الرسائل الأربع - ج ٣

عدّة من الأفاضل

الرسائل الأربع - ج ٣

المؤلف:

عدّة من الأفاضل


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣٢

عند العمل ، وبذلك يعلم عدم تماميّة ما أورده المحقّق الخراساني حيث قال : ولا يخفى أنّه لا وجه لتفسيره بنفس العمل ، ضرورة سبقه عليه ، وإلّا كان بلا تقليد ، فافهم (١) ولعلّ الأمر بالفهم إشارة إلى ما ذكرناه ، من أنّ التقليد يتحقّق بنفس العمل إذا كان مقترناً بالاستناد ، ولا يشترط سبقه عليه ، بل يكفي تحقّقه به.

إذا عرفت ما ذكرناه ، فاعلم أنّ الظاهر أنّ التقليد اصطلاحاً ، هو نفسه لغة ، وقد سبق أنّ المادّة إذا صيغت من باب التفعيل تكون بمعنى جعل القلادة في عنق الغير ، وإذا صيغت من باب التفعّل تكون بمعنى جعل القلادة في عنق النفس ، ففرق بين قولنا : قلّدتُه ، وتقلّدتُ أو قلّدت المرأة وتقلّدت هي ، فالمقلِّد ، من يجعل القلادة في عنق الغير ، والمتقلِّد من يجعل القلادة في عنق نفسه ، فإذا كان البحث مركّزاً على تحقيق معنى التقليد ، يكون معناه من يقلّد الآخر ، فلا ينطبق إلّا على المعنى الثالث ، وليس هنا شيء يشبه القلادة إلّا عمله ، فكأنّه يتلقّاه قلادة ويجعل في عنق المجتهد ، بمعنى جعله مسئولاً عن صحّة عمله وفساده وبراءة ذمّته واشتغالها ، وهذا لا يتحقّق إلّا بنفس العمل لا بالأخذ ولا بالالتزام ، وليس العامّي إلّا مقلّداً ـ بالكسر ـ وأمّا المجتهد فهو المقلّد ـ بالفتح ـ أو المتقلّد ـ بالكسر ـ.

ويؤيد ذلك أمران :

١ ـ ما رواه الكلينيّ بسند صحيح عن أبي عبيدة (الحذَّاء) قال : قال أبو جعفر (عليه‌السلام) : «من أفتى النّاس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرّحمة وملائكة العذاب ، ولحقه وزر من عمل بفتياه» (٢).

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٢ / ٤٧٢ ، فصل في التّقليد. هذا.

(٢) الوسائل : ١٨ / ٩ ح ١ ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضي.

١٢١

٢ ـ ما رواه عبد الرّحمن بن الحجّاج ، قال : كان أبو عبد الله (عليه‌السلام) قاعداً في حلقة ربيعة ، فجاء أعرابيّ ، فسأل ربيعة الرّأي عن مسألة فأجابه ، فلمّا سكت ، قال له الأعرابيّ : أهو في عنقك؟ فسكت عنه ربيعة الرّأي ولم يردّ عليه شيئاً ، فأعاد المسألة عليه فأجابه بمثل ذلك ، فقال له الأعرابيّ : أهو في عنقك؟ فسكت ربيعة ، فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : «هو في عنقه ، قال : أو لم يقل : وكلُّ مفت ضامن» (١).

وأمّا إذا فسّرنا التقليد بالالتزام أو بالأخذ ينعكس الأمر ، ويكون معناه : أنّ المقلِّد يجعل فتوى المجتهد ورأيه قلادة لنفسه أو يتّخذها ربقة في عنقه فلا يفتحها إلّا إذا بلغ درجة الاجتهاد ، ولكنّه يناسب معنى المتقلِّد لا المقلِّد ، وعلى ما ذكرناه فالمجتهد مقلَّد ومتقلِّد والعامي مقلِّد محض.

فإن قلت : هل ورد عنوان التقليد موضوعاً لحكم شرعيّ ، حتّى نبذل الجهد في تحقيق معناه أوّلاً؟

قلت : لم يرد عنوان التقليد في النّصوص إلّا في الحديث المنقول في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ (عليه‌السلام) حيث روي عنه (عليه‌السلام) بعد الكلام في العلماء الفُسّاق : «فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه ، مخالفاً لهواه ، مطيعاً لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلّدوه ، وذلك لا يكون إلّا بعض فقهاء الشّيعة لا كلّهم ...» (٢) والرّواية ليست بحجّة لإرسالها ، بل هو أشبه بكلام العلماء ، حتّى ضعّفه الحرّ العامليّ (رضي الله عنه) وقال : «إنّ هذا الحديث لا يجوز عند الأُصوليين الاعتماد عليه في الأُصول ولا في الفروع لأنّه خبر واحد مرسل ، ظنّي السّند والمتن ، ضعيفاً عندهم» (٣).

__________________

(١) الوسائل : ١٨ / ١٦١ ح ٢ ، الباب ٧ من أبواب آداب القاضي.

(٢ ـ ٣) المصدر نفسه : ١٨ / ٩٤ و ٩٥ ح ٢٠ ، الباب ١٠ من أبواب صفات القاضي.

١٢٢

فإن قلت : إنّ عنوان التقليد وقع موضوعاً لعدّة أحكام أوردوها في الرّسائل العمليّة في باب التقليد أعني :

١ ـ يجب على كلّ مكلّف أن يكون في جميع عباداته ومعاملاته وعاداته ، مجتهداً أو مقلّداً أو محتاطاً.

٢ ـ عمل العاميّ بلا تقليد ولا احتياط باطل.

