الرسائل الأربع - ج ٣

عدّة من الأفاضل

الرسائل الأربع - ج ٣

المؤلف:

عدّة من الأفاضل


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣٢

الثاني : أنّ تطوّر العلوم الدينيّة كالأصول والفقه وما يتّصل بها من اللّغة والرّجال صار سبباً لاستكمال الفقاهة في المتأخرين ، فإنّهم واقفون على ما لدى المتقدّمين مضافاً إلى ما وصلوا إليه في ظلّ الجهد والمثابرة ، فلا عتب علينا إذا قلنا : إنّ الشيخ الأنصاري (قدّه) أقوى ملكة وأدقّ نظراً بالنّسبة إلى المتقدّمين من فقهائنا ، ولا يعني ذلك الحط من منزلة المتقدّمين ، فلا شكّ أنّ علومهم وأفكارهم كانت وسيلة وذريعة لارتقاء المتأخرين إلى تلك الدّرجة ، ولكن للمتأخّرين أيضاً جهد بليغ في طريق الفقاهة ، فلو قلنا بلزوم تقليد الأعلم لو كان ميّتاً يشكل الإرجاع إلى من تقدّم من الفقهاء وإن كانوا من أقطاب وأركان ودعائم المذهب الإماميّ.

الثالث : إنّ في إرجاع النّاس إلى الميّت توقيفاً لركب العلم عن التّكامل ، وفيه تضييق وتحديد للشريعة الغرّاء المستمرّة والممتدّة إلى يوم القيامة. ولا يشكّ أحد أنّ تكامل الفقه عند الشيعة رهن رجوع الناس إلى الأحياء من المجتهدين ، فإنّ ذلك صار سبباً إلى دراسة الفقه وممارسته عبر القرون ، فلو كفى العاميّ الرّجوع إلى العالم الميّت وفتاواه ، لما بذل العالم الحيّ الجهد في طريق استكشاف الحكم الشّرعيّ ، مضافاً إلى أنّ في عدم رجوع العوام إلى الميّت ، حفظاً للشريعة من الاندراس وطروء التصحيف والتحريف عليها.

وقد حكى شيخ الشريعة الأصفهاني من الأعلام كلاماً يعجبني نقله هنا ، قال : «إنّ عدم محاباة العلماء بعضهم لبعض من أعظم مزايا هذه الأُمّة التي أعظم الله بها عليهم النعمة ، حيث حفظهم عن وصمة محاباة أهل الكتابَيْن المؤدّية إلى تحريف ما فيهما واندراس تينك الملتين ، فلم يتركوا لقائل قولاً فيه أدنى دخل إلّا بيّنوه ، ولفاعل فعلاً فيه تحريف إلّا قوّموه ، حتى اتّضحت الآراء ، وانعدمت الأهواء ودامت الشريعة الواضحة البيضاء على امتلاء الآفاق بأضوائها ، وشفاء القلوب

١٨١

بها من أدوائها ، مأمونة من التحريف ، مصونة عن التّصحيف (١).

ولم نجد إلى الآن نصّاً تاريخيّاً يدلّ على رجوع الشيعة إلى الميّت من الفقهاء إلّا ما نقله النّجاشي في حقّ الحسن بن أبي عقيل حيث قال : «... له كتب في الفقه والكلام منها كتاب المتمسّك بحبل آل الرسول ، كتاب مشهور في الطّائفة ، وقيل : ما ورد الحاجّ من خراسان إلّا طلب واشترى منه نسخاً ...» (٢).

وعلى كلّ تقدير فقد نسبه النّجاشي إلى القيل (٣) معرباً عن عدم جزمه به.

* * *

__________________

(١) إبانة المختار في إرث الزّوجة : ١٠.

(٢) رجال النّجاشي ـ الطبعة المخطوطة : ٣٥ و ٣٦.

(٣) وفي نسخة «قلّما» بدل «قيل» هذا وفي الفهرست : «... كتاب المتمسّك بحبل آل الرّسول في الفقه وغيره كبير حسن ...».

فلعلّ طلب النّسخة أو شراءها كانا للاستفادة من الأبحاث الأُخرى غير الفقه ، وعلى كلّ حال لا دلالة في أنّ الطلب والشّراء لأجل العمل بفتاواه (قدس‌سره).

١٨٢

المسألة الخامسة : في البقاءِ على تقليد الميّت :

إنّ مسألة البقاء على تقليد الميّت والتي يعبّر عنها بالتقليد الاستمراريّ ، من المسائل المستحدثة في القرن الثالث عشر عصر صاحب الفصول والجواهر ، ولم تكن معنونة قبلهما في كتب القوم ، ومن هناك اختلفت كلمتهم ، فمن قائل بجواز البقاء مطلقاً إلى مانع كذلك ، ومفصّل بين ما إذا عمل بفتاواه وما إذا لم يعمل بها وغير ذلك من التفصيل ، وإليك دراسة القولين فنقول :

إنّ مقتضى الأصل الأوّليّ معلوم في المقام ، إنّما الكلام في مقتضى الأدلّة الاجتهاديّة ، ولا شكّ أنّ مقتضاها جواز البقاء لوجود المقتضي وعدم المانع.

أمّا الأوّل : فلوجود السيرة بين العقلاء حيث إنّهم لا يفرّقون في رجوع الجاهل إلى العالم فيما جهله ، بين كون العالم باقياً على حياته عند العمل بقوله وعدمه.

وأمّا الثاني : فلأنّ المانع من جواز التقليد كان اثنين :

١ ـ تضافر الإجماعات المنقولة على المنع ، الكاشفة عن وجود السيرة بين المتشرّعة على المنع في خصوص الأحكام إلّا أنّ القدر المتيقن هو تقليد الميّت ابتداءً لا استمراراً.

