الرسائل الأربع - ج ٣

عدّة من الأفاضل

الرسائل الأربع - ج ٣

المؤلف:

عدّة من الأفاضل


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣٢

الأزمنة والأمكنة ، وسيوافيك معنى الأحكام الأوّلية الثانوية عند البحث عن مدخليّة عنصر الزّمان والمكان في الاجتهاد ، كما أنّها على قول الفرقة الثانية أشبه بالأحكام الظاهرية التي توافق الواقع تارة وتخالفه أُخرى ، فعند الموافقة يكون المؤدّى نفس الواقع وعند المخالفة لا يكون مأموراً بإصابته.

ولمّا كان القول بإنكار الحكم الإلهيّ في الوقائع التي لا نص فيها ، يحبط من جامعيّة الإسلام في مجال العقيدة والشريعة ، حاول بعض أهل السنّة تفسير التصويب بمعنى لا يخالف ذلك ، ومجمل ما أفاد : إنّ القول بالتّصويب ليس بمعنى نفي حكم الله في الواقع ، وإنّ حكم الله تابع لرأي المفتي ، بل هو في قبال القول بالتأثيم وأنّ المجتهد إذا أخطأ يأثم ، فصار القائل بالتصويب ـ بردّ ذلك المتقدّم ـ يعني نفي الإثم لا إصابة الواقع ، فعليه يصير النزاع في التصويب والتخطئة لفظياً ، وإليك توضيحه :

إنّ أهل السنّة في مجال فتوى المفتي على طوائف :

الأُولى : إنّ المجتهد لم يكلّف بإصابة الواقع لخفائه وغموضه فلذلك لم يكن مأموراً به.

الثانية : أمر المجتهد بطلبه وإذا أخطأ لم يكن مأجوراً لكن حطَّ الإثم عنه تخفيفاً.

الثالثة : إنّ المجتهد الذي أخطأ الدّليل القطعيّ آثم غير فاسق ولا كافر ، وهذا قول بشر المريسي ، ونسبه الغزالي والآمدي إلى ابن عليه (١) وأبي بكر الأصمّ ،

__________________

(١) إسماعيل بن إبراهيم ، له مناظرات مع الشافعيّ ، ولد سنة ١٥١ ه‍ ـ وتوفّي عام ٢١٨ ه‍ ـ (منه حفظه الله).

٨١

وهؤلاء هم المؤثّمة (١).

وعلى ضوء ذلك : فالمراد من التصويب هو نفي القول بالإثم الذي أصرّ عليه بشر المريسي ، لا إصابة كلّ مجتهد للحقّ الملازم لنفي الحكم المشترك ، وكيف يمكن نسبة القول بالتصويب بمعنى نفي حكم الله في الواقعة مع أنّهم رووا في كتبهم عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ، وإذا أخطأ فله أجر (٢).

وممّن جزم بذلك الشوكاني فقال : «إنّ المجتهد لا يأثم بالخطإ بل يؤجر على الخطأ بعد أن يوفي الاجتهاد حقّه ، ولم نقل : إنّه مصيب للحق الذي هو حكم الله في المسألة ، فإنّ هذا خلاف ما نطق به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر.

فقسّم ما يصدر عن المجتهد في الاجتهاد في مسائل الدّين إلى قسمين : أحدهما ، هو مصيب فيه ، والآخر هو مخطئ ، فكيف يقول قائل : إنّه مصيب للحق

__________________

(١) قال الغزالي في المستصفى : ٢ / ٣٦١ : ذهب بشر المريسي إلى أن الإثم غير محطوط عن المجتهدين في الفروع ، بل فيها حقّ معين وعليه دليل قاطع ، فمن أخطأه فهو آثم كما في العقليات ، لكن المخطئ قد يكفّر كما في أصل الإلهيّة والنبوّة ، وقد يفسّق كما في مسألة الرؤية وخلق القرآن ونظائرها ، وقد يقتصر على مجرّد التأثيم كما في الفقهيات وتابعه على هذا من القائلين بالقياس ابن عليّة وأبو بكر الأصمّ ووافقه جميع نفاة القياس ومنهم الإمامية.

وقال الآمدي في إحكامه : ٤ / ١٨٨ ـ ١٨٩ : «وذهب بشر المريسي وابن عليّة وأبو بكر الأصمّ ونفاة القياس كالظاهريّة والإمامية إلى أنّه ما من مسألة إلّا والحقّ فيها متعيّن ، وعليه دليل قاطع ، فمن أخطأه فهو آثم غير كافر ولا فاسق.

(٢) أخرجه البخاري : ٤ / ٢٦٨ ومسلم : ٣ / ١٢٢ وأبو داود : ٣ / ٣٠٧ ورواه الحاكم في المستدرك : ٤ / ٨٨ عن طريق عمرو بن العاص.

ورواه الشافعي في الأُمّ : ١ / ٢٠٣. وقال الشيخ الأنصاري (رضي الله عنه) في رسائله : ١ / ١٠ : «وقد اشتهر أنّ للمصيب أجرين وللمخطئ أجراً واحداً.

٨٢

سواء أصاب أو أخطأ ، وقد سمّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مخطئاً ... فمن زعم أنّ مراد القائل بتصويب المجتهد من الإصابة للحق مطلقاً فقد غلط عليهم غلطاً بيّناً ... إنّ مقصودهم : إنهم مصيبون من الصواب الذي لا ينافي الخطأ لا من الإصابة التي هي مقابلة للخطأ ، فهذا لا يقول به عالم ومن لم يفهم هذا المعنى فعليه أن يتّهم نفسه (١).

فتبيّن لنا ممّا تقدّم أمران :

الأوّل : إنّ القدر المتيقّن من القول بالتصويب هو الأحكام التي لم يرد فيها نصّ وعوّل أمرها إلى المجتهدين وبما أنّه ليس فيها واقع محفوظ ، يكون الكلُّ مصيباً كالأحكام الحكوميّة.

