الرسائل الأربع - ج ٣

عدّة من الأفاضل

الرسائل الأربع - ج ٣

المؤلف:

عدّة من الأفاضل


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣٢

وإليك الكلام في توضيح المراد منها.

١ ـ الآيات الذامّة للتّقليد :

هناك بعض الآيات الذامّة لتقليد الآباء وهي كثيرة نذكر منها :

١ ـ (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (الزخرف ـ ٢٠).

٢ ـ (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) (الزخرف ـ ٢١).

٣ ـ (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) (الزخرف ـ ٢٢).

٤ ـ (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (الزخرف ـ ٢٣).

فالآيات تندّد بالتقليد وتذمّه ومع ذلك كيف يصير مجازاً في مورد الأحكام؟

والإجابة عنها واضحة بعد الوقوف على أنّها كانت من قبيل رجوع الجاهل إلى الجاهل ، والّذي دعاهم إلى التّبعيّة هو العصبيّة لطريقة الآباء والأجداد ، لا كونهم من أصحاب البصيرة والتدبّر في أمر التوحيد والعبادة ، وأين ذلك من العاميّ المقلّد لأهل الخبرة في مجال الدّين مع علم العاميّ بأنّه من أهلها.

١٤١

٢ ـ الآيات الذامّة لاتّباع الظنّ :

لقد تضافرت الآيات في النّهي عن اتّباع الظنّ نذكر ما يلي :

١ ـ (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (الأنعام ـ ١١٦).

٢ ـ (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) (الأنعام ـ ١٤٨).

٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (الحجرات ـ ١٢).

٤ ـ (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (النجم ـ ٢٨).

وفتوى المجتهد لا تتجاوز عن كونها أمراً ظنيّاً ، فيكون تقليده من أفراد اتّباع الظنّ.

والإجابة عن ذلك واضحة بعد الوقوف على أنّ المراد من الظنّ هو الترجيح لأمر بلا دليل من العقل ولا الشّرع ، ولا مستند لمتّبع الظنّ سوى الخضوع للعواطف والعصبيّات ، وأين هذا من الرّجوع إلى علماء الدّين الّذين أفنوا أعمارهم ونذروا للشّرع أنفسهم في تحصيل الحقائق وكشفها وحلّ معضلات المسائل ، بل القسم الثاني خارج من العمل بالظنّ موضوعاً ، لأنّه لا يتلقّاه الآخذ ظنّاً ، وعلى تسليمه فهو طريق مدعم ومعتضد بالعقل والشّرع كما عرفت.

١٤٢

٣ ـ الآيات التي تنكر عمل أهل الكتاب :

إنّ بعض الآيات تنكر عمل أهل الكتاب في الرّجوع إلى الأحبار والرّهبان واتخّاذ أقوالهم حججاً بينهم وبين ربّهم. بل عدّ الله سبحانه عملهم عبادة لهم ، قال سبحانه : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة ـ ٣١) وقد روي عن الصادق (عليه‌السلام) أنّه قال : «أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ولو دعوهم ما أجابوهم ، ولكن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالاً فعبدوهم من حيث لا يشعرون» (١).

وفي حديث آخر عنه (عليه‌السلام) : «والله ما صاموا لهم ولا صلّوا لهم ولكن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالاً فاتّبعوهم» (٢).

والإجابة عن الاستدلال بها أوضح ممّا سبق ، وأين عملهم من عمل فقهاء الإسلام من بذل الجهد ، ليحرّموا ما حرّم الله ويحلّوا ما أحلّ الله بلا تغيير ولا تحريف.

هذا وإنّ صاحب الوسائل عقد بابين في المقام وهما :

١ ـ باب عدم جواز تقليد غير المعصوم (عليه‌السلام) فيما يقول برأيه وفيما لا يعمل فيه بنصّ عنهم (عليهم‌السلام) (٣).

__________________

(١) الوسائل : ١٨ / ٨٩ ح ١ ، الباب ١٠ من أبواب صفات القاضي.

(٢) الوسائل : ١٨ / ٩٠ ح ٣ ، الباب ١٠ من أبواب صفات القاضي.

(٣) الوسائل : ١٨ / ٨٩ ، الباب ١٠ من أبواب صفات القاضي.

١٤٣

٢ ـ باب وجوب الرّجوع في القضاء والفتوى إلى رواة الحديث من الشّيعة فيما رووه عن الأئمة (عليهم‌السلام) من أحكام الشريعة لا فيما يقولونه برأيهم (١).

أقول : إنّ النّاظر في روايات البابين لا يجد رواية تدلّ على بطلان تقليد العاميّ لفقهاء الدّين الّذين يفتون على طبق الكتاب والسنّة والعقل فيما للعقل مجال الحكم ، والرّوايات الواردة فيها ناظرة إلى فقهاء العامّة الّذين كانوا يفتون على طبق ضوابط ما أنزل الله بها من سلطان كالقياس والاستقراء النّاقص والاستحسان ، والرّجوع إلى من باع آخرته بدنياه ، فأين هذه الرّوايات من فتوى علماء الشّيعة النّابعة عن الكتاب والسنّة والأدلّة التي قام الدّليل القطعيّ على حجيتها.

وأظنّ أنّ الشيخ الحرّ العامليّ تأثر من محيطه وبيئته اللّتين كان يعيش فيهما ، حيث كانت الفكرة الأخباريّة سائدة في زمانه ، فقد توفّي عام (١١٠٤ ه‍ ـ) وعاش في عصر المجلسيّين الأوّل والثاني رحمهم‌الله. وكان رفض الاجتهاد وذمّ التقليد شعاراً لأكثر فضلاء تلك الدّورة إلى أن جاء المحقق البهبهانيّ (٢) فخدم الأُمّة

__________________

(١) الوسائل : ١٨ / ٩٨ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي.

