الرسائل الأربع - ج ٣

عدّة من الأفاضل

الرسائل الأربع - ج ٣

المؤلف:

عدّة من الأفاضل


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣٢

المؤمنين (عليه‌السلام) قال : «... كلّ فريضة لم يهبطها الله عن فريضة إلّا إلى فريضة فهذا ما قدّم الله ، وأمّا ما أخّر فلكلّ فريضة إذا زالت عن فرضها لم يبق لها إلّا ما بقي ، فتلك التي أخّر ... فأمّا الّذي قدّم فالزّوج له النّصف ، فإذا دخل عليه ما يزيله عنه رجع إلى الرّبع ، لا يزيله عنه شيء ، ... وأمّا التي أخّر ففريضة البنات والأخوات ، لها النّصف والثّلثان ، فإذا أزالتهنّ الفرائض عن ذلك لم يكن لهنّ إلّا ما بقي ، فتلك التي أخّر ...» (١).

وتتركّز قوّة الملكة وشدّتها على أمرين :

١ ـ الذّكاء المتوقّد والفهم القويم.

٢ ـ كثرة الممارسة والتمرين ، بحيث يصير الفقه مخالطاً لفكره وذهنه وروحه ودمه.

وحينئذ يكون أقوى استنباطاً وأدقّ نظراً في استنباط الأحكام من مبادئها وأعرف بالكبريات وكيفيّة تطبيقها على الصّغريات بجودة ذهنه وحسن سليقته ، وعليه يصحّ كلام المحقّق الأصفهانيّ من أنّ نسبة الأعلم إلى غيره في هذه الخصوصيّات كنسبة العالم إلى الجاهل.

وما ربّما يقال من أنّ تشخيص الأدقّ نظراً والأمتن استنباطاً الذي يرجع إليه عنوان الأعلم ، من الأُمور الصّعبة ، فكيف يكون العاميّ ملزماً بتقليد ما ليس في إمكانه ، غير تامّ ، إذ ليس تشخيص ذاك بأسهل من تشخيص أصل الاجتهاد ، فإنّ لكلّ علم وفنّ رجالاً حاذقين يعرفون مراتب الرّجال ومواهبهم وصلاحيّاتهم ، كما أنّ للقصعة والثريد رجالاً ، وقد قيل : «من دقّ باباً ولجّ ولج».

* * *

__________________

(١) الوسائل ١٧ / ٤٢٧ ح ٦ ، الباب ٧ من أبواب موجبات الإرث.

وفي هذا الحديث يقول ابن عباس بأنَّ أوَّل من أعالَ الفرائض ، عمر بن الخطاب.

١٦١

الصورة الثالثة : إذا شكّ في اختلافهما في الفتوى :

إذا لم تحرز المخالفة بين فتوى الفاضل والمفضول ، هل يجب الرّجوع إلى الفاضل أو يجوز الرّجوع إليهما اختياراً؟

يقع الكلام في مقتضى الأصل العمليّ تارة ومقتضى الأدلّة الاجتهاديّة أُخرى.

أمّا الأصل فهو نفس الأصل في الصورة المتقدّمة ، أي أصالة عدم حجيّة رأي أحد على أحد إلّا ما قام الدّليل القطعيّ على حجيّته وهو رأي الأعلم ، وأمّا غيره فهو مشكوك الحجيّة ، والشكّ فيها مساوق للقطع بعدمها ، وإن شئت قلت : إنّ العمل بفتوى الأعلم معذّر قطعاً بخلاف العمل بفتوى غيره فإنّه مشكوك المعذّريّة ، والعقل يحكم بالأخذ بما هو مقطوع المعذّريّة.

وأمّا الأدلّة الاجتهاديّة ، فالحقّ عدم تعيّن الرّجوع إلى الفاضل وذلك لإطلاق الآيات ، والرّوايات الإرجاعيّة محكّمة مع عدم العلم بالمخالفة في المقام ، ولا مانع من شمولها للمقام من غير فرق بين آية السؤال وغيرها وإن كانت دلالة بعضها لا تخلو من خفاء ، وقوله (عليه‌السلام) : «عليك بزكريّا بن آدم ...» ، مطلق يعمّ ما لو كان معه من هو أعلم منه ، ما لم تعلم المخالفة ، وهكذا سائر الإرجاعات ، وليست السيرة في المقام رادعة عنها ، لاختصاصها بما إذا أحرزت المخالفة بينهما ، ولأجل ذلك نرى الرّجوع من العقلاء إلى مطلق أهل الخبرة عند عدم العلم بالمخالفة ولو عمّت السيرة لهذه الصّورة أيضاً ، للزم أن يكون أكثر الخبراء عاطلين عن عملهم.

وأمّا سائر الأدلّة التي استدلّ بها على لزوم تقليد الأعلم ، فقد عرفت عدم دلالتها على الرّجوع إليه ، غير السيرة وقد عرفت حالها.

وبعبارة أُخرى : لا شكّ أنّ بين من أمر الأئمّة (عليهم‌السلام) باستفتائهم لم

١٦٢

يكونوا في درجة واحدة ورتبة متساوية ، كيف وأصحاب الإجماع كلّهم كانوا فقهاء ومراجع للنّاس في الفتيا ولكنّهم ـ مع الاعتراف بفضل الكلّ ـ كانوا على درجات متفاوتة في الفقاهة ـ ومع ذلك ـ فقد أمر النّاس باتّباعهم واقتفائهم من دون حصر الأمر بالرّجوع في الأعلم منهم. فالفرق بين الصورة الثانية والثالثة هو عدم المقتضي في الأُولى مع وجود المانع ، لعدم شمول الإطلاقات صورة العلم بالمخالفة ، والسيرة على حصر الرّجوع إلى الأفضل ، بخلاف الأُخرى فالإطلاق لأجل عدم العلم بالمخالفة محكّم ، والسيرة على عدم تعيّن الرجوع إلى الأفضل.