الثاني : إنّه من المحتمل جدّاً أنّ المراد من التصويب هو نفي الإثم عن المجتهد ، لا إصابة الواقع.

نعم ، ما ذكره الشوكاني ربما لا ينطبق على بعض تعبيراتهم ، وعلى كلّ تقدير فالتصويب بالمعنى المشهور باطل عند الإمامية لتضافر الروايات على أنّ حكم الله مشترك بين العالم والجاهل (٢).

ثمّ إنّ الدّاعي إلى القول بالتصويب هو الإشكال الموجود في الجمع بين الأحكام الواقعيّة والأمارات الظنّية التي ثبتت حجيّتها ، مع العلم بأنّ بعضها على خلاف الحكم الواقعي ، فزعموا أنّه لا بدّ من رفع اليد عن إطلاقات الأدلّة القائلة

__________________

(١) القول المفيد في الاجتهاد والتقليد للشوكاني : ٨٧ الخ. نقلاً عن «الاجتهاد في الإسلام لنادية العمري : ١٦٢ و ١٦٣.

(٢) قيل : لا تضافر فضلاً عن التواتر الذي ادّعاه الشيخ الأنصاريّ (رضي الله عنه) (١ / ١٤٤) في الرّوايات والآثار على نحو الدلالة المطابقيّة ، ولم ترد على ذلك رواية واحدة ـ بعد الفحص ـ نعم هو مفاد الرّوايات الآمرة بالتوقف والاحتياط على نحو الدّلالة الالتزامية ، فإنّها دالة على وجود حكم واقعي لكلّ مسألة ، وأنّ الأمر بالاحتياط إنما هو لأجل التحفظ عليه وعدم الوقوع في مخالفته.

٨٣

بعدم اختصاص مداليلها بالعالمين بل شمولها للجاهلين ، وإلّا لزم اجتماع الضدّين وتفويت المصلحة أو الإبقاء في المفسدة ، وقد أوضحنا الحال في باب الجمع بين الحكم الواقعي والظّاهري وأنّ المفاسد كلّها خطابيّة كانت أو ملاكيّة ، مرتفعة ، فلاحظ.

الاجتهاد والأزمنة والأمكنة :

إنّ تأثّر اختلاف الأزمنة والأمكنة في استنباط الأحكام الشرعيّة ، كان مطروحاً من السابق في كتب أهل السنّة وقد عالجوا بها مخالفة الخلفاء لنصوص الكتاب والسنّة ، فصحّحوا المخالفة باختلاف الظروف ، وأنّ مقتضى المصالح العامّة هو ترك العمل بالنّصوص وتقديم المصالح عليها ، وقد طرحه ابن القيّم الجوزية في كتاب «أعلام الموقعين» وأتى فيه بكلام مسهب لا يسعنا نقله وخرج بهذه النتيجة وهي : أنّ للحاكم الإسلامي تقييد المطلقات والعمومات بملاكات خاصّة ، ولأجل ذلك ، كتب عمر بن الخطاب إلى الناس أن لا يجلدنَّ أمير جيش ولا سريّة (ولا) رجل من المسلمين حدّاً وهو غاز حتى يقطع الدّرب قافلاً لئلّا تلحقه حميّة الشيطان فيلحق بالكفّار (١). ورأى مفسدة تتابع الناس في إيقاع الثلاث لا تندفع إلّا بإمضائها على الناس ، ورأى مصلحة الإمضاء أقوى من مفسدة الإيقاع ، ثمّ أضاف ابن القيّم : «فلمّا تغيّر الزمان وبعد العهد بالسنّة وأثار القوم ، وقامت سوق التحليل ونفقت في الناس ، فالواجب أن يردّ الأمرُ إلى ما كان عليه في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخليفته من الإفتاء بما يعطل سوق التحليل أو يقلّلها ويخفّف شرّها» (٢).

هذا ولا يمكن لنا الموافقة مع كلّ ما ذكره ، فإنّ مآل كلامه أنّ للحاكم

__________________

(١) أعلام الموقعين : ٣ / ٦.

(٢) المصدر نفسه : ٣ / ٤٨.

٨٤

الإسلامي حقّ التشريع والتقنين ، مع أنّه يمكن حفظ المصالح وقوّة المسلمين عن طريق آخر سنقف عليه عند البحث عن الأحكام الأوّليّة والثانوية ، غير أنّ تحقيق الكلام في تأثير اختلاف الزّمان والمكان موقوف على النظر في أمرين ثابتين غير متغيّرين :

الأوّل : الإسلام دين عالميّ لا إقليميّ كما إنّه خاتم الأديان ، لا دين بعده ، فالنبي الأكرم خاتم الأنبياء ، وكتابه خاتم الكتب السّماويّة وشريعته خاتمة الشّرائع لا تشريع بعدها أبداً ، وقد جاء النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكلّ ما يحتاج إليه الإنسان آجلاً وعاجلاً فهو في غنى عن الرّجوع إلى شرع آخر مطلقاً.

الثاني : إنّ من مراتب التوحيد هو التوحيد في التقنين والتشريع ، وأنّه ليس لنبيّ ولا وصيّ حقُّ التشريع ، بل واجبهم التبليغ والتبشير والانذار ، وهذا هو الوحي الإلهي يأمر النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله تعالى : (قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (يونس ـ ١٥).

هذا وإنّ في كلمات الإمام علي بن أبي طالب (عليه‌السلام) تلميحات إلى تغيير الأحكام بمر الزّمان وتبدّل الأوضاع ، نشير منها إلى كلمتين :

الأولى : يصفُ أحكام الله سبحانه : «وبين مثبت في الكتاب فرضه ، ومعلوم في السنّة نسخه ، وواجب في السنّة أخذه ، ومرخّص في الكتاب تركه وبين واجب بوقته وزائل في مستقبله» (١).

الثانية : سئل الإمام (عليه‌السلام) عن قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : غيّروا الشّيب ولا تشبّهوا باليهود ، فقال (عليه‌السلام) : «إنمّا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك والدّين قلّ (٢) ، فأمّا الآن وقد

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة الأُولى ـ القرآن والأحكام الشرعية.