(٢) قاوم الاخباريّون أو المحدّثون دور العقل في مختلف الميادين ودعوا إلى الاقتصار على البيان الشّرعيّ فقط ، لأنّ العقل عرضة للخطأ ، وتاريخ الفكر العقليّ زاخر بالأخطاء ، فلا يصلح لكي يستعمل أداة إثبات في أيّ مجال من المجالات الدينيّة. ويرجع تاريخ هذا الاتّجاه إلى أوائل القرن الحادي عشر ، فقد أعلنه ودعا إليه شخص كان يسكن وقتئذ في المدينة باسم «الميرزا محمّد أمين الاسترآباديّ» المتوفّى سنة ١٠٢٣ ه‍ ـ ، ووضع كتاباً أسماه : «الفوائد المدنيّة» بلور فيه هذا الاتّجاه وبرهن عليه وجعله مذهباً.

وفي عقيدة المحدّث الاسترآباديّ أنّ العلم البشريّ الذي يستمد قضاياه من الحسّ هو وحده الجدير بالثّقة وكذلك الرّياضيّات التي تستمدّ خيوطها الأساسيّة ـ في زعمه ـ من الحسّ.

وفي ضوء ذلك نلاحظ التقاءً فكريّاً بين الحركة الفكريّة الاخباريّة والمذاهب الحسيّة والتجريبيّة في الفلسفة الأوروبيّة ، فقد شنّت جميعاً حملة كبيرة ضدّ العقل ، وألغت قيمة أحكامه إذا لم يستمدّها من الحسّ. إلّا أنّ ذلك لم يؤدّ بالتفكير الأخباريّ إلى الإلحاد كما أدّى بالفلسفات الحسيّة

١٤٤

الإسلامية بآرائه مقتلعاً جذور الفكرة الأخبارية بإفاداته ، رحم الله الماضين من علمائنا وحفظ الباقين منهم.

__________________

الأوروبيّة ، لاختلافهما في الظّروف التي ساعدت على نشوء كلّ منهما ، فإنّ الاتجاهات الحسيّة والتجريبيّة في نظريّة المعرفة قد تكوّنت في فجر العصر العلميّ الحديث لخدمة التجربة وإبراز أهميّتها ، فكان لديها الاستعداد لنفي كلّ معرفة عقليّة منفصلة عن الحسّ. وأمّا الحركة الأخباريّة فكانت ذات دوافع دينيّة ، وقد اتّهمت العقل لحساب الشرع لا لحساب التجربة ، فلم يكن من الممكن أن تؤدّي مقاومتها للعقل إلى إنكار الشريعة والدّين.

ولهذا كانت الحركة الاخباريّة تستبطن ـ في رأي كثير من ناقديها ـ تناقضاً ، لأنّها شجبت العقل من ناحية لكي تخلّي ميدان التّشريع والفقه للبيان الشرعيّ ، وظلّت من ناحية أُخرى متمسّكة به لإثبات عقائدها الدينيّة ، لأنّ إثبات الصّانع والدّين لا يمكن أن يكون عن طريق البيان الشرعيّ ، بل يجب أن يكون عن طريق العقل.

ومن العلماء الّذين نهجوا هذا المنهج تقريباً «السيّد نعمة الله الجزائري» و «الشيخ يوسف البحراني» وهذا كانت له طريقة معتدلة ولم يكن بتلك الحدّة التي كان عليها الاسترآباديّ ، ومثلهما «ملّا محسن الفيض الكاشاني» و «الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العامليّ» وكلّ هؤلاء من علماء الشيعة ومفاخرهم لكنّهم نهجوا في الفقه ذلك المنهج ولم يكونوا في تلك الشدّة التي كان عليها الاسترآباديّ.

واستمرّت هذه الفكرة حتى القرن الثّالث عشر فوصلت إلى ذروتها ، ولكنّها أخذت تنهار بعد أن وقف أمامها المحقّق محمّد باقر بن محمّد أكمل المعروف ب ـ «الوحيد البهبهانيّ» وقد ولد في اصفهان سنة (١١١٨ ه‍ ـ) ويقول الخوانساريّ في حقّ البهبهانيّ :

«كان مروّج رأس المائة الثالثة عشرة من الهجرة المقدّسة ، ارتفعت بميامن تأييداته المتينة أغبرة آراء الأخباريّة ، كما أنّه انطمست آثار البدع من جماعة الملاحدة والغلاة والصّوفيّة.

وقد سمّي ب ـ «آية الله تعالى من غاية الكرامة له ، كما سمّي من قبله العلّامة ب ـ «آية الله». (روضات الجنات : ٢ / ٩٤).

ويقول أيضاً : «قد كانت بلدان العراق سيّما المشهدين الشّريفين مملوءة قبل قدومه من معاشر الأخباريّين ، بل ومن جاهليهم والقاصرين حتّى إنّ الرّجل منهم كان إذا أراد حمل كتاب من كتب فقهائنا حمله مع منديل ، وقد أخلى الله البلاد منهم ببركة قدومه واهتدى المتحيّرة في الأحكام بأنوار علومه» (روضات الجنات : ٢ / ٩٤).

توفيّ المحقّق البهبهاني عام (١٢٠٦ ه‍ ـ) ودفن في الرّواق المطهّر الحسينيّ (عليه‌السلام) قريباً ممّا يلي أرجل الشّهداء. (ترجم في روضات الجنات : ٢ / ٩٤). راجع المعالم الجديدة للأُصول ـ الشّهيد السيّد الصدر : ٤٢ ـ ٤٥ وعلم الأُصول تاريخاً وتطوّراً : ١٦٨ ـ ١٧٤.

١٤٥

المسألة الثالثة : في وجوب تقليد الأعلم وعدمه :

إذا اختلف الأحياء في العلم والفضيلة فمع علم المقلّد بالاختلاف على وجه التفصيل أو الإجمال ، هل يجب الأخذ والعمل بفتوى الفاضل أو يجوز العمل بفتوى المفضول أيضاً؟ قولان.