٣ ـ حكم عمل المقلِّد إذا عدل المجتهد عن رأيه إلى آخر أو إلى التوقف والاحتياط.

٤ ـ حكم العدول من تقليد الحيّ إلى غيره المساوي ، وعدمه ، مع العلم بالمخالفة.

٥ ـ حكم البقاء على تقليد الميت وعدمه.

قلت : ليس التقليد فيها بما هو هو ، موضوعاً لحكم شرعيّ ، ولا يتوقّف الحكم فيها على تحقيق معنى التقليد ، بل يمكن الحكم وإن لم نحقّق معناه.

أمّا الأوّل : فالحكم فيه عقليّ لا شرعيّ ، وما هو الموضوع إنمّا هو رجوع الجاهل إلى العالم (لا عنوان التقليد) ورجوع غير الوارد إلى المتخصّص ، سواء حصل له العلم أم لا ، وليست لعنوان التقليد مدخليّة فيه ، وأخذه فيه كناية عن رجوع الجاهل إلى العالم.

وأمّا الثاني : فالموضوع للصحّة والبطلان هو مطابقة العمل للواقع وعدمها ، والإتيان بالعمل مطابقاً لرأي المجتهد وعدمه هو طريق إلى استكشاف مطابقته للواقع وعدمها ، سواء أسمّي ذلك تقليداً أم لا ، فلا دخالة لعنوان التقليد ، ولأجل

١٢٣

ذلك يصحّ العمل ـ إذا كان عبادة ـ من الجاهل القاصر أو المقصّر الغافل (١) فيما لو أتيا بالعمل مع قصد القربة وكان مطابقاً لفتوى المجتهد الّذي يجب الرّجوع إليه فعلاً. بل ربّما يقال بالصحّة إذا كان مطابقاً لفتوى من كان يجب الرّجوع إليه حين العمل.

وكذلك الحال لو لم يكن العمل عبادة ، كما لو عقد على امرأة بالفارسيّة أو غسل المتنجّس بالبول مرّة بلا تقليد ، فيصح له ترتيب الأثر (٢) إذا وافق عمله رأي من يجب عليه الرّجوع إليه فعلاً ، وعلى قول إذا وافق رأي من كان يجب عليه الرّجوع إليه حين العمل من غير تأثير للتّقليد الفعليّ. فالميزان للصحّة إمّا كون العمل مطابقاً لفتوى من كان يجب عليه تقليده حين العمل فيحكم بالإجزاء ، أو مطابقاً لفتوى من يجب عليه تقليده فعلاً ويحكم بالإجزاء ، فالمؤثر تحقّق أحد الأمرين لا عنوان التقليد.

وأمّا الثالث : فالحكم بالإجزاء وعدمه بالنّسبة لأعمال المجتهد ومقلّديه راجع إلى براءة الذمّة وسقوط التّكليف بالعمل بالرأي السابق وعدمهما.

وأمّا الرّابع : فجواز العدول وعدمه راجع إلى سعة وضيق حجيّة فتوى المجتهد ، فإن كانت حجّة في خصوص ما عمل ، جاز له العدول إلى غيره في غيره ، وإن كانت حجّة فيما أخذ وتعلّم ، جاز له في غير ما تعلّم ، وإن كانت حجّة في كلّ ما التزم به إجمالاً ، لم يجز مطلقاً. فالميزان هو تحديد موضوع حجيّة رأي المجتهد هل

__________________

(١) قيل : الظّاهر تحقّق قصد القربة في العبادة رجاءً من المقصّر الملتفت ، ولو طابق عمله الواقع أو فتوى من يجب الرّجوع إليه فعلاً صحّ كالمقصّر الغافل.

(٢) أي الحكم الوضعيّ من حليّة المرأة ، والطّهارة.

١٢٤

هو عند الالتزام بفتواه إجمالاً أو تفصيلاً أو بعد ما أخذ وتعلّم أو عند ما استند في مقام العمل إلى فتواه ، فعلى الأوّل لم يجز العدول وعلى الثاني لم يجز فيما أخذ وتعلّم وعلى الثالث لم يجز بعد الاستناد في مقام العمل ، وبالجملة لا يكون ، لتحقّق عنوان التقليد تأثير في الحكم ، وجواز العدول وعدمه رهن سعة حجيّة فتوى المجتهد وضيقها.

وأمّا الخامس : فهو مبنيّ على تحديد معقد الإجماع المدّعى الدّال على عدم جواز الرّجوع إلى الميّت ، فإن دلّ على الإطلاق لم يجز ، سواء كان عنوان التقليد متحقّقاً بالعمل أو بالأخذ والتعلّم أو بالالتزام ، وإن دلّ على خصوص ما لم يعمل أو لم يأخذ ويتعلّم أو لم يلتزم ، جاز البقاء حسب دلالة عنوان الدّليل.

فعليه ، لم نجد مورداً يكون عنوان التقليد بنفسه موضوعاً للحكم الشرعيّ ، ولأجل ذلك لا فائدة في البحث عن مفهوم التقليد ومناطه وإن عرفت ما هو المناط فيه.