(٢) قلّ : قليل أهله.

٨٥

اتسع نطاقه وضرب بجرانه (١) ، فامرؤٌ وما اختار» (٢).

وروي نظير ذلك في كلام الإمام الصادق (عليه‌السلام) في وجوب دفع الخمس إليهم ، روى يونس بن يعقوب قال : كنت عند أبي عبد الله (عليه‌السلام) فدخل عليه رجل من القماطين ، فقال : جعلت فداك تقع في أيدينا الأموال والأرباح وتجارات نعلم أنّ حقّك فيها ثابت وإنّا عن ذلك مقصّرون. فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : «ما أنصفناكم إن كلّفناكم ، ذلك اليوم» (٣).

وفي رواية عن عليّ بن مهزيار عن أبي جعفر الثاني (عليه‌السلام) ما يدلّ على إيجاب الخمس على الشيعة سنة عشرين ومائتين فقط (٤).

إذا وقفت على ما ذكرنا ، فاعلم أنّ تأثير الأزمنة والأمكنة في الاجتهاد والاستنباط يجب أن يفسّر على وجه لا يصادم الأصول المسلّمة من كونه تشريعاً عالمياً خاتميّاً وأنّه ليس لغيره سبحانه حقّ التشريع ، وفي الوقت نفسه مرونة الأحكام مع جميع الأزمنة والأمكنة ، وأنّها لا تصادم أيّة حضارة من الحضارات الإنسانية وإليك بيانه على ضوء تلك الأُصول :

إنّ الحكم الشرعيّ ربّما يكون مكتنفاً بخصوصيّات تعدّ مقوّمة للحكم الشرعي فيتغير بتغيّرها ويتبدّل بتبدّلها ، ولا يعني ذلك رفض الحكم الإلهيّ أو إنكار عالمية التشريع ، وأبديّته ، بل بمعنى تغيّر الحكم بتغيّر الموضوع والجهات المقوّمة له عند نفس الشارع ، فكما أنّ الحكم بطهارة الكلب مع صيرورته ملحاً أو تراباً لا يعدّ خلافاً له ، هكذا تغيّر الحكم بتغيّر الخصوصيّات الأُخر لا يعدّ خلافاً له.

__________________

(١) جران : مقدّم عنق البعير ، يضرب به على الأرض إذا استراح وتمكّن.

(٢) نهج البلاغة ـ قسم الحكم ـ رقم ١٧.

(٣) الوسائل : ٦ / ٣٨٠ ح ٦ ، الباب ٤ من أبواب الأنفال.

(٤) المصدر نفسه : ٦ / ٣٤٩ ـ ٣٥٠ ح ٥ ، الباب ٨ من أبواب ما يجب فيه الخمس.

٨٦

ثمّ إنّ الخصوصيات ـ المؤثرة في الحكم تارة تؤثّر في مقام الإفتاء وأُخرى في مقام حكم الحاكم الإسلامي من جهة الولاية ، فعلى الخبير عدم الخلط بينهما ، وإليك بعض الأمثلة من كلا القسمين ـ على أقسام :

الأوّل : أن تقع علّة للحكم ومناطاً له ، كعدم الانتفاع بالدم ونحوه ، فقد ذكر الشيخ الأعظم الأنصاري (رضي الله عنه) أنّه لا خلاف في حرمة بيع الدم ، وذلك لعدم الانتفاع به انتفاعاً محلّلاً (١) ، فلم يكن الغرض من البيع يوم ذاك إلا الأكل وهو محرّم لنجاسته ولو افترضنا تغيّر علّة الحكم ومناطه بأن صار الدّم ذا منفعة محلّلة شائعة ، وبها قامت رحى الحياة في المصدومين والمجروحين ومن تجرى في حقّه الجراحة الطبيّة ، إذ لو لا التزريق بالدم لما نجا كثير منهم ، حينئذ يتبدّل الحكمُ لتبدّل مناطه وغايته اللّذين هما قيد الموضوع. فالظّروف الحديثة غيّرت الحكم الشرعيّ بتغير موضوعه ، وصار الدم غير المنتفع به إلّا في الجهة المحرّمة منتفعاً به في الجهة المحلّلة الشائعة لا النّادرة ، وبذلك يدخل بعض ما كان يعدّ من المكاسب المحرّمة في عداد المحلّلة ، فلو قيل : إنّ لعنصر الزمان تأثيراً في الاجتهاد ، يعنى به التأثير في تشخيص الصغرى وبقائها على ما كانت عليه أو تغييرها عمّا كانت عليه ، قال السيّد الأُستاذ : «لم يكن في تلك الأعصار للدم نفع غير الأكل فالتحريم منصرف إليه» (٢).

__________________

(١) كلام الشيخ الأعظم (رضي الله عنه) في مكاسبه حول التعليل المذكور في المتن مختص بالدم الطاهر حيث قال (رضي الله عنه) : وأمّا الدم الطاهر إذا فرضت له منفعة محللة ... وقال (رضي الله عنه): «وصرّح في التذكرة بعدم جواز بيع الدم الطاهر لاستخباثه ، ولعلّه لعدم المنفعة الظاهرة فيه غير الأكل المحرّم. فإنّه قد فصّل بين الدم الطاهر والنجس وحكم (رضي الله عنه) في الثاني بحرمة المعاوضة عليه مطلقاً للإجماع والأخبار المتقدّمة. هذا وفي التذكرة : يشترط في المعقود عليه الطهارة الأصلية ، ولو باع نجس العين لم يصحّ إجماعاً.

(١ / ٣ من البيع).

(٢) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني (قدّه) : ١ / ٣٨.

٨٧

فلا شبهة في قصور الأدلة عن إثبات حرمة سائر الانتفاعات في الدم ، فالأشبه جواز بيعه إذا كان له نفع عقلائيّ في هذا العصر.