فإن قلت : مع خروج صورة العلم بالمخالفة بين الفاضل والمفضول عن تحت الإطلاقات ، فعند الشكّ بالمخالفة لا يصحّ التمسّك بها لأنّه من قبيل التمسّك بالعامّ في الشّبهة المصداقيّة ، فقوله (عليه‌السلام) عليك بالأسديّ أو بيونس ابن عبد الرّحمن مثلاً ، مطلق ، خرج منه ما إذا كان الرّأي مخالفاً لرأي الفاضل ، ومع فرض الشكّ في المخالفة يوجب الشكّ في كون المفضول باقياً تحت العامّ أو خارجاً منه ، ومعه لا يصحّ التمسّك.

قلت : إنّ الخارج عن تحت الإطلاقات هو العلم بالمخالفة لا صورة نفس المخالفة الواقعيّة ، فما لم تحرز المخالفة بين المرجعين فالإطلاق محكّم.

وربمّا يجاب تارة بأن المخصّص (السيرة) إذا كان لبيّاً ، جاز التمسّك بالعامّ في الشّبهة المصداقيّة ، وأُخرى بإمكان إحراز عدم عنوان المخصّص بأصالة عدم تحقّق المخالفة بينهما ، فببركة هذا الأصل يمكننا إحراز أنّ المشتبه هو من الأفراد الباقية تحت العامّ (١).

يلاحظ على الأوّل : بما قدّمناه في مبحث العامّ والخاصّ ، بأنّه لا فرق في المخصّص بين كونه لفظيّاً أو لبيّاً. فإذا لم يجز التمسّك به في الأوّل عند الشكّ في

__________________

(١) التنقيح على شرح العروة للسيّد الخوئي (رحمه‌الله) ١ / ١٥٩ و ١٦٠.

١٦٣

كونه باقياً تحت العامّ أو خارجاً عنه ، كذلك لا يجوز التمسّك به في الثاني ، فالخاصّ مطلقاً يجعل العامّ حجّة في غير عنوان الخاصّ ، فالسيرة تجعل قول المفضول حجّة في غير ما إذا كانت بينه وبين الفاضل مخالفة ، ومع الشكّ فيها يتردّد أمر المفضول بين كونه باقياً تحت العامّ أو خارجاً عنه وداخلاً تحت الخاصّ (السيرة) بلا فرق بين كون المخصّص لفظيّاً أو لبيّاً.

ويلاحظ على الثاني : بما تقدّم منّا مراراً وتكراراً أنّه أصل مثبت ، لأنّ المعلوم هو عدم المخالفة من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، أي لم يكن أيّ رأي لهما قبل بلوغ رتبة الاجتهاد ، فلم تكن بينهما أيّة مخالفة ، والمقصود إثباته هو سلب المخالفة بعد تحقّق الموضوع من باب السالبة بانتفاء المحمول ، وأيّ أصل مثبت أوضح من ذلك (١).

في وجوب الفحص عن الأعلم :

هذا كلّه مع العلم بالتّفاضل وعدم العلم بالمخالفة وكان الأعلم معيّناً ، وقد عرفت عدم وجوب تقليد الأعلم للسيرة ، ومع عدم تعيّن الفاضل هل يجب الفحص عنه أو لا؟ هنا صور نذكرها :

١ ـ إذا كان التفاضل والاختلاف مجهولين.

٢ ـ إذا كان التفاضل والاختلاف معلومين.

٣ ـ إذا كان التفاضل معلوماً والاختلاف مجهولاً.

٤ ـ إذا كان الاختلاف معلوماً والتفاضل مجهولاً.

وعلى كلّ تقدير ، هل يجب الفحص عن الأعلم أو لا؟

__________________

(١) إنَّ الأثر الشَّرعيّ وهو جواز الأخذ بأحدِ الرَّأيينِ ، ليس مترتّباً على العلم بالموافقة ، بل على عدم المخالفة وإن لم يكن محرزاً وهو حاصلٌ في استصحاب عدم المخالفة أي استصحاب العدم الأزلي.

وأجاب الشيخ الأُستاذ : ولكنه مثبت لاختلاف الحال في القضية المتيقنة والمشكوكة كما عرفت.

١٦٤

أمّا الصورة الأُولى : فالإطلاقات محكّمة ، لعدم العلم بالمخالفة والخارج من تحت العامّ هو العلم بالمخالفة بين رأيي الفاضل والمفضول ، ثمّ إنّ أصل التفاضل مجهول فضلاً عن مجهوليّة المخالفة.

وأمّا الصورة الثانية : فالفحص عن الفاضل واجب ، لأنّه يعلم أنّ رأي الفاضل حجّة دون المفضول للعلم بالمخالفة ، ومعه كيف يمكن التخيير بينهما ، فاللّازم هو الفحص عن الأعلم والرّجوع إليه.

وأمّا الصّورة الثالثة : فبما أنّ المخالفة مجهولة ، فالإطلاقات محكّمة ، والتخيير ثابت ، وهذه الصّورة ليست بأقوى ممّا إذا عرف الفاضل ولم تحرز المخالفة.

وأمّا الصورة الرّابعة : فبما أنّ الاختلاف معلوم ، فلو كانا متساويين ، فكلا الرّأيين حجّة ، ومع التفاضل فأحدهما حجّة دون الآخر ، ومع التردّد لا يمكن الحكم بالتّخيير ، لاحتمال كون المورد من مصاديق الصورة الثانية ، فيجب الفحص عن الأعلم ، حتى يتبيّن له أنّ الواقعة من مصاديق الصورة الثانية أو الرّابعة.

ثمّ إنّه لو قلّد الأعلم ، وكان يفتي بجواز الرّجوع إلى غيره ـ على مقتضى اجتهاده ـ جاز للمقلّد العمل به أيضاً ، وقد نقل الشيخ الأنصاريّ (قدّه) عن بعض معاصريه منعه ذلك ولم يعلم وجهه. هذا وجواز الرّجوع إلى المفضول نتيجة الرّجوع إلى الأعلم ، وصحّة عمله مترتبة على صحّة تقليده.

لو قلَّدَ أحد المجتهدين بواسطة التفاضل ، ثمّ انعكست النسبة بينهما لسبب من الأسباب ، فهل يجب البقاء على تقليد الأوّل ، أو الرّجوع عن تقليده ، إلى الثاني ، أو يتخيّر بينهما؟

دليل الأوّل هو الأصل ، لأنّه لمّا كان الأوّل أفضل ، كان تقليده واجباً ، فالأصل بقاؤه.