٢ ـ ذكرنا أنّه لو كان تقليد الميّت ابتداءً خالياً من المانع في عالم الثّبوت ، إلّا أنّه مقرون به في عالم الإثبات ، حيث يلزم من ذلك رجوع الشيعة طيلة قرن أو أزيد إلى الميّت وهو ممّا لا يلتزم به فقهاء الشيعة ، ولكن هذا المانع مفقود في التقليد

١٨٣

الاستمراريّ لأنّ الباقين على تقليد الميّت هم الّذين أدركوا حياته وهم بعض الشيعة. وأمّا البالغون بعد وفاته فواجبهم الرّجوع إلى الحيّ فلا تلزم المفسدة السابقة بل ولا المضاعفات التي تقدّم ذكرها.

أضف إلى ذلك أنّ الرّوايات الإرجاعيّة تعمّ المقام ، فإنّ من أرجعه الإمام (عليه‌السلام) إلى الأسديّ أو يونس بن عبد الرّحمن أو زكريّا بن آدم ، ما كان يشكّ في أنّه إذا أخذ معالم دينه عنهم ثمّ وافتهم المنيّة ، هل تبقى الحجيّة وتستمرّ بعد الوفاة أو لا؟ وليس للعاميّ ترك ما أخذ وتعلّم ، بمجرّد موتهم بحجّة أنّ تقليد الميّت استمراراً أيضاً غير جائز.

هذا هو الحقّ القراح في المقام.

ولكنّ المحقّق الخراساني (قدس‌سره) ب ـ دل أن يبحث عن المقتضي للجواز أو المانع عنه ، بحث عن الاستصحاب في المقام الّذي ربّما يتمسّك به ، وذهب إلى أنّ الاستصحاب في المقام غير واجد للشّرط أي كونه حكماً شرعيّاً أو موضوعاً لحكم شرعيّ ، وإليك نصّ كلامه :

«إنّ جواز التقليد إن كان بحكم العقل وقضيّة الفطرة فإنّه لا يقتضي أزيد من تنجّز ما أصابه من التّكليف والعذر فيما أخطأ ، وهو واضح ، وإن كان بالنّقل فكذلك ، على ما هو التّحقيق من أنّ قضيّة الحجيّة شرعاً ليس إلّا ذلك ، لا إنشاء أحكام شرعيّة على طبق مؤدّاها ، فلا مجال لاستصحاب ما قلّده ، لعدم القطع به سابقاً ، إلّا على ما تكلّفنا في بعض تنبيهات الاستصحاب ، ولا دليل على حجيّة رأيه السابق في اللّاحق. وأمّا بناءً على ما هو المعروف بينهم ، من كون قضيّة الحجيّة الشّرعيّة جعل مثل ما أدّت إليه من الأحكام الواقعيّة التّكليفيّة أو الوضعيّة شرعاً في الظّاهر ، فلاستصحاب ما قلّده من الأحكام وإن كان مجال ، بدعوى بقاء الموضوع عرفاً ، لأجل كون الرّأي عند أهل العرف من أسباب العروض لا من

١٨٤

مقوّمات المعروض ، إلّا أنّ الإنصاف عدم كون الدّعوى خالية عن الجزاف ، فإنّه من المحتمل ـ لو لا المقطوع ـ أنّ الأحكام التقليدية عندهم أيضاً ليست أحكاماً لموضوعاتها بقول مطلق ، بحيث عدّ من ارتفاع الحكم عندهم من موضوعه ، بسبب تبدّل الرأي ونحوه ، بل إنّما كانت أحكاماً لها بحسب رأيه ، بحيث عدّ من انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه عند التبدّل ، ومجرّد احتمال ذلك يكفي في عدم صحّة استصحابها ، لاعتبار إحراز بقاء الموضوع ولو عرفاً» (١).

يلاحظ عليه :

أنّه لا يعتبر في صحّة الاستصحاب ، سوى صحّة التعبّد بالبقاء شرعاً ، بحيث لا يعدّ أمراً لغواً ، فالتعبّد ببقاء قباب المساجد أمر لا يترتب عليه الأثر الشرعيّ ، فيكون لغواً ، وهذا بخلاف التعبّد ببقاء حجيّة رأي المفتي الرّاحل ، فإنّ جعل الحجيّة لقوله سواء كانت تأسيسيّة ـ على خلاف التحقيق ـ أو إمضائيّة كما هو الحقّ ، لم يكن أمراً لغواً من جانب الشّارع حدوثاً ، ولأجل تلك الغاية يصحّ التعبّد بالبقاء ، إذ لو لا صحّة تعبّده بالبقاء لما صحّ التعبّد بالحدوث أيضاً فما هذا التفريق إذاً؟

وبالجملة : ما هو المسوّغ للتعبّد حدوثاً هو نفسه المسوّغ للتعبّد بقاءً ، هذا

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٢ / ٤٧٨ و ٤٧٩ تحقيق مؤسّسة آل البيت (عليهم‌السلام) هذا وقيل : «حكي عن المحقّق القوچاني أنّ للعرف حيثيّتين يختلف بهما أنظارهم ، إحداهما : كونهم من أهل العرف مع قطع النظر عن تديّنهم بشريعة.

وثانيتهما : كونهم متديّنين بشريعة من الشّرائع السّماويّة.

وما أفيد من انتفاء الرّأي بالموت عرفاً إنّما بالنّظر إلى الحيثيّة الأُولى ، لا الحيثيّة الثانية ، فإنّهم ـ بعد أن أخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببقاء النّفس ـ قد فهموا بقاءها ، وهم يخطئون نظرهم الأوّل ويعتقدون بقاءها. وحينئذ يكون الرّأي المتقوّم بالنّفس مشكوك البقاء ، لأنّه إن كان مخالفاً للواقع فقد ارتفع بالموت وإن كان مطابقاً له فهو باق ، فيستصحب ويثبت المطلوب وهو جواز البقاء على تقليد الميت».