الثاني : أن يكون الحكم مكتنفاً بخصوصية زمانيّة ومكانيّة يدرك العقل السليم باختصاصه بها ، وارتفاعه مع ارتفاعها ، وهذا أيضاً لا يعني إلّا تغيّر الحكم بتغيّر موضوعه المحدّد له شرعاً ، فقد تضافرت النّصوص على حليّة الفيء والأنفال للشّيعة في عصر الغيبة ، ومن الأنفال : الآجام وأراضي الموات ، فإبقاءُ هذا الحكم بنحو الإطلاق في هذه الأعصار يوجب الهرج والمرج ، ويوجد اختلافاً طبقيّاً هائلاً لامتلاك بعض الناس كل شيء وحرمان أكثرهم عن كلّ شيء ، إذ لبعضهم قدرة هائلة يقتدر معها على تحجير الأراضي الشاسعة الكبيرة الواسعة ، واستباحة الآجام والثروات العامّة بقطع الأشجار وتصديرها ، وهو ممّا لا يرضى به الشارع أوّلاً وإفضائه إلى الفوضى في المجتمع ثانياً.

فعند ذلك تفرض الظّروف الزّمانية والمكانيّة على إجراء ذلك الحكم بشكل خاصّ جامع يتكفّل إجراء أصل الحكم أي حليّة الأنفال للشيعة أوّلاً وحفظ النّظام وبسط العدل والقسط بين النّاس ثانياً ، بتقسيم الثروات العامّة عن طريق دولة إسلامية مقتدرة تتحفّظ على جميع الشّئون فيستفيد الغنيّ والفقير والمتمكّن وغيره من الأنفال بالسويّة.

الثالث : إنّ الأواني والألبسة والمنسوجات كانت في الأزمنة السّابقة قيميّة لعدم انطباق تعريف المثليّ عليها ، غير أنّ الجهاز الصّناعي اليوم في ذلك المجال ، جعل الكلّ مثليّاً والمعامل لا تزال تنتج كميّة هائلة من الأواني والمنسوجات لا يختلف واحد عن الآخر قدر شعرة ، فأصبحت هذه القيميّات بفضل التقدّم الصّناعيّ مثليّات.

الرّابع : ما يباع بالوزن والكيل قد يباع بالعدد في مكان آخر وكذلك العكس ،

٨٨

وهذا يختلف باختلاف البيئات والمجتمعات ، ويلحق لكلّ حكمه ، فيكون ما يباع بالكيل والوزن مشمولاً لحرمة الرّبا المعاوضي دون ما يباع بالعدد ، فيجب مراعاة أعراف الشّعوب.

الخامس : لا شكّ أنّ أكثر ما يلبسه المسلمون اليوم كان بالأمس لباس الأعداء وكان تلبّسه يعدّ تشبّهاً بهم وهو منهيّ عنه ، وقد ورد عنهم (عليه‌السلام) : «لا تلبسوا لباس أعدائي» (١).

ولكن مع مرّ الزّمان شاع استعماله في أكثر الأمكنة ، فتغيّر الموضوع وصار لباساً عالميّاً وليس مختصّاً بالكفّار.

الخامس :

نأتي في هذا القسم من الأمثلة ما تكون المصالح الزّمنيّة والمكانيّة فيها مؤثّرة في اجتهاد الحاكم كما كانت في الأمثلة السابقة مؤثرة في فتوى المفتي ، فالزّمان والمكان عنصران مؤثّران في فتوى المفتي واجتهاد الحاكم ، وإليك البيان :

إنّ الأحكام الإلهيّة تنقسم إلى أحكام أوّلية متعلّقة بعناوين نفسيّة للشّيء وأحكام ثانويّة تعرض للشيء باعتبار طرُوّ عناوين خارجة عن نفسها عليها ، وذلك مثل وجوب الصلاة والزّكاة والخمس والحجّ والجهاد أحكام أوّلية تعرض للشيء بما هو هو ، وحرمة الوضوء والغسل عند كونهما ضرريّين حكم عارض لهما بملاحظة عروض الضرر عليهما ، كما أنّ إباحة السّفر حكم أوّلي عارض له ،

__________________

(١) الوسائل : ٣ / ٢٧٩ ح ٨ ، الباب ١٩ من أبواب لباس المصلي. عن إسماعيل بن مسلم عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «إنّه أوحى الله إلى نبيّ من أنبيائه ، قل للمؤمنين : لا تلبسوا لباس أعدائي ولا تطعموا مطاعم أعدائي ، ولا تسلكوا مسالك أعدائي ، فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي» ورواه في عيون الأخبار عن الرّضا (عليه‌السلام) عن آبائه (عليهم‌السلام) قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تلبسوا ...» وذكر مثله.

٨٩

ووجوبه باعتبار كونه مصداقاً لإطاعة أمر الوالدين حكم عارض عليه. ولا منافاة أن يكون للشيء بما هو هو حكم ، وبما أنّه معروض عنوان آخر حكم آخر ، والعناوين المؤثرة للحكم عبارة عن أُمور :

الأوّل : الضّرورة والاضطرار (١) ، الثاني : الضّرر والضّرار (٢) ، الثالث : العسر والحرج ، الرابع : التقيّة ، الخامس : الأهمّ والمهمّ ، السادس : أمر الوالدين ونهيهما ، السابع والثامن والتاسع : النّذر واليمين والعهد ، العاشر : مقدّمة الواجب أو الحرام.

فاعلم : أنّ عروض هذه العناوين ربّما توجد أرضية خاصّة لتغيّر الحكم العارض عليه بما هو هو ، فلأجل ذلك ، صار أكلُ الميتة المحرّم عند الضّرورة والاضطرار جائزاً ، والسّفرُ إلى الحجّ المندوب عند نهي أحد الوالدين حراماً بالعرض لاستلزامه ما هو محرّم بالذّات وهو العقوق ، وليس لأيّ مشرّع غضّ النّظر عن هذه العناوين الثانويّة كلّها أو بعضها ، فإنّ في إيجاب الحكم والإصرار عليه عند الضّرورة والاضطرار ، وتنفيذ الحكم عند الضّرر يوجب انسحاب الناس عن الدّين وقلّة الرّغبة إليه ، فلم يكن بدّ من ملاحظتها وتقديمها على أحكام العناوين الأوّليّة ، ولأجل ذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ضرر ولا ضرار» (٣) ، وقال : ليس شيء ممّا حرّمه الله إلّا وقد أحلّه لمن اضطرّ إليه.

