الرسائل الأربع - ج ٣

عدّة من الأفاضل

الرسائل الأربع - ج ٣

المؤلف:

عدّة من الأفاضل


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣٢

الغيبة ـ بكونه فقيهاً جامعاً لشرائط الافتاء) : «فيدل عليه بعد الإجماع ، الأخبار الموافقة للاعتبار ، وما كان منها بلفظ (روى حديثنا) فقد أُردف بقوله (عليه‌السلام) : «ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا» ، فلا يكفي مجرّد الرّواية كما توهّمه بعض ، وما كان منها بلفظ : (يعلمُ شيئاً من أحكامنا) فالمراد أنّه علم ذلك بعد تحصيل الشرائط المذكورة إذ لا يحصل العلم إلّا بها» (١).

٩ ـ وقال صاحب الجواهر بعد كلام المحقّق : «ولا يكفيه فتوى العلماء» : «بلا خلاف أجده ، بل في المسالك وغيرها الإجماع عليه من غير فرق بين حالتي الاختيار والاضطرار» (٢).

هذا ويكفي في عدم الجواز ، عدم الدليل وإنمّا الدّليل على القائل ، ولأجل ذلك ربّما أراد بعضهم استظهار الجواز من بعض الأدلّة وإليك البيان :

الأوّل : إنّ المستفاد من الكتاب والسنّة صحّة الحكم بالحقّ والعدل والقسط من كلّ مؤمن ، قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (النساء ـ ٥٨).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) (المائدة ـ ٨).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (النساء ـ ١٣٥).

ومفهوم قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)

__________________

(١) مفتاح الكرامة : ١٠ / ٣ ، قسم الشرح.

(٢) الجواهر : ٤٠ / ١٥ ثمّ قال (رضي الله عنه): «بل لا بدّ أن يكون عالماً بجميع ما وليه ، أي مجتهداً مطلقاً كما في المسالك ، فلا يكفي اجتهاده في بعض الأحكام دون بعض على القول بتجزّي الاجتهاد».

٤١

(المائدة ـ ٤٧) وفي أخرى (هُمُ الْكافِرُونَ) (المائدة ـ ٤٤) إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.

الثاني : قول الصادق (عليه‌السلام) «القضاة أربعة ، ثلاثة في النار وواحد في الجنّة : رجل قضى بجور وهو يعلم ، فهو في النار ، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحق ، وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة» (١).

وقال عليّ (عليه‌السلام) : «الحكم حكمان : حكمُ الله وحكم الجاهلية ، فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهلية» (٢).

الثالث : قول أبي جعفر (عليه‌السلام) : «الحكم حكمان : حكمُ الله عزوجل وحكم أهل الجاهلية ، وقد قال الله عزوجل : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة ـ ٥٠) وأشهد على زيد بن ثابت ، لقد حكم في الفرائض بحكم الجاهلية» (٣).

إلى غير ذلك من النصوص البالغة بالتّعاضد أعلى مراتب القطع الدّالة على أنّ المدار هو الحكم بالحقّ الّذي عند محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته (عليهم‌السلام) ، وأنه لا ريب في اندراج من سمع منهم (عليهم‌السلام) أحكاماً خاصّة مثلاً فيها وحكم فيها بين النّاس وإن لم تكن له مرتبة الاجتهاد والتصرّف.

يلاحظ على الجميع : أنّ الآيات والرّوايات ليست بصدد بيان شرائط الحاكم وخصوصياته حتى يتمسّك بإطلاقها ، وإنما هي بصدد بيان أمر آخر.

__________________

(١) الوسائل : ١٨ / ١١ الحديث ٦ ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضي.

(٢) المصدر نفسه : الحديث ٧ ، وفيه : وقال (عليه‌السلام). بدل : وقال عليٌّ (عليه‌السلام).

(٣) المصدر نفسه : الحديث ٨. والدليل الأول والثاني والثالث مقتبس من الجواهر : ٤٠ / ١٥ و ١٦.

٤٢

فالآية الأولى والثانية بصدد بيان خصوصيّات الحكم (لا الحاكم) وأنّه يجب أن يكون حكماً بالعدل وقضاءً بالقسط ولا يخاف الحاكم من شنآن قوم فيحكم على خلافهما (العدل والقسط) ، وأين هما من بيان خصوصيّات الحاكم حتّى يتمسّك بإطلاقهما.

ومنه يظهر الجواب عن الاستدلال بالآية الثالثة فإنّها بصدد النهي عن القضاء بغير ما أنزل الله لا بصدد بيان خصوصيّات الحاكم (١).

ومثل الآيات تقسيم القضاة إلى أربعة ، أو تقسيم الحكم إلى حكمين ، فإنّ الجميع بصدد سوق المجتمع إلى القضاء بحكم الله لا بحكم الجاهليّة ، لا لبيان شرائط الحاكم وخصوصيّاته من كونه رجلاً أو امرأة ، مسلماً أو كافراً ، سميعاً أو بصيراً ، مجتهداً أو مقلِّداً كما هو النزاع.

__________________

(١) وكذلك ما قيل في استفادة جواز التصديّ من إطلاق أدلّة الأمر بالمعروف حيث إنّ القضاء من شعب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فتكفي في جواز تصدّيه إطلاقات أدلّتها نظير قوله تعالى : (والمُؤمِنُونَ والمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أوْلياءُ بَعْض يَأمروُنَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَر) (التوبة ـ ٧١).

يلاحظ عليه : أنّ مورد أدلّتهما هو الدّعوة إلى التكليف الثابت للمكلّف مع قطع النظر عن قضاء القاضي ، كما إذا رأى إنساناً يغتاب أو يكذّب أو يظلم ، وهذا هو الذي يجب على المؤمن والمؤمنة ضمن شرائط ، وأمّا التكليف الّذي يقتضيه حكم القاضي بحيث لولاه لما كان هناك تكليف ، لا تشمله الأدلّة العامّة للأمر بالمعروف ، مثلاً إذا اختلف العامل والمالك فقال الأوّل : رددت رأس المال ، وأنكره المالك ، فليس هنا أيّ تكليف متوجّه إلى العامل بعد ادّعاء ردّ المال وإنمّا يتوجّه إليه التكليف بالردّ بعد القضاء بأنّ القول قول المالك مع حلفه ، فعندئذ يتوجّه تكليف بالردّ بعد ما لم يكن أيّ تكليف قبل القضاء فمثل هذا ليس مشمولاً لأدلّتهما.