١٨٥

وليس الاستصحاب مبنيّاً على استتباع حجيّة فتوى المفتي في إنشاء أحكام مماثلة ظاهراً لفتاواه حتى يترتّب عليه ما فصّله (قدس‌سره) فإنّ القول بالاستتباع رأي عازب أو قول كاذب ، بل ملاكه هو استصحاب نفس الحجيّة الممضاة التي يترتّب عليها شرعاً عند الإبقاء ما كان يترتّب عليها حدوثاً ، وما قيل في الاستصحاب من اعتبار كون المستصحب حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعيّ ، ليس أمراً جامعاً بل الملاك الجامع هو عدم كون التعبّد به أمراً لغواً في عالم التشريع ، فإذا لم يكن التعبّد بالحدوث لأجل وجود الغاية أمراً لغواً ، فهكذا الابقاء.

فإن قلت : أنّ الأثر المترتّب عليه هو جواز الرّجوع عرفاً في أخذ الأحكام وما أشبهه وراء مسألتي التنجيز والتعذير.

قلت : نعم ، ولكن لا حاجة في شمول أدلّة الاستصحاب له إلى لحاظه ، بل يكفي كون الحجيّة أمراً مجعولاً له ولو بالإمضاء.

جواب آخر لسيّدنا الأُستاذ (رضي الله عنه):

ثمّ إنّ لسيّدنا الأُستاذ جواباً آخر يدفع الإشكال في بعض الصور دون البعض حيث قال (رضي الله عنه) : «إنّ الحاجة إلى الاستصحاب في الحكم بجواز البقاء ، إنّما هو فيما إذا كانت فتوى الميّت مخالفة للحيّ الّذي يفتي بجواز البقاء إذ لو كانا متوافقي الفتوى وكانت عامّة فتاواه موافقة لرأي المجتهد الحيّ ، لكان له إرجاع العاميّ إلى الميّت من دون حاجة إلى الاستصحاب ، لقيام الحجّة عنده على صحّة هذه الفتاوى ، وليست الغاية إلّا الوصول إلى هذه الأحكام من دون دخالة التّقليد والأخذ بالرّأي.

فلو أدرك مكلّف في زمان بلوغه مجتهدين متساويين في العلم مختلفين في الفتوى ، فقد تسالم الأصحاب على كونه مخيراً في الأخذ بواحد منهما لدليل شرعيّ

١٨٦

دالّ على التخيير الشّرعيّ واصل إليهم وإن لم يصل إلينا ، أو لأجل السيرة المستمرّة إلى زمن الأئمّة (عليهم‌السلام) ، فإذا مات أحد المجتهدين يستصحب هذا الحكم التخييريّ» (١).

يلاحظ عليه : ـ مضافاً إلى أنّ التّخيير عقليّ لا شرعيّ ، اللهمّ إلّا بالإمضاء ـ أنّ ما أفاده مختص بما إذا أدرك مجتهدين متساويين ، وهو مع كونه أمراً نادراً ، لا ينفع في غير حقّ غير المدرك إلّا بعدم القول بالفصل وهو كما ترى.

فالحقّ أنّه لا حاجة إلى الاستصحاب في إثبات جواز البقاء ، بل يكفي الدّليل الاجتهاديّ خصوصاً الرّوايات الإرجاعيّة فإنّ الإمام (عليه‌السلام) أرجع عليّ بن المسيّب إلى زكريّا بن آدم ولم يكن في خلده أو خلد أيّ عاقل معاصر معه من أنّ جواز العمل بما أخذه كان مختصّاً بحال الحياة ، إذ لو كان مقيّداً بحياته لكان للإمام (عليه‌السلام) أن ينبّه على ذلك في رواية ، خصوصاً أنّ السّائل يصير منقطعاً عن الإمام (عليه‌السلام) بعد السّؤال.

اشتراط التعلّم في جواز البقاء :

إنّ جواز البقاء هل يشترط فيه العمل بما تعلّمه وأخذه ، أو يكفي فيه التعلّم وإن لم يعمل؟

لقد بنى بعضهم الخلاف على تفسير التقليد ومعناه ، فمن فسّره بالاستناد إلى قول الغير في مقام العمل فلا بدّ من اشتراط العمل في الحكم بجواز البقاء ، فمع عدم العمل بفتواه حال الحياة كان من التّقليد الابتدائيّ. ومن فسّر التقليد بالأخذ أو الالتزام بالعمل بفتوى المفتي ، كفى في الحكم بجواز البقاء مجرّد الأخذ أو الالتزام حال الحياة ، هذا.

__________________

(١) تهذيب الأُصول : ٢ / ٥٧٨.

١٨٧

والحقّ أنّ المسألة غير مبنيّة على تحقيق معنى التقليد (١) ، بل هي مبنيّة على سعة وضيق الدّليل القائم على جواز البقاء على التقليد ، ولا محيص للفقيه عن دراسة الأدلّة فنقول :

إذا كان المستند لتجويز البقاء على تقليد الميّت هو الاستصحاب ، كفى في ذلك وجود التَّعاصر ، وكون المقلِّد بالغاً حال حياة المجتهد الرّاحل ، ففتواه كانت حجّة والأصل بقاؤها على الحجيّة. وبما أنّه أشبه بتقليد الميّت ابتداءً فمن المحتمل قويّاً شمول معقد الإجماعات المنقولة لهذا القسم من البقاء ، ومنه يظهر حال ما لو كان المستند هو السيرة العقلائيّة ، فإنّ التمسّك بها على سعتها ، يوجب إلحاق بعض أقسام البقاء بالتّقليد الابتدائيّ ، فلا محيص عن التنزّل عن هذه السّعة إلى دائرة أضيق فنقول :

١ ـ كفاية الالتزام بالعمل بفتاواه في جواز البقاء.