__________________

(١) الضرورة : الحاجة ، والاضطرار : الاحتياج.

(٢) الضّرر والضرّ عرفاً هو النقص الماليّ والنفسيّ دون النقص العرفيّ كالهتك والإهانة. ولغة : الضيّق والشدّة وسوء الحال. والضّرار لغة : فعال من الضرّ ، أي : لا يجازي الرّجل أخاه على إضراره بإدخال الضرر عليه. وقيل : هما (الضّرر والضرار) بمعنى ، والتكرار ـ في الحديث ـ للتأكيد. وقيل : الضّرار : اللّجاجة والإصرار على عدم التسليم للغير ، والتّصلّب في إنفاذ إرادة نفسه وإن لم يفده شيئاً كما نرى من عادة الأرذال.

(٣) الوسائل : ١٧ / ٣٤١ ح ٣ ، الباب ١٢ من أبواب إحياء الموات.

٩٠

دور الحاكم في رفع التزاحم بين الأحكام الأوّليّة :

إنّ تقدّم العناوين الثانوية على الأوّلية يحلّ العقد في مقامين :

الأوّل : إذا كان هناك تزاحم بين الحكم الواقعيّ الأوليّ وأحكام العناوين الثانوية ، فتقدم الثانية على الأُولى ، إمّا من باب الحكومة أو من باب التوفيق العرفيّ.

الثاني : إذا كان هناك تزاحم بين الأحكام الواقعيّة بعضها مع بعض بحيث لو لا القضاء والحكومة لفك العقد وحفظ الحقوق لحصلت مفاسد ، وهنا يأتي دور الحاكم والفقيه الجامع للشرائط الشاغل منصبه الولاء لا الافتاء ، أي : بتقديم بعض الأحكام الواقعيّة على بعض في المقام.

بل بمعنى تعيين أنّ المورد من صغريات أيّ واحد من الحكمين الواقعيين ، ولا يحكم الحاكم في المقام إلّا بعد دقة وإمعان ودراسة للظروف الزمانية والمكانية ومشاورة العقلاء والخبراء.

وبعبارة أُخرى : إذا وقع التزاحم بين الأحكام الأوّليّة بعضها مع بعض ، فيقدّم بعضها على بعض في ظلّ هذه العناوين الثانويّة ، ويقوم به الحاكم الإسلاميّ بفضل الولاية المعطاة له ، فتصير هذه العناوين مفاتيح بيد الحاكم ، يرتفع بها التزاحم والتنافي ، فمعنى مدخليّة الزّمان والمكان في حكم الحاكم عبارة عن لزوم رعاية المصالح العامّة الإسلامية في زمانه ومكانه ، حتّى يتّضح أنّ المقام صغرى لأي كبرى من الكبريات ، وأيّ حكم من الأحكام الواقعية ، فيكون حكمه بتقديم إحدى الكبريين شكلاً إجرائيّاً لجريان الأحكام الواقعية ومراعاة لحفظ الأهمّ وتخطيطاً لحفظ النّظام وعدم اختلاله.

وبذلك يظهر أنّ حكم الحاكم الإسلاميّ يتمتّع بميزتين :

٩١

الأُولى : إنّ حكمه بتقديم إحدى الكبريين وحكمه على وفقها ، ليس حكماً مستنبطاً من الكتاب والسنّة مباشرة وإن كان أساس الولاية وأصلها مستنبطاً ومستخرجاً منهما ، إلّا أنّ الحاكم لمّا اعتلى منصّة الحكم ووقف على أنّ المقام من صغريات ذلك الحكم الواقعيّ دون الآخر للمقاييس التي عرفتها ، يصير حكمه حكوميّاً وولائياً في طول الأحكام الأوّليّة والثّانويّة وليس الهدف من تسويغ الحكم له إلّا الحفاظ على الأحكام الواقعيّة برفع التزاحم ، ولذلك سمّيناه حكما إجرائيّاً ولائيّاً حكوميّاً لا شرعيّاً مثل : وجوب الوضوء ـ لما عرفت من أنّ حكمه علاجيّ يعالج به تزاحم الأحكام الواقعية في ظلّ العناوين الثانوية ، وما يعالج به حكم لا من سنخ المعالج ، ولو جعلناه في عرض الحكمين لزم انخرام توحيد التقنين والتشريع.

الثانية : إنّ حكم الحاكم لمّا كان نابعاً عن المصالح العامّة وصيانة القوانين الإسلامية لا يخرج حكمه عن إطار الأحكام الأوّليّة والثّانويّة ، ولأجل ذلك قلنا إنّه يعالج التزاحم فيها ، في ظلّ العناوين الثانويّة ، نعم ربّما يقال بأنّ ولاية الفقيه أوسع من إطار الأحكام الأوّلية والثانوية.

والقول بولاية الفقيه على هذا الحد يرفع جميع المشاكل الماثلة في حياتنا ، فإنّ العناوين الثانوية التي تلوناها عليك أدوات بيد الفقيه يسد بها كل فراغ حاصل في المجتمع ، وهي في الوقت نفسه تغيّر الصغريات ولا تمس بكرامة الكبريات.

ولأجل توضيح المقام ، نأتي بأمثلة تتبيّن فيها مدخليّة المصالح الزمانية والمكانية في حكم الحاكم وراء دخالتهما في فتوى المفتي.