ودليل الثاني هو وجود المقتضي بصيرورة الثاني أعلم من الأوّل وعدم المانع ، لأنّ وجوب تقليد الأوّل كان لأعلميّته ، والمفروض أنّه خرج عن ذلك العنوان

١٦٥

وتلبّس به الثاني ، وهذا من العناوين التقييديّة للموضوع في نظر العقل والعرف.

ودليل الثالث هو دوران الأمر بين المحذورَين ، لاحتمال وجوب البقاء على تقليد الأوّل وحرمة العدول عنه ، واحتمال وجوب تقليد الثاني فيتخيّر حينئذ.

والأقوى هو الثاني.

ومنه يعلم حكم تقليد المفضول لتعذّر الوصول إلى الفاضل ، ثمّ ارتفع العذر ، فيجب عليه الأخذ بقول الفاضل وفتواه والعدول عن تقليد المفضول ، وكذلك يظهر الحال فيما لو قلّد مجتهداً لاعتقاد أعلميّته ثمّ بان الخلاف ، فيجب العدول عن تقليده إلى الأعلم.

التبعيض في التقليد :

إنّ هنا نظريّة خاصّة لنا ، وهي التبعيض في التقليد ، حسب انقسام الفقه إلى العبادات والمعاملات والإيقاعات والسّياسات ، فلو فرضنا أعلميّة مجتهد من آخر في باب العبادات دون سائر الأبواب ، وفرضنا مجتهداً آخر على عكس ذلك ، فالواجب على حسب التقرير السابق التّبعيض في التقليد.

والتقليد التّام في شخص واحد لا يتمّ إلّا إذا كان أقوى ملكة من غيره في جميع أبواب الفقه ، وهو وإن كان ميسوراً في القرون السابقة إلّا أنّه ليس بميسور في عصورنا هذه بعد توسّع الفقه وتشعّب مسائله ، وابتناء قسم منها على اطلاعات خاصّة في بعض العلوم ، وهذا يفرض علينا تقسيم التّخصّصات في الفقه لإحراز الأعلمية بواقعيّتها وحقيقتها في كلّ حسب تخصّصه ، ويتفرّع عليه التبعيض في التقليد ، وهذا وإن كان غريباً بدواً إلّا أنّه بلحاظ ما ذكرناه لا غرابة فيه ، خصوصاً بالنّسبة للعصور الآتية. وقد أوضحنا نظريّتنا في مقدّمة كتاب «المواهب في تحرير أحكام المكاسب» فراجعه (١).

__________________

(١) المواهب : ٤ ـ ٧.

١٦٦

المسألة الرابعة : في تقليد الميِّتِ ابتداءً :

أكثر الأصحاب على منع الرّجوع إلى الميّت في أخذ الفتوى والعمل بها ، والأخباريّون منهم على الجواز ، وسيوافيك أنّ مخالفتهم تلك مبنية على إبطالهم التقليد من أصل. وربمّا يفصّل بين تقليده ابتداءً وتقليده بقاءً ، فيمنع الأوّل دون الثاني ، وسيأتي البحث عن البقاء في عنوان خاصّ ، والكلام مركّز على تقليده ابتداءً.

اعلم أنّ أكثر الأصحاب على منع الرّجوع إلى الميّت ، ونحن وإن لم نقف على عنوان المسألة في كلمات فقهائنا قبل العلّامة الحليّ (٦٤٨ ـ ٧٢٦ ه‍ ـ) ولكنّه كاشف عن استمرار السيرة على المنع ، وإليك نقل ما وقفنا عليه من الكلمات مباشرة أو بواسطة رسالة الشيخ الأنصاريّ (رضي الله عنه) المطبوعة في ذيل مطارح الأنظار فنقول :

١ ـ قال العلّامة في النّهاية : «قال آخرون : إن حكى عن ميّت لم يجز الأخذ بقوله ، إذ لا قول للميّت لانعقاد الإجماع مع خلافه بعد موته دون حياته ، فدلّ على أنّه لم يبق له قول ...» (١).

وقال في التهذيب : «وهل لغير المجتهد الفتوى بما يحكيه عن المجتهد ، الأقرب أنّه إن حكى عن ميّت لم يجز العمل به ، إذ لا قول للميّت ولهذا لا ينعقد

__________________

(١) النّهاية في علم الأُصول ، البحث الثّالث في الإفتاء عن الحكاية ، مخطوط مؤسّسة الإمام الصادق (عليه‌السلام).

١٦٧

الاجماع لو خالف حيّاً ...» (١).

٢ ـ وقال عميد الدّين في منية اللّبيب في شرح التهذيب : «وفصّل آخرون فقالوا : إن حكى عن ميّت لم يجز له العمل به ، إذ لا قول للميّت لانعقاد الإجماع الواجب اتّباعه بعد موته مع مخالفته حال حياته ، ولو كان قوله معتبراً لما كان كذلك ، فإذن لا يبقى للميّت قول ...» (٢) ثمّ ذكر فائدة التعرّض لمذهب المجتهدين الماضين.

٣ ـ وقال فخر المحققين (م ٧٧١ ه‍ ـ) في إيضاح الفوائد : «ولا يكفيه فتوى العلماء ولا تقليد المتقدّمين فإنّ الميّت لا قول له وإن كان مجتهداً» (٣).

٤ ـ وقال الشهيد (٧٣٤ ـ ٧٨٦ ه‍ ـ) في الذكرى : «وهل يجوز العمل بالرّواية عن الميّت ، ظاهر العلماء المنع منه محتجّين بأنّه لا قول له ...» (٤).

٥ ـ وقال المحقق الثاني (م ٩٤٠ ه‍ ـ) في جامع المقاصد بعد نقل كلام العلامة : «فإنّ الميّت لا قول له وإن كان مجتهداً : ممّا يدلّ على ذلك أنّ الإجماع لا ينعقد مع خلافه حيّاً وينعقد بعد موته ، ولا يعتدّ حينئذ بخلافه» (٥).

وقال في رسائله : «واشترط الأكثر كونه حيّاً».

وقال : «وما ينسبونه بزعمهم إلى المتأخّرين ممّن لم يضرب في فنّ الأُصول بسهم من جواز تقليد الموتى فهو مردود لا يلتفت إليه» (٦).