إكمال : عرّف الغزاليّ التقليد بقوله : «هو قبول قول بلا حجّة ، وقال : وليس ذلك طريقاً إلى العلم لا في الأصول ولا في الفروع ، وذهب الحشويّة والتّعليميّة (١)

__________________

(١) الحَشَوِيّة أو الحَشْوِيّة : طائفة من أصحاب الحديث ، تمسّكوا بالظّواهر ، لقّبوا بهذا اللّقب لاحتمالهم كلّ حشو روي من الأحاديث المختلفة المتناقضة ، أو لأنهم قالوا بحشو الكلام ... قالوا : «إنّ عليّاً وطلحة والزبير لم يكونوا مصيبين في حربهم وإنّ المصيبين هم الّذين قعدوا عنهم ، وانّهم يتولّونهم جميعاً ويتبرّءون من حربهم ، ويردّون أمرهم إلى الله عزوجل ... وأثبتوا لله الحركة والانتقال والحدّ والجهة والقعود والاستلقاء والاستقرار ، فذهبوا بذلك إلى التجسيم وغيره ... وصرّح جماعة منهم بالتشبيه وأجازوا على ربّهم الملامسة والمصافحة وأنّ المسلمين المخلصين يعانقونه في الدّنيا والآخرة إذا بلغوا في الرّياضة والاجتهاد إلى حدّ الإخلاص والاتّحاد المحض ... وجعلوا حكم الأحاديث كلّها واحداً ، فعندهم أنّ تارك النّفل كتارك الفرض ، وقال بعضهم بوجود نقص في القرآن مع

١٢٥

إلى أن طريق معرفة الحقّ ، التقليد ، وأنّ ذلك هو الواجب وأنّ النّظر والبحث حرام ...» (١).

أقول : ما ذكره إنّما يتمّ في تقليد العقائد ، فإنّ المطلوب لتحقّق التقليد فيها هو الالتزام القلبيّ ، فيكفي في صدقه القبول ، وأمّا الفروع ، فلا يصدق فيها إلّا بالاتيان بالفعل استناداً إلى قول الغير ، كما عرفت.

وعرّفه الآمديّ بقوله : «أمّا التقليد ، فعبارة عن العمل بقول الغير ، من غير حجّة ملزمة ، وهو مأخوذ من تقليده بالقلادة ، وجعلها في عنقه ، وذلك كالأخذ بقول العامّي ، وأخذ المجتهد بقول من هو مثله ، وعلى هذا فالرّجوع إلى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلى ما أجمع عليه أهل العصر من المجتهدين ورجوع العاميّ إلى قول المفتي وكذلك عمل القاضي بقول العدول ، لا يكون تقليداً ، لعدم عروّه عن الحجّة الملزمة» (٢).

ويظهر ذلك من ابن الحاجب حيث قال : فالتّقليد : العمل بقول غيرك من

__________________

أنّهم قضوا بكون حروفه وكلماته قديمة. وجوّز قوم من الحشويّة على الأنبياء الكبائر كالزّنا واللواط وغيرهما ، ومنهم من جوّز ذلك بشرط الاستسرار دون الإعلان. ومنهم من جوّز ذلك على الأحوال كلّها كما قال قوم منهم إنّ محمّداً كان كافراً قبل البعثة واحتجّوا بقوله تعالى : (وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدى) (الضحى ـ ٧) (راجع معجم الفرق الإسلاميّة لشريف يحيى الأمين : ٩٧ ـ ٩٩)

والتّعليميّة : فرقة باطنيّة ، لقّبوا بذلك لأنّ مبدأ مذهبهم إبطال الرّأي وإفساد تصرّف العقول ، ودعوة الخلق إلى التّعليم من الإمام المعصوم وأنّه لا تدرك العلوم إلّا بالتّعليم ، وهذه بعض من أقوالهم : «معنى الجنابة : مبادرة المستجيب بإفشاء السرّ ، ومعنى الغسل : تجديد العهد على من فعل ذلك. ومعنى الزنا : إلقاء نطفة العلم الباطن في نفس من لم يسبق منه عقد العهد. والصيام : هو الإمساك عن كشف السرّ. (معجم الفرق الإسلاميّة : ٦٩).

(١) المستصفى : ٢ / ٣٨٧.

(٢) الاحكام في أصول الأحكام : ٤ / ٢٢٧.

١٢٦

غير حجّة ، وليس الرّجوع إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلى الإجماع والعاميّ إلى المفتي والقاضي إلى العدول بتقليد لقيام الحجّة ... (١).

يلاحظ عليه :

أمّا أوّلاً : فلأنّه لا دليل على أخذ قوله «من غير حجّة ملزمة» في حدّ التقليد ، بل هو صادق في كلا الموردين ، غاية الأمر ، يكون التقليد في الأوّل مرفوضاً ومذموماً ، بخلاف الثاني ، فهو مقبول ومستحسن لا أنّه لا يصدق عليه التقليد.

وثانياً : إن أراد من الحجّة الملزمة ، الحجّة الإجمالية ، فالتقسيم والتفريق صحيح ، لخلوّ الأوّل عنها دون الثاني ، وإن أراد منها ، الحجّة التفصيليّة في كلّ مسألة ، والدّليل الخاصّ في كلّ مورد ، فالقسمان يشتركان في عدمها فيهما ، ولعلّ الآمديّ لمّا وقف على ورود الذمّ على الأوّل دون الثاني ، توهّم كون أحدهما مصداقاً للتّقليد دون الثاني. مع أنّهما من أقسامه لكن الأوّل مذموم دون الثاني.

* * *

__________________

(١) منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل : ٢١٨.

١٢٧

المسألة الثانية : في جواز التقليد :

هذه هي المسألة الثانية من المسائل السبع التي أوعزنا إليها في صدر الفصل.

فاعلم أنّ البحث في جواز التقليد يقع في مقامين :

الأوّل : ما يمكن أن يعتمد عليه العاميّ عند التقليد.

الثاني : ما يستدلّ به المجتهد على جوازه.