٢ ـ لزوم الأخذ والتعلّم والذّكر لفتاواه ، فيجوز البقاء فيما تعلّم وكان ذاكراً له.

٣ ـ اشتراط الاستناد في مقام العمل إلى فتواه فيجوز البقاء في ما عمل به.

والتّحقيق عدم اشتراط الثالث ، وذلك أنّ مقتضى الرّوايات الإرجاعيّة حجيّة فتوى المفتي على المقلّد وإن لم يعمل بها حال حياة المفتي. كما أنّ مقتضى السيرة العقلائية الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم فيما جهله ، عدم الفرق بين كون العالم باقياً على الحياة عند العمل بقوله وعدمه. ولم يكن يدور في خلد أحد ممّن أرجعهم الإمام (عليه‌السلام) إليهم أنّ العمل بما أخذ وتعلّم حال حياة المفتي ، شرط في جواز البقاء بعد رحيله.

فيدور الأمر بين شرطيّة الأخذ والتعلّم مع الذّكر في جواز البقاء ، وبين كفاية مجرّد الالتزام بالعمل بفتاواه كما التزم به السيّد الطباطبائي (قدس‌سره) في العروة ، ولكن

__________________

(١) تقدّم ما يفيد في المقام عند البحث عن معنى التّقليد اصطلاحاً فراجع.

١٨٨

لا شبهة في عدم صدق الرّجوع إلى الميّت ابتداءً فيما لو تعلّم خصوصاً إذا كان ذاكراً له ، بل هو رجوع إلى ما تعلّمه في حال حياة المفتي ، بخلاف ما إذا لم يتعلّم واقتصر على مجرّد الالتزام ، فإنّ الرّجوع إلى الميّت أشبه بالتّقليد الابتدائي وقد تقدم عدم جوازه.

وعليه فالأحوط ـ إن لم يكن أقوى ـ البقاء في خصوص ما تعلّم إذا كان ذاكراً له (١).

هذا تحقيق المسألة على وجه كليّ فيما إذا كانت فتوى الحيّ مخالفة لفتوى الميّت ، وإلّا فلا شكّ في جواز البقاء إذ لا خصوصيّة للشّخص وإنّما المهمّ هو العمل بالطريق والمفروض وحدته فيهما لتوافقهما في الفتوى.

ثمّ إنّ البقاء ـ فيما إذا كانت هناك مخالفة ـ تارة يكون واجباً ، وأُخرى غير جائز وثالثة جائزاً.

أمّا الأوّل ففيما إذا كان الميّت أعلم من الحيّ المجوّز للبقاء ، فلو أحرز المقلّد أعلميّة الميّت وجب البقاء على تقليده بإجازة الحيّ.

وأمّا الثّاني ففيما إذا انعكس الأمر كما هو واضح.

وأمّا الثالث ففيما إذا كانا متساويين أو كان الميّت أعلم ، لكن كانت فتوى الحيّ غير الأعلم مطابقة للاحتياط.

ثمّ إنّ الحكم بالتّخيير فيما إذا كانا متساويين ، إمّا لأجل الإجماع على التّخيير كما ادّعاه الشّيخ الأنصاريّ (رضي الله عنه) وتبعه سيّدنا الأُستاذ (٢) وإن كان مورد تأمّل لكون المسألة من المسائل المستحدثة ، وإمّا لأجل أنّ الوظيفة عندئذ هي العمل

__________________

(١) لعلّه مع النّسيان يكون تقليداً ابتدائيّاً من الميّت.

(٢) قال الإمام الخميني (قدّه): «... وهذا حكم مسلّم بين الفقهاء وأرسلوه إرسال المسلّمات من غير احتمال إشكال فيه ، مع أنّه خلاف القاعدة فإنّها تقتضي تساقطهما ، فالحكم بالتخيير بنحو التسلّم في هذا المورد المخالف للقاعدة لا يكون إلّا بدليل شرعيّ وصل إليهم أو للسيرة المستمرّة إلى زمن الأئمة (عليهم‌السلام) كما ليست ببعيدة ...» (الرّسائل ـ رسالة الاجتهاد والتّقليد : ١٥٧).

١٨٩

بالاحتياط ، لأنّ الاشتغال اليقينيّ يستدعي الامتثال اليقينيّ وهو حاصل بالجمع بين الفتويين ، لكن لمّا كان الامتثال اليقينيّ بالاحتياط أمراً متعسّراً على المكلّفين غالباً ، تصل النّوبة حينئذ إلى الامتثال الاحتماليّ وهو الأخذ بآراء أحد المجتهدين المتساويين ، وعليه فالنتيجة متّحدة ، غير أنّ الطريق عندنا غير الطريق عند الشيخ (قدس‌سره) ومن تبعه.

فروع :

الأوّل : إذا قلّد من لا يجوّز البقاء على تقليد الميّت ، ومات فقلّد من يجوّزه ، هل له البقاء على تقليد الأوّل أو لا؟

الجواب : نعم له البقاء عليه في المسائل غير مسألة عدم جواز البقاء على تقليد الميّت ، لأنّ البقاء في سائر المسائل لا يجتمع مع البقاء في خصوص تلك المسألة ، لأنّ لازم شمول البقاء لسائر المسائل هو جواز العمل بفتوى الميّت ـ ومع ذلك ـ لو شمل جواز البقاء في نفس تلك المسألة كان معناه عدم جواز البقاء في تلك المسائل ، وما يلزم من فرض وجوده (جواز البقاء) عدمه ، لغو في عالم الاعتبار ومحال في عالم التّكوين ، وشموله لخصوص تلك المسألة دون سائر المسائل وإن كان أمراً ممكناً رافعاً للمحذور لكنّه لا يترتّب عليه حينئذ أثر عمليّ سوى عدم البقاء.