ولنذكر صور المسألة وإن كان بعضها خارجاً عن العنوان التفصيلي :

١ ـ إذا علم العاميّ موافقة الأعلم لغيره في الفتوى بتفاصيلها.

٢ ـ إذا علم مخالفتهما في الفتوى تفصيلاً أو إجمالاً.

٣ ـ إذا شكّ في مخالفتهما فيها.

أمّا الصورة الأُولى : فهي خارجة عن محلّ النزاع ، ولا جدوى للبحث فيها كما سيتبيّن لك إن شاء الله.

وأمّا الصورة الثانية : فهي محلُّ الكلام بين الأعلام فمن قائل بتعيُّن الفاضل إلى قائل بالتَّخيير كما عليه أكثر الأُصوليّين من العامّة ، والمسألة معنونة في كتب الأُصول عند الفريقين (الشيعة والسنّة) ننقل بعض كلماتهم :

١ ـ قال الحاجبي : مسألة : «المختار أنّ للمقلِّد عند تعدّد المجتهدين أن يقلِّد من شاء ، وإن تفاضلوا ، وعن أحمد وابن سريج ، يجب عليه النظر في الأرجح ، لنا : القطع بأنّ المفضولين باتّفاق في زمان الصحابة وغيرهم كانوا يفتون

١٤٦

ويستفتون ، مع الاشتهار والتكرّر ، ولم ينكر أحد ، فدلّ على أنّه جائز» (١).

٢ ـ وقال القاضي : «إذا كان أحدهما أفضل وأعلم في اعتقاده يتخيّر ، لأنّ المفضول أيضاً من أهل الاجتهاد لو انفرد ، فكذلك إذا كان معه غيره فزيادة الفضل لا تؤثّر» (٢).

ونقل عن العضديّ موافقته مع القاضي.

ولكن ذهب الغزاليّ إلى تعيّن تقليد الأعلم ، وقال : «الأولى عندي أنّه يلزمه اتّباع الأفضل ، فمن اعتقد أن الشافعيّ (رحمه‌الله) أعلم والصواب على مذهبه أغلب ، فليس له أن يأخذ بمذهب مخالفه بالتّشهّي ...» (٣).

وأمّا الشيعة فقد استقصى الشيخ الأنصاريّ أقوالهم في رسالة خاصّة له في تقليد الأعلم وقال : «إنّ تقديم الفاضل هو خيرة :

١ ـ السيّد في الذّريعة ، ٢ ـ المحقّق في المعارج ، ٣ ـ العلّامة في كتابي نهاية الأُصول والتهذيب ، ٤ ـ عميد الدّين في غنية اللبيب في شرح التهذيب ، ٥ ـ الشّهيد في الدّروس والقواعد والذكرى ، ٦ ـ المحقّ ـ ق الثاني في جامع المقاصد ، ٧ ـ الشّهيد الثاني في تمهيد القواعد ٨ ـ الشييخ حسن في المعالم ، ٩ ـ بهاء الدّين العامليّ في الزبدة. ١٠ ـ الشيخ صالح المازندرانيّ في حاشية المعالم ، ١١ ـ السيّد عليّ في الرياض ، وهو قول كلِّ من وصل إلينا كلامهم وإن ذهب جماعة ممّن تأخّر عن الشهيد إلى القول بالتّخيير بين الفاضل والمفضول» (٤).

هذا وإليك نقل بعض الكلمات من مصادرها :

١ ـ قال السيد المرتضى : «وإن كان بعضهم عنده أعلم من بعض أو أورع

__________________

(١) منتهى الوصول والأمل في علمي الأُصول والجدل : ٢٢١ و ٢٢٢.

(٢) لاحظ المستصفى : ٢ / ٣٩١.

(٣) المستصفى : ٢ / ٣٩١.

(٤) رسالة تقليد الأعلم لبعض تلامذة الشيخ (رضي الله عنه) في ذيل مطارح الأنظار : ٢٧٦.

١٤٧

وأدين ، فقد اختلفوا ، فمنهم من جعله مخيّراً ، ومنهم من أوجب أن يستفتي المقدّم في العلم والدّين ، وهو أولى لأنّ الثقة هاهنا أقرب وأوكد ، والأُصول كلّها بذلك شاهدة» (١).

٢ ـ وقال المحقّق : «ويجب عليه الاجتهاد في معرفة الأعلم والأورع ، فإن تساويا تخيّر في استفتاء أيّهما شاء ، وإن ترجّح أحدهما من كلّ وجه تعيّن العمل بالراجح ، وإن ترجّح كل واحد منهما على صاحبه بصفة ، فالأقوى الأخذ بقول الأعلم» (٢).

٣ ـ وقال العلّامة : «ولو أفتاه اثنان فصاعداً ، وإن اتّفقوا ، وإلّا اجتهد في الأعلم الأورع فقلّده ، فإن تساويا تخيّر ، وإن ترجّح أحدهما بالعلم والآخر بالزّهد تعيّن الأعلم ، ويعلم الأعلم بالتّسامح والقرائن لا بالبحث عن نفس العلم ، إذ ليس على العاميّ ذلك ـ إلى أن قال : ـ ولا يجوز للعاميّ تقليد المفضول مع وجود الأفضل ، لأنّ ظنّ إصابته أضعف ، وإذا تساوى المفتيان فقلّد العاميّ أحدهما ، لم يجز له الرّجوع عنه في ذلك الحكم ، والأقرب جوازه في غيره» (٣).

٤ ـ قال صاحب المعالم : «وأمّا مع الاختلاف ، فإن علم استواءهم في المعرفة والعدالة ، تخيّر المستفتي في تقليد أيّهم شاء ، وإن كان بعضهم أرجح في العلم والعدالة من بعض تعيّن عليه تقليده ، وهو قول الأصحاب الّذين وصل إلينا كلامهم ، وحجّتهم عليه ، أنّ الثقة بقول الأعلم أقرب وأوكد ، ويحكى عن بعض النّاس القول بالتّخيير هنا أيضاً ، والاعتماد على ما عليه الأصحاب ، ولو ترجّح بعضهم بالعلم والبعض بالورع ، قال المحقّق (رضي الله عنه) يقدّم الأعلم لأنّ الفتوى تستفاد

__________________

(١) الذريعة : ٢ / ٨٠١.