هذا ، وليس البحث الثاني مغنياً عن الأوّل ، لما ستعرف من أن مسألة جواز تقليد العاميّ ليست مسألة تقليديّة ، بل يجب عليه أن يستقلّ بذلك عقله ودركه ، والوجوب الوارد في كلماتهم «يجب على العاميّ أن يكون محتاطاً أو مقلّداً» وجوب عقليّ لا شرعيّ. فنقول :

المقام الأوّل : ما يصحّ للعاميّ أن يعتمد عليه في أمر التقليد :

إذا وقف العاميّ على أنّ لله سبحانه أحكاماً إلزاميّة في مجالي الفعل والترك ، وأنّه سبحانه لا يرضى بترك ما أمر ، وفعل ما نهى عنه ، يحكم عليه عقله بامتثالها ، إمّا عن طريق العلم والقطع أو عن طريق ما جعله المولى حجّة له ، أمّا الأوّل

١٢٨

فلا حاجة معه إلى الرّجوع إلى الغير لأنّ المفروض وقوفه على نفس الواقع ، والقطع حجّة ذاتيّة.

أمّا الثاني ، فعليه أن يتحرّى في ذلك المجال ، ويقف على ما هو حجّة بينه وبين ربّه ، حتى يكون معذوراً عنده ، إذا خالف الواقع.

وبعبارة أُخرى : إنّ هذا الحكم اجتهاديّ لا تقليديّ ، يدركه عقل العاميّ بعد التدبر والتفكّر ، ولو كانت المسألة تقليدية لدار ، إذ لو كانت كذلك ، توقف التقليد فيها على مجوّز له ، فلو كان المجوّز حكم العقل ، لا غنى عن التقليد في نفس هذه المسألة أيضاً ، ولو كان المجوّز الشرع ، لا يصحّ له الاعتماد عليه إلّا بالتقليد ، وهو يتوقف على مجوّز ثان ، فإمّا يتسلسل أو يدور ، فلا محيص لقطع التسلسل ودفع الدّور عن كون المسألة عقليّة مدركة للعاميّ بأدنى تأمّل.

فإن قلت : إنّ أقصى ما يحكم به عقله هو لزوم تحصيل الحجّة في مجال الحياة ، وأمّا أنّ الحجّة هي قول الفقيه وفتوى المفتي ، فهو ممّا لا يستقلّ به العقل ، وبعبارة أُخرى : العقل يستقلّ بالكبرى أي لزوم تحصيل الحجّة ، وأمّا أنّ قول المفتي ورأي المجتهد حجّة بينه وبين الله ، فليس هذا من المستقلّات العقليّة ، فلا بدّ في إثبات لزوم الرّجوع إليه من التماس دليل.

قلت : إنّ العقل يستقلّ في أنّ الحجّة للعاميّ هي فتوى الفقيه ، بعد الوقوف على السيرة العقلائية السائدة في جميع الأعصار وهي لزوم رجوع الجاهل إلى العالم ، وهذا أصل قام عليه صرح الحياة من أقدم العصور إلى يومنا هذا ، ولولاه لانهارت الحياة وانقضّ عمودها ، إذ من المستحيل أن يستقلّ كلّ فرد متحضّر بإنجاز جميع حاجاته من جميع النواحي ، فلا محيص من تقسيم الحاجات الأوّليّة والثانويّة حتّى يتحمّل كلّ جانب من جوانب الحياة عدّة من أفراد المجتمع لتحلّ العقدة ،

١٢٩

ولأجل ذلك نرى أنّ أصحاب التخصّصات في العلوم والفنون يرجعون في غير اختصاصهم إلى أهل الخبرة فيه ، ولا شكّ أنّ المتخصّص في معرفة الأحكام والفرائض هم الفقهاء الذين صرفوا أعمارهم في التعرّف والاطّلاع عليها ، وهم العلماء الأمناء على أحكام الله ، العدول في مسيرة الحياة ، لا يحيدون عن بيان الحقّ قدر شعرة ، وهم المتخصّصون الواقفون على حقيقة الأمر ، فعليه يلزم على الجاهل الرّجوع إليهم والتمسّك بعروتهم الوثقى.

فالرّجوع إلى علماء الدّين ، وإناخة المطايا في ساحاتهم ، ممّا أطبقت عليه عقلاء العالم منذ نزول الشرائع السماويّة من عصر نوح (عليه‌السلام) إلى زماننا هذا ، فلم نجد أحداً يرجع فيما يمت إلى الدّين بصلة إلى غير أهله وكانت لعلماء الدّين مكانة خاصّة في قلوب النّاس ، فإنّهم المعالجون لأمراض النّاس الرّوحيّة والصّائنون لهم عن عذاب الله وغضبه وسخطه فالسّيرة بأصلها ـ أي رجوع الجاهل إلى العالم وأن العالم في أُمور الدّين هو المجتهد العارف بكتاب الله وسنّته ـ ليست أمراً خفيّاً على العامي.

وعليه فلا حاجة إلى ما ذكره المحقّق الخوئيّ من أنّ هذه السّيرة ـ رجوع الجاهل إلى العالم ـ وإن جاز أن لا يلتفت إليها العاميّ مفصّلاً إلّا أنّها مرتكزة في ذهنه بحيث يلتفت إليها ويعلم بها تفصيلاً بأدنى إشارة وتنبيه. وربّما يتصوّر أنّه يصحّ للعاميّ أن يستند إلى دليل الانسداد لإثبات كون فتوى الفقيه حجّة وتقريبه : «أنّ كلّ واحد يعلم بثبوت أحكام إلزاميّة في حقّه ، كما يعلم أنّه غير مفوّض في أفعاله بحيث له أن يفعل ما يشاء ويترك ما يريد ، وهذان العلمان ينتجان استقلال العقل بلزوم الخروج عن عهدة التّكاليف الواقعية ، المنجّزة بعلمه ، وطريق الخروج عنها منحصر في الاجتهاد والاحتياط والتقليد. أمّا الاجتهاد فهو غير متيسّر على

