الرسائل الأربع - ج ٣

عدّة من الأفاضل

الرسائل الأربع - ج ٣

المؤلف:

عدّة من الأفاضل


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣٢

في الاجتهاد التجزّئي

يقع الكلام في مقامين :

الأوّل : في إمكانه.

الثاني : في أحكامه.

فنقول : أمّا الأوّل : فقد يظهر منهم الاختلاف في إمكانه ، فالغزالي والآمديّ وغيرهما يرون جواز تجزئة الاجتهاد ، ونقل عن أبي حنيفة أنّ الاجتهاد غير متجزّي حيث قال : إنّ الفقيه هو الّذي له ملكة الاستنباط في الكلّ (١) والمعروف بين الأصحاب هو إمكانه. هذا :

واستدلّ القائل بالامتناع على أنّ الملكة أمر بسيط وحدانيّ ، والبسيط لا يتجزّأ ، فإن وجدت ملكة الاستنباط فهو الاجتهاد المطلق وإلّا فلا اجتهاد. وكذا الأمر لو فسّر الاجتهاد بنفس الاستنباط لا ملكته فإنّه أيضاً أمر بين الوجود والعدم لابين الكلّ والبعض.

__________________

(١) حاشية الأزميريّ على مرقاة الوصول المسمّاة بمرآة الأُصول لملّا خسرو من الحنفيّة ـ (نقلاً عن كتاب الاجتهاد في الإسلام ـ د ـ نادية شريف العمريّ).

٦١

يلاحظ عليه بأحد أمرين :

الأوّل : أنّه ملكة بسيطة ذات مراتب متعدّدة ، فهناك مرتبة يمكن بها استنباط المسائل السّهلة أو مسائل كتاب واحد كالإرث أو الدّماء الثلاثة وهناك مرتبة يمكن بها استنباط المسائل الصعبة المعضلة. فكونها بسيطة لا ينافي انّها ذات مراتب تختلف شدَّةً وضعفاً.

الثاني : أنّ الاجتهاد ليس ملكة واحدة ، بل هناك ملكات مختلفة ومتعدّدة ، فإنّ ملكة الاستنباط في باب المعاملات غيرها في باب العبادات ، والاستنباط في قسم من مسائلها يبتني على معرفة القواعد الفقهيّة والارتكازات العرفيّة في تلك المجالات من دون حاجة إلى معرفة فنّ الحديث ورجاله وأسناده وكيفيّة الجمع بين متعارضيه ، وهذا بخلاف أبواب العبادات فإنّ الاستنباط فيها لا ينفكّ عن هذه الأُمور وغيرها ، وعليه تكون ملكة الاستنباط فيها ملكتين لا ملكة واحدة ، ولا مانع من حصول إحداهما دون الأُخرى (١).

قال الغزالي : «وليس الاجتهاد عندي منصبّاً لا يتجزّأ ... فمن عرف طريق النّظر القياسيّ فله أن يفتي في مسألة قياسية وإن لم يكن ماهراً في علم الحديث ... ثمّ ضرب أمثلة أُخرى ، مثلاً أن يكون عارفاً بأُصول الفرائض ومعانيها وإن لم يكن قد حصّل الأخبار التي وردت في مسألة تحريم المسكرات أو في مسألة النّكاح بلا وليّ ، فلا استمداد لنظر هذه المسألة منها ولا تعلّق لتلك الأحاديث بها ... ومن عرف أحاديث قتل المسلم بالذّميّ وطريق التصرّف فيه فما ، يضرّه قصوره

__________________

(١) كما قيل : إنّ مدّعي إمكان التجزّي لا يريد بذلك أنّ ملكة الاجتهاد قابلة للتّجزّي وأنّ للمتجزّي نصف الملكة أو ثلثها ، بل مراده أنّ متعلّق القدرة في المتجزّي أضيق دائرة من متعلّقها في المجتهد المطلق لأنّها فيه أوسع. وقيل : التجزّي تبعيض في أفراد الكلّي ، لا التبعيض في أجزاء الكلّ (التفريق لأجزاء المركّب) فالفرق بين المطلق والمتجزّي إنمّا هو بزيادة أفراد ملكة الاستنباط ونقيصتها لا بشدّة الملكة وضعفها.

٦٢

عن علم النحو الّذي يعرف قوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) ... وليس من شرط المفتي أن يجيب عن كلّ مسألة فقد سئل مالك عن أربعين مسألة فقال في ستة وثلاثين منها : لا أدري ، وكم توقّف الشافعي بل الصحابة في المسائل» (١).

وقال الآمدي : «وأما الاجتهاد في حكم بعض المسائل ، فيكفي فيه أن يكون عارفاً بما يتعلّق بتلك المسألة ، وما لا بدّ منه فيها ، ولا يضرّه في ذلك جهله بما لا تعلّق له بها ممّا يتعلّق بباقي المسائل الفقهيّة» (٢).

واستدلّ القائل بالإمكان بوجهين :

الأوّل : إنّ أبواب الفقه مختلفة مدركاً ، والمدارك متفاوتة سهولة وصعوبة ، عقلية أو نقلية مع اختلاف الأشخاص ، وربّ شخص له مهارة في النقليات دون العقليات وكذلك العكس ، وهذا يوجب حصول القدرة القويّة في بعضها دون بعض.

الثاني : استحالة حصول اجتهاد مطلق عادة غير مسبوق بالتجزّؤ للزوم الطّفرة (٣).

وأورد عليه : بأنّ الأفراد (الاستنباطات) كلّها في عرض واحد ، ولا يكون بعضها مقدّمة لبعض آخر حتى يتوقّف الوصول إلى المرتبة العالية على طيّ المراتب النّازلة ، فلا مانع عقلاً من حصوله دفعة ـ وبلا تدريج ـ ولو بنحو من الإعجاز من نبيّ أو إمام ، إلّا أن يكون مراده من الاستحالة ، العاديّة لا العقلية فإنّه لا يمكن عادة حصول الاجتهاد المطلق دفعة بل هو متوقّف على التدرّج

__________________

(١) المستصفى : ٢ / ٣٥٣ و ٣٥٤.