ولك أن تقول : إنّ فتوى الحيّ بجواز البقاء على تقليد الميّت لا تشمل خصوص نظر الميّت في تلك المسألة ، لأنّه لا يخلو إمّا أن يكون البقاء جائزاً واقعاً أو غير جائز ، فعلى الأوّل لا يصحّ الرّجوع إلى الميّت في تلك المسألة لكون فتواه مخالفةً للواقع ، وعلى الثاني لا يجوز الرّجوع إلى الحيّ فيها ، لأنّه يجوّزه والواقع على خلافه.

١٩٠

الثاني : إذا بقي على تقليد الميّت من دون أن يقلّد الحي في مسألة البقاء ، فما حكم أعماله الصادرة منه؟

الجواب : إنّ حكمه حكم من كانت وظيفته تقليد الأعلم فقلّد غيره ، أو كان واجبه التقليد فلم يقلّد أصلاً ، وكان قد أتى بأعمال عباديّة وغيرها وتمشّى قصد القربة منه في العبادات ، فليس له الاجتزاء بعمله حتى تستكشف صحّته بالرّجوع إلى نظر المجتهد الحيّ وهذا هو المراد من قولهم : عمل العاميّ بلا تقليد ولا احتياط باطل ، ولا يرادُ منه البطلان بمعنى الحكم بالإعادة أو القضاء فعلاً ، بل ينتظر حتى يستبين الحال ، فإن كان عمله مطابقاً لفتوى الحيّ حكم بالصحّة وإلّا فبالبطلان.

نعم ، في المورد : أي إذا قلّد مجتهداً فمات واستمرّ في مقام العمل على طبق فتاواه من دون تقليد الحيّ في مسألة البقاء ، ثمّ قلّده وكان ممّن يجوز البقاء ـ مع فرض المخالفة بينهما في الفتوى ـ يمكن أن يقال بالصحة أيضاً لأنّ المفروض أنّ الحجّة الفعلية هي البقاء حين العمل وإن لم يكن المقلّد ملتفتاً إلى ذلك حينه. فعمله كان مطابقاً لفتوى الحيّ بواسطة تجويز البقاء على تقليد الميّت ولو مع فرض المخالفة بين الميّت والحيّ في الفتوى.

الثالث : إذا لم يجوّز المجتهد الحيّ البقاء على تقليد الميّت ، لا يجوز له البقاء على تقليده سواء أكان الميّت مجوّزاً للبقاء أم لا ، حيث إنّ مسألة البقاء نظريّة اجتهاديّة ، فليس له الاكتفاء بفتوى الميّت إلّا بالحجّة وبما أنّه عاميّ انحصرت الحجّة في المجتهد الحيّ.

* * *

١٩١

المسألة السادسة : العدول من تقليد مجتهد إلى آخر :

إذا عدل من الميّت إلى الحيّ ، فهل له العدول منه إلى الميّت أو لا؟

قال السيّد الطباطبائيّ (قدس‌سره) في العروة الوثقى بعدم الجواز مطلقاً ولم يفصّل (١).

ولعلّه لأجل عدم المجوّز للرّجوع إلى الميّت بعنوان البقاء على التقليد ، وذلك لأنّ التقليد عنده هو الالتزام وقد زال بالرّجوع إلى الحيّ ، فليس له تقليده حتّى يقال بالبقاء عليه.

يلاحظ عليه : بما ذكرناه مراراً من أنّ عنوان التقليد مطلقاً ليس موضوعاً لحكم شرعيّ فليس صدق عنوان البقاء متوقّفاً على تحقيق معنى التقليد ومفهومه ، حتى يقال بزوال التقليد بعد العدول. فلا أساس حتى يبنى عليه فاللازم ملاحظة الأدلّة في المقام فنقول :

إنّ البحث فيما إذا كان مسوّغ البقاء موجوداً وهو كونه متعلّماً لفتاواه وذاكراً لها ، وإلّا فلا مسوّغ للبقاء ، والرّجوع إليه بعد العدول من قبيل الرّجوع إلى الميّت ابتداءً وهو واضح جدّاً ، لا حاجة للبحث عنه وعليه تكون الصور ثلاثة :

الأُولى : إمّا أن يكون الحيّ أعلم من الميت.

الثانية : إمّا أن يكون الميّت أعلم من الحيّ.

الثالثة : إمّا أن يكونا متساويين.

__________________

(١) قال (رضي الله عنه) في المسألة ١٠ : «إذا عدل عن الميت إلى الحيّ ، لا يجوز له العود إلى الميّت».

١٩٢

فعلى الأُولى : لا مسوّغ للعدول إلى الميّت لوجوب تقليد الأعلم.

وعلى الثانية : لم يكن تقليد الحيّ غير الأعلم صحيحاً ، وكانت الوظيفة هي البقاء في الفتاوى التي يتذكّرها ، فيجب عليه الرّجوع إلى الميّت.

وعلى الثالثة : لقد كان مخيّراً بين المجتهدين ، وبما أنّه متذكّر لفتاوى الميّت لا يعدُّ الرّجوع إليه رجوعاً إلى الميت ابتداءً ، فلا مانع منه (١). واختلاف أعماله ـ في فترة عدوله إلى الحيّ وقبل رجوعه إلى الميّت ـ غير مضرّ ، لأنّه قام بها عن دليل وحجّة شرعيّة ، كما لو قلّد مجتهداً فمات ، فقلّد آخر ـ مع اختلافهما في الفتوى ـ فأعماله السابقة صحيحة لصدورها عن حجّة ، وسيوافيك البيان في مبحث العدول.