الأوّل : لا شكّ أنّ تقوية الإسلام والمسلمين من الوظائف الهامّة ، وتضعيف وكسر شوكتهم من المحرّمات الموبقة ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر فإنّ بيع

٩٢

وشراء التنباك أمر محلّل في الشرع ، والحكمان من الأحكام الأوّلية ولم يكن أيّ تزاحم بينهما إلّا في فترة خاصة عند ما أعطى الحاكم العرفيّ امتيازاً للشّركة الأجنبية ، فصار بيعه وشراؤه بيدها ، ولمّا أحسّ الحاكم الشرعيّ آنذاك ـ السيد الميرزا الشّيرازي (قدس‌سره) ـ انّ استعماله يوجب انشباب أظفار الكفّار على هيكل المجتمع الإسلامي ، حكم (قدس‌سره) بأنّ استعماله بجميع أنواع الاستعمال في هذه الفترة كالمحاربة مع وليّ العصر (عليه‌السلام) (١) فلم يكن حكمه نابعاً إلّا من تقديم الأهمّ على المهمّ أو من نظائره ، ولم يكن الهدف من الحكم إلّا بيان أنّ المورد من صغريات حفظ مصالح الإسلام واستقلال البلاد ، ولا يحصل إلّا بترك استعمال التّنباك بيعاً وشراءً وتدخيناً وغيرها ، فاضطرّت الشّركة حينئذ إلى فسخها.

الثاني : إنّ حفظ النفوس من الأُمور الواجبة ، وتسلّط النّاس على أموالهم وحرمة التصرّف في أموالهم أمر مسلّم في الإسلام أيضاً ، إلّا أنّ حفظ النفوس ربّما يتوقّف على فتح الشوارع في البلاد داخلها وخارجها ولا يحصل إلّا بالتصرّف في الأراضي والأملاك ، فلو استعدّ مالكها بطيب نفس منه فهو وإلّا فللحاكم في المقام دور وهو ملاحظة الأهمّ بتقديمه على المهمّ فيقدّم الحكم الأوّل وهو حفظ النفوس على الثاني ، ويحكم بجواز التصرّف بلا إذن ، غاية الأمر يضمن لصاحب الأراضي قيمتها السوقية.

الثالث : إنّ إشاعة القسط والعدل ممّا ندب إليه الإسلام وجعله غاية لبعث الرّسل ، قال سبحانه : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد ـ ٢٥).

__________________

(١) عام ١٨٩١ م وحكمه كالتالي : بسم الله الرّحمن الرحيم : «اليوم استعمال التنباك والتتن ، بأي نحو كان ، بمثابة محاربة إمام الزمان (عجّ)».

٩٣

ومن جانب إنّ النّاس مسلّطون على أموالهم يتقلّبون فيها كيفما شاءوا ، فإذا كان هناك تزاحم بين الحكمين الواقعيين ، كما في احتكار المحتكر أيّام الغلاء أو إجحاف أصحاب الحرف والصّنعة وغيرهم ، فللحاكم الإسلامي ـ حسب الولاية الإلهيّة ـ الإمعان والدّقة والاستشارة والمشورة في حلّ الأزمة الاجتماعية حتّى يتبيّن له أنّ المقام من صغريات أيّ حكم من الحكمين فلو لم تحلّ العقد بالوعظ والنصيحة ، فآخر الدّواء الكيّ ، أي : بفتح المخازن وبيع ما احتكر بقيمة عادلة وتسعير الأجناس وغير ذلك.

الرابع : لا شكّ أنّ الناس أحرار في تجاراتهم مع الشركات الداخلية والخارجية ، إلّا أنّ إجراء ذلك ، إن كان موجباً لخلل في النظام الاقتصاديّ أو ضعف في البنية الماليّة للمسلمين ، فللحاكم تقديم أهمّ الحكمين على الآخر حسب ما يرى من المصالح.

الخامس : لو رأى الحاكمُ أنّ بيع العنب إلى جماعة لا يستعملونه إلّا لصنع الخمر وتوزيعه بالخفاء أورث فساداً عند بعض أفراد المجتمع وانحلالاً في شخصيّتهم ، فله أن يمنع من بيع العنب إلى هؤلاء.

إلى غير ذلك من المواضع الكثيرة التي لا يمكن للفقيه المفتي أو الحاكم غضّ النّظر عن الظروف المحيطة به ، حتى يتضح له أنّ المجال مناسب لتقديم أي الحكمين على الآخر وتشخيص الصغرى كما لا يخفى.

هذا كلّه حول مدخلية الزمان والمكان في الاجتهاد في مجالس الإفتاء والحكم ، وأمّا سائر ما يرجع إلى ولاية الفقيه فنتركه إلى محلّه ، وليس المقصود في المقام إلّا أمراً واحداً وهو كونُ الزمان والمكان مؤثّرين في المقامين فقط.

٩٤

في تبدّل رأي المجتهد :

إذا بدا للمجتهد فتغيّر رأيه سواء اتخذ رأياً آخر أم لا كما إذا توقّف.

يقع الكلام في حكم أعماله السابقة من عبادات ومعاملات وأعمال مقلّديه.

والنسبة بين هذه المسألة وما تقدّم في باب الأوامر من مبحث الإجزاء عموم وخصوص من وجه ، فالبحث السابق عامّ لشموله امتثال الأوامر الواقعيّة والثانوية كالاضطرار ، وخاصّ لاختصاصه بالعبادات التي ورد فيها الأمر (١) ، وأمّا المقام فهو عامّ لشموله ما لم يرد فيه أمر كالمعاملات ، وخاصّ لاختصاصه بامتثال الأوامر الظاهريّة كالامارات والأُصول ، وأمّا الأقوال فإليك بيانها :

الأوّل : الإجزاء مطلقاً ، حكاه سيّدنا المحقّق البروجرديّ (رضي الله عنه) عن القدماء ولم يفصّل بشيء (٢) ، ولكن من البعيد جدّاً قولهم بالإجزاء فيما إذا لم يكن حكم من الشارع لا ظاهراً ولا واقعاً كموارد القطع ، فإذا قطع بعدم وجوب السورة في الصلاة ، وأتى بها بلا سورة ، فلا دليل على الإجزاء إذ لم يرد من الشارع كلام في العمل بالقطع حتّى تصل النّوبة إلى دلالته على الإجزاء أو لا (٣).