(٢) الإحكام في أُصول الأحكام : ٤ / ١٧١.

(٣) كفاية الأُصول : ٢ / ٤٦٧.

٦٣

شيئاً فشيئاً (١).

الثاني : في أحكام المتجزّي :

قد وقفت على إمكان التّجزّي في الاجتهاد ، فيقع الكلام في أحكامه وهي عبارة عن :

الأوّل : جواز عمله بما استنبط.

الثاني : جوازُ رجوع الغير إليه.

الثالث : نفوذ قضائه.

أمّا الأوّل : فلا شك في أنّه يجوز له العمل بما استنبط وإلّا فلا بدّ من الاحتياط أو الرجوع الى الغير ، والأوّل غير واجب باتفاق الكلّ أو حرام لاستلزامه العسر والحرج ، وجواز الثاني موقوف على تحقّق موضوعه وهو كونه غير عالم أو جاهل سواء كان مستند التّقليد ما ورد في الآيات والرّوايات من الرّجوع إلى أهل الذّكر والعلم ، أم السيرة العقلائية ، فإنّ الموضوع على كلّ تقدير هو غير العارف والجاهل ، فلا يعمّ العالم.

وأمّا الثاني : فإن كان هناك من هو أفقه منه ـ أو على تعبير القوم ـ أعلم منه ، فإن قلنا بوجوب الرّجوع إليه فلا يجوز الرّجوع إلى المتجزّي في المقام ، بلغ ما بلغ من العلم ، وإلّا فلا مانع من الرّجوع إليه ، ويكون المتجزّي والمطلق في جواز الرّجوع سيّان.

__________________

(١) مصباح الأُصول : ٣ / ٤٤٢ وقال (رضي الله عنه) بعد ذلك : «فإن كان مراده هذا فهو صحيح ، لكنّه خلاف ظاهر كلامه من الاستدلال بلزوم الطفرة ، فإنّ ظاهره الاستحالة العقلية».

٦٤

نعم ، ربّما يكونُ رأي المتجزّي أقرب إلى الواقع من المطلق ، كما إذا بذل جهده في باب أو أبواب مترابطة سنين ، وبرز وبرع وظهرت مقدرته فيه أو فيها ، وإذا كانت الفقاهة أمراً قابلاً للتفصيل فهذا المتجزّي أكثر فقاهة من المطلق الّذي صرف عمره في جميع الأبواب ، ولم يتوفّق للدّقة والإمعان في كلّ باب بحسبه.

وقد مضى أنّ مبادئ الاستنباط في العبادات غيرها في المعاملات ، وأنّ كلاً يحتاج إلى شيء لا يحتاج إليه الآخر ، بل يحتاج إلى أمر آخر ، فلا مانع أن يكون رأي المتجزّي الملمّ في العبادات مثلاً أقرب إلى الواقع من المطلق الملمّ في جميع أبواب الفقه إلّا أنّه لم تظهر الدقّة والبراعة القويتين منه.

فإن قلت : قد مضى أنّ المقبولة والمشهورة المتقدّمتين غير آبيتين عن الرّجوع إلى المتجزّي إذا استنبط مقداراً معتدّاً به من الأحكام ، وجازَ قضاؤه ونفذ حكمه ، فلما ذا لا يجوز أخذ الفتوى منه؟

قلت : إنّ مورد الروايتين هو القضاء والحكومة وهما غير أخذ الفتوى ، وعدم اشتراط الاجتهاد المطلق فضلاً عن الأعلمية في نفوذ القضاء ، لا يكون دليلاً على عدم اشتراطهما في الفتوى ، ضرورة أنّ اشتراط الأعلمية في القاضي موجب لسد باب القضاء في وجه الأُمّة إلّا في بلد يعيش فيه الأعلم ، وهو واضح البطلان بخلاف اشتراطهما في أخذ الفتوى أو المفتي ، فإنّ فتواه تكفي لجميع الأُمّة.

وأمّا الثالث : وهو نفوذ قضائه ، فقد عرفت حقّ الكلام فيه ، فلا نعيد.

٦٥

فيما يتوقّف عليه الاجتهاد :

يشترط في جواز العمل بالرّأي فضلاً عن رجوع الغير إلى من يجوز له العمل به ، استنباط الحكم عن أدلّته الشرعيّة ، وهذا موقوف على تحصيل مقدمات إليك بيانها :

الأوّل : الوقوف على القواعد العربيّة التي هي المفتاح لفهم مقاصد الكتاب والسنّة وهما المصدران الأساسيان الرّئيسيان للاستنباط ، ولا يلزم أن يكون العالم مجتهداً في العلوم العربيّة بل يكفي في ذلك الرجوع إلى أهل الخبرة فيها.

الثاني : الوقوف على معاني المفردات حتى يميز المعنى الحقيقيّ عن المجازي والكنايات والاستعارات التي وردت في الكتاب والسنّة ، ولا يجب أن يكون لغويّاً بحّاثاً في المفردات وأُصولها.

وليرجع في تفسير المفردات إلى أُمّهات الكتب ، كالعين للخليل بن أحمد (رضي الله عنه) ولسان العرب لابن منظور الأفريقي المصري ، والنّهاية في غريب الحديث والأثر للجزريّ (ابن الأثير) وليس الفقيه في غنى عن الرّجوع إليها بتصوّر وضوح معانيها ، بل هو كلام من ليس له إلمام بالفقه.

فأين كلمات الصعيد والكعب والوطن والمفازة والانفاق والمعدن من هذا الوضوح.