العدول من الحيِّ إلى الحيِّ :

هل يجوز العدول من الحيّ إلى الحي مطلقاً ، أو لا يجوز كذلك أو فيه التفصيل بين كون الثاني أعلم وعدمه ، ومحلّ الكلام فيما إذا كان بين المجتهدين اختلاف في الفتوى ، وأمّا صورة المسألة فثلاث :

الأُولى : أن يكون الأوّل أعلم من الثاني.

الثانية : أن يكون الأمر على العكس.

الثالثة : أن يكونا متساويين.

أمّا على الأُولى : فلا يجوز العدول ، لما تقدّم من عدم جواز تقليد المفضول مع وجود الفاضل.

أمّا على الثانية : فيجب الرّجوع إلى الثاني ، وليس وجهه إلّا سيرة العقلاء

__________________

(١) على القول بأنّ التّخيير بين المتساويين استمراريّ ، وأمّا على القول بأنّه بدويّ فلا ، وسيوافيك بيان الحال في الصورة الأخيرة من أحكام العدول.

١٩٣

الجارية على الرّجوع إلى الفاضل في مهامّ الأُمور ، وهي دليل اجتهاديّ متقدّم على الأصل موافقاً كان أو مخالفاً.

وربّما يستدلّ بالأصل العقليّ أي دوران الأمر بين التعيين والتّخيير لأنّ حجيّة فتوى الأعلم قطعيّة وحجيّة غير الأعلم مشكوكة ، فلا يخرج عن العهدة إلّا بالأخذ بما تكون البراءة معه قطعيّة.

يلاحظ عليه : أنّ الأصل محكوم بالأصل الشرعيّ وهو أصالة بقاء حجيّة فتوى من كان على تقليده والأصل العقليّ إنّما يحتجّ به مع عدم ورود بيان من الشّارع.

وأمّا الثالثة : أي : إذا كانا متساويين مع العلم بالخلاف ، فهل يجوز العدول من أحدهما إلى الآخر أو لا؟

استدلَّ للجواز بوجوه :

الأوّل : التمسّك بإطلاق دليل حجيّة الفتوى ، حيث إنّ حجيّة كلّ منهما غير مشروطة بعدم الأخذ بالآخر.

يلاحظ عليه : أنّ دليل الحجيّة في كلّ مقام لا يشمل صورة التعارض ، لأنّ معناه جعل الحجيّة لكلّ من المتعارضين وهو كما ترى.

الثاني : الإجماع على التّخيير.

يلاحظ عليه : أنّ الإجماع على فرض ثبوته دليل لبيّ يقتصر فيه على القدر المتيقّن وهو التّخيير الابتدائي لا الاستمراريّ.

الثالث : استصحاب التّخيير الثّابت بالإجماع ، لأنّ المكلّف قبل الأخذ بأحدهما كان مخيّراً بين أحدهما بالإجماع ، فيشكّ في بقائه ، ولكون الإجماع دليلاً لبيّاً غير قابل للاحتجاج به بعد الأخذ ، فيتمسّك بالاستصحاب كما هو شأن كلّ مقام يكون الدّليل الاجتهاديّ (اللبيّ) قاصراً ، فيثبت الحكم الشرعي في الحال اللّاحقة بالاستصحاب.

١٩٤

يلاحظ عليه : أنّ التخيير على فرض ثبوته مجهول الموضوع فهو مردّد بين كونه باقياً قطعاً ومرتفعاً كذلك. فلو كان الموضوع من تعارض عنده الفتويان فهو باق قطعاً ، ولو كان من لم تقم عنده الحجّة ، فهو مرتفع قطعاً ، والعلم ببقاء الموضوع من شرائط جريان الاستصحاب. ثمّ إنّه ربّما يعترض على استصحاب الحجيّة التخييريّة بأمرين :

الأوّل : إنّه من الاستصحاب التعليقي المعارض بالاستصحاب التنجيزيّ ، فلا مرجع إلّا الأصل العقليّ وهو أصالة التعيين عند التردّد في الحجيّة بين التعيين والتخيير (١).

الثاني : إنّ الفتوى الثانية ـ بعد ما اتّصفت الفتوى الأُولى بالحجيّة الفعليّة من جهة أخذ المكلّف بها ـ لا يعقل اتّصافها بالحجيّة التّخييريّة حدوثاً ، كما لا يعقل بقاؤها عليها ، سواء أكان المستصحب حجيّة الفتوى المأخوذ بها سابقاً أم كان هو الحكم الفرعي الذي أدّت إليه الفتوى المأخوذ بها ، بل ذلك في الحكم الفرعيّ أوضح ، لأنّه حكم تعيينيّ منجّز على المكلّف بأخذه الفتوى المؤدّية إليه ، فإنّ التخيير إنّما هو في الحجيّة والمسألة الأُصوليّة ، دون الحكم الفرعيّ لتعينه بالأخذ بما أدّت إليه ، إذاً كان استصحاب الحجيّة الفعليّة أو الحكم الفرعيّ المتنجّز معارضاً لاستصحاب الحجيّة التّخييريّة الثّابتة على الفتوى الثّانية (٢).

يلاحظ عليه : أنّ مفاد الحجيّة التّخييريّة هو كون كلّ من الفتويين صالحاً للاحتجاج وهو حكم تنجيزيّ دلّ عليه الإجماع. والمستصحب هو ذاك الحكم التّنجيزيّ أي أصالة بقاء كلّ على الصّلاحيّة ، وليست حجيّة الفتوى مشروطة بالأخذ حتى تكون تعليقيّة.

وبذلك يظهر ما في الإيراد الثّاني من معارضة الاستصحابين ، فإنّ كون

__________________

(١) مستمسك العروة للسيّد الحكيم (رضي الله عنه) : ١ / ٢٥.

(٢) التنقيح على شرح العروة للسيّد الخوئي (رضي الله عنه) : ١ / ١٢٦.