وإن شئت قلت : إنّ مورد أدلّتهما ما إذا اتفق الآمر والمأمور على وجود التكليف فيقوم أحدهما بالدّعوة لا ما إذا أنكر أحدهما أصل التكليف كما هو الحال قبل القضاء (منه حفظه الله).

٤٣

فالتمسك بالجميع غفلة عن شرائط انعقاد الإطلاق (١).

الرابع : صحيح أبي خديجة حيث قال (عليه‌السلام) : «إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم ، فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه» (٢).

ردّ الاستدلال بوجوه :

أ ـ إنّ الوارد فيها لفظ العلم ، وهو لا يشمل المقلّد ، لأنّ العلم عبارة عن الاعتقاد الجازم المطابق للواقع.

يلاحظ عليه : أنّه خلط بين العلم المصطلح عليه في علم المنطق ، والعلم الوارد في الكتاب والسنّة والمراد من الأوّل ما ذكر. ومن الثّاني ما قامت عليه الحجّة ، وإلّا لزم عدم صحّة قضاء نفس المجتهد ، لعدم علمه بالواقع ، والعلم بالحكم الظاهري مشترك بين المجتهد والمقلِّد.

ب ـ إنّ الرّواية محمولة على صورة الاضطرار وعدم التمكّن من لقاء من يعرف الأحكام عن أدلّتها التفصيلية ، والسؤال عنه ، وبما أنّ الشيعة كانوا متفرّقين آنذاك في بلاد نائية ، ولم يكن في كلّ بلد وصقع من يعرف الأحكام بالدّليل ، اكتفى

__________________

(١) التمسّك بالإطلاق في المقام نظير تمسّك بعضهم بإطلاق قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) (المائدة ـ ٥) على أنّه يجوز الأكل ممّا أمسكت الجوارح بأنيابها بلا لزوم غسل مواضعها ، مع أنّ الآية بصدد بيان شيء آخر وهو حليّة ما أمسكته وأنّه من الطيّبات لا المحرمات ، وأمّا أنّه هل يؤكلُ مطلقاً أو بعد الغسل فليست بصدد بيانه حتّى يتمسّك بالإطلاق.

وهناك وجه آخر وهو أنّ الآيات والرّوايات بمعزل عن باب القضاء ، لأنّ المراد من الحقّ هو الحقّ في الشّبهات الحكميّة والحقّ في باب القضاء يرجع إلى الحقّ في الشّبهات الموضوعية غالباً كما لا يخفى. (منه حفظه الله).

(٢) الوسائل : ١٨ / ٤ ح ٥ ، الباب ١ من أبواب صفات القاضي.

٤٤

صاحب الشريعة بمن يعلم شيئاً من الأحكام فيسدّ بذلك باب الرّجوع إلى أبواب الطواغيت.

يلاحظ عليه : بأنّه حمل تبرّعي لا دليل عليه ، وليس في الرّواية ما يحكى عن كونه وارداً مورد الاضطرار.

ج ـ إنّ العلم بشيء من قضاياهم ، مختصّ بالفقيه أو منصرف إليه ، لأنّ العامّي إمّا أن يعتمد على فتوى الفقيه في القضاء ، فلا يصدق أنّه يعلم شيئاً من قضاياهم (عليهم‌السلام) بل هو عالم بفتوى الفقيه وهو طريق إلى حكم الله ، وإمّا أن يعتمد على إخبار الفقيه بقضاياهم (عليهم‌السلام) وهذا غير جائز لأنّه لا يزيد على رواية مرسلة غير جائزة العمل إلّا بعد الفحص عن الجهات الأربعة : الصدور ، والدّلالة ، وجهة الصّدور ، وعدم المعارض وأنّى هذا للمقلِّد.

يلاحظ عليه : أنّا نختار الشقّ الأوّل ، وهو الأخذ بإفتاء الفقيه ، إلّا أنّه عند المقلّد هو حكم الإمام (عليه‌السلام) وقضاؤه ، خصوصاً إذا كان الإفتاء بلفظ الحديث ، كما في الفقيه والنّهاية ، والإفتاء وإن كان غير التّحديث ، والأوّل مشتمل على إعمال النظر دون الثاني ، لكنّه لدى العرف يعكس حكم الكتاب والسنّة وحلال الأئمة (عليهم‌السلام) وحرامهم.

د ـ ويمكن أن يقال : إنّ الصادر من الإمام (عليه‌السلام) مردّد بين ما نقل ، وبين ما جاء في روايته الأُخرى التي فيها : «اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا ، فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً» (١).

وقد عرفت أنّ لفظ «العرفان» لا يستعمل إلّا إذا كان هناك اشتباه يتعقبه التّمييز ، وهو لا يصدق إلّا في حقّ الفقيه ولا يشمل المقلّد المحض ، ولأجل تردّد لفظ المنقول ، لا يصحّ الاستدلال بها.

__________________

(١) الوسائل : ١٨ / ١٠٠ ح ٦ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي.

٤٥

الخامس : صحيح الحلبيّ ، قال : قلتُ لأبي عبد الله (عليه‌السلام) ربّما كان بين الرّجلين من أصحابنا المنازعة في الشيء ، فيتراضيان برجل منّا؟ فقال (عليه‌السلام) : «ليس هو ذاك إنمّا هو الّذي يجبر الناس على حكمه بالسّيف والسّوط» (١).