__________________

(١) وكذلك لا نظر إلى كيفيّة التبيّن أنّه قطعيّ أو ظنيّ أو غير ذلك ـ كما قيل ـ.

(٢) واختاره السيّد البروجردي (قدس‌سره) ـ راجع الحاشية على الكفاية : ١ / ٢٢٣ ـ طرح لمباني السيّد البروجرديّ (قدس‌سره) للشيخ بهاء الدين الحجتي ، قال : «إنّ التحقيق كما أفاده المحقّق السيّد الأُستاذ هو الإجزاء مطلقاً سواء أكان مورداً للأُصول أم كان مورداً للامارات».

(٣) اتّفقت كلماتهم على عدم الإجزاء في موارد القطع بالخلاف. (محاضرات في أُصول الفقه ـ الفياض : ٢ / ٢٥٤).

٩٥

الثاني : التفصيل بين كون الامارة حجّة من باب الطريقيّة والسّببيّة فالقول بالإجزاء في الثاني دون الأوّل.

الثالث : التفصيل بين العمل بالامارة والعمل بالأُصول فالاجزاء في الثاني دون الأوّل.

الرابع : التفصيل بين ما إذا انكشف الخلاف بحجّة معتبرة وما إذا انكشف الخلاف بعلم وجدانيّ فيجزي في الأوّل لعدم التّفاوت بين الاجتهادين ، ولا يجزي في الثاني لأقوائيّته.

ثمّ إنّ الكلام يقع تارة فيما إذا كان العمل بالامارة والأصل لأجل استكشاف كيفيّة التكليف في أجزائه وشرائطه وموانعه ، وأُخرى في استكشاف أصل التكليف وأنّ الواجب هل هو الجمعة أو الظهر؟

وإليك الكلام في الموضع الأوّل :

العمل بالأمارة لاستكشاف كيفيّة التكليف :

المعروف بين المتأخّرين هو أنّ العمل بالامارة يوجب عدم الإجزاء إذا بان الخلاف ، وحاصل ما أفادوه :

إنّ العمل بالامارة عند العقلاء لأجل كونها كاشفة وحاكية عن الواقع فقط ، ولو لم تكن لها هذه الخصوصية لتركوها في سبيلها ، والشارع أمضى عمل العقلاء لهذه الخصوصية المرتكزة في أذهانهم. وعليه يكون الأمر بالعمل بها لأجل إدراك

٩٦

الواقع والوصول إليه ، فإذا لم يدرك العامل بها الواقع ولو عن قصور يكون الواقع باقياً بحاله ، وهذا مجرى قاعدة الاشتغال القاضية بأنّ الاشتغال اليقينيّ يستدعي الفراغ اليقيني ، وفي المقام لا بدّ من الاتيان مجدّداً لتحصيل براءة الذمّة وسقوط التكليف المتوجّه.

هذا وقيام الظاهر النّاقص مقام الواقع التّام المنكشف ، في تحقّق المأمور به ، يحتاج إلى دليل مثل جعل النّاقص مكان الكامل ، كما في مورد «لا تعاد الصلاة إلّا من خمس».

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكروه صحيح بلا إشكال ، وأنّ قيام الظاهر الناقص مقام الواقع التّام يتوقف على الدليل ، وعندي أنّ الدّليل على الإجزاء موجود وذلك أنّ الأمر بالعمل بالامارة في مقام استكشاف كيفيّة العمل الّذي أمر به المولى ، يلازم عرفاً بأنّ المولى راض في الإتيان على طبق مؤدّى الامارة على حدّ كاشفيتها ، فإذا كان الكشف عن الواقع تسعين بالمائة والخطأ بمقدار عشرة بالمائة فقد رضي المولى بذلك ، ورفع اليد عن الموارد الخاطئة ، فقوله : خذ وظائفك وتكاليفك عن فلان ، بمعنى الاكتفاء في مقام الامتثال بما أدّى قوله والعفو عمّا تخلّف عنه.

ويكفي في ذلك ملاحظة ما ذكروه من الأدلّة على حجيّة الامارات ، كآية النبأ أو الأحاديث الآمرة بالعمل بخبر الواحد إذا كان ثقة (١) ، أو السيرة العقلائية في

__________________

(١) قال الشيخ الأعظم (قدّه) في فرائده [١ / ٤٤١] : «وقد ادّعى في الوسائل تواتر الأخبار بالعمل بخبر الثقة ، إلّا أنّ القدر المتيقن منها هو خبر الثقة الّذي يضعف فيه احتمال الكذب على وجه لا يعتني به العقلاء ويقبّحون التوقّف فيه لأجل ذلك الاحتمال».

٩٧

العمل بأخبار الثقات إلى غير ذلك ممّا استدلّ به القوم على حجيّة قول العدل أو الثقة.

فإنّك إذا قارنت هذه الأدلّة التي تأمر بالعمل بقول الثقات إلى أدلّة الشرائط والأجزاء ، يتجلّى فهم الملازمة بين الأمر بالعمل بأخبار الثقات في تشخيص أجزاء المأمور به وشرائطه وسائر خصوصيّاته ، والاكتفاء بما أتى به المكلّف طابق الواقع أو لا.

وللتقريب نذكر مثالين :

الأوّل : لو أمر المولى عبده بأن يهيّئ له دواءً وأمره أن يسأل صيدليّاً عن نوعيّة أجزائه وكميتها وكيفيّة تركيبها ، فاتّبع العبد إرشادات الصيدليّ الّذي جعل قوله حجّة في المقام ، وصنع الدواء ، ثمّ ظهر أنّ الصيدليّ كان قد أخطأ في بعض إرشاداته في مورد أو موردين ، فإنّ العرف يعدّون العبد طائعاً وممتثلاً لأمر مولاه ، ويرون عمله مسقطاً للتكليف من دون ايجابه بالقيام للامتثال مجدّداً اللهم إلّا أن يأمر به المولى ثانياً.

