الرسائل الأربع - ج ٣

عدّة من الأفاضل

الرسائل الأربع - ج ٣

المؤلف:

عدّة من الأفاضل


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣٢

هذا والّذي يمكن أن يكون دليلاً على حجيّة الظّن الانسداديّ في حقّ العامّي أمران :

الأوّل : الإجماع على جواز التّقليد.

الثاني : جريان مقدّمات دليل الانسداد في حقّ العاميّ بحيث تكونُ منتجة لحجّية الظّن الثابتة حجّيّته بمقدّماته أيضاً.

والدّليل الأوّل باطل لعدم الاجماع تحقّقاً ، حيث إنّ المسألة من المستحدثات ، وكذلك الثّاني لعدم جريان مقدّمات دليل الانسداد في حقّ العامّي ، وذلك لأنّ من مقدّماته (أي المقدّمة الثالثة) بطلان تقليد المجتهد الانسداديّ للقائل بالانفتاح ، وذلك لأنّ الانسداديّ يخطّئُ الانفتاحيّ ، فلا يمكن تقليده ، وهذا بخلاف العاميّ ، لتمكّنه من تقليد الانفتاحيّ.

ولو فرض انحصار المجتهد بالانسداديّ فلا يلزم من ترك العمل بقوله واللّجوء إلى الاحتياط ، محذور اختلال النّظام وإن لزم منه العسر ، فيتعيّن عليه الاحتياط وإن استلزم العسر ما دام قاصراً عن إثبات عدم وجوب الاحتياط مع فرض العسر.

هذا كلّه إذا كان المجتهد قائلاً بحجيّة الظّن من باب الحكومة ، وأمّا لو كان قائلاً بحجيّته من باب الكشف ، فالّذي يستنبطه وإن كان حكماً شرعيّاً ، ويكونُ الرّجوع إليه من قبيل رجوع الجاهل إلى العالم ، إلّا أنّ أدلّة التقليد لا تساعد على جواز الرّجوع إليه لاختصاص حجّية الظنّ بمن جرت في حقّه مقدّمات الانسداد دون غيره. (انتهى المراد من كلامه (رضي الله عنه) بتصرّف منّا).

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ دليل الجواز ، ليس جريان مقدّمات الانسداد في حقّ العامّي حتّى يقابل بما سمعت ، بل جريان الانسداد في حقّ المجتهد كاف في عموميّة النتيجة وشموليّتها له ولغيره ، واختصاص حجيّة الظنّ بمن جرت في حقّه

٢١

مقدّمات الانسداد ممنوع ، وذلك لأنّه بعد طيّ العقبات والمراحل ، لا يستنبط إلّا حكماً كليّاً أو وظيفة كليّة لا شخصيّة لنفسه ، فقيامه بالإجراء كاف في شمول الحجّية (١).

هذا وإنّ القول بجريان مقدّمات الانسداد في حقّه دون غيره لعدم وجود مباديها في الغير ، لا يوجب اختصاص النتيجة به ، وذلك لما ذكرناه من كون الحكم المستنبط والوظيفة كذلك ، كليّين.

وبالجملة : قوام مقدّمات الانسداد به وجريانها في حقّه دون غيره ، لا يصير دليلاً على خصوصيّة النتيجة مع فرض الوظيفة الإلهيّة كليّة لعامّة المكلّفين.

والمقام أشبه بالتّقليد في نتائج الأُصول ، فإنّه ليس للعاميّ يقين ولا شكّ وليس عارفاً بشرائط الأُصول ، ومع ذلك يكون الحكم المستنبط بالأُصول نافذاً في حقّ الجميع ، فإنّ استصحاب النجاسة في الماء المتغيّر الزّائل تغيّرُه بنفسه ، حجّة على الجميع ، لأنّ المستصحب حكم الله المشترك بين الكلّ ، لا الحكم المتوجّه إلى المستنبط خاصة ، وإن كانت مقدّمات الاستنباط قائمة بالمجتهد وليس للعامّي حظّ فيها.

وثانياً : أنّ مورد التّقليد لا ينحصر بما إذا كان الموجود حكماً من أحكام الله الفرعية ، بل يكفي فيه كونه وظيفة لازمة على العباد ، والانسداديّ على الحكومة وإن لم يستنبط حكم الله الفرعيّ إلّا أنّه استنبط الوظيفة العامّة للعباد ، نظير استنباط الانفتاحيّ بالأُصول العقليّة كالبراءة والاشتغال العقليّتين.

__________________

(١) وبعبارة أُخرى أنّ العقل لا يفرّق في رجوع الجاهل بالوظيفة إلى العالم بها بين الانفتاحيّ القائل بانحلال العلم الإجماليّ بما في موارد الظنون الخاصّة وبين الانسداديّ القائل بعدم انحلاله ، فكما أنّ الأوّل عالم بالوظيفة الشرعيّة الظّاهرية كذلك الثاني عالم بالوظيفة العقلية الظاهرية وهو الأخذ بالأقرب إلى الواقع ، لعلمه بعدم الوظيفة الشرعية.

٢٢

ثمَّ إنّ المحقّق الخراساني (رضي الله عنه) لمّا التفت إلى أنّ منع الرّجوع إلى المجتهد الانسداديّ بحجّة أنّه غير عالم بالحكم الشرعي يستلزم منع رجوع العامّي إلى المجتهد الانفتاحيّ فيما إذا انحصر مدركه في الاستنباط بالأُصول العقليّة ، قال مستشكلاً : «إن قلت : رجوعه إليه في موارد فقد الامارة المعتبرة عنده التي يكون المرجع فيها الأُصول العقلية ليس إلّا الرّجوع إلى الجاهل.