يلاحظ عليه : أنّ قوله (عليه‌السلام) : «ليس هو ذاك» دليل على أنّ الإمام (عليه‌السلام) كان يندّدُ بقضاة عصره ، ولمّا سأله السائل عن الرّجوع إلى رجل من شيعة الإمام (عليه‌السلام) ، صرّح الإمام (عليه‌السلام) بأنّ هذا ليس ذاك فيكون الكلام مسوقاً لبيان عدم جواز الرجوع إلى قضاة العامة دون الشيعة ، وأمّا ما هي شرائطهم وخصوصياتهم ، فالرواية ليست بصدد بيانها حتّى يتمسّك بالإطلاق.

السادس : خبر محمّد بن حفص (٢) عن عبد الله بن طلحة (٣) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : سألته عن رجل سارق ، دخل على امرأة ليسرق متاعها ، فلمّا جمع الثياب تابعته نفسه ، فكابرها على نفسها فواقعها [فتحرك ابنها فقام ، فقتله بفأس كان معه] فلمّا فرغ حمل الثياب وذهب ليخرج ، حملت عليه بالفأس فقتلته ، فجاء أهله يطلبون بدمه من الغد ، فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : «اقض على هذا كما وصفت لك ، فقال : يضمن مواليه الّذين طلبوا بدمه دية الغلام ، ويضمن السارق فيما ترك أربعة آلاف درهم بمكابرتها على فرجها ، إنّه زان وهو في ماله غريمة ، وليس عليها في قتلها إيّاه شيء [لأنه سارق] قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كابر امراة

__________________

(١) الوسائل : ١٨ / ٥ ح ٨ ، الباب ١ من أبواب صفات القاضي.

(٢) محمّد بن حفص بن خارجة مجهول لم يعنون في في كتب الرجال. قال في تنقيح المقال : ٣ / ١٠٨ رقم ١٠٦١٨ : ولم أقف على ذكر له في كتب الرّجال وهو مجهول الحال.

(٣) هو عبد الله بن طلحة النهديّ عربيّ كوفيّ ، لم يذكر في حقّه توثيق ولا مدح ولكن الرواية متقنة ـ منه حفظه الله ـ قال في تنقيح المقال : ٢ / ١٩٠ رقم ٦٩١١ : ولم نقف فيه على مدح يدرجه في الحسان.

٤٦

ليفجر بها فقتلته فلا دية له ولا قود» (١).

يلاحظ عليه :

أوّلاً : أنّه من المحتمل أن يكون كلامه (عليه‌السلام) هذا : «اقض على هذا كما وصفت لك» أشبه بالمشاكلة (٢) لا الحقيقة ، والقاضي واقعاً هو الإمام الصادق (عليه‌السلام).

وثانياً : يحتمل كون ابن طلحة ممّن كان ينطبق عليه المقياس الوارد في المقبولة.

وثالثاً : أنّه يصحّ الاستدلال بها على صورة النصب أو الوكالة ، والثاني أظهر من الأوّل.

السابع : قد يدّعى أنّ الموجودين في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّن أمر بالتّرافع إليهم ، قاصرون عن مرتبة الاجتهاد ، وإنّما يقضون بين النّاس بما سمعوه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فدعوى قصور من علم جملة من الأحكام مشافهة أو بتقليد لمجتهد ، عن منصب القضاء بما علمه ، خالية عن الدّليل (٣).

وأجاب عنه المحقّق الآشتيانيّ (رضي الله عنه) : بأنّ الشرط الواقعيّ هو العلم بالأحكام لا الاجتهاد ، فالمنصوبون من قبل الأئمة (عليهم‌السلام) كانوا يعلمون الأحكام وإن

__________________

(١) الوسائل : ١٩ / ٤٥ ح ٢ ، كتاب القصاص ، الباب ٢٣ من أبواب قصاص النفس.

(٢) المشاكلة : هي ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته كقوله تعالى : (تَعْلَمُ مَا في نَفْسِي وَلا أعْلَمُ ما في نَفْسك) (المائدة ـ ١١٦) المراد : ولا أعلم ما عندك. وعبّر بالنفس للمشاكلة ووقوعه في صحبته.

(٣) جواهر الكلام : ٤٠ / ١٨ ، وقال (رضي الله عنه): «بل ظاهر الأدلة خلافها ، بل يمكن دعوى القطع بخلافها ، ونصب خصوص المجتهد في زمان الغيبة بناء على ظهور النصوص فيه ، لا يقتضي عدم جواز نصب الغير.

٤٧

كانوا غير مجتهدين ، وأمّا زماننا هذا فالعلم فيه لا يحصل إلّا بالاجتهاد ، فليس للاجتهاد موضوعية إلّا كونه طريقاً إلى العلم بالأحكام ، وهو كان حاصلاً للمنصوبين يوم ذاك دون مقلّدي أعصارنا. وحاصله : أنّ الميزان هو العلم بالأحكام لا الاجتهاد ، والعامّي في السابق كان عالماً بها بخلاف العامّي في أعصارنا (١).

يلاحظ عليه : إن كان المراد من العلم ، العلم بالأحكام الواقعيّة فهو لم يكن حاصلاً يوم ذاك للمنصوبين ولا للمجتهدين في الأعصار المتقدّمة ضرورة أنَّ أصحاب الأئمة (عليهم‌السلام) ربّما كانوا يأخذون الأحكام عن أصحابهم ، وقد كانوا مبتلين بالأخبار المتعارضة ومشكوك الصّدور ، إلى غير ذلك ممّا لا يوجب العلم بالحكم الواقعيّ ، ومثله المجتهد ، فإنّ ما يحصّله من أحكام ممّا قامت عليه الحجّة لا أنّها أحكام واقعيّة.

وإن كان المراد الأعمّ من الحكم الواقعيّ فهو حاصل لمقلِّدي عصرنا.

والأولى أن يقال : إنّه لو كان الموضوع لنفوذ القضاء هو المجتهد أو من له قوّة الاستنباط ، صحّ أن يردّ بما جاء في الاستدلال بخلاف ما لو قلنا بأنّ الموضوع له ، هو من روى حديثهم (عليهم‌السلام) ونظر في حلالهم وحرامهم وعرف أحكامهم ،

__________________

(١) كتاب القضاء للمحقّق ميرزا محمد حسن الآشتيانيّ (رضي الله عنه) : ٩ و ١٠.