٦ ـ وقال الشهيد الثاني (٩١١ ـ ٩٦٦ ه‍ ـ) في مسالكه : «وقد صرّح

__________________

(١) تهذيب الوصول إلى علم الأُصول : ١٠٣ ، ولاحظ أيضاً إرشاد الأذهان : ١ / ٣٥٣.

(٢) منية اللبيب في شرح التهذيب ، الفصل الرّابع ، مخطوط مؤسّسة الإمام الصادق (عليه‌السلام) والمؤلّف هو ابن أُخت العلامة.

(٣) إيضاح الفوائد : ١ / ٣٩٩.

(٤) الذّكرى : ٣.

(٥) جامع المقاصد : ٣ / ٤٩١.

(٦) رسائل المحقّق الكركيّ : ١ / ٨٠ و ٢ / ٢٥٢ و ٣ / ٥٠ و ١٠٩ و ١٧٧.

١٦٨

الأصحاب في هذا الباب من كتبهم المختصرة والمطوّلة وفي غيره باشتراط حياة المجتهد في جواز العمل

بقوله ، وانّ الميّت لا يجوز العمل بقوله ولم يتحقّق إلى الآن في ذلك خلاف ممّن يعتدّ بقوله من أصحابنا وإن كان للعامّة في ذلك خلاف مشهور وتحقيق المسألة في موضع آخر» (١).

٧ ـ وقال المحقّق المقدّس الأردبيليّ (م ٩٩٣ ه‍ ـ) : «وأمّا عدم جواز تقليد الميّت مطلقاً فهو مذهب الأكثر وقال : «... وكذا العمل بقول الميّت عند عدم الحيِّ أصلاً وإلّا يلزم الحرج والضّيق المنفيّان عقلاً ونقلاً ...» (٢).

٨ ـ وقال صاحب المعالم (م ١٠١١ ه‍ ـ) : «وهل يجوز العمل بالرّواية عن الميت ظاهر الأصحاب الإطباق على عدمه ومن أهل الخلاف من أجازه وقال : «يظهر من اتّفاق علمائنا المنع من الرّجوع إلى فتوى الميت مع وجود المجتهد الحيّ بل قد حكى الإجماع فيه صريحاً بعض الأصحاب» (٣).

٩ ـ وعن الكفاية للسبزواريّ نقل الاتفاق عن بعضهم (٤).

١٠ ـ وقال الفيض الكاشاني (م ١٠٩١ ه‍ ـ) : «إنّه مختار أكثر المجتهدين بحيث كاد أن يكون إجماعاً بينهم» (٥).

١١ ـ وحكى المولى البهبهانيّ (م ١٢٨٠ ه‍ ـ) في فوائده الإجماعية على الاشتراط (٦). هذا ، وأمّا المخالفون فهم جملة من المتأخرين وأشدّهم خلافاً الأخباريّة فذهب الاسترآباديّ والفيض الكاشاني فيما حكي عنهما إلى الجواز مطلقاً ، ونسبه الشهيد في محكيّ الذكرى إلى بعض وهو المحكيّ عن القميّ والسيّد الجزائري في منبع الحياة (٧) ـ وقد أثار الخلاف في القرن الثالث عشر المحقّق القميّ

__________________

(١) مسالك الافهام ـ مبحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود : ١٦٢.

(٢) مجمع الفائدة : ٧ / ٥٤٩ و ٥٤٧.

(٣) معالم الدّين ـ آخر مباحث الاجتهاد والتّقليد ـ الفصل الثّامن.

(٤ ـ ٧) مطارح الأنظار ، رسالة التّقليد عن الميّت ـ الرسالة الثانية ـ وهي بقلم أحد تلامذة الشيخ الأنصاري (رضي الله عنه) : ٢٨٤.

١٦٩

وجعل المناط حصول الظنّ الأقوى سواء من قول الحيّ أم الميّت ـ وفصّل الفاضل التوني (م ١٠٧١ ه‍ ـ) فجوّز التقليد إذا كان المجتهد ممّن لا يفتي إلّا بمنطوقات الأدلة ومدلولاتها الصريحة كالصّدوقين وغيرهما من القدماء ، وإن لم يعلم من حاله ذلك ، كمن يعمل باللّوازم غير البيّنة والأفراد الخفيّة والجزئيّات غير البيّنة الاندراج فيشكل تقليده حيّاً كان أو ميتاً (١).

وفيه : أنّ ما ذكره ليس تفصيلاً ، لأنّه يرى جواز تقليد المفتي الأخباريّ العامل بمنطوقات الأدلة ومدلولاتها الصّريحة دون غيره ، حيّاً كان أو ميتاً.

كما أنّ التفصيل المنقول عن الأردبيليّ (قدس‌سره) من الجواز عند فقد المجتهد الحيّ مطلقاً أو في عصر ما ، ليس تفصيلاً ، لأنّ محلّ البحث هو جواز تقليده مع التمكّن من المجتهد الحيّ كما لا يخفى لا مطلقاً وإن لم يتمكّن منه.

نعم شذّ المحقّق القميّ من المتأخّرين ، فأجاز الرجوع إلى الميّت بناءً على مبناه من انسداد باب العلم ولزوم العمل بالظنّ قال : «... نحن مكلّفون في أمثال زماننا ، وسبيل العلم بالأحكام منسدّ ، والتّكليف بما لا يطاق قبيح فليس لنا إلّا تحصيل الظنّ بحكم الله الواقعيّ ، فإذا تعيّن المظنون فهو ، وإن تردّد بين أمور فالمكلّف به هو أحدها ...» (٢) وحاصله : أنّ الميزان هو العمل بالظنّ من غير فرق بين كونه حاصلاً من قول الحيّ أو الميّت.

وقال شيخنا الأنصاري (رضي الله عنه) ـ بعد ذكر خيرة الأخباريين من أصحابنا على عدم اشتراط الحياة في المفتي ـ : «ووافقهم المحقّق القمي من المجتهدين» (٣).

__________________

(١) الوافية في أُصول الفقه : ٣٠٧.

(٢) قوانين الأُصول : ٢ / ٢٦١.

(٣) مطارح الأنظار : ٢٥٦.