وأجاب ما هذا حاصله : إنّ رجوع العامّي إلى المجتهد في هذه الموارد إنّما هو لأجل تشخيص الصّغرى وهو عدم وجود أمارة في هذا المورد ، وأمّا الكبرى فيستقلّ عقل العامّي بها ، فمع فقد الأمارة المعتبرة تكون الوظيفة الفعليّة هي البراءة أو الاحتياط. (انتهى) (١).

يلاحظ عليه : إنّ ما ذكره أشبه بالمزاح ، إذ من المعلوم أنّ تشخيص الصغرى في موارد الشّبهات البدويّة أو أطراف العلم الإجماليّ من وظائف الفحول الذين كرّسوا حياتهم في تلك المباحث ، فأين للعاميّ تشخيص الصّغرى في تلك الموارد.

والعجب أنّ المحقّق الخوئيّ (رضي الله عنه) أيّد المذكور آنفاً بقوله : الرّجوع إلى المجتهد في موارد الأُصول العقلية ليس من جهة التقليد في الحكم الشرعيّ ، بل من جهة الرّجوع إليه في تشخيص موضوع حكم العقل ، حيث إنّه من أهل خبرة ذلك ، فيرجع العامّي إليه في تشخيص أنّ المورد الفلاني لم تقم فيه حجّة على التكليف المحتمل ، ولم يثبت فيه حكم شرعيّ واقعيّ أو ظاهريّ ، فيستقل عقله بما استقلّ به عقل المجتهد بعينه. ولو فرض أنّه لم يكن أهلاً لإدراك الأحكام العقليّة المستقلة ، لم يكن مانع من الرجوع في ذلك إلى أهل الخبرة أيضاً (٢) (انتهى المراد من كلامه رحمه‌الله).

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٢ / ٤٢٦.

(٢) مصباح الأُصول : ٣ / ٤٣٩.

٢٣

يلاحظ عليه : أنّه مع رجوعه في الصّغرى والكبرى إلى أهل الخبرة ، أليس ذلك هو التقليد في مجاري الأُصول العقليّة مع فقد حكم الله الشرعي.

وختاماً نقول : إنّ ما يرجع إليه الانسداديّ في مقام الإفتاء هو نفس ما يرجع إليه الانفتاحيّ ، فالمرجع عند الجميع هو الكتاب والسنّة والإجماع والعقل ، غاية الأمر يسمّيه الانفتاحي ظنّاً خاصّاً ، والانسداديّ ظنّاً مطلقاً ، ولا يرجع إلى الظّنون الممنوعة كالقياس ، نعم يرى الانسداديّ بعض الظّنون حجّة ولا يراه الانفتاحي كذلك ، وليس هذا إلّا كاختلاف الاخباريّ والأُصوليّ من جهة حجيّة بعض الأُمور ، مع اتّفاقهما على لزوم النظر وبذل الجهد.

الرابع : نفوذ حكمه وقضائه :

هذا هو الحكمُ الرّابع المترتّب على عنوان المجتهد والفقيه في لسان الفقهاء ، والبحث فيه عن أُمور ثلاثة :

الأوّل : ما هو الدّليل على نفوذ حكم المجتهد المطلق؟

الثاني : هل حكمُ المتجزّي كحكم المطلق فيما اجتهد واستنبط؟

الثالث : هل يجوز نصب المقلّد للقضاء فيما إذا مارس القضاء وعرف آدابه وأحكامه تقليداً؟

هذا وإنّ إشباع الكلام في المقامات الثلاثة موكول إلى كتاب القضاء ، وإنمّا البحث في المقام حسب المناسب ، غير أنّ المحقّق الخراساني (رضي الله عنه) بدل التركيز على البحث من هذه المسائل ركّز البحث على جواز القضاء للانسداديّ وعدمه الّذي لا تترتّب عليه ثمرة في أعصارنا هذه ، فنقول :

٢٤

ما هو الدّليل على نفوذ حكم المجتهد المطلق؟

اعلم بأنّ الشريعة الإسلامية الغرّاء ، تشريع كامل لم يترك شيئاً ممّا له ارتباط بحياة البشر عاجلاً وآجلاً. فقد عالج تلك النّاحية الحيويّة بنصب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة المعصومين (عليهم‌السلام) حكاماً وقضاة ، واللّازم على الأُمّة الرّجوع إليهم (عليهم‌السلام) فيما اختلفوا فيه حكماً كان أو موضوعاً ، وليس لأحد القضاء بين النّاس إلّا بإذن منه سبحانه ، وتوضيحه :

إنّ القضاء بين الناس لمّا كان ملازماً للتصرّف في أموالهم وأنفسهم ، احتاج التلبّسُ به إلى ولاية حقيقيّة يمارس في ظلّها ذلك التصرّف ، وليست هي إلّا لله سبحانه ، فلا ولاية لأحد على أحد ولا ينفذ قول أحد ورأيه في حقّ أحد ، إنمّا الولاية لله سبحانه ، قال تعالى : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) (الأنعام ـ ٥٧). وقال سبحانه : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ...) (يوسف ـ ٤٠) ، إلى غير ذلك من الآيات الحاصرة حقّ الحكومة في الله سبحانه وحده لانحصار الولاية الحقيقيّة فيه.

ثمّ إنّ من لوازم القضاء كون الممارس له ، مجانساً لمن يقضي فيهم ، ولأجل ذلك نصب سبحانه أنبياءه (١) وأولياءه (عليهم‌السلام) قضاةً للنّاس يحكمون فيهم بما أنزل الله سبحانه ولا يحيدون عنه قيد شعرة.