(٢) معارج الأُصول : ٥٥.

(٣) تهذيب الوصول إلى علم الأُصول : ١٠٤ و ١٠٥.

١٤٨

من العلم لا من الورع ، والقدر الّذي عنده من الورع يحجزه عن الفتوى بما لا يعلم ، فلا اعتبار برجحان ورع الآخر ، وهو حسن» (١).

وبما أنّ المسألة من المسائل التفريعيّة ومن الفقه المستنبط ، لا جدوى في التوغّل في الأقوال ، لأنّ كلاً من القائل بالتّعيين والتخيير استند إلى دليل عقليّ أو شرعيّ ، فيكون المتّبع هو الدّليل لا قوله وكلامه ، وليس الاتفاق ـ على فرض ثبوته ـ كاشفاً عن دليل وصل إليهم ولم يصل إلينا ، فاللّازم هو عرض المسألة على الأدلة ، فنقول : يقع الكلام في مقامين :

الأوّل : ما هي وظيفة العاميّ في تلك المسألة ـ مع غضّ النظر عن رأي العلماء ـ هل يستقلّ عقله بالرّجوع إلى الفاضل أو بالتخيير بينهما؟

الثاني : ما هو مقتضى الأدلّة عند المجتهد هل يستفاد منها لزوم الرّجوع إلى الفاضل أو يستفاد التّخيير؟

أمّا الأوّل : فلا شكّ أنّ وظيفته ، هي الرّجوع إلى الفاضل ، ويستقلّ عقله بذلك كما يستقلّ بعدم تقليد المفضول ، وذلك ببيانين :

الأوّل : لا شك أنّه ورد التكليف بتقليد الفاضل ، ولكن نشك في أنّ الوجوب فيه تعيينيّ أو تخييريّ ، فمقتضى الإطلاق هو الأوّل ، لحاجة الثاني إلى بيان زائد ، والإطلاق ينفيه.

يلاحظ عليه : أنّا نقطع بعدم ورود خطاب خاصّ بالنسبة إلى تقليد الفاضل ، حتّى يتردّد الأمر فيه بين كون التكليف تعيينيّاً أو تخييريّاً ، والخطاب الوارد لا يتجاوز عن لزوم الرّجوع إلى أهل الذّكر ، وهو كليّ ينطبق على جميع المصاديق ، سواء كانا متفاضلين أو متساويين ، والتحديد بفرد خاصّ يحتاج إلى دليل.

__________________

(١) معالم الدّين ، قسم الاجتهاد والتّقليد.

١٤٩

نعم ، سيوافيك عدم الاطلاق في الأدلّة الارجاعيّة ، إذا كان أهل الذكر والتحذير مختلفين ، وهذا أمر آخر.

الثاني : إنّ قول الفاضل متيقن الحجيّة دون المفضول ، فهو مشكوك الحجيّة ، والاشتغال اليقينيّ يستدعي الفراغ اليقينيّ ، وهذا هو المعتمد.

نعم ، له أن يقلِّد في تلك المسألة رأي الفاضل ، فإذا أجاز تقليد المفضول جاز له تقليده ، ولكنّه ليس تقليداً له ابتداءً ، بل هو في الحقيقة تقليد للفاضل ، وبتقليده تصير فتاوى المفضول حجّة.

ولا يجوز له الرّجوع في تلك المسألة إلى المفضول ابتداءً ، لاستلزامه الدّور ، لأنّه برجوعه إليه في خصوص هذه المسألة (جواز تقليد المفضول) فرع جواز الرّجوع إليه مطلقاً ، لتندرج المسألة تحته ، وهذا متوقّف على جواز تقليد المفضول مع وجود الفاضل وهذا هو الدّور الصريح.

إلى هنا تبيّن عدم جواز الرّجوع إلى المفضول إلّا مع إجازة الفاضل.

المقام الثاني : ما هو مقتضى الادلة فى المسألة :

يقع الكلام تارة في مقتضى الأصل الأوّليّ ، وأُخرى في مقتضى الأدلّة الاجتهادية.

أمّا الأوّل : لا شك انّ الأصل حرمة العمل بالظنّ ، وعدم حجيّة رأي أحد على أحد ، خرج منه متابعة قول الفاضل بالاتفاق من المجوّزين تخييراً بينه وبين المفضول والموجبين للعمل بقوله تعييناً ، فإنّه المجمع عليه ، وتبقى متابعة المفضول تحت عموم حرمة العمل بما وراء العلم.

وربمّا يقرّر الأصل بأنحاء أُخر :

ألف : إنّ أصالة حرمة العمل بما وراء العلم قد انقطعت بما دلّ على مشروعيّة التقليد في الجملة ، ولا ريب أنّه إن كان المجتهدان متساويين في العلم

١٥٠

كان قول كلّ منهما حجّة ، وكان المكلّف مخيّراً بينهما ، فلو زال التساوي في العلم يستصحب التخيير السابق ، ويتمّ الأمر في غير هذه الصّورة بعدم القول بالفصل.

يلاحظ عليه : ـ مع أنّه منقوض بمثله أوّلاً وذلك فيما إذا كان أحدهما أفضل من الآخر ثمّ حدث التساوي ، فيستصحب الوجوب التعيينيّ ، ويتمّ الأمر في غير هذه الصّورة بعدم القول بالفصل ـ أنّ التّخيير في صورة التساوي من أحكام العقل ، وهو إنّما يستقل به عند التساوي ، ويستقلّ بعدمه عند ارتفاعه ، فلا شكّ في حكم العقل حتى يستصحب ولا معنى أن يكون حكمُ الشرع اوسع فيما يستقلّ به العقل من الإثبات والنّفي.