ولأجل الوقوف على مفاهيم كثير من الألفاظ القديمة الصّدور ، فليرجع إلى كتاب المقاييس (مقاييس اللّغة) لابن فارس بن زكريّا ، فإنّه يذكر أُصول المعاني التي ربّما تشتق منها المعاني الكثيرة التي لم يكن عنها خبر في عصر صدور الخبر.

الثالث : الوقوف على المسائل الأُصولية ، فعليها تدور رحى الاستنباط ، والحاجةُ إليها واضحة ، إذ لو لم يقف العالم على حجيّة خبر الواحد أو لم يحقّق

٦٦

الوظيفة عند فقدان النصّ لما أمكن له الاستنباط ، وليس للفقيه مناص من تنقيح هذه المباحث.

هذا وإنّ أُصول الفقه في زماننا وإن كانت متكاملة بالقياس إلى أُصول فقه السابقين ، لكنّها تحتاج إلى بعض التنقيح والتهذيب وذلك بإعمال أمرين :

الأوّل : حذف ما لا فائدة في البحث عنه سوى تشحيذ الأذهان كالبحوث المطروحة في مقدمة كتب الأُصول ، فإن أكثرها تدور بين كونها بحوثاً أدبيّة أو فلسفية ، فلا يلزم البحث عنها. نعم ، هناك مباحث مهمّة لا بأس بإحلالها مكانها كالبحث عن الحسن والقبح والملازمات العقلية المستقلّة وغير المستقلّة ، ولو لا هذه المباحث وتنقيحها لما صحّ للفقيه الاستدلال بالبراءة والاشتغال أو الحكم بوجوب المقدّمة وحرمة ضدّها أو كون القضية ذات مفهوم ، وقد بحث عنها صاحب الفصول ، وحذفها صاحب الكفاية وتبعه آخرون.

الثاني : ذكر الفروع المترتّبة على تلك القواعد الأُصولية حتى يحصل التمرين والتدريب ، فإنّ ذكر القواعد مجرّدة عن المثال الحقيقي لا يكون مفيداً. ويجب تنقيح المباحث الأُصولية عن اجتهاد فإنّها مباني الاستنباط ، وإلّا لا يمكن تحصيله ، ولا يقاس هذا بالمبادئ البعيدة كالقواعد العربيّة ومعاني المفردات فإنّها لا تعد من مبانيه.

الرّابع : علم الرّجال ومعرفة الثقات والضّعاف ، حتى ينقَّح السّند القويّ من الضّعيف والصحيح من السقيم ، ومعرفة الراوي والمرويّ عنه والتلاميذ والمشايخ لتمييز السند المتصل عن المقطوع والمرسل ، ومعرفة مكانة الرّجاليّين في مقدار الاعتماد على أقوالهم.

ثمّ إنّه لو قلنا بأنّ الملاك في قبول الخبر هو وثاقة الرّاوي وأنّ عمل المشهور به غير جابر له لو كان ضعيفاً وإعراضه عنه غير موهن له لو كان قويّاً ، تكون

٦٧

الحاجة إلى علم الرّجال أساسيّة ، فلا مناص حينئذ للفقيه في كلّ خبر يفتي بواسطته عن استعلام أحوال الرّواة من حيث الوثاقة والضعف.

وأمّا لو قلنا بأنّ الملاك هو الوثوق بالصّدور والاطمئنان به ، فبما أنّ إحراز وثاقة الرّاوي إحدى الطرق إلى تحصيل الاطمئنان بالصّدور ، فلا غنى للفقيه عنه ، ولا ينفعه القول بأن الشهرة العمليّة جابرة لضعف الرّواية والاعراض موهن لها ومسقط لها عن الحجّية وذلك لأنّ مواضع الشهرة الجابرة قليلة إذ المراد بها هو عمل قدماء الأصحاب بالرّواية في عصر الصّادقين وبعدهما ، كعصر الغيبة الصّغرى وأوائل الغيبة الكبرى إلى عصر المحقّق (الحلي) (رضي الله عنه). وفيما لا شهرة فيه ولا إعراض لا تقلّ حاجة الفقيه إلى علم الرّجال من حاجته على القول المتقدّم ، والحاصل أنّ الشهرة العمليّة وإن كانت جابرة والاعراض وإن كان موهناً ، إلّا أنّ مواردهما ـ كما ذكرنا ـ قليلة ، فلا غنى للفقيه عن علم الرّجال في غير تلك الموارد.

ثمّ الأولى عدم الاكتفاء في توثيق الرّواة بما ورثناه عن المشايخ كالبرقيّ والكشيّ وابن الغضائريّ والنّجاشي والشيخ الطوسي ، كما عليه المحقّق الخوئيّ (رضي الله عنه) بل يجب التعرّف على أحوال الرّواة عن كثب حتّى نعرف مقدار صلته بالرواية وبالمشايخ ، وعناية الرّواة بالرّواية والإمعان في متون رواياته من حيث الاتفاق وعدمه ووجود مضمونها في سائر الرّوايات ، وحينئذ تتجلى وثاقة الرّاوي أو عدمها ولو ضمّ المحصل مع بقيّة القرائن والشواهد لأصبح حال الرّجال كفلق الصبح وهذا النّوع والأسلوب من التحقيق لا يقوم به إلّا الأمثل فالأمثل من أهل العلم والفقه ، وكان سيّدنا المحقّق البروجردي (رضي الله عنه) فارس هذا الميدان وبطله الباسل.

الخامس : معرفة الكتاب والسنّة إذ عليهما تدور رحى الاستنباط ، نعم قلّت عناية الفقهاء بالإمعان في الآيات واستخراج نكاتها ، إلّا أنّه ظلم بأحد الثقلين

٦٨

اللّذين تركهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين الأُمّة ، فيجب على الفقيه الإمعان في مفاد الآية أوّلاً ثمّ الرّجوع إلى الرّوايات الواردة حولها ، ولا تجب معرفة القرآن الكريم بتمامه ، بل يكفي فيه معرفة آيات الأحكام التي اختلفت الأقوال في عدّها من ثلاثمائة آية إلى خمسمائة أو تسعمائة آية (١).