١٣٠

الكثير بل على الجميع ، لأنّ كلّ مجتهد كان برهة من الزمان مقلّداً أو محتاطاً لا محالة ، وكونه مجتهداً منذ بلوغه وإن كان قد يتّفق إلّا أنّه أمر نادر جدّاً ، فلا يمكن أن يكون الاجتهاد واجباً عينيّاً على كلّ أحد ، بل لعلّه خلاف الضرورة بين المسلمين. وأمّا الاحتياط فهو كالاجتهاد غير ميسور له ، لعدم تمكّنه من تشخيص موارده على أنّا لا نحتمل أن تكون الشريعة المقدّسة مبتنية على الاحتياط ، إذاً يتعيّن على العاميّ التقليد لانحصار الطريق به. وبهذا الطريق يستكشف العقل أنّ الشارع قد نصب في الشريعة طريقاً آخر إلى الأحكام الواقعيّة بالإضافة إلى العاميّ ، فلا يسوغ له أن يأخذ بالعمل بمظنوناته ويترك مشكوكاته وموهوماته ، وذلك لأنّه ليس للمقلّد ظنّ بالأحكام ، فإنّه ليس من أهل النّظر والاجتهاد ، على أنّ ظنّه كشكّه ووهمه لا أقربيّة له إلى الواقع بالنّسبة إلى شقيقيه ، لعدم ابتنائه على النّظر في أدلّة الأحكام فليس له طريق أقرب إلى الواقع من فتوى مقلّده» (١).

يلاحظ عليه : هذا لا يكون مستنداً إلّا للعاميّ المجالس للعلماء العارف بالطّرق الثلاثة إجمالاً : الاجتهاد والاحتياط والتقليد ، وما لكلّ من الأثر ، أمّا أكثر النّاس فإنّهم غير ملتفتين إلى الطرق الثلاثة ، وما للأوّلَيْن من الآثار والتّبعات ، وعلى ذلك فما ذكرناه أوّلاً أتقن.

المقام الثاني : ما يمكن أن يعتمد عليه المجتهد في جواز التقليد :

ما تقدّم كان فيما يمكن أن يستدلّ به العاميّ على جواز التقليد فهل هناك أمر آخر يمكن أن يستدلّ به المجتهد على جوازه ، وراء السيرة التي تعدّ دليلاً على الجواز لدى العاميّ والمجتهد؟.

__________________

(١) التنقيح في شرح العروة الوثقى : ١ / ٨٣ و ٨٤.

١٣١

فنقول : ربّما يستدلّ ببعض الآيات :

١ ـ آية النفر :

قال سبحانه : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة ـ ١٢٢).

وجه الدّلالة ببيان أُمور أربعة :

١ ـ إذا وجب النّفر ، بحكم لو لا التّحضيضية وجب كلُّ ما يترتب عليه في الآية من التفقّه والإنذار والتحذّر عند الإنذار ، وإلّا لزمت لغويّة النّفر.

٢ ـ ليس المراد من الحذر ، الحالة النفسانيّة من الخوف والوجل ، السائدين على القلب والرّوح ، بل المراد ما يقوم به المتحذّر من الأعمال ليدفع بها الشّر عنه وما يخاف منه ، قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) (النساء ـ ٧١) فالمراد : خذوا أسلحتكم لأنّها الآلة التي بها يتقى عند الحذر ، فانفروا في جماعات ومتفرّقين أو انفروا مجتمعين.

٣ ـ إنّ وجوب التحذّر عند الإنذار مطلق سواء أفاد العلم أم لا.

٤ ـ إنّ كون المنذر متفقّهاً ، يحكي عن كونه متوغّلاً في الدّين متدبّراً فيه ، أُصوله وفروعه ، كيف ، وقد نفر لتلك الغاية ، وهو لا يصدق على ناقل الخبر والرّواية إلّا إذا عرف كميّة كبيرة من النّصوص القرآنيّة والرّوائيّة وصار بالتدبّر فيها إنساناً فقيهاً في الدّين عالماً به عن طريق النّظر والفكر.

إذا عرفت ذلك ، فدلالة الآية على رجوع العامي إلى الفقيه لأخذ أحكام دينه ، أوضح من دلالته على حجيّة رواية الرّاوي ونقله الحديث ، وإن لم يكن متفقهاً في الدّين ، خصوصاً إذا كان قليل الرّواية وبعيداً عن مجالس العلماء والرّواة.

١٣٢

ومع ذلك لا تختصّ دلالتها على حجيّة قول المفتي ورأيه بل تعمّ كلّ كلام صادر من الفقيه في مجال الدّين ، سواء أكان رأياً مستنبطاً من الكتاب والسنّة أم مجرّد نقل عن المعصوم (عليه‌السلام) فالكلُّ حجّة.

وعلى ضوء ذلك : إذا كان الإنذار واجباً ، كان الإفتاء واجباً بحكم أنّه محقّق للإنذار ، وإذا كان التحذّر واجباً كان العمل بقوله واجباً لأنّه الغاية القصوى من التحذّر.

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ الظاهر من الآية هو الإنذار بالمعنى المطابقي ، وهذا شأن الواعظ والخطيب اللّذين ينذران النّاس بما أوعد الله في كتابه العصاة والطّغاة بالنّار والعذاب المهين ، ويتلوان عليهم مثلاً قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (النساء ـ ١٠) أو قوله تعالى : (... وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (التوبة ـ ٣٤) ، وأمّا ما يقوم به الفقيه فليس إلّا بيان الأحكام من الواجبات والمحرّمات ، والمستحبّات والمكروهات وليس في بيانه لهذه أيّ إنذار إلّا بالدّلالة الالتزاميّة وهو غير منصرف الآية.