قال سبحانه : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ...) (ص ـ ٢٦). وقال سبحانه في حقّ نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا

__________________

(١) قال تعالى : (إنّا أنزَلْنا التّوراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يحكُمُ بها النّبيُّونَ الّذينَ أسْلَمُوا لِلّذِينَ هَادُوا والرّبّانيُّونَ والأحْبارُ بِما اسْتُحْفِظُوا مِن كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاء ...) (المائدة ـ ٤٤).

٢٥

أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً* فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء ـ ٦٤ و ٦٥).

وقال أيضاً في حقّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأُولي الأمر من الأُمّة المفسّرين بالأئمّة المعصومين (عليهم‌السلام) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء ـ ٥٩).

وليس المراد من الإطاعة في هذه الآيات ، هي الإطاعة في العمل بالأحكام الشرعية كإقامة الصلاة وإيتاء الزّكاة وحجّ البيت ، إذ ليس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا لغيره في تلك المجالات حكم وقضاء حتّى يُطاع ، وإنمّا دورهم فيها دور المبلّغ والمبيِّن لأحكام الشّريعة ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وليس هو عليهم بمسيطر ، بل المراد الإطاعة في فصل الخصومات وقطع المنازعات إلى غير ذلك من الموارد التي له فيها حكم طلبيّ أو زجريّ.

فهؤلاء هم القضاة المنصوبون من الله سبحانه بأسمائهم وخصوصيّاتهم ، وأمّا بعد ارتحال النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوصيائه (عليهم‌السلام) أو عدم التمكّن من الوصيّ المنصوب (كما في عصر الغيبة) فإنّ هذه الناحية لم تترك سدى ، بل عيِّن رجال موصوفون بصفات ومتّسمون بسمات لمنصب القضاء ، والتفصيل موكول إلى الروايات ، وإليك بعض ما ورد في ذلك المجال من الرّوايات المعتبرة :

الأُولى : مقبولة عمر بن حنظلة : (١)

روى الكليني (رضي الله عنه) عن محمّد بن يحيى عن محمّد بن الحسين عن محمّد بن

__________________

(١) الأُصول من الكافي : ١ / ٦٧ و ٦٨ ، كتاب فضل العلم ، باب اختلاف الحديث.

٢٦

عيسى عن صفوان بن يحيى عن دواد بن الحصين عن عمر بن حنظلة قال : سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحلّ ذلك؟ قال (عليه‌السلام) : «من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطّاغوت ، وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتا ، وإن كان حقّاً ثابتاً له ، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت ، وقد أمر الله أن يكفر به ، قال الله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ)».

قلتُ : فكيف يصنعان؟ قال (عليه‌السلام) : «ينظران (إلى) من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنّما استخفّ بحكم الله وعلينا ردّ ، والرّاد علينا رادّ على الله وهو على حدّ الشرك بالله».

قلت : فإن كان كلّ رجل اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا النّاظرين في حقّهما واختلفا فيما حكما ، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال (عليه‌السلام) : «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر».

(إلى أن قال) : قلت : جعلت فداك ، أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامّة والآخر مخالفاً لهم ، بأيّ الخبرين يؤخذ؟

قال (عليه‌السلام) «ما خالف العامّة ففيه الرّشاد».

أقول : نبحث المقبولة سنداً ومتناً. أمّا من جهة السند :

فإنّ من جاء في السند ، أجلّاء ثقات كما ثبت دون الأخير ، وإليك ترجمتهم إجمالاً :

أ ـ محمد بن يحيى وهو العطّار القميّ شيخ الكليني وقد أكثر الرواية عنه.

٢٧

ب ـ محمّد بن الحسين وهو ابن أبي الخطاب ، أبو جعفر الزّيات الهمدانيّ ، جليل من أصحابنا عظيم القدر ، كثير الرواية ، ثقة عين ، حسن التّصانيف ، مسكون إلى روايته (١) ، توفي عام (٢٦٢ ه‍ ـ).

ج ـ محمد بن عيسى العبيديّ اليقطينيّ ، وقد وثّقه النّجاشي وإن راب في حقّه أُستاذ الصّدوق ابن الوليد ، وليس بشيء بعد توثيق النجاشي إيّاه وغيره.

د ـ صفوان بن يحيى ، ثقة جليل ، توفيّ عام (٢١٠ ه‍ ـ) ، غنيّ عن التّرجمة.

ه ـ داود بن الحصين ، وهو أسديّ الولاء ، كوفيّ المولد ، قال عنه النجاشي : ثقة ، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن (عليهما‌السلام) وهو زوج خالة عليّ بن الحسن الفضّال (٢) ، نعم وصفه الشيخ بكونه واقفيّاً ، إلّا أنَّ النجاشي لم يتعرّض لوقفه وهو أضبط.

هذا ، ولم يبق في السند إلّا عمر بن حنظلة ، والكلام فيه مسهب ، وعلى كلّ تقدير سواء ثبتت وثاقته أو لا فقد تلقّاها المشهور بالقبول (٣) ، ولأجل ذلك سمّيت مقبولة ، وعليها المدار في كتاب القضاء ، إضافة إلى أنَّ إتقان الرّواية كاشف عن صدورها عن الإمام (عليه‌السلام) (٤) ، هذا هو حال السند وإليك دراسة المتن ، فنقول :

__________________

(١) راجع رجال النجاشي : ٢ / ٢٢٠ رقم ٨٩٨.

(٢) المصدر نفسه : ١ / ٣٦٧ رقم ٤١٩.