١٧٠

وهذه النقول المتضافرة تحكي عن شهرة القول بين الأصحاب وندرة المخالف ، على أنّ الشيخ يؤوّل الخلاف المشار إليه في كلمات البعض برجوعه إلى العامّة فلو جعله العلّامة أقرب ، فإنّما هو في قبال العامّة ، ولو نسبه الشهيد في الذّكرى إلى البعض فالمقصود بعض العامّة الذي هو أعمّ من بعض الخاصّة ، وخلاف الاخباريين راجع إلى الخلاف في جواز التقليد وحرمته ، فهم يحرّمون التقليد مطلقاً ويلزمون الإفتاء بلفظ النصّ ، فلا فرق بين الحيّ والميّت (١).

إذا وقفت على كلمات علمائنا الأبرار ، فلنرجع إلى دراسة أدلّة المسألة فنقول :

يقع الكلام تارة في مقتضى الأصل العمليّ ، وأُخرى في مقتضى الأدلة الاجتهادية.

أمّا الأوّل : فقد عرفت عند البحث عن تقليد الأعلم أنّ الأصل عدم حجيّة رأي أحد على أحد ، إلّا ما خرج بالدّليل يقيناً وليس هو إلّا تقليد الحيّ الّذي اتّفق عليه المجوّز والمانع ، فيبقى الباقي تحت الأصل.

وأمّا الثاني : فقد استدلّ المانعون بوجهين :

الأوّل : الإجماعات المنقولة المتضافرة من عصر العلّامة إلى يومنا هذا ، فإنّها

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٢٥٧ وعبارته : «وأمّا ما ذكره الشّهيد في الذّكرى من خلاف البعض فهو كما يراه الشّهيد الثّاني من أنّ العلماء يعمّ العامّة والخاصّة ، وبعض الأعمّ أعمّ من بعض الأخصّ ، وهذا هو الشّهيد الثاني فقد نسب القول إلى الأكثر مع ما عرفت من ادّعائه الإجماع ، وبذلك يندفع ما قد يستكشف من العلّامة الخلاف في التّهذيب على ما حكى حيث إنّه عبّر أنّ الأقرب كذا ، فإنّ أمثال هذه العبارة لا تنافي الإجماع ، ألا ترى عبارة العلّامة في متابعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للشرع السّابق ، فإنّه يقول في التهذيب : «الأقرب أنّه لم يكن متعبّداً بشرع» مع ظهور قيام الضّرورة عندنا على عدم المتابعة. وأمّا مخالفة الأخباريّين فقد عرفت أنّ ذلك بواسطة تخيّلهم أنّ الجائز من الفتوى لا يفارق النّقل ، بالمعنى ...» (اه ـ).

١٧١

وإن كانت لا تكشف عن دليل وصل إليهم ولم يصل إلينا ، إذ من البعيد أن يصل إلى العلامة ومن بعده دليل شرعيّ على شرطية حياة المفتي ولا يصل إلينا ، لكن ـ مع هذا الاعتراف ـ فهو يكشف عن أنّ شعار الشيعة كان على تقليد الحيّ لا الميّت.

وذلك لأنّ انكباب الفرقة المحقّة على جانب طيلة قرون وعدم الانحياز عنه إلى غيره ، كاشف عن أمر إيجابيّ راسخ وثابت وهو لزوم تقليد الحيّ ، وأمر سلبيّ وهو عدم جواز تقليد الميّت.

الثاني : إنّ تقليد الميّت إذا كان خالياً من الإشكال في عالم الثّبوت فليس خالياً عنه في عالم الإثبات ، وذلك لأنّ الأموات إمّا أن يتساووا في الفضل والفضيلة وإمّا أن يكون بينهم أعلم. فعلى الأوّل فبما أنّهم مختلفون في الفتوى في مسائل كثيرة ، فلا تشمل أدلّة الحجيّة المقام ، لما عرفت من أنّ دليل الحجيّة في كلّ من الامارة والأصل لا يعمّ صورة التعارض كما هو واضح ولا واحداً من المتعارضين وذلك لعدم الدّليل من الخارج على التّخيير إلّا في تعارض الإمارات على ما مرّ. ومقتضى القاعدة في المقام التساقط ، فلا محيص من افتراض وجود الأعلم بين الأموات ، وبما أنّ هذا الشرط لا يختصّ بالأموات فلا بد من افتراض وجود الأعلم من بين الأموات والأحياء ، ولازم ذلك وجوب الرّجوع إلى الميّت ـ بحكم أنّه أعلم ـ طيلة قرون وانحصار أمر التقليد مدّة مديدة في شخص واحد وهذا ممّا لا يلتزم به فقيه ، مضافاً إلى المفاسد المترتبة كما سيأتي.

فتلخّص أنّ تقليد الميّت إذا كان خالياً عن الدّخل في عالم الثبوت فليس خالياً عنه في عالم الإثبات.

١٧٢

أدلّة المجوّزين :

استدلّ المجوّز بوجوه :

الأوّل : إطلاقات الآيات والرّوايات كآية النفر والسّؤال ، والرّوايات الإرجاعيّة إلى رواة الأحاديث أو إلى أشخاص معيّنين ، وهذه لا اختصاص لها بالأحياء منهم.

وأورد عليه المحقّق الخوئي (رضي الله عنه) بأنّ الأدلّة ناظرة إلى عنوان حياة المنذر والمحذّر والمفتي ، وكيف يخفى ظهورها في الحيّ ، فإنّ وجوب التحذّر عند إنذار المنذر ، ووجوب السّؤال من أهل الذّكر لا ينفكّ عن كونهم أحياءً ومثله سائر الروايات الإرجاعيّة التي هي قضايا ظاهرة في الفعلية (١).

يلاحظ عليه : أنّ ظهور الأدلّة في كون المرجوع إليهم أحياءً ممّا لا ينكر ، إلّا أنّ الكلام في مساعدة العرف ـ في التعبّد بظواهرها وعدم الخروج عنها بإلغاء الخصوصيّة ـ القائل بأنّ المتّبع هو كلام المفتي ورأيه ونظره سواء كان حيّاً أو لا. وليس هذا مبتدعاً في حياة العقلاء ، فإنّ الآراء محترمة بنفسها والموت ليس ضائراً بقيمتها ورفعتها.