هذا وإنّ الاختلاف في عدد آيات الأحكام راجع إلى كون الملاك فيها ، هل هو خصوص الدلالة المطابقية أو الأعمّ منها والدّلالة الالتزاميّة؟ فعلى الأوّل لا يتجاوز عددها عن الثلاثمائة آية مثل قوله سبحانه : (... فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ...) (البقرة ـ ١٩٦). وعلى الثاني ربّما يتجاوز عددها عمّا ذكر ، فالفقهاء استنبطوا أحكاماً عديدة من قوله سبحانه : (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ* قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) (القصص ـ ٢٧ و ٢٨).

وقد سمعنا عن بعض مشايخنا أنّ بعض الفقهاء استنبط من سورة المسد (رقم ـ ١١١ ـ مكية) أربعة وعشرين حكماً شرعيّاً ، بل قال بعضهم : (٢) ليس في القرآن آية إلّا وهي مصدر حكم شرعي ـ ولعلّه إغراق.

السادس : معرفة المذاهب الفقهيّة الرّائجة في عصر الأئمّة (عليهم‌السلام) التي كان عمل القضاة عليها ، والنّاس يرجعون إليها ، فإنّ في معرفة تلك المذاهب تمييز

__________________

(١) قال الغزالي وغيره : إنّها خمسمائة آية ، ونقل عن عبد الله ابن المبارك أنّ عددها تسعمائة آية ، وقيل : أكثر من ذلك. (الاجتهاد في الإسلام : ٦٦ ، د. نادية العمري).

(٢) قال نجم الدّين الطوفي : وقلّما يوجد في القرآن الكريم آية لا يستنبط منها شيء من الأحكام. وقال أحمد بن إدريس القرافيّ المالكيّ : «استنباط الأحكام إذا حقّق لا يكاد تعرى عنه آية. (الاجتهاد في الإسلام : ٦٧ ، د. نادية العمري).

٦٩

ما صدر عن تقيّة عمّا صدر عن غيرها ، وأمّا المذاهب الأربعة المعروفة فإنّها صارت رائجة بعد أعصارهم (عليهم‌السلام).

ولعلّ أحسن كتاب في هذا الموضوع كتاب الخلاف للشيخ الطوسيّ (رضي الله عنه) ، ونقترح على مشايخ الحوزة أن يجعلوا معرفة المذاهب مادة خاصة في تعلّم الفقه حتى يقف الفقيه على كيفية تطوّر الفقه ويتعرف على الّذين كان لهم مذهب فقهيّ غير أصحاب المذاهب المعروفة ، وكانوا معاصرين لأئمة أهل البيت (عليهم‌السلام) ومنصوبين من جانب الخلفاء وكانت لهم السّلطة والقوّة ، والأئمة (عليهم‌السلام) يتّقون منهم ، والتعرّف على فتاوى هؤلاء هو الميزان لتمييز التقيّة من غيرها لا فتاوى أمثال الشافعيّ المتوفّى في أوائل عصر الإمام الجواد (عليه‌السلام) (٢٠٤ ه‍ ـ) (١) أو ابن حنبل المتوفّى في عصر الإمام الهادي (عليه‌السلام) (٢٤١ ه‍ ـ) (٢).

السابع : معرفة الشّهرات الفتوائيّة ، وقد وقفت على أهميّتها عند البحث عن حجيّتها ، في محلِّه وقلنا : إنّ الشّهرة على أقسام ثلاثة : روائية ، عمليّة ، فتوائيّة ، والأخيرة كاشفة عن وجود النصّ والوسطى توجب خروج المعارض عن الحجيّة.

الثامن : ممارسة الفروع الفقهيّة حتّى تحصل له ملكة الاستنباط ، ولولاها لما انتقلت الملكة من عالم القوّة إلى عالم الفعل. وقد كانت مجالس العلماء سابقاً حافلة بذكر الفروع الفقهيّة وكانت عمليّة التدريب على هذا الأساس ، إلّا أنّه قلّت العناية بها في الآونة الأخيرة ، وحلّت مكانها البحوث السياسيّة والاجتماعية.

__________________

(١) وولادته ـ كما في هدية الأحباب للمحدّث القمي (رضي الله عنه) ـ يوم وفاة أبي حنيفة المدفون في بغداد سنة ١٥٠ ه‍ ـ ووفاته في مصر في آخر رجب من السنّة المذكورة أعلاه. (هدية الأحباب : ١٧٩).

(٢) وولادته ـ كما في هديّة الأحباب : ٦٤ ، سنة ١٦٤ ه‍ ـ ووفاته في بغداد في السنة المذكورة أعلاه.

٧٠

نعم لو هذّبت الأصول وزيد عليها ذكر الفروع الفقهيّة المترتّبة عليها ، لحصلت الممارسة بها عند قراءة الأصول ودراستها ، عسى أن يبعث الله رجلاً يقوم بتلك المهمّة ويذكر شيئاً من الفروع المتفرّعة على المسائل الأصولية في ذيل كل باب.

التاسع : معرفة القواعد الفقهية التي هي خير وسيلة لاستخراج حكم جزئيّ من الحكم الكليّ ، وأحسن ما أُلّف في هذا المجال ، كتاب القواعد والفوائد للشّهيد الأوّل (رضي الله عنه) ثمّ نضد القواعد للفاضل المقداد السّيوريّ (رضي الله عنه) وتمهيد القواعد للشهيد الثاني ، وأخيراً القواعد الفقهيّة للسيّد البجنورديّ (رضي الله عنه).