(٣) قال الشيخ حسن ابن الشهيد الثاني في منتقى الجمان : ١ / ١٩ نقلاً عن والده (رضي الله عنه): «... ووجدت بخطّه (رحمه‌الله) في بعض مفردات فوائده ما صورته : «عمر بن حنظلة غير مذكور بجرح ولا تعديل ، ولكنّ الأقوى أنّه ثقة لقول الصادق (عليه‌السلام) في حديث الوقت ـ : «إذاً لا يكذب علينا. والحال أنّ الحديث الّذي أشار إليه ضعيف الطريق ، فتعلّقه به في هذا الحكم مع ما علم من انفراده به غريب ...».

(٤) على نحو يوجب الوثوق بصدور الرواية ـ قال شيخنا الأُستاذ في كليات في علم الرجال ـ ص ١٦٢ ـ الثالثة ـ نصّ أحد أعلام المتأخرين : «... فقد جرت سيرتهم (العقلاء) على الأخذ بالخبر الموثوق الصّدور وإن لم تحرز وثاقة المخبر ، لأنَّ وثاقة المخبر طريق إلى إحراز صدق الخبر ، وعلى ذلك فيجوز الأخذ بمطلق الموثوق بصدوره إذا شهدت القرائن عليه ...».

٢٨

المستفاد منه أنَّ القاضي لا بدَّ أن يتمتّع بشروط يجب الأخذ بجميعها :

الأوّل : يجب أن يكون شيعيّاً إماميّاً لقوله (عليه‌السلام) «ينظران إلى من كان منكم» وبما أنَّ الزّيديّة (١) كانت منفصلة عن الإمام الصّادق (عليه‌السلام) يوم صدور الرواية ، فلا تعمّهم ولا أضرابهم كالاسماعيليّة (٢) ، فعليه : المراد هو الفقيه الإمامي الاثنا عشريّ.

الثّاني : أن يحكم بحكمهم لقوله (عليه‌السلام) «فإذا حكم بحكمنا» فلو كان موالياً لهم (عليهم‌السلام) وحكم بحكم فقهاء العامّة ، لا ينفذ حكمه.

الثالث : أن يكون راوياً لحديثهم (عليهم‌السلام) لقوله : (عليه‌السلام) «روى حديثنا» والمتبادر كونه ممارساً لأحاديثهم ، لا أنّه روى حديثهم مرّة أو مرّات. (نقل الحديث مقدّمة للشرط التالي).

الرابع : أن يكون صاحب النّظر والفكر في الحلال والحرام لقوله (عليه‌السلام) : «ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا» وليس المراد من النظر ، الالتفات إليهما

__________________

(١) هم القائلون بإمامة زيد بن عليّ بن الحسين (عليه‌السلام) وكلّ من خرج بالسيف من ولد عليّ وفاطمة (عليهما‌السلام) ، وكان عالماً شجاعاً.

وقيل : أن يكون فيه ستّ خصال : العلم والزّهد والشجاعة ، حسنيّاً أو حسينياً وزاد بعضهم صباحة الوجه وعدم الآفة. ـ والزيدية موجودون في بلاد اليمن ـ (اعيان الشيعة للعلامة الأمين العاملي (رضي الله عنه) : ١ / ٢٠. وراجع الملل والنحل للشيخ الأستاذ : ١ / ١٥٤ ـ ١٦١.

(٢) هم القائلون بإمامة اسماعيل بن جعفر الصادق (عليه‌السلام) بعد أبيه ويسوقون الإمامة في ولده ، وهم في بلاد الهند ، ويسمّون اليوم «بَهرَة» ولهم تكايا منظمة في جميع البلاد التي يقصدونها للحج والزيارة ، وهم غير الإسماعيلية الباطنيّة أتباع آغا خان (نفس المصدر المتقدّم وص ١٦٧ ـ ١٦٨ من الملل والنحل).

٢٩

دون تأمّل وتدبّر ، بل السّبر في الحلال والحرام المرويّين عنهم (عليهم‌السلام) بإمعان ودقة ، قال سبحانه : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (آل عمران ـ ١٣٧) ، ويؤيد ذلك استعمال الامام (عليه‌السلام) لفظ «عرف» فإنّه لا يستعمل إلّا في المورد الّذي سبقه الاشتباه والخلط ، وعليه ، فالمقبولة تختص بصاحب النّظر ، المعبّر عنه بالمجتهد.

الخامس : أن يكون على حدّ يقال : إنّه عارف بأحكامهم وهو الفقيه العارف الّذي استنبط أحكامهم (عليهم‌السلام) ، فلا يكفي العلم بواحد او أكثر من أحكامهم ، فإنّ الجمع المضاف «أحكامنا» يفيد العموم ، وعليه : تكون المقبولة ظاهرة في المجتهد المطلق.

هذا ، ويؤيد ذلك الظهور قوله : «وكلاهما اختلفا في حديثكم» فلو أُريد الاختلاف في مضمون الحديث (دون النقل) ، فهو شأن الفقيه ، وإن أُريد الاختلاف في نقل الحديث فهو أيضاً لا ينفك عن الاجتهاد غالباً إن لم يكن دائماً.

وكذلك قوله (عليه‌السلام) : «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما».

وقول (الراوي) : «أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمهُ من الكتاب والسنّة.

فالنّاظر في جميع القيود الواردة في المقبولة يقف على أنّ الإمام (عليه‌السلام) نصب الفقيه الإماميّ ـ الذي يمارس الأحاديث وينظر في الحلال والحرام ويعرف الأحكام الصّادرة عن الأئمّة (عليهم‌السلام) ويعتمد في فتياه على الكتاب والسنة ـ قاضياً. وهذا لا يصدق إلّا على الفقيه المستنبط لجميع الأحكام الشرعيّة فيما تبتلي به الأُمّة على مرّ الأيام.

وبالجملة : الموضوع من يصدر عن الكتاب والسنّة وهو ينطبق في زماننا على المجتهد فقط.