وثانياً : أنّ الآية ليست بصدد بيان لزوم التحذّر عند الإنذار حتى يؤخذ بإطلاقها وأنّه يجب التحذّر سواء أفاد العلم أم لا ، بل الآية بصدد بيان أنّ النّفر بصورة عامّة أمر غير ممكن ، فلم لا تنفر من كلّ فرقة طائفة لغاية التفقّه والإنذار والتحذّر عنده ، وأمّا ما هو شرائط المنذر والمتحذّر عند الإنذار ، فالآية ساكتة عن ذلك ، وبذلك تسقط دلالة الآية على حجّية قول المفتي والرّاوي إذا لم يفد العلم ، فلاحظ ما ذكرناه في باب حجيّة خبر الواحد (١).

__________________

(١) استدلّ السيّد الخوئيّ (رضي الله عنه) بهذه الآية على حجيّة الفتوى وجواز التّقليد ـ راجع التنقيح : ١ / ٨٥ ـ ٨٨.

١٣٣

٢ ـ آية السؤال :

قال سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (الأنبياء ـ ٧).

دلّت الآية على وجوب السؤال عند الجهل ، وليس السؤال هو المقصود بالذّات ، بل المقصود هو القيام بما يقتضيه الوقوف على الجواب.

فلو كان أمراً اعتقاديّاً لزمه الاعتناق والتسليم ظاهراً وباطناً ، ولو كان من الفروع والأحكام لزمه العمل به ، وحاصل الآية : أنّه يلزم على الجاهل السّؤال حتى يقف على الحقيقة ويعمل بوظيفته أمامها ، ولا شك أنّ الفقهاء هم أهل الذّكر في مجال الأحكام والفروع ، فعلى الجاهل أن يرجع إليهم.

فإن قلت : إنّ أهل الذّكر فُسّر بأئمة أهل البيت (عليهم‌السلام) وروي عن عليّ (عليه‌السلام) أنّه قال : «نحن أهل الذّكر» وروي ذلك عن أبي جعفر (عليه‌السلام) ويعضده أنّ الله تعالى سمّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكراً رسولاً في قوله : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً* رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ ...) (الطلاق ـ ١٠ و ١١) (١).

قلت : إنّ الآية تحثّ على السّؤال من أهل الذّكر ، وهو أمر كليّ تختلف مصاديقه حسب اختلاف المقامات والموضوعات ، فأهل الذّكر بالنّسبة إلى أحوال الأُمم البادية والحضارات المتبدّدة هم المطّلعون على تواريخ الأُمم الماضية ، وبالنّسبة إلى مضامين التوراة والإنجيل ومحتوياتهما ، وما جرى على أنبياء الله ورسله من المقادير هم أهل الكتاب ، وهكذا ... وأمّا المرويّ عن عليّ (عليه‌السلام) وأبي جعفر (عليه‌السلام) إنمّا هو من باب تطبيق الآية على المصداق الأتمّ والأكمل ، فهم أدرى

__________________

(١) مجمع البيان في تفسير القرآن للطبرسي : ٧ / ٤٠.

١٣٤

بالحقائق من سائر النّاس.

فإن قلت : إنّ مورد الآية هو الأُصول الاعتقاديّة بشهادة ما تقدّمها من الآيات ، حيث إنّ المشركين تعجّبوا كيف يبعث الله رسولاً يأكل الطعام ، ويمشي في الأسواق ، قال سبحانه حاكياً عنهم : (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ...) (الأنبياء ـ ٣) فدعاهم سبحانه إلى السّؤال منّ أهل الذّكر حتى يوقفهم على حقيقة الحال وأنّه سبحانه بعث قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كثيراً لهداية الناس كما قال : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ) (الأنبياء ـ ٨) ، وبما أن المطلوب فيها ليس هو الاعتقاد تعبّداً بل حصول العلم واليقين ، فلا تكون الآية دليلاً على جواز الرّجوع إلى الفقيه الذي يكون المطلوب فيه هو القبول تعبّداً.

قلت : إنّ الكبرى الواردة في الآية (أهل الذّكر) مطلقة ، غير أنّه دلّ الدّليل من الخارج على لزوم تحصيل العلم في مورد الآية ، وهذا لا يوجب اختصاص مضمونها بموردها ، ونظير ذلك آية النّبأ ، فإنّ موردها الموضوعات والمعروف بين الفقهاء فيها هو اشتراط تعدّد المخبر ، مع أنّ الآية ـ على فرض دلالتها ـ مطلقة من هذه الجهة ، ولكن شرطيّة التعدّد فيها لا تضرّ بالاستدلال بها ، غاية الأمر يقيّد إطلاقها في المورد بضمّ فرد آخر إليه حتى يحتجّ بها ، والجامع بين المقامين هو إطلاق الآية ، غاية الأمر يقيّد إطلاقها بالنّسبة إلى المورد إمّا بحصول العلم واليقين أو بانضمام فرد آخر.

والّذي يمكن أن يقال حول الاستدلال بالآية هو أنّها ليست إلّا إرشاداً لحكم العقل الحاكم على لزوم رجوع الجاهل إلى العالم كي يقف على وظيفته وليس مفادها أمراً آخر وراء ما حكم به العقل.