العاشر : معرفة القواعد الرّياضيّة والهندسيّة وقليلاً من علم الهيئة التي تسهّل في استنباط أحكام المواريث والقبلة والمقادير الواردة في الكرّ والزّكوات وغيرهما ، وشيئاً من علم المنطق لتترسّخ في ذهنه إقامة الدّليل على وفق النّظام المنطقيّ.

ولو حصلت عنده هذه المبادئ ، وجد في نفسه قوّة استطاع معها استنباط أحكام الموضوعات بعد الدقّة والتأمّل ، ولا تحصل إلّا بعد طول الممارسة والتمرين والاستئناس بالمسائل والأقوال.

الترتيب المنطقيّ لإعمال الأدلّة :

إذا عرفت ما يتوقّف عليه الاجتهاد فالترتيب المنطقي للاستنباط عبارة عن رعاية أُمور :

الأوّل : الإحاطة بأقوال الفقهاء قدمائهم وجددهم من العامّة والخاصة على حسب الترتيب الزّمني ، فيلاحظ : الإيضاح لابن شاذان (م ـ ٢٦٠ ه‍ ـ) وفتاوى القديمين : ابن أبي عقيل العمانيّ المعاصر للكليني وابن الجنيد (الإسكافي) المتوفّى

٧١

عام (م ـ ٣٨١ ه‍ ـ) والمفيد (رضي الله عنه) (م ـ ٤١٣ ه‍ ـ) والشيخ الطوسي (رضي الله عنه) (م ـ ٤٦٠ ه‍ ـ) وابن البرّاج (م ـ ٤٨١ ه‍ ـ) ، وابن حمزة (م ـ ٥٥٠ ه‍ ـ) وابن إدريس (م ـ ٥٩٨ ه‍ ـ) والمحقق (م ـ ٦٧٦ ه‍ ـ) وابن سعي ـ د (م ـ ٦٨٩ ه‍ ـ) والعلّامة (م ـ ٧٢٦ ه‍ ـ) والشهيد الأوّل (م ـ ٧٨٦ ه‍ ـ) والفاضل المقداد (م ـ ٨٢٦ ه‍ ـ) وابن فهد الحليّ (م ـ ٨٤١ ه‍ ـ) والمحقّ ـ ق الثاني (الكركيّ العاملي (رضي الله عنه) (م ـ ٩٤٠ ه‍ ـ) والشهيد الثاني (م ـ ٩٦٦ ه‍ ـ) والأردبيليّ (رضي الله عنه) (م ـ ٩٩٣ ه‍ ـ) إلى غير ذلك من فحول الأعلام.

ومن كتب أهل السنّة : يلاحظ المبسوط للسرخسيّ (م ـ ٤٨٣ ه‍ ـ) وبداية المجتهد ونهاية المقتصد للقرطبي (م ـ ٥٩٠ ه‍ ـ) والمغني لابن قدامة (م ـ ٦٢٠ ه‍ ـ) مضافاً إلى الخلاف للشيخ الطوسي والتذكرة للعلّامة من علمائنا للوقوف على أقوال أهل الخلاف.

الثاني : الدقّة في صور المسألة ، فإنّ الإحاطة بها نصف الاستنباط كما روي عن السيّد المحقّق اليزديّ الطباطبائي (رضي الله عنه) ، وربّما تكون لبعض الصّور خصوصيّة يتبعها حكم خاصّ.

الثالث : الرّجوع إلى الكتاب أوّلاً والتحقيق في مفردات الآية وجملها ، والآيات الواردة في الأحكام وإن كانت قليلة ، لكن هناك آيات يمكن أن تقع ذريعة للأحكام الشرعية يعرفها من خالط القرآن عقلاً وروحاً ، وقد ذكرنا نماذج منها في بعض كتبنا (١).

__________________

(١) لقد استدل الإمام الهادي (عليه‌السلام) على عدم سقوط الحدّ عن الكتابيّ فيما لو أسلم بعد أن فجر بامرأة مسلمة ولم يقم عليه الحدّ بعد ، بقوله سبحانه : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ* فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) (غافر / ٨٤ و ٨٥).

(مناقب آل أبي طالب : ٤ / ٤٠٥ و ٤٠٦).

٧٢

الرّابع : ثمّ الرّجوع إلى السنّة المتواترة والمستفيضة.

الخامس : ثمّ إنّه ـ لو كانت المسألة ـ بعد دلالة الكتاب والسنّة إجماعيّة ، فلا قيمة للإجماع لاستمداده من الكتاب والسنّة ، فالدليل عند المجمعين هو المصدران ، وقد وصلنا إلى ما وصلوا إليه ـ وهذا هو المعبّر عنه بالمدركيّ ـ ، نعم يستدلّ بالإجماع أو الشّهرة الفتوائية فيما لو لم يكن هناك دليل من الكتاب والسنّة.

السادس : إذا لم نجد في المصدرين المذكورين ما يدلّ على الحكم ، نرجع إلى الإجماعات المحقّقة والشهرات الثابتة الكاشفة عن دليل قطعيّ كان بيد الأُمّة ، إذ من المحال عادة الاتفاق على حكم بلا سند. وقد أثبتنا حجيّة الشّهرة الفتوائية في مبحث الشهرة.

السابع : ثمّ الرّجوع إلى أخبار الآحاد ، فإنّها حجّة ، فإذا كان هناك تخالف بين القرآن والسنّة بالعموم والخصوص أو الإطلاق والتقييد ، يصحّ تخصيص القرآن وتقييده بها إذا كانت متواترة أو مستفيضة ، أو آحاداً إلّا أنّه حصل من القرائن القطع بصحّتها أو الاطمئنان بها دون ما إذا كانت آحاداً ولم يحصل القطع بصحتها أو الاطمئنان بها ، فإنّها لا تكون مخصّصة للقرآن أو مقيّدة له ، وقد ذكرنا في محلّه أنّ موقف القرآن أرفع من أن يخضع لأخبار الآحاد ، وأنّ القدامى كانوا متحرّزين من التصرّف في دلالة الكتاب بأخبار الآحاد.