٣٠

الثانية : مشهورة أبي خديجة ((١)):

ما رواه الشّيخ باسناده عن محمّد بن عليّ بن محبوب ، عن أحمد بن محمّد عن الحسين بن سعيد عن أبي الجهم ، عن أبي خديجة ، قال : بعثني أبو عبد الله (عليه‌السلام) إلى أصحابنا ، فقال : قل لهم : «إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تداري (٢) في شيء من الأخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفسّاق ، اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا ، فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً ، وإيّاكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر».

والحديث لا غبار عليه من حيثُ السند ، أمّا أبو الجهم ، فهو أخو زرارة واسمه بكير بن أعين من أصحاب الصادق (عليه‌السلام) وإنه (عليه‌السلام) لمّا بلغه خبر موته قال في حقه (٣) : «أما والله لقد أنزله الله بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين (عليه‌السلام)». ومن أحفاده الحسن بن الجهم.

وأمّا أبو خديجة فهو سالم بن مكرم الذي يقول النّجاشي (٤) في حقّه : ثقة ثقة ، فلم يبق في السند إلّا رواية الحسين بن سعيد عن أبي الجهم ، فإنّ الراوي من أصحاب الإمام الرضا والجواد والهادي ـ (عليهم‌السلام) وتوفي الإمام الرضا (عليه‌السلام) عام (٢٠٣ ه‍ ـ) والامام الجواد (عليه‌السلام) عام (٢٢٠ ه‍ ـ) والإمام الهادي (عليه‌السلام) عام (٢٥٤ ه‍ ـ) ، فكيف فتصحّ روايته عمّن توفيّ (بكير بن أعين) في عصر الإمام الصادق (عليه‌السلام) الّذي توفي عام (١٤٨ ه‍ ـ) ففي السند سقط.

__________________

(١) الوسائل : ١٨ / ١٠٠ ، ح ٦ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي.

(٢) تدارأ تدارُؤاً القوم : تدافعوا في الخصومة ونحوها ، واختلفوا.

(٣) الكشيّ : ١٦٠ رقم ٧٢ ، وسند الحديث : حدّثنا حمدويه قال حدثنا يعقوب بن يزيد عن ابن أبي عمير عن الفضيل وابراهيم ابني محمّد الأشعريين قالا : إنّ أبا عبد الله (عليه‌السلام) ... الحديث».

(٤) رجال النجاشي : ١ / رقم ٤٩٩.

٣١

ولكن يمكن استظهار الواسطة من سائر الرّوايات التي نقل فيها الحسين ابن سعيد عن بكير بوسائط وإليك أسماؤهم :

أ ـ حريز بن عبد الله عن بكير (١).

ب ـ ابن أبي عمير عن عمر بن أذينة عن بكير (٢).

ج ـ حمّاد بن عيسى عن حريز عن عبد الله عن بكير (٣).

د ـ صفوان عن عبد الله بن بكير عن أبيه بكير بن أعين (٤).

ه ـ حمّاد بن عيسى عن عمر بن أذينة عن بكير (٥).

وأمّا دراسة المتن فالظّاهر عن قوله (عليه‌السلام) «عرف» هو المعرفة الفعليّة (٦) لكون مبادي الأفعال ظاهرة فيها (الفعلية) وقوله (عليه‌السلام) «حلالنا وحرامنا» ظاهر في العموم ولو لم يصحّ حمله على الاستغراق العقلي لأجل عدم كون الرواة في ذلك الزمان عارفين بجميع الأحكام فلا محيص من حمله على الاستغراق العرفيّ فيكون الموضوع هو العارف ، بالحلال والحرام فعلاً ، على حدّ يمكن أن يقال في حقّه «قد عرف حلالنا وحرامنا» وبما أنَّ مادّة العرفان تستعمل في الموارد التي تكون مسبوقة بالاشتباه والخلط كما تقدم ، ثمّ يقف الإنسان على المراد الصّحيح ، فالعارف إذن هو من له قوّة عرفان الحقّ بتمييزه عن الباطل ، فعليه يكون العارف

__________________

(١) التهذيب : ٢ / ٢٥٥ رقم ١٠١٢.

(٢) الاستبصار : ١ / ٦١ رقم ١٨٢.

(٣) المصدر نفسه : ١ / ٢٤٨ رقم ٨٩٢ ، ويحتمل أن تكون لفظة (عن) مصحّف (بن) فالمراد : حريز بن عبد الله ويحتمل أن يكون المراد : عبد الله بن بكير. (منه حفظه الله)

(٤) المصدر نفسه : ١ / ٤٣٠ رقم ١٦٦٠.

(٥) المصدر نفسه : ٢ / ٢٧٠ رقم ٩٦٠.

(٦) فلا يكفي وجود المبدأ شأناً بوجود ملكة الاستنباط دون الاستحضار فعلاً.

٣٢

المفرّق للحقّ عن الباطل والحلال عن الحرام هو المعادل لصاحب النّظر ، فلا يعمّ المقلّد. وأمّا شموله للمجتهد المتجزّي فسيوافيك الكلام فيه.

الثالثة : المشهورة الأُخرى لأبي خديجة :

ما رواه الصدوق في الفقيه (١) بإسناده عن أحمد بن عائذ بن حبيب الأحمسيّ البجليّ الثقة عن أبي خديجة سالم بن مكرم الجمّال قال : قال : أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليهما‌السلام) : «إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم فإنّي قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه» (٢). ورواه في الكافي (٣) غير أنّه قال مكان (قضايانا) قضائنا.

والرّواية صحيحة وسند الصدوق (رضي الله عنه) إلى أحمد بن عائذ في الفقيه بالشكل التالي : عن سعد بن عبد الله عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن الحسن بن عليّ الوشاء عن أحمد بن عائذ (٤).