ب : إنّ الأمر دائر بين كون المكلف به هو الرّجوع إلى مطلق الفقيه ، حتى يكون مخيّراً ، والرّجوع إلى خصوص الأعلم من الفقهاء ، ولا شكّ أنّ الثاني فيه كلفة زائدة ليست في الأوّل ، فينتفي بحكم البراءة ، كما لو دار الأمر بين كون الواجب هو مطلق الرّقبة أو خصوص الرّقبة المؤمنة.

يلاحظ عليه : أنّه قياس مع الفارق ، لأنّ الحكم في المقيس عليه تعلّق بعنوان دائر بين الإطلاق والتقييد ، فإذا كان القيد مشكوكاً ينفى وجوبه بحكم البراءة ، بخلاف المقام ، إذ ليس هنا دليل شرعيّ دائر بين تقليد مطلق المجتهد والمجتهد الفاضل ، بل الدّليل هو حرمة العمل بالظنّ إلّا ما خرج ، وهنا دار أمر الخارج بين الأقلّ والأكثر ، والأصل في غير الأقلّ محكّم.

ج : لا شكّ أنّ قول المفضول حجّة بلا إشكال ، بشهادة جواز الرّجوع إليه عند التساوي ، والقول بوجوب الرّجوع إلى الفاضل وترجيحه لدى التعارض منفيّ بالأصل ، لأنّ الأصل في الترجيح كالحجّة في العدم ، إلّا إذا ثبت.

يلاحظ عليه : أنّ أصالة عدم الترجيح لإثبات حجيّة قول المفضول ، لا تقاوم العمومات الدّالة على حرمة العمل بالظنّ خرج منها الفاضل ويبقى الباقي تحتها.

١٥١

إلى هنا تبيّن أنّ الأصل الأوّليّ هو الرّجوع إلى الفاضل دون المفضول ، هذا كلّه حول الأصل الأوّلي.

ما هو مقتضى الأدلّة الاجتهادية :

نقول : أمّا آية النفر ـ على فرض دلالتها ـ وآية السّؤال ، والروايات الإرجاعيّة ، فهي لا تشمل مورد اختلاف الفتويين ، شأن جميع أدلّة الحجيّة ، فلا محيص من التماس دليل آخر ، وليس في المقام ما يمكن الاستدلال به إلّا السيرة العقلائيّة ، وهي في مورد الاختلاف تقدّم الفاضل على المفضول ، خصوصاً في مهام الأُمور وأعاليها.

ثمّ إنّ سيّدنا الأُستاذ ـ مد ظله ـ احتمل أنّ تقديم الفاضل على المفضول عند العقلاء من باب حسن الاحتياط ، لا من باب اللّزوم ، بقرينة رجوعهم إلى المفضول بمجرّد تحقّق أعذار غير وجيهة كبعد الطريق وكثرة المراجعين ومشقّة الوصول وإن كانت قليلة وأمثال ذلك ممّا يعلم بأنّه لو حكم العقل إلزاماً بالترجيح لما كانت تلك الأعذار وجيهة لدى العقل والعقلاء ، هذا مع علمهم إجمالاً باختلاف الرّأي بين أصحاب الفنّ.

يلاحظ عليه : أنّ مراجعتهم للمفضول مع وجود الفاضل لأحد أمرين :

الأوّل : إمّا لعدم علمهم بالمخالفة في مورد المراجعة ، وإن كان لهم علم بوجود الخلاف بين أصحاب الفنّ إجمالاً ، ولكن لمّا كانت سائر الموارد خارجة عن ابتلائهم ولم يكن لهم علم في خصوص المورد ، فإنّهم يرجعون إلى المفضول مع وجود الفاضل ، وربّما يعتقدون بوحدة النّظر والتشخيص بينهم ، لابتلاء أصحاب الفنّ بمثله في كلّ يوم مرّات ، ولأجل ذلك لا يكون وجود الفاضل سبباً لتعطيل فتوى المفضول.

١٥٢

الثاني : إمّا أنّهم يتسامحون في المراجعة إلى المفضول في أغراضهم العاديّة دون مهامّ الأُمور وأعاليها ، ومثله لا يكون دليلاً على المسامحة في الأُمور الدينيّة التي لا يعلوها غرض وهدف.

هذا وقد جاءت الإشارة إلى سيرة العقلاء في بعض الرّوايات فعن صحيح عيص بن القاسم قال : سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : «عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له ، وانظروا لأنفسكم ، فو الله إنّ الرّجل ليكون له الغنم فيها الرّاعي ، فإذا وجد رجلاً هو أعلم بغنمه من الّذي هو فيها ، يخرجه ويجيء بذلك الرّجل الّذي هو أعلم بغنمه من الّذي كان فيها ...» (١).

هذا كلّه إذا لم تكن فتوى غير الأعلم مطابقة للاحتياط ، وفتوى الأعلم مخالفة له ، كما إذا أفتى الأوّل بنجاسة الغسالة والآخر بطهارتها ، أو أفتى الأوّل بوجوب التسبيحات الأربعة ثلاثاً ، وأفتى الفاضل بوجوب الواحدة ، إذ حينئذ جاز ترك قول الفاضل والأخذ برأي المفضول ، إلّا أنّ هذا في الحقيقة عمل بالاحتياط الموجود في فتوى المفضول دون الفاضل.

هذا هو تحليل المسألة وبيان دليلها ، وليس وراء ما ذكرنا شيء يعتمد عليه في إثبات وجوب الرّجوع إلى الفاضل سوى وجوه ضعيفة ذكرها الشيخ (رضي الله عنه) في رسالته وهي :

١ ـ الإجماع على وجوب الرّجوع إلى الفاضل كما وقفت عليه من خلال كلماتهم ، قال الشيخ الأنصاريّ (رضي الله عنه) :

«ولا يجوز الاجتراء في الإفتاء في مثل هذه المسألة التي بمنزلة الإفتاء في جميع الفقه ، بخلاف المنقول من الأصحاب ، كيف ولا نرى منهم الاختلاف مع وجود ذلك فيما هو أهون من المقام كما لا يخفى على من تتبّع فتاواهم ، ولا وجه للوسوسة

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ١١ / ٣٥ ح ١ ، الباب ١٣ من أبواب جهاد العدو وما يناسبه.