الثامن : لو كان بين السنّة اختلاف بنحو من الأنحاء ، فإن كان من موارد الجمع العرفيّ يجمع وإلّا يرجع إلى مميزات الحجّة عن اللّاحجّة ـ على مختارنا في الأخبار العلاجيّة ـ أو المرجحات ـ على مختار البعض ـ أو لا فيتخيّر.

ومع فقدان الدّليل المعتبر فالمرجع هو الأصول العمليّة.

هذه هي الصّورة المنطقيّة لإعمال الأدلّة ، ومن المعلوم أنّها تعطي صورة مصغّرة لكيفيّة الاستنباط ، وله ـ وراء ذلك ـ أعمال أُخر يقف عليها الممارس

٧٣

للاجتهاد.

وهنا كلام للغزالي في هذا المجال لا بأس بالتعرّض له ، وضعفه يظهر بما ذكرنا ، قال : «يجب على المجتهد في كلّ مسألة أن يردّ نظره إلى النّفي الأصلي قبل ورود الشرع ، ثمّ يبحث عن الأدلّة السمعيّة المغيّرة ، فينظر أوّل شيء في الإجماع ، فإن وجد في المسألة إجماعاً ترك النظر في الكتاب والسنّة ، فإنّهما يقبلان النسخ ، والإجماع لا يقبله ، فالإجماع على خلاف ما في الكتاب والسنّة دليل قاطع على النسخ ، إذ لا تجتمع الأُمّة على الخطأ ، ثمّ ينظر في الكتاب والسنّة المتواترة وهما على رتبة واحدة ، لأنّ كلّ واحد يفيد العلم القاطع ، ولا يتصوّر التعارض في القطعيات السمعيّة إلّا بأن يكون أحدهما ناسخاً ، فما وجد فيه نصّ كتاب أو سنّة متواترة ، أخذ به ، وينظر بعد ذلك إلى عمومات الكتاب وظواهره ، ثمّ ينظر في مخصصات العموم من أخبار الآحاد ومن الأقيسة ، فإن عارض قياس عموماً أو خبر واحد عموماً فقد ذكرنا ما يجب تقديمه منها ، فإن لم يجد لفظاً نصّاً ولا ظاهراً ، نظر إلى قياس النّصوص ، فإن تعارض قياسان أو خبران أو عمومان ، طلب الترجيح كما سنذكره ، فإن تساويا عنده توقف على رأي وتخيّر على رأي آخر» (١).

فالترتيب لديه يتمّ على النّحو التالي :

الأوّل : مقتضى قاعدة نفي التشريع قبل ورود الشرع.

الثاني : الأدلة المخالفة لهذا الأصل في هذا المورد بخصوصه.

وهنا يرجع أوّلاً إلى الإجماع ، فإن وجد كفى الأمر ، وإلّا يرجع ثانياً إلى النصوص المتواترة لفظاً وسنداً كالكتاب في نصوصه والسنّة المتواترة في نصوصها التي لا تقبل الخلاف.

__________________

(١) المستصفى : ٢ / ٣٩٢ و ٣٩٣.

٧٤

ثمّ يرجع ثالثاً إلى الظواهر والعمومات وما يطرأ عليها من مخصّصات خبريّة أو قياسيّة ، وبعد ذلك يرجع للأقيسة فإن تعارضت رجّح الأقوى وإلّا فالتوقّف أو التخيير.

يلاحظ عليه بوجوه :

أوّلاً : أنّ المراد من النفي الأصليّ هو أصالةُ البراءة ، وهو دليل من تفحّص عن الدّليل الاجتهاديّ ولم يجده ، فالرّجوع إليها متأخر رتبة عن الرّجوع إلى الدّليل الاجتهاديّ من الكتاب والسنّة ، فكيف قدّم الأصل العمليّ وهو في المقام ـ البراءة ـ على الكتاب والسنّة.

وثانياً : كيف يتصوّر إجماع على خلاف الكتاب والسنّة بتوهّم إمكان كونه ناسخاً لهما ، إذ ليس لإجماع الأُمّة ـ وكلُّ واحد منهم خاطئ ـ قيمة ووزن ، إلّا إذا كشف عن دليل شرعيّ ، وعندئذ يجب أن يكون للمجمعين على خلافهما دليل من نصّ كتابيّ أو سنّة قطعيّة فيكونا ناسخين ، ومن المستحيل جدّاً أن يكون هناك إجماع على خلاف الكتاب والسنّة ، ولا يكون سنده آية أو رواية محفوظين لدى الأُمة.

وثالثاً : كيف يسوغ لنا التصرّف في دلالة الكتاب بخبر ظنيّ مثل الخبر الواحد وأسوأ حالاً منه التصرّف في دلالة الكتاب بالقياس الّذي ما أنزل به من سلطان ، وإنّما لجأ إليه أبو حنيفة وأقرانه لقصور أيديهم عن الدّليل ، إلى غير ذلك من الملاحظات الواضحة في كلامه.

٧٥

في التخطئة والتصويب :

اختلفت أنظارُ الفقهاء في التخطئة والتصويب ، وهل أنّ كلّ مجتهد مصيب في اجتهاده أو لا؟ واتفقوا على أنّ الحقّ واحد في موارد وهي :

الأوّل : إنّ الحقّ في الأُصول والمعارف أمر واحد ، وما وافقه هو الحقّ والصّواب وما خالفه هو الخطأ ولم يقل أحد من المسلمين إلّا من شذَّ بالتّصويب في العقائد (١).