والكلّ غير الأخير من أجلّاء الأصحاب وعيونهم. ولا يشكّ في وثاقة الحسن ابن عليّ الوشاء إلّا غير العارف بأساليب التوثيق في علم الرجال فإنّه وإن لم يصرّح بوثاقته إلّا أنّه جاء في ترجمته ما مفاده أنّه كان في الدرجة العالية منها (الوثاقة) ، وهذا النجاشي يعرّفه بأنّه : «من وجوه هذه الطائفة» (٥) ، وقد قلنا في

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ٣ / ٢ ح ١.

(٢) الوسائل : ١٨ / ٤ ح ٥ ، الباب ١ من أبواب صفات القاضي.

(٣) الفروع : ٧ / ٤١٢ ح ٤.

(٤) الفقيه : ٤ / ٥١٤.

(٥) قال النجاشي في رجاله : ٢٨ : «... خير من أصحاب الرضا (عليه‌السلام) وكان من وجوه هذه الطائفة».

٣٣

كتابنا «كليّات في علم الرجال» : إنّ هذا النوع من التعبير يفيد أن المترجم ـ بالفتح ـ في الدرجة العالية من الوثاقة (١).

هذا وإنَّ ظاهر الرّواية عامّ شامل للمجتهد المطلق والمتجزّي دون المقلّد لقوله (عليه‌السلام) «شيئاً من قضايانا» أو «شيئاً من قضائنا» كما في الكافي وهو صادق عليهما معاً.

ما قد يورد على المشهورة في شمولها للمتجزّي :

ثمّ إنّه قد يورد على دلالة المشهورة الثانية على كفاية الاجتهاد غير المطلق بوجوه نذكر بعضاً منها :

الأوّل : إنّ القلّة المستفادة من قوله (عليه‌السلام) : «شيئاً» إنّما هي بالقياس إلى علومهم (عليهم‌السلام) وإن كان كثيراً في حدّ نفسه.

يلاحظ عليه : أنّه خلاف المتبادر ، فإنَّ الرّواية في قبال ردع الشيعة عن الرّجوع إلى غيرهم ، وعليه يناسب أن يخاطب الإمام (عليه‌السلام) شيعته بأنّه يكفيهم أن يرجعوا إلى من يعلم شيئاً من قضاياهم ، لا خصوص الواقف على جميع قضاياهم (عليهم‌السلام) ، وعندئذ المناسب في جعل الملاك هو نفس علم الرّاوي قلّة وكثرة ،

__________________

(١) بَل قاله (حفظه الله) في كتاب أصول الحديث وأحكامه في علم الدّراية ، باب الألفاظ المستعملة في التعديل والجرح ، ص ١٦٢ ـ ١٦٣ ، (٣ و ٤) (وجه ، عين): «... والسّابر في الكتب الرّجالية يقف على أن اللفظين يدلان على جلالة الرّجل أزيد من كونه إماميّاً عادلاً ، وأنّهم يستعملون هذين الوصفين في موارد يعد الرّجل من الطبقة المثلى في الفضل والفضيلة ، معربين عن أن مكانة الرّجل بين الطائفة مكانة الوجه والعين في كونهما محور الجمال والبهاء».

٣٤

وذلك كقول الناصح المشفق لأخيه : إذا لم تستطع على العمل الكثير فعليك بما في وسعك. فكأنّ الإمام (عليه‌السلام) يقول : إذا فاتكم الرّجوع إلى هؤلاء الحكّام لأخذ حقوقكم لكونهم طواغيت ، فلا يفوتنّكم الرّجوع إلى عالم من شيعتي ، يعلم شيئاً من قضايانا.

الثاني : إنّ الرّواية ناظرة إلى القاضي الّذي اختاره الطرفان لفصل الخصومة أي قاضي التحكيم فلو دلّت على كفاية التجزّي فهو في خصوص مورد قاضي التّحكيم لا المنصوب ابتداءً ، وذلك إنّ قوله (عليه‌السلام) «فإنّي قد جعلته قاضياً» متفرّع على قوله (عليه‌السلام) : «فاجعلوه بينكم» وعليه فالاكتفاء بالتجزّي إنمّا هو في قاضي التحكيم دون المنصوب.

يلاحظ عليه : أنّ قوله (عليه‌السلام) «فاجعلوه بينكم» ليس ناظراً إلى كونه قاضياً مجعولاً من قبل المتخاصمين حتّى تختصّ الرّواية به ، بل هو يهدف إلى معنى آخر ، وهو أنّ القاضي المنصوب من قبل السّلطة والدّولة ينفذ حكمه مطلقاً ، سواء رضي الطرفان بذلك أم لا ، بخلاف القاضي الشيعيّ الّذي يرجع إليه المتخاصمان ، فإنّ نفوذ حكمه مرهون برضا الطرفين به ، لا أنّ لرضائهما به مدخلية في الحكم والجعل.

وبعبارة أُخرى : أنّ الإمام (عليه‌السلام) نصّب كلّ من يعلم شيئاً من قضاياهم (عليهم‌السلام) للحكم والقضاء ، ولكن تحقّق الغاية رهن رضا الطرفين بحكمه وخضوعهما له ، بعد فرض عدم قوّة تقهر المتخاصمَين على القبول.