١٥٣

بعدم حجيّة الإجماع المنقول في المقام كما عرفت» (١).

يلاحظ عليه : أنّ الإجماع في مثل المقام لا يكون كاشفاً عن دليل وصل إليهم ولم يصل إلينا ، ولا شكّ أنّهم اعتمدوا على بعض الوجوه التي سنذكرها ، وعليه يصبح الإجماع مدركيّاً خاضعاً للدّليل ، فيجب تقييم دليلهم لا الاعتماد على اتّفاقهم.

٢ ـ مقبولة عمر بن حنظلة وفيها : الحكم ما حكم به أعدلهما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر (٢).

٣ ـ ما رواه الصّدوق عن داود بن الحصين عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف ، فرضيا بالعدلين فاختلف العدلان بينهما ، عن قول أيّهما يمضي الحكم؟ قال (عليه‌السلام) : «ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه ولا يلتفت إلى الآخر». (٣).

٤ ـ حديث موسى بن أكيل عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) عند اختلاف الحكمين قال (عليه‌السلام) : «ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين الله فيمضي حكمه» (٤).

هذا وقد أورد على الاستدلال بأنّ مورد الرّوايات هو الحكم والقضاء ، والترجيح فيها بالأفقهيّة لا يكون دليلاً على لزومه في الإفتاء لأنّ أمر القضاء لا يقبل التخيير ولا التفويض ولا الإهمال ، فلا مناص عن الترجيح بشيء من الأُمور ، وهذا بخلاف الإفتاء إذ لا مانع من التخيير بين الرّأيين ، فلا يكون الترجيح في الرّوايات دليلاً على الترجيح في المقام.

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٢٨٠.

(٢ ـ ٣) الوسائل : ١٨ / ٧٥ و ٨٠ ح ١ وح ٢٠ ، الباب ٩ من أبواب صفات النبي القاضي.

(٤) الوسائل : ١٨ / ٨٨ ح ٤٥ الباب ٩ من أبواب صفات القاضي.

١٥٤

أقول : فيها أيضاً تلميح إلى الترجيح في الإفتاء ، لأنّ اختلاف الحكمين قد ينشأ من الاختلاف في الأُمور الخارجيّة وأُخرى من الاختلاف في الفتوى ، ومورد الثاني هو الرّواية ، فيكون دليلاً صريحاً على الترجيح بالأعلميّة عند اختلاف أرباب الفتوى في القضاء ومومياً إليه في غيره كما لا يخفى.

٥ ـ قول أمير المؤمنين (عليه‌السلام) في عهده إلى مالك الأشتر : «ثمّ اختر للحكم بين النّاس أفضل رعيّتك في نفسك ممّن لا تضيق به الأُمور ولا تمحكه الخصوم (١) ولا يتمادى في الزلّة ولا يحصر (٢) من الفيء (٣) إلى الحقّ إذا عرفه ، ولا تشرف نفسه على طمع ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه ، وأوقفهم في الشّبهات ، وآخذهم بالحجج وأقلّهم تبرّماً (٤) ، بمراجعة الخصم وأصرّهم على تكشّف الأُمور ...» (٥).

يلاحظ عليه : أنّ المتبادر من الأفضل بقرينة الجمل المتعقّبة هو المتجلي بالفضائل النّفسانيّة من كونه خاضعاً للحقّ ، غير لجوج ، وآخذاً له إذا عرفه ، حتى أنّ المراد من «آخذهم بالحجج» هو المحتاط في أُموره ، وأين ذلك من الأفقهيّة.

٦ ـ قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من تعلّم علماً ليماري به السّفهاء ، أو ليباهي به العلماء ، أو يصرف به النّاس إلى نفسه ، يقول : أنا رئيسكم ، فليتبوّأ مقعده من النّار ، إنّ الرّئاسة لا تصلح إلّا لأهلها ، فمن دعى النّاس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه ، لم ينظر الله إليه يوم القيامة» (٦).

يلاحظ عليه : أنّ المراد من الرّئاسة هي الإمامة بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويلزم أن يكون

__________________

(١) يقال : محك الرّجل : إذا لجّ في الخصومة والمنازعة.

(٢) أي : لا يضيق صدره.

(٣) الفيء : الرّجوع.

(٤) الملل والضّجر.

(٥) نهج البلاغة قسم الرّسائل والكتب رقم ٥٣.

(٦) بحار الأنوار : ٢ / ١١٠ ح ١٦.

١٥٥

أعلم الناس ، ومن دعا النّاس إلى رئاسة وإمامة نفسه وفي الأُمّة من هو أعلم منه ، لا ينظر إليه الله يوم القيامة ، وأين ذلك من أخذ الفتوى من الفقيه البعيد عن الرّئاسة أحياناً أو كثيراً.

وكذلك ما روي عن الصادق (عليه‌السلام) أنّه قال لعمرو بن عبيد (من المعتزلة) في حديث طويل آخره ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من ضرب النّاس بسيفه ودعاهم إلى نفسه وفي المسلمين من هو أعلم منه ، فهو ضالّ متكلّف» (١).

٧ ـ ما في عيون المعجزات عن الجواد (عليه‌السلام) أنّه قال مخاطباً عمّه :

«يا عمّ إنّه عظيم عند الله أن تقف غداً بين يديه فيقول لك : لم تفتي عبادي بما لم تعلم ، وفي الأُمّة من هو أعلم منك» (٢).