١٩٥

الفتوى الأُولى حجّة فعليّة ، ليس بمعنى نفي الحجيّة عن الأُخرى ، بل كلاهما حجّة فعليّة بمعنى أنّ العمل بكلّ منهما مؤمّن من العقاب وصالح للاحتجاج (١) ، نعم يلزم التّعارض لو قلنا بأنّ جعل الحجيّة لكلّ واحد من الفتويين يلازم جعل حكم مماثل فيلزم جعل حكمين مماثلين متضادَّين ، وهذا النَّوع من التعارض ـ على فرض صحّته ـ راجع إلى باب إمكان التعبّد بالامارات ، ولا صلة له بالمقام.

إلى هنا تبيّن أنّه ليس للقائل بالجواز دليل رصين ، وإليك دراسة قول القائل بالمنع.

استدلّ : بأنّ عدم الجواز هو مقتضى الأصل العقليّ المتقدّم (عند الدّوران بين التّعيين والتّخيير) للشكّ في حجيّة فتوى من يريد العدول إليه ، والعلم بحجيّة فتوى من يريد العدول عنه ، وفي مثله يبنى على عدم حجيّة مشكوك الحجيّة (٢).

يلاحظ عليه : أنّه لا تصل النّوبة إلى الأوّل (الأصل العقليّ) إلّا بعد اليأس عن تحصيل الدّليل ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر ليس للرّأي خصوصيّة إلّا كونه طريقاً وكاشفاً عن الواقع ، وهو مشترك بينهما ، فالفتوى الأولى والثّانية سيّان في الحجيّة والكاشفيّة.

إذا علمت هذا ، فإنّ مقتضى القاعدة هي سقوط الفتويين عن الحجيّة والرّجوع إلى الاحتياط ، ولكن لمّا كان الاحتياط أمراً متعسّراً لتوقّفه على العلم بالفتاوى وكيفيّة الاحتياط كفى الامتثال الاحتماليّ وهو العمل بإحداهما ، وكونه بحكم العقل فهو مستقلّ بالتخيير في كلتا الحالتين ، فالأقوى جواز العدول في المتساويين بشرط أنّ لا يؤدّي وينتهي العدول إلى اللّعب بالتّقليد وإنّ كان الأحوط عدم العدول والله العالم.

__________________

(١) قال السيد الخوئيّ (رضي الله عنه) «فيما إذا كان المستصحب حجيّة الفتوى المختارة : ـ لا معنى لجعل الطريقيّة للجامع ولا لأحدهما المبهم ، بل الطريق كلّ واحد منهما بشرط اختيار المكلَّف له. فإذا اختار أحدهما يكون هو الحجة الفعلية في حقّه ويتنجز عليه الحكم الذي يؤدي إليه المختار ...» دروس في فقه الشيعة ـ ج ١ الاجتهاد والتقليد : ص ٦٦ ـ ٦٧.

(٢) مستمسك العروة : ١ / ٢٥.

١٩٦

إذا قلَّد من يقول بحرمة العدول حتّى إلى الأعلم :

إذا قلّد من يقول بحرمة العدول حتّى إلى الأعلم ، ثمّ اطّلع على مجتهد أعلم من الأوّل فما هي وظيفته؟

إنّ وظيفته هي الرّجوع إلى الأعلم وذلك ببيانين ، وموضع البحث فيما إذا كانت بينهما مخالفة :

الأوّل : إنّ المقلّد بعد الاطّلاع على الأعلم يشكّ في حجيّة فتوى الأوّل القائل بحرمة العدول حتّى إلى الأعلم. فيجب عليه رفع الشكّ وذلك بأحد أُمور ثلاثة :

الأوّل : الرّجوع إلى المجتهد الأوّل في ذلك الأمر وهو غير مثمر لاستلزامه الدّور الواضح.

الثّاني : الرّجوع إلى الإطلاقات من آية النّفر والسّؤال والرّوايات الإرجاعية العامّة أو الخاصة ، لكنّك عرفت عدم شمولها لصورة التّعارض.

الثالث : استصحاب التّخيير ، ولكنّه فرع وجود حالة سابقة له ، متيقّنة الحجيّة مشكوكة لاحقاً والفرض أنّه قلّد غير الأعلم مع عدم الاطّلاع على الأعلم وعلى المخالفة ثمّ وقف عليهما ، ومعه كيف يكون محكوماً بالتّخيير ، ويبقى على تقليد الأوّل؟ فلا محيص عن الرّجوع إلى الأعلم.

الثاني : أمّا البيان الثّاني فإنّك قد عرفت أنّه يجب الرّجوع إلى الأعلم عند العلم بالمخالفة ، فإذا اطّلع على الأعلم وعلى المخالفة وجب الرّجوع إليه.

* * *

١٩٧

إذا كان هناك مجتهدان متساويان في العلم كان للمكلّف تقليد أيّهما شاء ، أمّا في صورة الاتّفاق فواضح ، وأمّا في صورة الاختلاف في الفتوى ، فالمستند للتّخيير إمّا هو الإجماع الّذي ادّعاه الشيخ الأنصاريّ (رضي الله عنه) ، أو ما ذكرناه من أنّ المرجع بعد التّساقط هو الاحتياط ، وبما أنّه متعسّر فلا مناص عن التنزّل من الامتثال القطعيّ إلى الاحتماليّ وهو تقليد أحدهما كما عرفت.

إنّما الكلام في تبعيض التّقليد ، فإن أُريد منه التّبعيض حسب الأبواب ، كأن يقلّد في مجال العبادات شخصاً وفي مجال المعاملات آخر فلا مانع من ذلك.