٣٥

حصيلة البحث :

هذا وإنَّ الحقّ هو : صلاحيّة المتجزّي للقضاء إذا استنبط شيئاً معتدّاً به ، وإنّ قصرت يده عن معضلات المسائل ، فإنّ أهمّ ما يدلّ على شرطية الاجتهاد المطلق هو قوله (عليهم‌السلام) في المقبولة : «نظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا» إلّا أنّه وارد في قبال المنع عن الرّجوع إلى حكام الجور وقضاتهم ، بمعنى وجوب الرّجوع إلى من كان نظر في حلالهم وحرامهم وعرف أحكامهم ـ (عليهم‌السلام) ، لا إلى من نظر في حلال الآخرين وحرامهم وعرف أحكامهم التي هي مقابل أحكامهم (عليهم‌السلام) ، وعليه فمن استنبط شيئاً معتدّاً به من الحلال والحرام والأحكام ، كان مصداقاً لقوله (عليه‌السلام) : «نظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا».

وبذلك يعلم حال المشهورة الأُولى لأبي خديجة حيث جاء فيها : «قد عرف حلالنا وحرامنا» ، فإن هذه الجملة وما في المقبولة ـ من قوله (عليه‌السلام) : «قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا» ـ تتضمّن وراء المعنى الايجابيّ معنى سلبيّاً وهو نفي الرّجوع إلى الغير ، والواجب هو الرّجوع إلى من عرف حلالهم وحرامهم نظر فيهما ، وهو صادق في حقّ الطبقة العالية من المتجزّءين إذا استنبطوا شيئاً معتداً به كما تقدّم.

ويؤيد ذلك أمران :

الأوّل : إن القضاة الّذين كانت الشّيعة تفزع إليهم في تلك الأيّام ، لم يكونوا إلّا في هذه الدرجة من العلم والعرفان ، ولم تكن لهم معرفة فعليّة بجميع الأحكام ، لتفرّق الرّوايات وتشتّتها بين الرّواة ، وعدم وجود جامع بين الحكّام حتّى يكونوا متدرّعين بالعلم بجميع الأحكام.

الثاني : كان الأمر في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والوصي (عليه‌السلام) أيضاً كذلك ، فقد

٣٦

بعث النبي معاذاً إلى اليمن وقال له : «كيف تقضي إذا عرض لك القضاء؟ قال : أقضي بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال : بسنّة رسول الله ...» (١). أتظنّ أنّ معاذاً كان مسلّطاً على جميع الأحكام الشرعية يوم ذاك.

وقد كتب الإمام عليّ بن أبي طالب ـ (عليه‌السلام) إلى واليه مالك الأشتر (رضي الله عنه) في عهده : «ثمّ اختر للحكم بين النّاس أفضل رعيّتك في نفسك ممّن لا تضيق به الأُمور ولا تمحكه (٢) الخصوم ـ إلى أن قال (عليه‌السلام): ـ وأوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج ...» (٣) فهل كانت مصر آنذاك تطفح بفقهاء ومجتهدين مسلّطين على جميع الأحكام الشرعية؟ نعم كانوا يحفظون من الكتاب والسنة وعمل الخلفاء أشياء يقضون ويحكمون بها ، فلو كان الاجتهاد المطلق شرطاً ، لعطّل باب القضاء في مصر.

نعم كلّما تقدّمت الحضارة الإسلامية وتفتّحت العقول ، وازداد العلماء علماً وفهماً ، وعدداً وكميّة ، تسنّم منصب القضاء من له خبرة كاملة في الفقه وعلم بحدود الشريعة علماً محيطاً ، إلّا أنّ ذلك ليس بوازع دينيّ ، بل كان نتيجة لسير العلم وتقدّمه وازدهار الثقافة.

نعم أخذ القضاء في عصرنا لوناً فنياً ، وصار عملاً يحتاج إلى التدريب والتمرين.

فلا مناص عن إشراف قاض ذي تجربة وممارسة ، على عمل القضاة المتجزّءين في الاجتهاد حتى تحصل لهم قدم راسخة لا تزلّ بفضله سبحانه.

__________________

(١) جامع الأُصول من أحاديث الرّسول لابن الأثير : ١٠ / ٥٥١ رقم ٧٦٥١ ، الفصل السادس : في كيفية الحكم.

(٢) أمحكهُ : جعله محكان أي : عسر الخلق ، لجوج.

(٣) نهج البلاغة : ٢ / ٩٤ رقم ٥٢ قسم الكتب والرّسائل ، شرح الشيخ محمد عبده.

٣٧

في تصدّي المقلّد للقضاء :

يتصوّر تصدّي المقلّد لأمر القضاء على أنحاء ثلاثة :

الأوّل : أن يستقلَّ في القضاء بلا نصب من جانب من له أهليّة الفتوى ولا وكالة منه ، بل يقضي على طبق رأي مقلَّده.

الثاني : أن ينصّب من جانبه لهذا الأمر الخطير.

الثالث : أن يوكّله في القضاء.

والفرق بين الأخيرين واضح ، فإنّ القضاء في الثاني عمل نفس القاضي ، بخلاف الثالث فإنّه عملُ نفس من نصّبه كما هو الحال في جميع موارد الوكالة.

ثمَّ إنّ أمر القاضي ونهيه يختلف بالقياس إلى أمر الآمر بالمعروف والنّاهي عن المنكر ، فإنّ الأمر والنهي في الثاني إرشاد إلى ما هو تكليف الغير الثابت عليه ، مع قطع النظر عن أمر الآمر ونهي النّاهي ، وفي هذا المجال المجتهد والمقلّد سواء ، يجوز لكلّ منهما أمرُ الغير ونهيه إرشاداً إلى تكاليفه الثابتة مطلقاً ، وهذا بخلاف أمر القاضي ، فإنَّ ما يحكمُ به ليس تكليفاً للغير مع غضّ النظر عن حكمه ، وإنّما يكون تكليفاً له بعد الحكم والقضاء. مثلاً : لو اختلف العامل والمالك ، فادّعى العامل ردّ رأس المال وأنكره المالك ، فحكم القاضي بأنّ القول قول المالك حينئذ يتنجّز على العامل دفعُ العين مع وجودها وإلّا فعليه دفع المثل أو القيمة سواء دفع المال في الواقع أو لا ، وهذا الإلزام جاء من جانب القاضي بحكمه ، ولم يكن ثابتاً من قبل ، وبما أنّه خلاف القاعدة ـ إذ أنّ الأصل عدم حجيّة رأي أحد في حق أحد ونفوذه ـ احتاج نفوذه إلى الدّليل وقد عرفت وجود الدليل وثبوته في المجتهد المطلق والمتجزّي الذي استنبط شيئاً معتدّاً به. وإنمّا الكلام في المقلِّد ، ويقع أوّلاً في النحو الأوّل ثمّ النحوين الآخرين.