الثاني : إذا أمر المولى عبده ببناء بيت ، وأمره أن يرجع في كلّ ما يتعلّق بالبناء إلى مهندس مختص ومعمار ماهر خبير ، فاتبع العبد أوامرهما ، وبنى البيت ، لكن تبيّن خطأ المهندس أو المعمار ، فإنّ العبد معذور والعمل مجز ، اللهم إلّا أن يأمره بالإعادة ثانياً.

وهذه الارتكازات تدلّ على الملازمة بين الأمر بالرّجوع إلى الثقة والخبير ، والاكتفاء في امتثال الأمر بما أتاه من خلال إرشاداتهما وهدايتهما ، وهذا يعطي أنّ الشارع اكتفى في دائرة المولويّة والعبوديّة فيما يرجع إلى مقاصده ومراميه بما يؤدّيه

٩٨

أخبار الثقات ولو بان وانكشف الخلاف ، فإنّه يرفع اليد عن مقاصده تسهيلاً على العباد (١).

وليس ذلك بتصويب ، لأنّ التصويب عبارة عن اختصاص الأحكام الواقعية بالعالم ، وعدم توجهها إلى الجاهل أبداً ، والمقام خلاف ذلك ، لأنّا نفترض أنّ الأحكام الواقعيّة مشتركة بين العالم والجاهل من دون تفاوت بينهما ، إلّا أنّ الله سبحانه وتعالى تسهيلاً على العباد اكتفى في امتثال أوامره ونواهيه بإخبار الثقات لأنّه يراها مطابقة للواقع بنسبة عالية «تسعين بالمائة» ومتخلّفة عنه «عشرة بالمائة» فأوجبت المصلحة التسهيليّة رفع اليد عن هذا العدد الضئيل من موارد التخلّف لما في إلزام العبد بتحصيل العلم وترك العمل بخبر الواحد من مفسدة العسر والحرج الممنوعة ، واختلال النّظام.

فإن قلت : إنّ لسان الامارة لسان الطريقيّة فلا أثر لها سوى الحكاية عن الواقع والكاشفيّة والمرآتيّة ، والمفروض عدم إيصالها إلى الواقع ، ولازم الاشتغال القطعيّ لزوم الإتيان مجدّداً.

قلت : هذا صحيح ، ولازمه ترتيب الأثر على الحجّة الثانية المبطلة للامارة الأُولى لو لا الملازمة العرفيّة التي ذكرناها والتي تفيد أنّ المولى سبحانه اكتفى في مقام الامتثال بما أدّت إليه الامارة.

__________________

(١) وترغيب الناس إلى أساس الدّيانة والإسلام الّذي هو الشريعة السهلة السمحاء ، ولا يكون للتسهيل معنىً محصّلاً إلّا جواز ترتيب آثار الواقع ، فيسقط أمر المولى المتعلّق بالطبيعة ، وتكون الامارات منجزات لا معذّرات. هذا ولم يرد من الأئمة (عليهم‌السلام) ـ كما قيل ـ في هذا الأمر العامّ البلوى ـ لا سيّما عند الإماميّة المفتوح عندهم باب الاجتهاد ـ حديث. وأيُّ مانع من أن يكون المقام مثل أعمال العامّة إذا استبصروا ، بل ما نحن فيه أولى بذلك كما لا يخفى.

وعليه : فالقاعدة الأوّليّة هي الإجزاء إن لم يقم دليل من إجماع وعقل أو نقل على محفوظيّة تلك الواقعيّات وإلّا لا يقال برفع اليد عنها لعدم أقوائيّة ملاك التسهيل.

٩٩

فإن قلت : إنّ لسان الامارة لسان الإخبار وليس لسان الجعل ، فهي حينئذ تقبل الصدق والكذب بخلاف لسان الأُصول فإنّه لسان الحكومة على أدلّة الشرائط والأجزاء ، كأصالة الطّهارة والحليّة ، فلأدلتهما حكومة على أدلّة الشرائط كقوله (عليه‌السلام) : «لا صلاة إلّا بطهور» فإنّ أصالة الطهارة محققة للطهور في ظرف الشك ، والشاك بالطهارة واجد لها ، وكذلك بالنسبة لقاعدة الحل ، فإنّ المشكوك محكوم بالحلية تكليفاً ووضعاً. وعلى ضوء ذلك فالواقع باق بحاله.

قلت : هذا صحيح ومعنى ذلك أنّ الإجزاء في العمل بالأصل مدعم بدليلين الأوّل قائم بلسانه والثاني الملازمة العرفيّة القاضية باكتفاء المولى في مقام الامتثال على طبق المؤدى ، إلّا أنّ هذا الدّليل الثاني مشترك بين الأصل والامارة.

وبذلك يظهر عدم تماميّة ما أورده سيّدنا الأُستاذ (رضي الله عنه) على القائل بالإجزاء من أنّ لازم ذلك هو التناقض ببيان أنّ لازم إيجاب العمل على طبق الامارة بما أنّها كاشفة هو عدم الإجزاء ، لأنّ لازم الكشف كون الواقع هو الميزان دون مؤدّى الامارة ، وهو يناقض القول بالإجزاء الّذي مقتضاه كون المحور هو مؤدّى الامارة (١).

وجه عدم التماميّة :

أوّلاً : أنّ الكاشفيّة عن الواقع ليست علّة للأمر بالعمل بها ، حتى يدور الحكم مدار وجودها وعدمه. بل هي من قبيل الحكمة ومصالح التشريع التي يكفي كونها موجودة في أكثر الموارد.

وإن شئت قلت : نظراً إلى أنّ الامارة مطابقة للواقع غالباً فقد دعا الشارع إلى اعتبارها مطلقاً سواء وافقت الواقع أم خالفته.

__________________

(١) تهذيب الأُصول للشيخ الأُستاذ ـ تقريراً لأبحاث الإمام الخميني (رضي الله عنه) : ١ / ١٩١ ، بتصرّف.

١٠٠