وروي في موضع آخر ، محذوف الذّيل (٣) ، أي قوله : «وفي الأُمّة من هو أعلم منك» ولعلّه أصحّ لأنّ ذمّ الإمام (عليه‌السلام) عمّه كان لجهله «بما لم تعلم» لا على قلّة علمه ، كما هو مقتضى الذّيل ، وعلى كلّ حال الرّواية مرسلة لا يحتجّ بها.

٨ ـ إنّ فتوى الأعلم أقرب إلى الواقع من غيرها ، فيجب الأخذ بها عند التّعارض ، لأنّ الأخذ بالأقرب لازم عند التّعارض ، وربمّا تردّ الصّغرى بأنّه قد تكون فتوى غير الأعلم أقرب إلى الواقع لموافقتها للمشهور ولفتيا أساطين المذهب ومحقّقيهم الّذين هم أعلم من الحيّ بمراتب (٤).

يلاحظ عليه : أنّ الملاك في الترجيح بالنسبة إلى المقلّد هو الأقربيّة الدّاخليّة القائمة بنفس المفتي وهي الأعلميّة ، وأمّا الأقربيّة الخارجيّة القائمة بأُمور خارجة

__________________

(١) بحار الأنوار : ٤٧ / ٢١٣ ـ ٢١٦ ح ٢.

(٢) بحار الأنوار : ٥٠ / ٩٩ ـ ١٠٠ ح ١٢.

(٣) بحار الأنوار : ٥٠ / ٨٥ ـ ٨٦.

(٤) مطارح الأنظار : ٢٨٠.

١٥٦

عن نفس المفتي ككون رأيه موافقاً للشهرة أو الأمارة وغير ذلك ، فلا يتمكّن المقلّد من الوقوف عليها ، فلا يصحّ أن يكون مثل ذلك ملاكاً للتّكليف ، وهذا بخلاف الترجيح بأمر داخلي قائم بنفس المفتي.

نعم يرد عليه أنّه لا دليل على الترجيح بالأقربيّة النّسبيّة ما لم تصل إلى حدّ يجعل أحدهما حجّة والآخر غير حجّة كما هو الحال في المشهور والشاذّ ، وأمّا ما وراء ذلك فحسنه لا ينكر إلّا أنّه لا دليل على لزوم الترجيح (١).

هذا مجموع ما يمكن الاستدلال به على لزوم تقديم الفاضل وبقي الكلام في أدلة المجوِّزين ، فنقول : استدلّوا بوجوه :

الأوّل : إطلاقات الكتاب والسنّة والرّوايات الارجاعيَّة.

يلاحظ عليه : بما سبق من أنّها بصدد بيان أصل الرّجوع ولا إطلاق لها بالنّسبة إلى صورة التّعارض حتى ما ورد بصورة العموم البدليّ «فاصمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا» (٢) فإنّه لا يتجاوز عن قول القائل : «ارجع إلى الأطباء» فالكلّ منصرف عن صورة التعارض ، نعم يصحّ التعويل على هذه الإطلاقات عند عدم العلم بالاختلاف والتّعارض ، وهذا بخلاف التعويل عليها مع العلم بالاختلاف ، فإنّ ادّعاء وجود الإطلاق عند العلم بالاختلاف متوقِّف على صدورها

__________________

(١) قيل : إنَّ حجيَّة فتوى العالم في حقِّ العاميّ وإن كانت من باب الطريقيَّة كغيرها من الطرق التعبديَّة ، إلَّا أنَّه لم يُعلم كون المناط في التعبد بها هو القرب إلى الواقع بنظر العقل كي يدور في مقام التَّرجيح مدار الأقربيَّة ، فلعلَّ المناط في نظرِ الشَّارع في التعبد بها شيء آخر يكون الأعلم وغيره فيه سيَّان ، وكونُ غلبة الإيصال في نظرِ الشَّارعِ حكمةً لجعلِ الطرق غير العلميَّة لا تقتضي العليَّة وإلّا لاقتضى القول به في التّعبد بسائرِ الطرقِ والامارات غير العلميَّة كالبيّنَة ونحوها ، فلو كان القربُ إلى الواقع ملاكاً في التَّرجيح كان ملاكاً في ترجيح إحدى البيِّنتينِ مثلاً على الأُخرى لو كانت أعرف بالحالِ من الأُخرى ، مع أنَّه مع تعارضهما ـ وإن كانت إحداهما أقرب ـ تساقطتا.

(٢) الوسائل : ١٨ / ١١٠ ح ٤٥ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي.

١٥٧

مع العلم بوجود الاختلاف بين هؤلاء المفتين والعلم باطلاع النّاس على اختلافهم في الفروع الفقهيّة ، وأنّى للقائل اثباته. هذا ، وإنّ من يصرُّ على التمسك بها يجب عليه أن يثبت أمرين :

١ ـ وجود الاختلاف بين أصحاب الأئمة (عليهم‌السلام) في كثير من الأحكام.

٢ ـ علم الناس بوجود الاختلاف بينهم مع اطلاع الأئمة (عليهم‌السلام) عليه بطريق عاديّ ، ومع ذلك أطلق الارجاع. ولكن أنّى إثبات ذينك الأمرين.

هذا هو الجواب الإجماليّ وأمّا التفصيليّ فيتوقّف على دراسة كلّ واحد بحياله ، ولو درست لوقفت على أن الغاية من الجميع هو دفع الشيعة عن الرّجوع إلى علماء السّوء والجور ، وأمرهم (عليهم‌السلام) بالتمسّك بمن أناخ مطيّته على باب أهل البيت (عليهم‌السلام) ، وأمّا الرّجوع إليهم في كلّ الأحوال حتى مع فرض التّعارض والتّخالف فليست الأحاديث بصدد بيانها.

الثاني : استقرار سيرة أصحاب الأئمة (عليهم‌السلام) على الأخذ بفتاوى أرباب النظر والاجتهاد من دون فحص عن الأعلميّة مع القطع باختلافهم في العلم والفضيلة ، ويكفي في ذلك ملاحظة تجويز التكلّم بهشام وأضرابه دون غيرهم.