٣٨

المقام الأوّل : استقلال المقلِّد في القضاء :

قد عرفت خطورة منصب القضاء وأنّه لا يتولّاه إلّا المنصوب من جانب الرّسول والأئمة (عليهم‌السلام) وإلى ذلك أشار أمير المؤمنين (عليه‌السلام) بقوله لشريح : «يا شريح قد جلست مجلساً لا يجلسه [ما جلسه] إلّا نبي أو وصيّ نبيّ أو شقيّ» (١).

وقال الصادق (عليه‌السلام) : «اتّقوا الحكومة ، فإنّ الحكومة إنمّا هي للإمام العالم بالقضاء ، العادل في المسلمين لنبيّ [كنبيّ] أو وصيّ نبيّ» (٢).

تقدّم قيامُ الدّليل على نفوذ قضاء الفقيه الجامع للشّرائط أو المجتهد الذي استنبط شيئاً معتدّاً به ، والكلام هنا في المقلِّد المحض الّذي لا يكونُ حكمه القضائي إلّا على طبق رأي مقلّده ـ بالفتح ـ ، فهل يجوز له التّصدّي أو لا؟ المشهور : عدم الجواز ، ويظهر ذلك من خلال تتبّع كلمات الفقهاء وهي كالتالي :

١ ـ قال الشيخ (قدس‌سره) : «القضاء لا ينعقد لأحد إلّا بثلاث شرائط : أن يكون من أهل العلم والعدالة والكمال ، وعند قوم بدل كونه عالماً أن يكون من أهل الاجتهاد ، ولا يكون عالماً حتّى يكون عارفاً بالكتاب والسنّة والإجماع والاختلاف ولسان العرب ، وعندهم والقياس» (٣).

٢ ـ وقال (رضي الله عنه) أيضا : «لا يجوز أن يتولّى القضاء إلّا من كان عارفاً (عالماً ـ خل ـ) بجميع ما ولى ولا يجوز أن يشذّ عنه شيء من ذلك ، ولا يجوز أن يقلِّد غيره ثمّ يقضي به ، وقال الشافعيّ : ينبغي أن يكون من أهل الاجتهاد ولا يكون عامّياً ، ولا يجب أن يكون عالماً بجميع ما وليه ، وقال في القديم مثل ما قلناه.

__________________

(١) الوسائل : ١٨ / ٧ ح ٢ ، الباب ٣ من أبواب صفات القاضي.

(٢) المصدر نفسه : ١٨ / ٧ ح ٣ ، الباب ٣ من أبواب صفات القاضي.

(٣) المبسوط : ٨ / ٩٩.

٣٩

وقال أبو حنيفة : «يجوز أن يكون جاهلاً بجميع ما وليه إذا كان ثقة ، ويستفتي الفقهاء ويحكم به ، ووافقنا في العامّي أنّه لا يجوز أن يفتي ...» (١).

٣ ـ وقال أبو الصّلاح : «[يعتبر] العلمُ بالحقّ في الحكم المردود إليه ، ـ ثمَّ قال : ـ واعتبرنا العلم بالحكم لما بيّناه من وقوف صحّة الحكم على العلم ، لكون الحاكم مخبراً بالحكم عن الله سبحانه وتعالى ونائباً في إلزامه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبح الأمرين من دون العلم ...» (٢).

٤ ـ وقال المحقّق (رضي الله عنه) : «وكذا لا ينعقد لغير العالم المستقلّ بأهليّة الفتوى ، ولا يكفيه فتوى العلماء ولا بدّ أن يكون عالماً بجميع ما وليه ...» (٣).

٥ ـ وقال في النافع : «ولا ينعقد إلّا لمن له أهليّة الفتوى ولا يكفيه فتوى العلماء ...» (٤).

٦ ـ وقال العلّامة في القواعد : «وفي حال الغيبة ينفذ قضاء الفقيه الجامع لشرائط الإفتاء» (٥).

٧ ـ وقال الشّهيد الثّاني في المسالك عند قول المحقق : «وكذا لا ينعقد لغير العالم» : «المراد بالعالم هنا ، المجتهد في الأحكام الشّرعيّة ، وعلى اشتراط ذلك في القاضي إجماع علمائنا ...» (٦).

٨ ـ وقال العاملي (رضي الله عنه) (مستدلاً على اشتراط اتّصاف القاضي ـ حال

__________________

(١) الخلاف : ٣ / ٣٠٩ ، المسألة ١ ، كتاب القضاء.

(٢) الكافي في الفقه لأبي الصلاح الحلبي : ٤٢١ و ٤٢٢.

(٣) الشرائع : ٤ / ٨٦٠.

(٤) المختصر النّافع : ٢٧٩ ، أوّل كتاب القضاء ، عند ذكر الصفات.

(٥) مفتاح الكرامة : ١٠ / ٣ ، قسم المتن.

(٦) مسالك الافهام : ٢ / ٣٥١ الطبعة الحجرية.

٤٠