قال سبحانه : (... وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ...) (الأنعام ـ ١٩) ، فنسب الإنذار بالقرآن إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مطلقاً من أدرك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتشرّف برؤيته ومن لم يدركه ولم يتشرّف بحضوره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّ القرآن بلغه ، وما هذا إلّا لأنّ المتكلّم وسيلة في الإبلاغ والإنذار والمهمّ هو نفس البلاغ ومحتوى المنذر به ، فإذا كان هذا حال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي هو أفضل الخلق والبريّة فكيف حال الرّاوي والمفتي.

__________________

(١) التنقيح في شرح العروة الوثقى : ١ / ٩٩ ـ ١٠١.

١٧٣

والأولى أن يقال : إنّ إلغاء الخصوصيّة وإن كان أمراً لا ينكر ، لكنّ الكلام في وجود المقتضي وهو الشّمول لصورة التّعارض والاختلاف والمفروض المخالفة في الفتوى والتّضارب في الآراء عند الأموات ، وقد عرفت أنّ دليل الحجيّة غير شامل لتلك الصّورة ، فلا يمكن للعاميّ الاحتجاج بآرائهم مع اختلافها ولا تكفيه الإطلاقات في مقام الاحتجاج.

الثاني : سيرة العقلاء على الرّجوع إلى الحيّ والميّت في مشكلات العلوم ومعضلاتها ، والاحتجاج بقولهما على السواء في العلوم والحقوق ورجوع الفقهاء إلى أقوال اللّغويين في دقائق المعاني اللّغويّة ولم يخطر ببال أحد أنّهم أموات.

يلاحظ عليه : أنّ جريان السيرة على ذلك صحيح ، إلّا أنّها في غير باب الأحكام ، فإنّ الإجماعات المتضافرة على تقليد الأحياء والإعراض عن تقليد الأموات بكلمة واحدة ، كاشفة عن وجود سيرة في خصوص باب الأحكام مستمرّة إلى عصر المعصومين (عليهم‌السلام) فالاحتجاج بالسيرة الدّارجة بين العقلاء مع وجود سيرة خاصة في أخذ الأحكام على خلافها بين الشيعة ليس بتامّ ، وعليه فالمحكّم في المقام هو أصالة عدم حجيّة رأي أحد على أحد إلّا مع قيام الدّليل.

الثالث : التمسّك بالاستصحاب وقرّره الشيخ (قدس‌سره) بوجوه أربعة :

الأوّل : إنّ المجتهد الفلانيّ كان ممّن يجوز الأخذ بفتواه ، والعمل مطابقاً لأقواله وقد شكّ بعد الموت أنّه هل يجوز اتّباع أقواله أو لا ، فيستصحب.

الثاني : إنّ للمقلّد الفلاني الأخذ بفتوى المجتهد الفلانيّ حال الحياة وبعد الموت يشكّ فيه ، فيستصحب الجواز المعلوم في السّابق.

الثالث : إنّ هذه الواقعة كان حكمها الوجوب بفتوى المجتهد الفلانيّ ، ونشكّ في ذلك فيستصحب حكمها.

١٧٤

الرّابع : إنّ المكتوب في الرّسالة الفلانيّة كان جائز العمل فيستصحب بعد الموت (١).

والعناية في الوجه الأوّل بالمفتي وفي الثاني بالمستفتي وفي الثالث بالفتوى ، وفي الرابع بنتيجته.

وقرّره سيّدنا الأُستاذ ـ دام ظله ـ بالوجوه الثلاثة الأُول (٢).

ولو أردنا التعبير المختصر ، نقول : إنّ فتوى الميت كانت حجة قبل الموت والأصل بقاء حجّيتها بعده.

وقد أورد على الاستدلال به في المقام بعدم اجتماع ركني الاستصحاب أعني : اليقين في الحدوث ، والشكّ في البقاء.

أمّا الأوّل : فلعدم العلم بحجيّة فتواه إلّا في حقّ الموجودين في زمانه ولا علم لنا بحجيّة فتواه في حقّ غيرهم. وبعبارة أُخرى : إن كانت القضيّة بنحو القضيّة الخارجية فلا فائدة بالنّسبة للمكلّفين بعد موته ، وإن كانت بنحو القضيّة الحقيقيّة فهي وإن كانت عامّة غير مختصّة بالموجودين في زمانه ، إلّا أنّ التنجيزي منه غير جار ، لعدم إدراك زمانه ، فلا يقين بالنّسبة لمن بعد موته ، والتعليقي منه ليس بحجّة بأن يقال : لو كانوا موجودين لكانت فتواه حجة عليهم والأصل بقاؤها.

يلاحظ عليه : أنّ المستصحب ليس هو الحكم الجزئيّ المتعلّق بالمستصحب حتى يقال إنّ التنجيزيّ غير جار والتعليقي ليس بحجّة ، بل المستصحب عبارة عن الحكم الكليّ المتعلّق بعنوان المكلّفين ، فيقال : كان قوله حجّة في حقّ المكلّفين والأصل بقاؤه ، فإذا ثبت بقاؤه على العنوان كان حجّة على المكلّف المستصحب أيضاً. وبذلك تظهر صحّة جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعيّة الكليّة ،

__________________

(١) ملحقات مطارح الأنظار : ٢٦٣.

(٢) رسالة الاجتهاد والتقليد من كتاب الرّسائل للإمام الخميني (رضي الله عنه) : ١٥٠ و ١٥١.

١٧٥

والإشكال والجواب في الجميع واحد.

مثلاً لو شكّ في شمول قوله سبحانه : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ...) (آل عمران ـ ٩٧) لمن لم يدركوا زمن النّزول ، فإنّ المستصحب ليس الوجوب الجزئيّ المتعلّق بشخص المكلّف المقيّد بكونه موجوداً حين النزول حتى لا يصح الاستصحاب إلّا بنحو التعليق منه ، بل المستصحب هو الحكم الكليّ المتعلّق بعنوان المكلّف ، وإثبات بقائه به كاف في كونه حجّة عليه أيضاً لكونه من مصاديق النّاس.