١٣٥

٣ ـ الروايات الإرجاعية :

الرّوايات الإرجاعيّة أجلى وأوضح دليل على جواز رجوع الجاهل إلى الفقيه في أخذ الأحكام وقد ذكرنا قسماً وافراً منها عند البحث عن حجيّة خبر الواحد ، هذا وفي مضامينها إرجاع الإمام (عليه‌السلام) إلى من كانوا من الفقهاء وأصحاب النّظر كيونس بن عبد الرّحمن وزكريّا بن آدم القمي ومعاذ بن مسلم النحويّ وأبان ابن تغلب ومحمد بن مسلم الثقفي وأضرابهم ممّن كانوا يجمعون بين العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد ويميّزون النّاسخ عن المنسوخ والصّادر عنهم (عليه‌السلام) تقيّة عن الوارد لبيان الحكم الواقعيّ ، ولا يقف على ذلك إلّا الفقيه الممارس للفتوى.

وإليك بعض النّصوص الإرجاعية :

١ ـ عن الفضل بن شاذان عن عبد العزيز ابن المهتدي ـ وكان خير قميّ رأيته ، وكان وكيل الرّضا (عليه‌السلام) وخاصّته ـ قال : سألت الرّضا (عليه‌السلام) فقلت : إنّي لا ألقاك في كلِّ وقت ، فعمّن آخذ معالم ديني؟ فقال (عليه‌السلام) : «خذ عن يونس ابن عبد الرحمن» (١).

٢ ـ عن عليّ بن المسيّب الهمدانيّ قال : قلت للرّضا (عليه‌السلام) : شقّتي بعيدة ولستُ أصلُ إليك في كل وقت ، فممّن آخذ معالم ديني؟ قال (عليه‌السلام) : «من زكريّا بن آدم القميّ المأمون على الدّين والدّنيا» قال عليّ بن المسيّب : فلمّا انصرفت قدمنا على زكريا بن آدم فسألته عمّا احتجت إليه (٢).

__________________

(١) الوسائل : ١٨ / ١٠٧ ح ٣٤ و ٣٥ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي.

(٢) المصدر نفسه : ١٨ / ١٠٦ ح ٢٧ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي.

١٣٦

٣ ـ روى معاذ بن مسلم النحويّ عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «بلغني أنّك تقعد في الجامع تفتي الناس»؟ قلت : نعم وأردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج ، إنّي أقعد في المسجد فيجيء الرّجل فيسألني عن الشيء ، فإذا عرفته بالخلاف لكم ، أخبرته بما يفعلون ، ويجيء الرّجل أعرفه بمودّتكم وحبّكم فأخبره بما جاء عنكم ، ويجيء الرّجل لا أعرفه ولا أدري من هو فأقول : جاء عن فلان كذا وجاء عن فلان كذا ، فأدخل قولكم فيما بين ذلك ، فقال لي : «اصنع كذا فإنّي كذا أصنع» (١).

٤ ـ قال أبو جعفر (عليه‌السلام) لأبان بن تغلب «اجلس في مجلس المدينة وأفت النّاس ، فإنّي أحبّ أن يرى في شيعتي مثلك» قال النجاشي : قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) لما أتاه نعيه : «أما والله لقد أوجع قلبي موت أبان».

وقال أيضاً : «عظيم المنزلة في أصحابنا لقي عليّ بن الحسين وأبا جعفر وأبا عبد الله (عليهم‌السلام) ، روى عنهم وكانت له عندهم منزلة وقدم ، وكان قارئاً من وجوه القرّاء ، فقيهاً ، لغويّاً سمع من العرب وحكى عنهم» (٢).

٥ ـ عن عبد الله بن أبي يعفور قال : قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : إنّه ليس كلّ ساعة ألقاك ولا يمكن القدوم ، ويجيء الرّجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كلّ ما يسألني عنه ، فقال : «ما يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفي ، فإنّه سمع من أبي وكان عنده وجيهاً» (٣).

__________________

(١) الوسائل : ١٨ / ١٠٨ ح ٣٦ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي.

(٢) راجع رجال النجاشي : ١ / ٧.

(٣) الوسائل : ١٨ / ١٠٥ ح ٢٣ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، إلى غير ذلك من الأحاديث في الفقهاء في الباب ١١.

١٣٧

ولا أظنّ أحداً يتصوّر أنّ من يؤخذ عنه معالم الدّين ، أو يكون مأموناً على الدّين والدّنيا ، أو يفتي النّاس حسب مذاهبهم ، أو يفتخر الإمام الصادق (عليه‌السلام) بجلوسه في المسجد وإفتائه النّاس ، كان يعدّ من الرّواة العاديين الّذين لا شغل لهم إلّا نقل النّصوص ، ولأجل ذلك عُدّوا من الطبقة الأُولى من الفقهاء في تلك العصور. غاية الأمر كان الافتاء غالباً بلفظ النّصوص لكن بعد الإحاطة بها وتطبيق الأُصول على الفروع.

فكرة إنكار الاجتهاد في عصر الأئمّة (عليهم‌السلام):

ربّما يتصوّر أنّ الرّوايات الإرجاعية لا تشمل فقهاء الأعصار المتأخرة ، لأنّ الإرجاع كان إلى رواة الأحاديث والأخبار ونقلة النّصوص المسموعة أو المرويّة عنهم (عليهم‌السلام) ، وأين هذا من الرّجوع إلى الفقهاء المستنبطين للأحكام ببذل الجهد من الكتاب والسنّة ويفتون بآرائهم وإن كانت مستندة إليهما. سلّمنا وجود الاجتهاد بينهم ، لكنّ الفارق بين الاجتهادين أظهر من أن يخفى ، فإنّ الاجتهاد في العصور المتقدّمة كان سهلا سطحياً لا صعباً عميقاً كما هو الحال في العصور المتأخرة حيث إنّه اتخذ لنفسه قالباً فنيّاً دقيقاً.