وعبارته كالتالي ، حيث قال بعد كلام حول دلالة المقبولة :

«قلت : لسنا قائلين بدلالة المقبولة على اعتبار الاجتهاد في الحاكم ، وإنمّا نقول بدلالتها على اعتبار العلم فيه ، ولكنّا نقول : إنّه لا يمكن العلم بتحصيل الأحكام الشرعية في زماننا هذا إلّا بملكة الاجتهاد ، فاعتبار الاجتهاد ليس من جهة دلالة المقبولة عليه ، بل من جهة عدم حصول العلم في زماننا هذا وأشباهه إلّا به (الاجتهاد).

فاعتبار الملكة إنمّا هو من جهة عدم تحقّق الموضوع في هذه الأزمنة إلّا به».

٤٨

وقد كان صادقاً على قضاة عصر الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن بعده ، كما كان صادقاً على المتربّين على أيدي الأئمة (عليهم‌السلام) من المحدّثين والفقهاء لاتّصالهم بالمعصومين (عليهم‌السلام) ، وسماعهم منهم أو عمّن سمع منهم ، وأمّا في عصرنا هذا فلا يصدق إلّا على من له قوّة الاستنباط ويبذل الجهد بالتتبّع في الروايات والنظر في حلالهم وحرامهم ، فيعرف ـ أكثر ـ أحكامهم (عليهم‌السلام) فالموضوع لنفوذ القضاء واحد في جميع الأعصار ، غير أنّ بعد العهد واختلاط الصحيح بالسقيم من الروايات ، وما صدر عن تقيّة بما صدر لبيان الواقع ، صار سبباً لعدم صدقه إلّا على لفيف قليل من العلماء وهم الممارسون لأحاديثهم ـ (عليهم‌السلام) والناظرون في حلالهم وحرامهم والعارفون أحكامهم (عليهم‌السلام) ، ولا مجال لصدق ذلك على المقلّد المحض الّذي لا يعرف شيئاً من الأحكام سوى ما جاء في رسالة مقلّده ـ بالفتح ـ (١).

المقام الثاني : في نصب المجتهد المقلّد للقضاء :

ما تقدّم من الكلام كان في تصدي المقلّد منصب القضاء (استقلالاً) وقد عرفت عدم الدّليل على جوازه ونفوذ قضائه ، والكلام هنا في تصدّيه للقضاء بعد نصب المجتهد إيّاه للنّظر في المرافعات والقضاء فيها على طبق ما يراه المجتهد. فنقول :

__________________

(١) ثمّ إنّ الفرق بين الجوابين واضح ، فإنّ جواب المحقّق الآشتياني (رضي الله عنه) مبني على أنّ الميزان هو العلم بالأحكام لا الاجتهاد ، غير أنّ العلم بالأحكام كان ميسوراً للقضاة الموجودين في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مطلقاً ، وأمّا في عصرنا فليس ميسوراً إلّا على من له ملكة الاجتهاد.

وأمّا جوابنا فهو مبنيّ على أنّ الميزان في صحّة التصدّي هو ما جاء في لسان الرّوايات ، أعني : قوله «روى حديثنا ونظر في حرامنا وحلالنا وعرف أحكامنا وهو كان صادقاً على القضاة الموجودين في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مطلقاً (مجتهداً كان أو لا) ولكنّه في عصرنا هذا لا يصدق إلّا على المجتهد ، فليس الاجتهاد شرطاً وإنمّا هو طريق لتحصيل موضوع الدّليل. (منه حفظه الله).

٤٩

إنّ جواز النّصب للمجتهد رهن أمرين :

١ ـ أن يكون النّصب جائزاً في نفسه بأن لا تكون الفقاهة شرطاً شرعيّاً للقضاء ، ولو لم يكن كذلك فلا يجوز للإمام (عليه‌السلام) فكيف للمجتهد الّذي هو نائبه ، هذا وإنّ محور البحث حال الاختيار لا الاضطرار.

٢ ـ إنّ كلّ حكم يجوز للإمام (عليه‌السلام) يجوز للفقيه الجامع للشّرائط ، فالدّعوى الأُولى بمثابة الصّغرى للثانية وهي كبرى للأُولى.

أمّا الأُولى فيمكن أن يقال بأنّها غير ثابتة ، لأنّه مع ثبوت دلالة المقبولة والمشهورة على أنّ المأذون للقضاء من ينطبق عليه عنوان النّاظر في الحلال والحرام والعارف بالأحكام ، وقلنا بعدم صدق المذكور على المقلِّد ، يصير قضاء المقلِّد كقضاء المرأة ، فكما لا يصحُّ نصبها للقضاء فكذلك العامّي العارف بمسائل القضاء.

وبعبارة أُخرى : إذا كان الاجتهاد معتبراً شرطاً في القضاء كالرُّجولة ونحوها ، فكيف يجوز للإمام (عليه‌السلام) أن يلغي ما اعتبره الشارع في القضاء وينصب من ليس أهلاً في ذلك.

ثمّ إنّ هذا على القول بدلالتهما على شرطيَّة الاجتهاد في القضاء ، ولو قلنا بالعدم ، فيكفينا نفس الشّك في جواز نصب المقلِّد ، للحكم بعدم الجواز ، والأصل عدم حجيّة رأي أحد في حقّ أحد ـ كما تقدّم ـ إلّا مع قيام الدّليل عليه.

ومن هنا يعلم عدم تمامية ما أفاده سيِّدنا الأُستاذ الخميني (قدّه) في ردّ الاستدلال حيث قال : «إنّ المقبولة دلّت على أنّ الفقيه منصوب من ناحيتهم للقضاء ، وأمّا اختصاص هذا المنصب للفقيه في نفس الأمر ومحروميّة العامّي عنه كذلك بحيث كانت الفقاهة من شروطه الشرعية وأنّ ذلك كان بإلزام شرعيّ إلهيّ ،

٥٠

فلا يستفاد منها» (١).