قال المرتضى (قدس‌سره) : «ولا شبهة في أنّ العبادة بالمذاهب المختلفة إنّما يجوز فيما طريقه العمل دون العلم ، وأنّ الأصول المبنية على العلم نحو التوحيد والعدل والنبوّة ، لا يجوز أن يكون الحقُّ فيها إلّا واحداً ، لأنّ الله تعالى لا يجوز أن يكون جسماً أو غير جسم ويرى ولا يرى على وجهين مختلفين ، وبإضافة إلى مكلّفين متغايرين ، وقد يجوز أن يكون الشيء الواحد حراماً على ـ زيد ـ وحلالاً على ـ عمرو ـ إلى أن قال : فمن جمع بين أصول الدّين وفروع الشرع ، في هذا الباب فقد ضلّ وأبعد عن الصّواب» (٢).

وقال الشيخ الطوسيّ (رضي الله عنه) : «اعلم أنّ كلّ أمر لا يجوز تغييره عما هو عليه من وجوب إلى حظر أو من حسن إلى قبح ، فلا خلاف بين أهل العلم المحصّلين أنّ الاجتهاد في ذلك لا يختلف وأنّ الحقّ في واحد وأنّ من خالفه ضال فاسق ، وربمّا

__________________

(١) قال الغزالي في المستصفى : ٢ / ٣٥٩ و ٣٦٠ : مسألة : ذهب عبد الله بن الحسن العنبريّ إلى أنّ كلّ مجتهد مصيب في العقليات كما في الفروع.

وقال الآمدي في الإحكام : ٤ / ١٨٤ ، المسألة الثالثة : وزاد عبد الله بن الحسن العنبريّ بأن قال : كلّ مجتهد في العقليّات مصيب.

(٢) الذريعة إلى أُصول الشريعة : ٢ / ٧٩٣ و ٧٩٤.

٧٦

كان كافراً وذلك نحو القول بأنّ العالم قديم أو محدث ، وإذا كان محدثاً هل له صانع أم لا ، والكلام في صفات الصّانع وتوحيده وعدله والكلام في النبوّة والإمامة وغير ذلك» (١).

الثاني : لا شك أنّ الحقّ في الموضوعات ، كالقبلة وأروش الجنايات وقيم المتلفات واحد ، فأحد الظنون حقّ وغيره باطل. وأمّا إطلاق التصويب فيها ، فإنّما لغاية كفاية الظنّ في صحّة الصلاة وعدم الإعادة (٢).

قال المرتضى (قدّه) بعد التمثيل بما ذكرناه : «وكلّ مجتهد فيما جرى هذا المجرى مصيب ، ألا ترى أنّ من أدّاه اجتهاده إلى أمارة ظهرت له أنّ القبلة في جهة من الجهات ، لزمته الصلاة إلى تلك الجهة بعينها ، فإذا أدّى غيره اجتهاده إلى أنّ القبلة في غيرها ، لزمته الصلاة إلى ما غلب في ظنّه أنّه جهة القبلة ، وكلّ منهما مصيب وإن اختلف التكليف» (٣).

الثالث : ومثل الأمرين المتقدّمين ، الموضوعات التي ثبتت أحكامها ببداهة ، فلا يتطرّق إليها التصويب بل الحقّ فيها واحد. قال الشيخ (قدس‌سره) :

«وكذلك الكلام في أنّ الظلم والعبث والكذب قبيح على كل حال ، وأنّ شكر المنعم وردّ الوديعة والانصاف حسن على كلّ حال وما يجري مجرى ذلك وإنّما قالوا ذلك ، لأنّ هذه الأشياء لا يصحّ تغيّرها في نفسها ولا خروجها عن صفتها التي هي عليها ... وحكي عن قوم شذاذ لا يعتمد بأقوالهم أنهم قالوا : إنّ كلّ مجتهد فيها مصيب وقولهم باطل» (٤).

__________________

(١) العدّة : ٢ / ١١٣ الكلام في الاجتهاد.

(٢) أي : الحكم الوضعيّ.

(٣) الذريعة إلى أُصول الشريعة : ٢ / ٧٩٣.

(٤) العدّة للطّوسي (رضي الله عنه) : ٢ / ١١٣.

٧٧

الرابع : إذا كان في المسألة نصّ قطعي السّند والدّلالة فلا موضوع للاجتهاد وبالتالي لا موضوع للتصويب والتّخطئة. قال ابن القيّم ناقلاً عن الشافعي :

«أجمع النّاس على أنّ من استبانت له سنّة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس وتواتر عنه (أي الشافعيّ) أنّه قال : وإذا صحّ الحديث فاضربوا بقولي الحائط ، وصحّ عنه أنه قال : إذا رويت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حديثاً ولم آخذ به ، فاعلموا أنّ عقلي قد ذهب ، وصحّ عنه أنّه قال : لا قول لأحد مع سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (١).

إذا تبيّن موضع النّقاش وعلم أنّ النزاع في التخطئة والتصويب في أمر آخر وهو هل أنّ لله في كلّ حادثة حكماً معيّناً قبل اجتهاد المجتهد أو لا؟

نقول : مذهب أصحابنا وجماعة من أهل السنّة والأباضيّين (٢) إلى أنّ لله سبحانه في كلّ واقعة حكماً معيناً يتّجه إليه المجتهد فيصيبه تارة ويخطئه أُخرى فالحقّ واحد قد يدرك وقد لا ، ويبدو أنّ النزاع في التصويب والتخطئة نشأ من تجويز العمل بالقياس وبأخبار الآحاد ، قال الطوسيّ (رضي الله عنه) :

«واعلم أنّ الأصل في هذه المسألة القول بالقياس والعمل بأخبار الآحاد ، لأنّ ما طريقه التواتر وظواهر القرآن فلا خلاف بين أهل العلم أنّ الحقّ فيما هو معلوم من ذلك ، وإنّما اختلف القائلون بهذين الأصلين فيما ذكرناه» (٣).