يلاحظ عليه : أنّ الاجتهاد كان ظاهرة طبيعيّة ظهرت بعد رحيل الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وابتلاء المسلمين ـ الذين تخلّوا عن العترة الطاهرة ـ بمسائل جديدة لم يجدوا لها حلّا في ظاهر الشرع ، فبذلوا الجهد للإجابة عنها كيفما كان ولو من خلال ظوابط ومقاييس ما أنزل الله بها من سلطان.

إنّ تاريخ الفقه وإن كان يقسّم من أخذت عنهم الفتوى إلى طائفتين :

١٣٨

١ ـ الصحابة والتّابعون. ٢ ـ الفقهاء والمجتهدون.

ولكنّه لا يعني بذلك عدم الاجتهاد في الطائفة الأُولى ، وإنّما التقسيم على أساس الغالب ، فقد كان الغالب على عصر الصحابة والتّابعين نقل الحديث والأثر كما كان السّائد على عصر الطائفة الثانية هو الاجتهاد واستخراج الأحكام في ظلّ مقاييس وضوابط ، وإلّا فقد احتفل التاريخ بوجود فقهاء من التابعين مثل :

١ ـ الحسن البصريّ (م ـ ١١٠ ه‍ ـ) (١).

٢ ـ الزهريّ (م ـ ١٢٤ ه‍ ـ).

٣ ـ ابن شبرمة (م ـ ١٤٤ ه‍ ـ) (٢).

٤ ـ الأعمش (م ـ ١٤٨ ه‍ ـ) (٣).

إلى غير ذلك من المجتهدين المفتين وإن كانوا خاطئين في كيفيّة الاجتهاد والاستنباط ، وقد كتب الإمام السجاد (عليه‌السلام) رسالة قارعة إلى الزّهريّ مفتي البلاط الأمويّ ندّد به فيها (٤).

__________________

(١) الحسن البصريّ بن أبي الحسن أبو سعيد.

(٢) أبو شبرمة عبد الله بن شبرمة ـ كوفيّ ـ.

(٣) سلمان بن مهران الأعمش.

(٤) تحف العقول : ٢٧٤ ـ ٢٧٧ وفي حاشية تحف العقول : محمّد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهريّ على ما يظهر من كتب التّراجم ، من المنحرفين عن عليّ أمير المؤمنين (عليه‌السلام) وابنائه (عليهم‌السلام) ، كان أبوه مسلم مع مصعب بن الزّبير ، وجدّه عبيد الله مع المشركين يوم بدر ، وهو لم يزل عاملاً لبني مروان ويتقلّب في دنياهم ، جعله هشام بن عبد الملك معلّم أولاده ، وأمره أن يملي على أولاده أحاديث ، فأملى عليهم أربعمائة حديث ، وأنت خبير بأنّ الّذي خدم بني أميّة منذ خمسين سنة ما مبلغ علمه وما ذا حديثه؟! ومعلوم أنّ كلّ ما أملى من هذه الأحاديث هو ما يروق القوم ولا يكون فيه شيء من فضل علي (عليه‌السلام) وولده ، ومن هنا أطراه علماؤهم ورفعوه فوق منزلته بحيث تعجّب ابن حجر من كثرة ما نشره من العلم.

١٣٩

وأمّا فكرة الاجتهاد بين أصحاب الأئمة (عليهم‌السلام) وخصوصاً أصحاب الباقرين والكاظمين (عليهم‌السلام) فحدّث عنه ولا حرج ، ويكفي لذلك الإمعان في الأسئلة والأجوبة التي دارت بين الصادقين وأصحابهما ، وهي أوضح دليل على وجود الاجتهاد في الطبقة العليا منهم ، فلاحظ ما دار بين الإمام الصادق (عليه‌السلام) وزرارة ومحمّد بن مسلم وأضرابهما من المناظرات في فقه القرآن والسنّة ولتطلب من كتب الرّجال والحديث ، وقد أتينا ببعضها فيما سبق فلاحظ.

نعم ، إنّ الاجتهاد في العصور المتقدمة كان يسيراً لا عسيراً ، لجهات متعدّدة أهمّها قرب العهد من عصر المعصومين وتمكّن البعض من الحضور لديهم واستفتائهم ، وعدم تطرّق التقطيع والتحريف للأحاديث ، وتمييز الصّادر عن تقيّة عن غيره بسهولة ، ـ ومع ذلك كلّه ـ لم يكن الإفتاء بلفظ الحديث إلّا بعد تخصيص العامّ بالخاصّ والمطلق بالمقيّد وتقديم الصادر لبيان الواقع على الصادر عن تقيّة ، إلى غير ذلك من الأُصول المبتني عليها صرح الاجتهاد.

والتفاوت بين الاجتهاد بسهولة المتقدّم وصعوبة المتأخّر لا يكون فارقاً وموجباً لانصراف الرّوايات عن القسم الثاني مع اشتراكهما في استنباط الأحكام الشرعيّة من الأدلّة على ضوء الأُصول التي أطبقت العقلاء على اعتبارها وأمضاها الشارع أو لم يردع عنها.

نعم هناك لفيف من الآيات ربّما كانت ذريعة لنفي التقليد واستند إليها معاشر الأخباريين من أصحابنا ، وإليك عناوينها قبل الخوض في بحثها.

١ ـ الآيات الذامّة للتقليد.

٢ ـ الآيات الناهية عن اتّباع الظنّ.

٣ ـ الآيات التي تنكر عمل أهل الكتاب.

١٤٠