يلاحظ عليه : ما عرفت من أنّه مع فرضنا بأنّ المقبولة والمشهورة ليستا بصدد بيان شرائط من له حقّ القضاء ، إلّا أنّ نفس الشك في مشروعية قضاء العاميّ العارف بمسائل القضاء عن تقليد ، كاف في الحكم بعدم الجواز والنفوذ ، وهذا أشبه بالشك في جواز التعبّد بالظن فإنّ نفس الشك كاف في الحكم بحرمة التعبّد ، ولا يحتاج إلى دليل آخر.

وهذا الأصل وإن لم يثبت عدم الجواز واقعاً في حقّ الإمام ، لكنّه مانع عن الحكم بالجواز للإمام ، ومعه لا يمكن أن يثبت للفقيه ، بل الثابت في حقّه ما دلّ الدّليل على ثبوته له لا ما هو مشكوك الثبوت.

ويمكن أن يستدلّ على عدم مشروعيّة قضاء العاميّ بصحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «اتّقوا الحكومة فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء ، العادل في المسلمين لنبيّ أو وصيّ نبيّ» (٢).

فإنّها صريحة في أنّ القضاء شرّع للأنبياء وأوصيائهم ، ولا ينافي ذلك ما دلّ على جوازه للفقهاء ، فإنّهم أوصياء الأنبياء بوجه (٣) ، فتكون المقبولة حاكمة عليها بالتصرّف في الموضوع وتوسيعه وإدخال ما لا يدلّ عليه ظاهرها (الصحيحة). وأمّا العامّي فإنّه ليس وصيّاً لنبيّ ، ولم يدلّ الدّليل على مشروعيّة قضائه.

فتلخص من ذلك ، عدم ثبوت الصّغرى وهي مشروعية نصب العامّي للقضاء وإن كان النّاصب نبيّاً أو إماماً.

__________________

(١) تهذيب الأُصول : تقريراً لبحث الإمام الخميني (رضي الله عنه) للشيخ الأُستاذ : ٢ / ٥٣١ مباحث الاجتهاد والتقليد.

(٢) الوسائل : ١٨ / ٧ ح ٣ ، الباب ٣ من أبواب صفات القاضي.

(٣) لما في الرّوايات من أنّهم الخلفاء والأُمناء على حلال الله وحرامه ، وأنّهم كأنبياء بني إسرائيل.

٥١

ولو افترضنا صحّة الصغرى ، فيقع الكلام في الكبرى ، وأنّ كلّ ما يجوز للإمام ، هل هو جائز للفقيه أو لا؟

أقول : هذه المسألة قد كثر النقاش والكلام فيها من عصر المحقّق النّراقي والشيخ الأنصاري (رضي الله عنه) إلى زماننا هذا ، خصوصاً بعد قيام الثورة الإسلامية الإيرانية ، واختار المحقّق النّراقي (رضي الله عنه) والسيّد الأستاذ الخميني (قدس‌سره) ، عموم المنزلة وثبوت الولاية العامّة للفقيه ، وأنّ كلّ ما يجوز للإمام يجوز للفقيه إلّا ما دلّ على اختصاصه بالنبيّ والوصيّ.

واختار الشّيخ الأعظم الأنصاري (رضي الله عنه) ، ومن تبعه من تلاميذه ومن بعدهم ، عدم عموم وشمول الولاية ، بعد الاعتراف بأصلها. والمقام لا يسع لإيراد أدلّة الطرفين ، وذكر الحقّ في المسألة ، إلّا أنّا سنشير إلى أساس الفكرتين ليكون القارئ على معرفة إجماليّة بهما :

إنّ الشيخ ومن تبعه ذهبوا إلى أنّ ما يستدلّ به على ثبوت الولاية العامّة للفقيه ، لا يدلّ على عموم المنزلة ، والغاية من مساواة الفقهاء لأنبياء بني إسرائيل ونحو ذلك كما سنذكره ، هي تنزيلهم منزلة الأنبياء فيما يتعلَّق بشئون التّبليغ والتعليم ونحو ذلك ، لا أنّهم منزّلون منزلة الأنبياء من جميع الجوانب والمقامات ، وذلك كالمقبولة ، والحديث النّبويّ (١) : «اللهم ارحم خلفائي» ـ ثلاثاً ـ قيل : يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال : «الّذين يأتون بعدي ، يروون حديثي وسنّتي» ، أو التوقيع الرّفيع (٢) : «وأمّا الحوادث الواقعة ، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله».

__________________

(١) الوسائل : ١٨ / ١٠١ ح ٧ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي.

(٢) المصدر نفسه : حديث ٩.

٥٢

والمروي أيضاً : «مجاري الأُمور والأحكام على أيدي العلماء بالله ، والأُمناء على حلاله وحرامه» (١) ، والمرسل على أفواه العلماء : «علماءُ أمّتي كأنبياء بني إسرائيل» (٢).

ثمّ إنّ عدم الدّلالة على عموميّة وشمولية الولاية يمكن استفادته من أُمور :

الأوّل : إنّ تعليق الحكم على عنواني النبيّ والرّسول ، دالّ على أنّ الفقهاء وسائط بين الله والنّاس في تبليغ أحكامه وأوامره ونواهيه ، لا أنّهم كالأنبياء في جميع الجهات ، فالثابت لهم هو ما يرجع إلى الأنبياء في شئون التبليغ وبيان الحلال والحرام.

الثاني : إنّ هذه الأدلة ، وردت في تشخيص من تكون بيده مجاري الأمور ، لا في تشخيص الأمور الجارية وما يجوز وما لا يجوز ، وبعبارة أُخرى : لا إطلاق فيها من هذه الجهة ، وعليه فالولاية للفقيه إنّما هي في الأُمور التي لا محيص عنها في المجتمع الإسلامي وقد أحرز الجواز قطعاً ، وبالجملة : الأمور الحسبيّة التي لا يرضى الشارع بإهمالها وتركها ، كالقضاء والمحافظة على مال الصّغير واليتيم وثغور المسلمين ، ممّا ثبت وجوب مراعاتها ، ولم يعيّن لها أحد.

هذا ولو شكّ في جواز أمر ما للمجتهد ـ وإن جاز للنبي والإمام ـ فلا يمكن ثبوته له ، بل نحتاج إلى الدّليل على ذلك.