وبذلك يظهر عدم تماميّة ما ذكره المحقّق الخوئيّ (رضي الله عنه) حيث قال : «إنّ المراد بالحجيّة المستصحبة إن كان هو الحجيّة الفعليّة ، فلا يقين بحدوثها ، لأنّ المتيقّن عدم الحجيّة الفعليّة بالإضافة إلى العاميّ المتأخّر عن عصر المجتهد الميّت ، لوضوح أنّ الفعليّة إنّما تتحقّق بوجود المكلف العاميّ في عصر المجتهد ، والمفروض عدم تحقّقه ، فليست فتاوى الميّت حجّة فعلية على العاميّ غير الموجود في عصره لتستصحب حجيّتها الفعليّة. وإن أُريد بها الحجيّة التعليقيّة أعني الحجيّة الشأنيّة ، فهي وإن كانت متيقّنة على الفرض ، إلّا أنّها ليست بمورد للاستصحاب ، وذلك للشكّ في سعة دائرة الحجيّة الشأنيّة وضيقها وعدم العلم بأنّها هي الحجيّة على خصوص من أدرك المجتهد وهو حيّ ، أو أنّها تعمّ من لم يدركه كذلك ، وبعبارة أُخرى : إنّا نشكّ في أنّ حجيّة رأي المجتهد وفتواه مقيّدة بحالة حياته أو أنّها غير مقيّدة بها ، فلا علم لنا بثبوت الحجيّة الشأنيّة بعد الممات ليمكن استصحابها حتى على القول بجريان الاستصحاب في الأحكام ...» (١).

ووجه ظهور عدم التماميّة : إنّ المختار هو الشقّ الأوّل وهو استصحاب الحكم المنجّز ولكنّه ليس الحكم الجزئيّ المتوقّف على وجود المكلّف ، بل هو عبارة

__________________

(١) التنقيح في شرح العروة الوثقى : ١ / ١٠٣.

١٧٦

عن الحكم الكليّ والحجيّة الكليّة المجعولة على عنوان المكلّفين على نحو القضيّة الحقيقيّة. نعم يحتمل دخالة حياة المفتي في بقاء الحكم ، وبما أنّها ليست مقوّمة للموضوع فتستصحب حجيّة الفتوى الصادرة على عنوانها الكليّ ، وانطباقه على المكلّف المستصحب أمر قهريّ عقليّ ، ومع ثبوت الحكم الكليّ واستمراره إلى زمان المكلّف المستصحب ، انطبق الحكم المستصحب عليه بلا إشكال (١).

هذا كلّه حول الأوّل ، وأمّا الثّاني أي الشكّ في البقاء ، فربّما يقال بعدم الشكّ في البقاء لأنّه فرع بقاء الموضوع وهو ليس بباق ، قال الشيخ الأنصاري (قدّه) : «إنّ المناط هو الظنّ وهو مرتفع بعد الموت ، فلا أقلّ إمّا من الشكّ في بقائه أو ارتفاعه ، على تقدير تسليم كون الموضوع هو الظنّ ، وإمّا من الشكّ في تعيين الموضوع ، وعلى التقديرين لا مسرح للاستصحاب» ثمّ أورد على نفسه بأنّ الموضوع هو : «القول الّذي لا يعقل فيه القول بالارتفاع والبقاء ، ضرورة أنّه من الأُمور غير القارّة التي وجودها عبارة عن حدوثها ، ولا بقاء لها ، وكذلك فإنّها في وجه غير معقول البقاء ، وفي وجه غير معقول الارتفاع» فأجاب بأنّه «لا إشكال عند القائلين بالفتوى والتقليد والاجتهاد ، أنّ المدار في الفتوى هو الظنّ ، ولذلك لو زالت الملكة أو تغير اجتهاده وإن لم يكن هناك قول لا يجوز التعويل على القول السابق» (٢).

يلاحظ عليه : أنّه لا فرق بين نقل الرّواية والفتوى ، فكما أنّ جزم الرّاوي في حال الإخبار ، يجعل الرّواية حجّة وإن مات ، ومات جزمه ، فكذلك جزم المفتي

__________________

(١) الاستصحاب المذكور إنّما ينتج فيما إذا كان الميّت أعلم من جميع المجتهدين الأحياء ، أو أنّه لم تعلم المخالفة بينه وبينهم إذا لم يكن أعلم. هذا وأورد على هذه الدَّعوى بعدم تصحيحها الاستصحاب حيث إنّ ما شأنه الاستمرار بمجرَّد الحدوث لا يحتاج في استمراره إلى الاستصحاب ، إذ هو بمجرَّد حدوثه يكون يقينيّ البقاء دائمياً ، ولا معنى للشكّ في بقائه ، لأنَّ اليقين بحدوثه يلازم اليقين ببقائه ، وإلّا لما كان ممّا يكفي في استمراره وبقائه دائماً حدوثه آناً ما.

(٢) مطارح الأنظار : ٢٦٣ ـ ٢٦٤.

١٧٧

حين الإفتاء بأنّ هذا حكم الله يجعل الفتوى حجّة دائماً وإن مات وذهب جزمه وظنّه.

وبالجملة : انّ ظنّه أو جزمه في حال الإخبار والإفتاء من قبيل الواسطة في الثبوت (١) لا العروض ، فلا يتوقّف ثبوت الحجيّة أو جواز العمل به ، على وجود الواسطة دائماً ، وإنّما يكفي وجودها آناً ما ، في إضفاء وصف الحجيّة عليه وجواز العمل به.

وأورد المحقّق الخراساني (رضي الله عنه) على الاستصحاب بأنّه لا مجال له وقال :

«لعدم بقاء موضوعه عرفاً ، لعدم بقاء الرّأي معه ، فإنّه متقوّم بالحياة ، بنظر العرف ، وإن لم يكن كذلك واقعاً ، حيث إنّ الموت عند أهله موجب لانعدام الميّت ورأيه ، ولا ينافي ذلك صحّة استصحاب بعض أحكام حال حياته ، كطهارته ونجاسته وجواز نظر زوجته إليه ، فإنّ ذلك إنّما يكون فيما لا يتقوّم بحياته عرفاً بحسبان بقائه ببدنه الباقي بعد موته ، وإن احتمل أن يكون للحياة دخل في عروضه واقعاً ، وبقاء الرّأي لا بدَّ منه في جواز التَّقليد قطعاً ، ولذا لا يجوز التَّقليد فيما إذا تبدّل الرّأي أو ارتفع ، لمرض أو هرم إجماعاً» (٢).