يلاحظ عليه : بما مرّ من أنّه لا شكّ أنّ الآخذين كانوا قاطعين باختلاف أصحاب الأئمّة (عليهم‌السلام) في العلم والفضيلة ، ولكن هل كانوا عالمين باختلافهم في الفتوى؟ ثمّ هل كان ذلك بمرأى ومسمع من الأئمة (عليهم‌السلام) ومع ذلك أرجعوهم إليهم على وجه الإطلاق؟ فإنّ كلّ ذلك غير ثابت.

الثالث : إنّ رجوع جمع أهل الإسلام إلى الأعلم المنحصر في واحد أو اثنين عسر لا يتحمّل في العادة فيكون منفيّاً في الشريعة.

يلاحظ عليه : بالنقض بالرّجوع إلى الإمام المعصوم الواحد أوّلاً ، وبالحلّ من

١٥٨

أنّ الوجوب فيما إذا لم يلزم عسر لا فيما لزم ثانياً ، وشهادة الحال على خلافه ثالثاً خصوصاً بعد انتشار أمر الطباعة التي سهّلت أُموراً كثيرة ، فالرسالة المطبوعة المنتشرة في نطاق واسع تقوم مقام حضور الأعلم في المجتمعات ، إلى غير ذلك من الوجوه الواهية التي ذكرها الشيخ الأعظم (قدّه) نقلاً عن المجوّزين (١).

وخلاصة الكلام : إنّ الشكّ في حجيّة فتوى المفضول كاف في القطع بعدم حجّيتها ما لم يدل دليل قاطع عليها. هذا ، وكانت الشيعة في الأزمنة السابقة متفرّقة في البلاد والأصقاع ولم تكن المواصلات متوفرة مثل اليوم ، وكان الرّجوع إلى الأعلم المنحصر في واحد أو المتردّد بين اثنين في الأقطار الشيعيّة أمراً متعسّراً ، ولذلك كانوا يقلّدون الفاضل من قطرهم وبلدهم وإن لم يكن فاضلاً مطلقاً ، ولا شكّ أنّ المحقّق (رضي الله عنه) في عصره (٦٠٢ ـ ٦٧٦ ه‍ ـ) والعلّامة الحليّ في زمانه (٦٤٨ ـ ٧٢٦ ه‍ ـ) والشهيد في وقته (٧٣٤ ـ ٧٨٦ ه‍ ـ) كانوا أعلم العلماء ، ولكنّ الشّيعة المتواجدين في خراسان وما والاها كانت منقطعة عن بلاد هؤلاء إلّا شيئاً لا يذكر ، فكان التكليف بتقليد هؤلاء تكليفاً متعسّراً جدّاً.

ما هو المراد من الأعلم :

إنّ المتبادر من الأعلم ـ قياساً على نظائره ـ هو الأكثر علماً بأن يكون اختلاف الفاضل والمفضول في زيادة العلم وقلّته ، وشدّته وضعفه ، ولكنّ المراد منه في المقام غير ذلك ، إذ هو الأقوى ملكة أو الأكثر خبرة من غيره ، والأعرف بدقائق الفقه ومباني الاستنباط.

وفي الرّوايات ما يشير إلى كلا الوجهين ، فالعمدة في بعضها على كثرة المعلومات ، يقول (عليه‌السلام) : «اعرفوا منازل النّاس أو منازل شيعتنا أو منازل

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٢٧٨ و ٢٧٩.

١٥٩

الرّجال منّا على قدر رواياتهم عنّا» (١) ، والعمدة في البعض الآخر على الأعرفيّة بدقائق الكلام ومعانيه ، فقد روى داود بن فرقد قال : سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : «أنتم أفقه النّاس إذا عرفتم معاني كلامنا ، إنّ الكلمة لتنصرف على وجوه ، فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب» (٢).

وخطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مسجد الخيف ، وقال : «نضَّر الله (٣) عبداً سمع مقالتي فوعاها ، وبلَّغها من لم تبلغه ، يا أيّها النّاس ليبلّغ الشاهد الغائب ، فرُبّ حامل فقه ليس بفقيه ، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه» (٤).

ترى أنّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يركّز على الأفهميّة ، لا على الأكثريّة علماً ، هذا ولا تعارض بين الصنفين ، فمكانة الرّجل من حيث كثرة الصلة بأهل البيت (عليهم‌السلام) وقلّتها تعرف من كثرة الرّواية وقلّتها ، فرُبّ راو ليس له من الفقه إلّا رواية أو روايتان ، وهذا يدلّ على قلّة صلته بهم (عليهم‌السلام) وأمّا مكانته من حيث الفقاهة والتوغّل فيها فتعرف من أعرفيّته بدقائق كلامهم (عليهم‌السلام) ومعانيه ، والحاصل : أنّ الملاك هو الذّكاء في مقام الاستنباط ، والتفرّس في فهم الكلام ، ولنذكر نموذجاً :

إذا ماتت الزّوجة وتركت أُختين وزوجاً ، فإنّ الفريضة تعول ، لأنّ للأختين الثلثين وللزّوج النّصف ، وليس في المال ثلثان ونصف ، فعند ما واجه المسلمون الواقعة تحيّر الجاهلون فالتجئوا إلى إيراد النّقص على الجميع ، ولكن أهل الذّكاء والفراسة فهموا من القرآن ما لم يفهمه الآخرون ، فهذا ابن عباس تبعاً لأُستاذه أمير

__________________

(١) الوسائل : ١٨ / ٩٩ وص ١٠٨ ـ ١٠٩ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣ و ٣٧ و ٣٨ و ٤١.

(٢) الوسائل : ١٨ / ٨٤ ح ٢٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٣) نضّر : نوَّر.

(٤) الوسائل : ١٨ / ٦٣ ـ ٦٤ ح ٤٤ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي.

١٦٠