الثالث : إنّه على تقدير تسليم عمومها ، لا بدّ من تنزيلها على أُمور معهودة ،

__________________

(١) المستدرك : ١٧ / ٣١٦ ح ١٦ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي.

(٢) بحار الأنوار : ٢ / ٢٢ ح ٦٧ ، كتاب العلم.

٥٣

وإلّا يلزم كثرة التخصيص المستهجنة (١) ، إذ للنبيّ والأئمة (عليهم‌السلام) من بعده ، شئون كثيرة تختصّ بهم ولا تتجاوز غيرهم ، فلا عموم للمنزلة والولاية. بل يقتصر على الأمور المعهودة وهي القضاء بين النّاس وبيان الحلال والحرام ولزوم اتّباع النّاس لهم.

ثمّ إنّ القائلين بعموم الولاية ، أجابوا عن هذه الإشكالات وعمّا ذكره الشّيخ في المتاجر ، وقد ألّف السيّد الأستاذ رسالة خاصّة في هذا الموضوع ، وقد أتى فيها بتمام الأدلّة وأشبع الكلام في ما استظهر من الدّلالة ، ونحن نحيل القرّاء إليها ، والمقام لا يسع لنقل ما قيل أو يمكن أن يقال في المسألة.

إلّا أنّ للسيّد الأُستاذ (رضي الله عنه) في خصوص المقام كلام وهو : إنّ المستفاد من قوله (عليه‌السلام) : «فليرضوا به حَكَماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً» هو جعل الحكومة مطلقاً للفقيه ، وقد جعلهم الإمام حكّاماً على النّاس : ومن المعلوم أنّ جعل القاضي من شئون الحاكم والسلطان في الإسلام ، فجعل الحكومة للفقهاء مستلزم لجواز نصب القضاة ، والحكّام على النّاس شأنهم نصب الأمراء والقضاة وغيرهما ممّا تحتاج إليه الأُمّة كما كان الأمر كذلك في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والخلفاء الحقيقيّين وغيرهم.

فلو جاز نصب العاميّ لهم بما أنّهم حكّام ، يجوز للمجتهد أيضاً لأجل تلك المنزلة (٢).

يلاحظ عليه : ليس المراد من قوله (عليه‌السلام) «جعلته حاكماً» هو السّائس

__________________

(١) قيل : لو لم يبلغ كثرة التخصيص إلى حدّ الاستهجان ، كان حينئذ سبباً لوهن العامّ بحيث لا تطمئن النفس في العمل بعمومه إلّا بعد الاطمئنان بعدم كون المورد من الأفراد الخارجيّة. ولذا في قاعدة ـ لا ضرر ـ وأشباهها كلاحرج وآيات القصاص ، لا يعمل بعمومها لكثرة ما خرج عن تحتها ، إلّا بعد مشاهدة عمل جملة من الأساطين بها.

(٢) رسالة الاجتهاد والتقليد ـ تهذيب الأُصول : ٢ / ٥٣٣ بتصرّف.

٥٤

العامّ والحاكم المطلق ، بل المراد منه هو القاضي فحسب ، بقرينة قوله (عليه‌السلام) في نفس المقبولة : «فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه ، فإنّما بحكم الله قد استخفّ وعلينا ردّ ...» ويؤيّده قوله بعد عدّة فقرات : «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما ...» ويؤيده قوله (عليه‌السلام) في المشهورة : «قد عرف حلالنا وحرامنا ، فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً» ونظيره في صحيحة أبي خديجة الأُخرى : «فإني قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه».

وعليه ، فلو جاز نصب العامّي للقضاء من قبل الإمام (عليه‌السلام) ، لا تصلح المقبولة لإثبات جوازه للمجتهد ، بل لا بدّ من التماس دليل آخر ، والمجعول الثّابت في حقّ الفقهاء في هذه الروايات هو كونهم قضاة فحسب ، لا حكّاماً.

قضاء المقلِّد عند الاضطرار :

ما تلوناه عليك من الأدلّة على عدم جواز تصدّي العامّي للقضاء استقلالاً أو نصباً ، إنمّا هو في حال الاختيار ، والكلام في حال الاضطرار ، فنقول :

إنّ جواز نصبه والحال هذه ممكن ، وذلك لأنّ بقاء النّظام رهن فصل الخصومات ورفع المنازعات وعليه ، إذا لم يتمكّن من الرّجوع إلى المجتهد ولم نجوّز نصب العامّي للقضاء تقليداً ، لزم أحد محاذير ثلاثة وهي :

الأوّل : إمّا أن ترفع الشّكوى إلى ديوان الظالمين وهو حرام.

الثاني : إمّا أن نمنع من الترافع إلى الأبد ، وفيه إبطال الحقوق واختلال النّظام ، ورفع الأمان والحفاظ عن الدّماء والأموال والأعراض.

الثالث : إمّا وجوب الصّبر إلى التمكّن من الرّجوع إلى الفقيه ، وفيه إيجاب العسر والحرج ، وربما لا يتمكّن المدّعي والحال هذه من إقامة الشاهد.

فحينئذ نقول : دفعاً لهذه المحاذير وحفظاً للنّظام ، لا مناص للفقيه من نصب العامّي للقضاء تقليداً في الشّبهات الموضوعيّة والحكميّة.

٥٥

فإن قلت : إنّ الرّجوع إلى المحاكم العاديّة الدوليّة التي لا تحكم على طبق ووفق الكتاب والسنّة أبداً ، هو حافظ للنظام ومانع من اختلاله ، كما كانت الحال على ذلك قبل الثورة الإسلامية في إيران.