وإن أُريد منه التبعيض في عمل واحد أي في أجزائه وشرائطه ، فإنّما يجوز إذا لم ينته إلى مخالفة كلا المجتهدَيْن بحيث يصير العمل الواحد باطلاً في نظرهما معاً وإن كان قد أخذ برأيهما.

فلو افترضنا أنّ أحدهما يقول بعدم وجوب السّورة وبوجوب التّسبيحات الأربع ثلاثاً ، والآخر يقول بوجوب السّورة واستحباب التّسبيحات الأربع ثلاثاً ، فصلّى المكلّف بلا سورة وبدون تثليث التسبيحات ، فهو وإن رجع في كلّ مورد إلى الحجّة ، لكن المجموع من حيث هو باطل عندهما (١) ، وإن كان سبب الحكم بالبطلان مختلفاً كما هو معلوم. وعليه يجوز العدول بشرط أن لا ينتهي إلى المخالفة القطعيّة العمليّة في واقعة واحدة.

* * *

__________________

(١) لا محالة يشكّ المكلّف حينئذ في صحة صلاته وفسادها فلا بدّ من إحراز صحّتها والاستناد في عدم إعادتها إلى الحجّة المعتبرة ، لأنّ مقتضى قاعدة الاشتغال لزوم الإعادة وبقاء اشتغال الذمة بالمأمور به.

١٩٨

المسألة السابعة : في عدول المجتهد عن رأيه :

أو تبدّل الاجتهاد :

عدول المجتهد عن رأيه تارة يقع موضوعاً لحكم فقهيّ ، وأُخرى لحكم أصولي ، والأوّل : كما إذا تبدّل رأي المجتهد إلى رأي آخر؟ فهل يجوز البقاء على الرّأي الأوّل أو يجب العدول إلى الرّأي الثّاني؟

ومثله ما إذا تبدّل إلى التوقف والاحتياط ، فهل يؤخذ بالأوّل أو يجب العمل بالاحتياط أو الرّجوع إلى مجتهد آخر؟ والحكم في هذه الموارد واضح ، إذ لا معنى للتمسّك بالرّأي الأوّل بعد زواله فلا محيص عن الأخذ بالرّأي الثاني في الصورة الأُولى والاحتياط أو الرّجوع إلى مجتهد آخر في الصورة الثّانية.

وأمّا الثاني : أي موضوعاً لحكم أُصوليّ ، فلو تبدّل رأيه إلى آخر فهل يحكم بصحّة أعماله السّابقة وأعمال مقلّديه مطلقاً ، أو لا كذلك ، أو يفصّل بين ما إذا كان مستند حكمه الامارات فالإعادة أو الأُصول فلا؟

حكى سيّد مشايخنا المحقّق البروجرديّ (قدس‌سره) ذهاب القدماء إلى الإجزاء مطلقاً ، واختار هو (أُستاذنا المحقق البروجرديّ) التّفصيل وتبعه السيّد الأُستاذ ـ قدّه ـ (١) ، والحقّ هو ما نسب إلى القدماء ، ولا يعلم وجهه إلّا بعد تحليل دليل القائل بعدم الإجزاء في الامارات ، وحاصله : أنّ الامارات طريق كاشف عن الواقع كما عليه السّيرة العقلائيّة الجارية على العمل بالامارات ، والشارع أمضى

__________________

(١) التفصيل عند الإمام الخميني (قدس‌سره) في خصوص المجتهد واختار عدم الإجزاء مطلقاً بالنسبة للمقلِّدين. (تهذيب الأُصول : ٢ / ٥٩٤).

١٩٩

هذه السيرة لأجل هذه الخصيصة ، فالمدار عند الشارع والمطلوب هو إدراك الواقع. ومن المعلوم أنّ الأمر بالعمل على طبق مؤدّى الامارات لا يقلب الواقع إلى طبق مؤدّاها ، وعليه فالواقع باق بحاله ، فمع انكشاف بطلان الامارة السابقة وعدم كونها طريقاً إلى الواقع ، لم يسقط التكليف إلّا بالإعادة أو القضاء.

يلاحظ عليه : أنّا لا ننكر شيئاً ممّا ذكر من الأمور من أنّ حجيّة الامارات لكونها طرقاً إلى الواقع ، وأنّ الشارع أمضاها لكونها كذلك ، وأنّ الامارات لا تقلب الواقع إلى مجاريها ، وكلّ ذلك ينتج عن أنّ المطلوب الأوّلي عند الشّارع إدراك الواقع ، إلّا أنّ في المقام نكتة وهي أنّ الأمر بالعمل بالامارة في مقام استكشاف كيفيّة العمل الّذي أمر به المولى يلازم عرفاً ـ كما تقدم ـ رضى المولى في الإتيان على طبق مؤدّى الامارة على حدّ كاشفيّتها ، فالشّارع اكتفى في دائرة المولويّة والعبوديّة فيما يرجع إلى مقاصده ومراميه بما تؤدّيه الامارة وإن بان الخلاف ، فرفَعَ يده عن مقاصده وإدراك الواقع المحبوب تسهيلاً على العباد.

فلو أمر المولى عبده بصنع دواء أو غذاء ، وأمر بالرّجوع في صنعهما إلى صيدليّ وطبّاخ معيّنين ، فرجع العبد إليهما وقام بالواجب ثمّ بان الخطأ ، كان العبد معذوراً لأدائه الوظيفة المطلوبة منه ، والحكم بالإعادة يحتاج إلى أمر جديد وبذلك تقف على أنّ تبدّل الرّأي لا يؤثّر في صحّة الأعمال السّابقة (للمجتهد والمقلِّد) ، لتحقّق الامتثال بالوظيفة المطلوبة حسب توجيه المولى وإرشاده.

وأمّا الإجزاء في مورد الأصول فقد تقدّم الكلام فيه عند البحث عن الإجزاء ولا نعيد.

٢٠٠