يلاحظ عليه : أنّه عبارة أُخرى عمّا ذكره الشيخ (رضي الله عنه) والاختلاف في التعبير عن موضوع المستصحب ، فعبر عنه الشيخ (رضي الله عنه) بالظنّ والمحقّق الخراساني (رضي الله عنه) بالرّأي ، ويرد عليه ما أوردناه على كلام الشيخ (رضي الله عنه) وأنّ العبرة بالرأي لكونه طريقاً إلى الواقع ، ولا يشترط في طريقيّته كونه موجوداً وباقياً بل يكفي الوجود في زمن ما ،

__________________

(١) الواسطة الثبوتيّة وهي العلّة لوجود شيء ، كعلّية النّار للحرارة والماء للبرودة. ويقابلها الواسطة الإثباتيّة والعروضيّة ، والأُولى هي العلّة للعلم بوجود شيء كعلّية الدّخان للعلم بوجود النّار. والثّانية هي الواسطة في الحمل الموجبة لصحّة إسناد عرض إلى غير معروضة مجازاً كإسناد الحركة إلى الجالس في السفينة.

(٢) كفاية الأُصول : ٢ / ٤٧٧ ، تحقيق مؤسسة آل البيت (عليهم‌السلام).

١٧٨

والأصل بقاء الحجيّة.

ثمّ إنّه (قدس‌سره) تفطّن لما ذكر وقال :

«لا يقال : نعم الاعتقاد والرّأي وإن كان يزول بالموت ، لانعدام موضوعه إلّا أنّ حدوثه في حال حياته كاف في جواز تقليده في حال موته ، كما هو الحال في الرّواية.

فإنّه يقال : لا شبهة في أنّه لا بدّ في جوازه من بقاء الرّأي والاعتقاد ، ولذا لو زال بجنون أو تبدّل ونحوهما ، لما جاز قطعاً» (١).

يلاحظ عليه : أنّ الفتوى كالرّواية ، فإنّ الجزم حين الإفتاء أو الإخبار بأنّه حكم الله ، يعني جعلهما حجّة ، ولذا لو تردّد الرّاوي بعد فترة من النقل في صحّة جزمه حين الإخبار سقطت الرواية عن الاعتبار ، والفرق بين الرّواية والفتوى في كون الأوّل نقلاً للحكم بلا إمعان النظر بخلاف الثاني وإن كان صحيحاً ، لكنّ المناط في كليهما لعروض الحجيّة واحد وهو الجزم حين الإخبار أو الإفتاء.

وأمّا الاستشهاد على أنّ حجيّة الفتوى تدور مدار بقاء الرّأي لعدم جواز تقليد من زال رأيه بالتّبدل أو بعروض الجنون أو الهرم الموجب للنّسيان ، فليس بتامّ ، لأنّ حجيّة كلّ من الرّواية والفتوى مقيّدة بعدم انكشاف الخلاف ، ولذا لو شكّ الرّاوي في صحّة جزمه بعد النّقل لسقطت الرّواية عن الحجيّة. وأمّا عدم جواز تقليد من عرض عليه الجنون أو النّسيان ، فلسقوط المفتي عن الأنظار عند عروضهما ، ولصيانة المرجعيّة الدينيّة عن الوهن ، فلذلك منع من تقليدهم ، وهذا بخلاف الموت فإنّه لا يعدّ وهناً بل انتقالاً من دار إلى دار وهنيئاً لمن أخذ من ممرّه لمقرّه ، هذا وقد ذكرنا في مبحث المشتقّ أنّ موضوع الأحكام على قسمين :

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٢ / ٤٧٨ ، تحقيق مؤسّسة آل البيت (عليهم‌السلام).

١٧٩

قسم يدور الحكم فيه مدار صدق الموضوع ، فبارتفاعه يرتفع الحكم ، مثل قوله (عليه‌السلام) : «لا يصلّ ـ ى خلف الفاسق» أو «المسكر حرام» ولا يكون صدق الموضوع آناً ما كافياً ، وقسم يكفي في بقاء الحكم صدق الموضوع آناً ما ، كما في قوله : «لا تصلّ خلف المحدود» أو «اقطع يد السّارق واجلد الزّاني» ، وغير ذلك ، وتمييز أحد القسمين عن الآخر رهن لطف في القريحة.

والحقّ : «إنّ الاستصحاب لا غبار عليه ، لو لا نقل الإجماع المتضافر على خلافه ، والأصل حجّة حيث لا دليل وإلّا عجوز عليل.

وأظنّ أنّ المشايخ لاتّخاذهم الموقف السلبيّ بالنّسبة إلى تقليد الميّت انجرّوا إلى هذه الإشكالات التي لا تتجاوب مع مبانيهم ، فإنّهم (قدس‌سرهم) ذهبوا إلى أنّ الأحكام مجعولة على نحو القضايا الحقيقية ـ وكأنّهم نسوا ما ذكروه في أُصولهم ـ فعمدوا إلى استصحاب الحكم الجزئيّ المقيّد بالوجود مع إمكان استصحاب الحكم الكليّ الّذي ينطبق قهراً على كلّ مكلّف عبر الزّمان.

مضاعفات تقليد الميّت السلبيّة :

هذا مقتضى الأدلّة الاجتهاديّة ، غير أنّ هنا كلمة ترجع إلى بيان مضاعفات تقليد الميّت التي تصدّ الفقيه عن تجويزه ، وتتلخّص في أُمور :

الأوّل : قد عرفت فيما مضى أنّ للظّروف الزّمانيّة والمكانيّة مدخليّة تامّة في حقل استنباط الأحكام الشرعيّة وأنّها من مغيّرات الموضوع ومبدّلاته ، وفي ظلّ تغيّر الموضوع يتغيّر الحكم الشّرعيّ ، وأنّ تطوّر الصناعات في حياة البشر في مختلف المجالات قد أثّر في كثير من الموضوعات فصيّر القيميّ مثليّاً ، وفاقد المنفعة المحلّلة واجدها ، كالدم وغيره من الموضوعات ، وغير خفيّ أنّه لا يطّلع عليها إلّا الفقيه العالم بالموضوع وأحواله عن كثب ، وأمّا من انقطعت صلته بالحياة فلا يتمكّن من ذلك.

١٨٠