قلت : إذا دار الأمر في حفظ النّظام بين الرّجوع إلى المحاكم الدولية وبين النزول عند حكم المقلِّد العارف بالأحكام الإسلامية عن تقليد ، فإنّ الثاني متعيّن ، لأنّ حرمة الأوّل مطلقة متأكدة ، قال الله سبحانه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) (النساء ـ ٦٠). ولأجل ذلك نقول : لا مناص في حفظ النّظام من اختيار قضاء المقلِّد وتقديمه على المحاكم الدّولية بل وجودها وعدمها سواء ، فعلى الفقيه نصب العامّي العارف بالقضاء ، لرفع الخصومات بين الناس من غير فرق بين كون المورد من قبيل الشبهات الموضوعيّة أو الحكميّة ، وهي من القضايا التي قياساتها معها ، فإنّ ترك المرافعة والقضاء بين الناس يوجب اختلال النّظام وتضييع الحقوق والأموال ، وإيقاف الأمر إلى التمكّن من المجتهد النّائي أمر مشكل ، فعليه ، لو كانت الشبهة موضوعيّة (١) ، يعمل بقواعد «المدّعي والمنكر» ونحوها ، ولو كانت الشّبهة حكمية كمنجّزات المريض وثبوت الشفعة ، إذا كان الشّركاء أزيد من ثلاثة ، وتحريم عشر رضعات وأمثالها ، فنقول : بما أنّ القضاء فيها لا يحتاج إلى إقامة بيّنة وجرحها وتعديلها ، يكفي العثور على رأي المجتهد ، والحكم على وفقه.

ومع ذلك يجب على العامّي العارف ، مراعاة أمور من باب الاحتياط والأخذ بالقدر المتيقّن ، للتأكد من إصابة الحقّ ، وعليه تجنّب الشّبهات والتشاور في

__________________

(١) قيل : لا يقبح لزوم تعطيل المال في بعض المسائل الخلافيّة فيما لو لم يكن مستداماً كما لو تمكّن من الاستفتاء من المجتهد ولو في عرض سنة أو سنتين ، فلا ضير فيه.

٥٦

القضاء والسّؤال من سائر العارفين بالقضاء ، فإنّ الرّأي الصادر منه بعد المشاورة أقرب إلى الحقّ وألصق بالواقع ، وحقّ الرّأي إنمّا هو للمنصوب فقط هذا.

وينبغي التّنبيه على أمور :

الأوّل : إذا قلنا بسقوط شرطيّة الاجتهاد ، فيقتصر على العامّي الذي ينصبه المجتهد لا لأجل وجود الدّليل على الشرطية ـ (لما عرفت من عدم جواز نصب العامّي للقضاء حال الاختيار) ـ بل لاحتمال مدخليّة نصب المجتهد في هذه الحالة دفعاً للهرج والمرج وحفظاً لنظام القضاء مع الإمكان.

الثاني : إذا نصب المجتهد العاميّ العارف بالقضاء له في زمان كان الرّجوع إلى المجتهد موجباً للعسر والحرج ، فهل يختصّ قضاؤه بخصوص ما لو كان مناط الرجوع موجوداً أو يعمّه وما إذا كان الرّجوع إليه سهلاً يسيراً؟ هنا وجهان ، والحكم النّابع من العسر والحرج ، يدور مدارهما فلو كان رفع الشكوى إلى المجتهد سهلاً ، لكان عليه إرجاع المتداعيين إلى المجتهد وإلّا فيباشر بنفسه ، وتظهر الحقيقة إذا وقفنا على أنّ العسر والحرج الرّافعين لفعلية الحكم الأوّلي ، منوطان بالعسر والحرج الشخصيّين لا النوعيّين ، ويمكن أن يقال : إنّ تحديد القضاء بوجود العسر الشخصيّ وعدم كفاية العسر النوعيّ ، يوجد الغموض في أمر القضاء وربمّا يزيد في العسر والحرج ، والأوّل أحوط والثاني أقوى ، خصوصاً مع وجود نظام قضائيّ ، يعمل فيه أشخاص كثيرون ، لا يمكن تعليق أمرهم يوماً دون يوم.

الثالث : إذا نصب المجتهد العاميّ للقضاء ، يجب عليه العمل بحسب ما يقتضيه تقليده في موازين القضاء ، وليس له أن يتدخّل في ترجيح الآراء بعضها على بعض ، وتقديم المشهور على الشّاذ إذا كان فتوى مقلّده مطابقة للثاني ، أو ترجيح ما يؤيّد بعض الظنون على الآخر لأنّ كلّ ذلك من وظائف أصحاب النّظر ومن كلّفوا به.

٥٧

الرابع : إذا نصب المجتهد العاميّ للقضاء ، فهل له القضاء بحسب رأي مقلَّده ـ بالفتح ـ أو بحسب رأي المجتهد الناصب له ، أو يتخيّر؟ الأقوى هو الأوّل ، لأنّه من قبيل دوران الأمر بين التّعيين والتخيير.

الخامس : إذا كان هناك من هو أعرف بموازين القضاء من غيره ـ تقليداً ـ يقدّم الأعرف فالأعرف في مقام النصب ، نعم إذا لم يستعدّ الأعرف للقضاء ، يتعيّن غيره له.

السادس : إذا تعذّر النّصب من جانب المجتهد ، فعلى المسلمين أن يختاروا أعرفهم بموازين القضاء ولو عن تقليد.

السابع : ما يترتّب على قضاء العامّي هو لزوم طاعته وتنفيذ رأيه ، وأمّا عدم جواز نقضه وعدم جواز تجديد المرافعة لدى التمكّن من المجتهد ، فلا ، لأنّ المذكور من آثار قضاء المجتهد ، لا العامي العارف بالقضاء ، نعم لا يصحّ النقض إلّا من جانب المجتهد النّاصب ، لا غيره كي لا يلزم الهرج والمرج.

وعلى كلّ تقدير لو كان في المجتمع الإسلامي مجتهد جامع للشّرائط ، عليه أن يتكفّل بهذه الأُمور وله النّصب والعزل والنّقض ، وليس للآخرين التدخّل دفعاً للفوضى واختلال النظام.

المقام الثالث : في توكيل المقلِّد للقضاء :

هذا هو المقامُ الثالث ممّا يرجع إلى قضاء المقلِّد وقد عرفت عدم جوازه استقلالاً أو نصباً إلّا في صورة الضرورة وفرض الحاجة ، وعندئذ يقع الكلام في جواز توكيله له ، وإثباته يتوقّف على حصول أحد أمرين :

الأوّل : استظهار كون القضاء قابلاً للنّيابة والتوكيل من أدلّته.