إذا عرفت ما ذكرناه ، فاعلم أنّه يظهر من الشيخ أنّ أكثر المتكلّمين والفقهاء

__________________

(١) أعلام الموقعين لابن القيم الجوزية : ٢ / ٢٨٢.

(٢) الاباضيّة : عبد الله بن إباض المقاعسيّ المريّ التميمي من بني مرّة بن عبيد بن مقاعس ، رأس الاباضيّة ، وإليه نسبتهم وقد عاصر معاوية وعاش إلى أواخر أيّام عبد الملك بن مروان (على ما عليه الأباضيّة) ، توفّي عام ٨٦. (بحوث في الملل والنحل ـ للشيخ الأُستاذ : ٥ / ٢١٨).

(٣) العدّة : ٢ / ١١٤.

٧٨

من غير الشيعة على التصويب وأنّ المخالف منهم بشر المريسي وأبو بكر الأصمّ ، الأباضيّة والظّاهريّة (١).

قال (رضي الله عنه) : «ذهب أكثر المتكلّمين والفقهاء إلى أنّ كلّ مجتهد مصيب في اجتهاده وفي الحكم ، وهو مذهب أبي علي وأبي هاشم وأبي الحسن (الأشعري) وأكثر المتكلّمين ، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه فيما حكاه أبو الحسن عنهم.

وقد حكى غيره من العلماء عن أبي حنيفة.

وذهب الأصمّ (٢) وبشر المريسي (٣) إلى أنّ الحقّ في واحد من ذلك وهو ما يقولون به وأنّ ما عداه خطأ ، حتى قال الأصمّ : إنّ حكم الحاكم ينقض به ويقولون : إنّ المخطئ غير معذور في ذلك إلّا أن يكون خطؤه صغيراً وإنّ سبيل ذلك سبيل الخطأ في أصول الدّيانات.

وذهب أهلُ الظاهر ـ فيما عدا القياس من الاستدلال وغيره ـ أنّ الحقّ من ذلك في واحد ، وأمّا الشافعيّ فكلامه مختلف في كتبه ...

ـ إلى أن قال (رضي الله عنه) ـ والذي أذهب إليه وهو مذهب جميع شيوخنا المتكلّمين من المتقدّمين والمتأخّرين وهو الّذي اختاره سيّدنا المرتضى (قدّه) وإليه كان يذهب شيخنا أبو عبد الله ، أنّ الحقّ في واحد» (٤).

__________________

(١) الظاهرية : أتباع داود بن عليّ الأصفهاني الظاهري (٢٠٠ ـ ٢٧٠ ه‍ ـ) وما أسّسه من المذهب يرتبط بالفروع والأحكام لا العقائد والأصول ، فالمصدر الفقهيّ عنده هو النّصوص ، بلا رأي في حكم من أحكام الشرع ، فهم يأخذون بالنّصوص وحدها ، وإذا لم يكن النصّ أخذوا بالإباحة الأصليّة. (بحوث في الملل والنّحل ـ للشيخ الأُستاذ : ٣ / ١٣٧ ـ ١٣٨).

(٢) هو عبد الرحمن بن كيسان المعتزليّ الأصولي. (منه حفظه الله).

(٣) هو بشر بن غياث المريسي ، فقيه معتزليّ وهو رأس الطائفة المريسيّة وأوذي في دولة هارون الرّشيد ، توفّي عام ٢١٨ ه‍ ـ (منه حفظه الله).

(٤) العدة : ٢ / ١١٣ و ١١٤.

٧٩

ويظهر من الغزالي أنّ مورد النزاع في التصويب والتخطئة هو الواقعة التي لا نصّ فيها ، وليس لله سبحانه فيها حكم معيّن بل الحكم يتبع الظنّ قال : وقد اختلف الناس فيها واختلفت الرواية عن الشافعيّ وأبي حنيفة ، وعلى الجملة قد ذهب قوم إلى أنّ كلّ مجتهد في الظنّيات مصيب ، وقال قوم المصيب واحد واختلف الفريقان جميعاً في أنّه هل في الواقعة التي لا نصّ فيها حكم معيّن لله تعالى هو مطلوب المجتهد ، فالّذي ذهب إليه محقّقو المصوّبة أنّه ليس في الواقعة التي لا نصّ فيها حكم معيّن يطلب بالظنّ بل الحكم يتبع الظنَّ وحُكماً لله تعالى على كلّ مجتهد ما غلب على ظنّه وهو المختار وإليه ذهب القاضي.

وذهب قوم من المصوبة إلى أنّ فيه حكماً معيّناً يتوجّه إليه الطّلب إذ لا بدّ للطلب من مطلوب ، لكن لم يكلّف المجتهد إصابته ، فلذلك كان مصيباً وإن أخطأ ذلك الحكم المعيّن الذي لم يؤمر بإصابته بمعنى أنّه أدّى ما كلّف فأصاب ما عليه (١).

وعلى ذلك فالمصوّبة على فرقتين ، فرقة تنكر وجود الحكم المشترك ، وفرقة تثبته ولكن تنكر الأمر بإصابته ، ولكن في عدّ الفرقة الثانية من المصوبة نوع خفاء ، فإنّ المخطّئة تقول بنفس المقالة لأنّ المفروض عدم وجود نصّ في الواقعة ، فمعه كيف يكون مأموراً بإصابته ، وعليه يصير الحكم الواقعي حينئذ حكماً إنشائيّاً (لا فعلياً).

وعلى كلّ تقدير : فإنّ فتوى المفتي على قول الفرقة الأُولى أشبه بالأحكام الأوّليّة الثانويّة عندنا إذ لله سبحانه في ذلك المجال حكم مشخص تابع للمصالح والمفاسد ، ولأجل ذلك تختلف الأحكام الأوّلية وجوباً وحرمة باختلاف

__________________

(١) الغزالي : المستصفى : ٢ / ٣٦٣.

٨٠