١) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ص ٤٦٠

(٢) تفسير القرطبي ج ٦ ص ١٣٣

١١٨

قرباه هو زرع لقابيل ـ وكان صاحب زرع ـ وكبش لهابيل ـ وكان صاحب غنم ـ فتقبل من أحدهما وهو هابيل ولم يتقبل من الآخر وهو قابيل. وكانت علامة التقبل أن تأكل نار نازلة من السماء القربان المتقبل وتترك غير المتقبل (١).

والمعنى : واتل ـ يا محمد ـ على هؤلاء الحسدة من اليهود ، وعلى الناس جميعا قصة قابيل وهابيل ، وقت أن قربا قربانا لله ـ تعالى ـ فتقبل الله ـ عزوجل ـ قربان أحدهما ـ وهو هابيل ـ لصدقه وإخلاصه ، ولم يتقبل من الآخر ـ وهو قابيل ـ بسوء نيته وعدم تقواه.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما دار بين الأخوين من حوار فقال : (قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ) أى قال قابيل متوعدا أخاه هابيل : لأقتلنك بسبب قبول قربانك ، دون قرباني ، فأنت ترى أن هذا الأخ الظالم قد توعد أخاه بالقتل ـ وهو من أكبر الكبائر. دون أن يقيم للأخوة التي بينهما وزنا ودون أن يهتم بحرمة الدماء وبحق غيره في الحياة والذي حمله على ذلك الحسد له على مزية القبول.

وقد أكد تصميمه على قتله لأخيه بالقسم المطوى في الكلام والذي تدل عليه اللام. ونون التوكيد الثقيلة أى والله لأقتلنك بسبب قبول قربانك.

وهنا يحكى القرآن الكريم مارد به الأخ البار التقى هابيل على أخيه الظالم الحاسد قابيل ، فيقول : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ).

أى : قال هابيل لقابيل ناصحا ومرشدا : إنما يتقبل الله الأعمال والصدقات من عباده المتقين الذين يخشونه في السر والعلن ؛ وليس من سواهم من الظالمين الحاسدين لغيرهم على ما آتاهم الله من نعم ، فعليك أن تكون من المتقين لكي يقبل منك الله.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف كان قوله : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) جوابا لقوله : (لَأَقْتُلَنَّكَ)؟ قلت : لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل قال له : إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى ، لا من قبلي ، فلم تقتلني؟ ومالك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى الله التي هي السبب في القبول؟ فأجابه بكلام حكيم مختصر جامع لمعان. وفيه دليل على أن الله ـ تعالى ـ لا يقبل طاعة إلا من مؤمن متق (٢).

ثم انتقل الأخ التقى من وعظ أخيه بتطهير قلبه ، إلى تذكيره بحقوق الأخوة وما تقتضيه من بر وتسامح فقال ـ كما حكى القرآن عنه ـ (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ١٣٠

(٢) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج ٢ ص ٤٦١

.

١١٩

إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) وبسط اليد : مدها والمراد هنا : مدها بالاعتداء.

والمعنى : لئن مددت إلى ـ يا أخى ـ يدك لتقتلني ظلما وحسدا (ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) فإن القتل ـ وخصوصا بين الأخوة جريمة منكرة ، تأباها شرائع الله ـ تعالى ـ وتنفر منها العقول السليمة.

وإذا كان الأخ الظالم قابيل قد أكد تصميمه على قتل أخيه هابيل بجملة قسمية وهي (لَأَقْتُلَنَّكَ) فإن هابيل قد أكد عدم قتله له بجملة قسمية ـ أيضا وهي (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ).

فأنت ترى أن الجملة الكريمة تصور أكمل تصوير ما بين الأخيار والأشرار من تضاد.

قال الآلوسى : قيل كان هابيل أقوى من قابيل ولكنه تحرج عن قتله واستسلم له خوفا من الله ـ تعالى ـ لأن المدافعة لم تكن جائزة في ذلك الوقت ، وفي تلك الشريعة. أو تحريا لما هو الأفضل والأكثر ثوابا وهو كونه مقتولا ، لا قاتلا» (١).

وقوله : (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) جملة تعليلية مسوقة لبيان سبب امتناع هابيل عن بسط يده إلى أخيه قابيل.

أى : إنى أخاف الله رب العالمين أن يراني باسطا يدي إليك بالقتل. وقد أكد خوفه من الله ـ تعالى ـ بأن المؤكدة للقول ، وبذكره له ـ سبحانه ـ بلفظ الجلالة ، المشعر بأنه هو وحده صاحب السلطان ، وبوصفه له عزوجل بأنه رب العالمين ، أى : منشئ الكون ومن وما فيه ، وصاحب النعم التي لا تحصى على خلقه.

وفي هذه الجملة الكريمة إرشاد لقابيل لخشية الله على أتم وجه ، وتعريض بأن القاتل لا يخاف الله.

ثم انتقل هابيل من وعظ أخيه بتطهير قلبه وبتذكيره بما تقتضيه الأخوة من بر وتسامح إلى تخويفه من عقاب الآخرة فقال : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ ، وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) :

وقوله : (أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) ، أى ترجع. وتقر : من البوء وهو الرجوع واللزوم ، يقال : باء إليه : أى : رجع ، وبؤت به إليه أى رجعت.

والآية الكريمة تعليل آخر لامتناعه عن بسط يده إلى أخيه ، ولم تعطف على ما قبلها للإيذان باستقلالها في العلية ، ولدفع توهم أن تكون جزء علة لا علة تامة.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ١١٢

١٢٠