الثاني : وجود إطلاق في أدلّة الوكالة دالّ على أنّ كلّ أمر قابل للتوكيل ، إلّا

٥٨

ما قام الدّليل على عدم قابليّته له.

توضيح المقام : إنّ الموضوعات من جهة ترتب الأثر عليها مختلفة وهي :

الأوّل : ما يترتّب عليه الأثر بملاحظة كونه قائماً بفاعل خاصّ ، كالمضاجعة ، فهي محكومة بالحلية إذا كان المباشر لها الزوج لا غير.

الثاني : ما يترتّب عليه الأثر بملاحظة أصل وجوده في الخارج من دون لحاظ خصوصيّة للفاعل ، وذلك كتطهير الثوب بالماء ، فإنّه يطهر مطلقاً سواء كان المباشر للغسل إنساناً بالغاً أم صغيراً أم غير إنسان من حيوان أو ريح ، فالموضوع هو تحقّق الغسل بالماء كيفما كان.

الثالث : ما يترتّب عليه الأثر المقصود بملاحظة قيامه بإنسان عاقل بالغ ، مباشرة أو تسبيباً ، كالبيع والإجارة والنّكاح والطّلاق.

الرّابع : ما يشكّ في أنّه من أيّ قسم من هذه الأقسام ، كالقضاء.

نقول : أمّا الأوّلان فإنّهما لا يقبلان الوكالة ، وذلك لكون الفاعل الخاص في الأوّل موضوعاً لترتّب الأثر ومثله لا ينفكّ عن اعتبار المباشرة ، وعدم لحاظ الفاعل في الثاني حتى يكون هناك نائب ومنوب عنه. وأمّا الثالث فإنّه يقبلها بلا شك.

وأما الرابع كالقضاء ، فلا يمكن التمسّك في إثبات القابليّة له بالعمومات الواردة فيه ، لعدم كونها بصدد بيان تلك الجهة ، وإليك بعض ما ورد :

الأوّل : ما رواه الصّدوق في الفقيه بسند صحيح عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) أنّه قال : «من وكّل رجلاً على إمضاء أمر من الأُمور ، فالوكالة ثابتة أبداً حتى يعلمه بالخروج منها ، كما أعلمه بالدّخول فيها» (١).

والإمعان فيها يعطي أنّه ليست بصدد بيان قابليّة كلّ «أمر من الأُمور» للوكالة ، بل بصدد بيان أنّ عمل الوكيل نافذ وماض إلى أن يبلغه العزل.

الثاني : صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في رجل وكّل آخر

__________________

(١) الوسائل : ١٣ / ٢٨٥ ح ١ ، الباب ١ من أبواب الوكالة.

٥٩

على وكالة في أمر من الأُمور ، وأشهد له بذلك شاهدين ، فقام الوكيل فخرج لإمضاء الأمر فقال : اشهدوا أنّي قد عزلت فلاناً عن الوكالة. فقال (عليه‌السلام) «إن كان الوكيل أمضى الأمر الّذي وكّل فيه قبل العزل فإن الأمر واقع ماض على ما أمضاه الوكيل ، كره الموكَّل أم رضي» قلت : فإنّ الوكيل أمضى الأمر قبل أن يعلم العزل أو يبلغه أنّه قد عزل عن الوكالة فالأمر على ما أمضاه؟! قال (عليه‌السلام) : «نعم» قلت له : فإن بلغه العزل قبل أن يمضي الأمر ثمّ ذهب حتّى أمضاه لم يكن ذلك بشيء؟ قال (عليه‌السلام) : «نعم أنّ الوكيل إذا وكِّل ثمّ قام عن المجلس فأمره ماض أبداً ، والوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلِّغه أو يشافهه بالعزل عن الوكالة» (١).

وهذه الرّواية كسابقتها ليست بصدد بيان أنّ الوكالة في كلِّ أمر ماض ، وإنّما هي بصدد بيان نفوذ ومضيّ الوكالة في كلِّ ما وكِّل ، وصحة الوكالة ما لم يبلّغ العزل بثقة كما هو واضح. فإذا شككنا في أنّ القضاء يقبل الوكالة أو لا ، فلا يمكن التمسّك بأمثال هذه الرّوايات لما ذكرناه ، وعليه فلا دليل على صحّة التوكيل في القضاء (٢).

__________________

(١) الوسائل : ١٣ / ٢٨٦ ح ١ ، الباب ٢ من كتاب الوكالة.

(٢) ثمّ إنّ السيّد الطّباطبائي (رضي الله عنه) نقل عن المسالك دليلاً على عدم الجواز عن المسالك ـ ولم نعثر عليه فيها ـ حاصله : أنّه يشترط في القاضي كونه مجتهداً ومعه لا فرق بين النائب والمنوب عنه في ثبوت الولاية له في القضاء فلا معنى لكون أحدهما وكيلاً عن الآخر ، نظير توكيل أحد الوليّين أو الوكيلين أو الوصيّين للآخر فكما أنّه لغو ، كذلك في المقام. (ملحقات العروة ـ كتاب القضاء : ١ / ١٠ ، ط. النجف ـ ١٣٣١ ه‍ ـ.

يلاحظ عليه : أنّ ذلك خلط بين النصب والوكالة ، فبما أنّ المنصوب مستقلّ في عمله يشترط فيه ما يشترط في النّاصب ، وهذا بخلاف الوكالة فإنّ الوكيل يقوم بنفس عمل الموكّل ، فكأنّ المجتهد يقضي بواسطة وكيله ، فيكفي وجود الشرط فيه من دون لزوم وجود شرط خاصّ في الوكيل سوى الشروط العامّة في مطلق الوكالة.

فالحقّ عدم جواز الوكالة منه ، لعدم ثبوت كون القضاء ممّا يقبل الوكالة ، ولم يدلّ دليل عليه ، لا من العرف ولا غيره. (منه حفظه الله).

٦٠