الرسائل الأربع - ج ٣

عدّة من الأفاضل

الرسائل الأربع - ج ٣

المؤلف:

عدّة من الأفاضل


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣٢

وثانياً : أنّ دليل الإجزاء ليس نفس الامارة الكاشفة عن الواقع ، وإنّما هو الملازمة العرفيّة المتقدّمة بين الأمر بالعمل بها والاكتفاء بها في مقام الإطاعة في تحصيل مقاصد الشّارع وأغراضه بما تؤدّي إليه لكونها غالبة المطابقة.

وكذلك يظهر النّظر أيضاً فيما ذكره من أنّ لسان أدلة حجيّة الامارة هو التحفّظ على الواقع لا التصرّف فيه وقلبه على طبق مؤدّاها لدى التخلّف ، وإلّا لخرجت الامارة عن الاماريّة (١).

وذلك للفرق بين رفع اليد عن الواقع فعلاً لا إنشاءً وبين قلب الواقع إلى مفاد الامارة فإنّ الّذي يخالف الطريقية هو الثاني لا الأوّل كما لا يخفى.

وبعبارة أُخرى : أنّ لازم القول بالتخطئة هو وجود الحكم المشترك بين العالم والجاهل ولو إنشاءً ، وثمرة ذلك الحكم الإنشائي هو أنّه مع حصول العلم به يصير فعليّاً أو منجّزاً وهذا كاف لرفع التصويب الباطل. وأمّا كونه فعليّاً أو منجّزاً حتى في حقّ الجاهل فلا دليل عليه إن لم يكن الدليل على خلافه ، وكم له من نظير : كما إذا أتمّ المكلّف الصلاة اعتماداً على قاعدة الفراغ والتجاوز ، فبان الخلاف ، فإنّ صلاته صحيحة ، أو نسي قراءة الحمد أو السورة بعد الركوع أو غير ذلك من الموارد التي حكم فيها بالصحة لقاعدة «لا تعاد» مع كون المذهب هو التخطئة كما لا يخفى.

وبما ذكرنا من دعوى الملازمة بين الأمر بالعمل بالأمارة واكتفاء الشّارع في مقام امتثال أوامره بما أدّت إليه الامارة ، يظهر ضعف ما أفاده صاحب المحاضرات من التفريق بين الطريقية والسببية وأنّ الحقّ على الأوّل هو عدم

__________________

(١) تهذيب الأُصول : ١ / ١٩١ ، بتصرف.

١٠١

الإجزاء لأنّ المأتيّ به ليس بمأمور به وما أمر به ليس بمأتيّ به ، والمفروض أنّ الصحة إنّما تنتزع من مطابقة المأتي به للمأمور به في الخارج ، الموجبة لسقوط الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه ، كما أنّ الفساد ينتزع من عدم مطابقة المأتي به للمأمور به (١).

وذلك : لمنع عدم مطابقة المأتيّ به للمأمور به ، فإنّ الملازمة العرفيّة كاشفة عن عدم إيجاب الجزء أو الشرط مجدّداً بعد قيام الدليل الاجتهادي على عدم وجوبه فعلاً ، فيكون الواجب الفعلي في حقّه ما أتى به.

هذا كلّه ، إذا استند في استكشاف كيفيّة الحكم وأجزاء المكلّف به إلى الأمارة وأمّا لو كان المستند في هذا المجال هو الأصول ـ كأصالة الحليّة والطّهارة ـ فالدّالُ على الإجزاء إضافة إلى الملازمة العرفيّة المتقدّمة هو أنّ نتيجة كون المشكوك حلالاً أو طاهراً ، حكومة هذه الأصول على أدلّة الأجزاء والشرائط (٢) فلو قال المولى : صلّ في طاهر وقال : كلّ مشكوك طاهر ، يكونُ مفاد الدّليلين عند المقارنة جواز ترتيب آثار الطهارة على المشكوك للمصلي ، ومنها الاتيان بالصّلاة مع المشكوك ، وبعبارة أُخرى : تكونُ النتيجة أنّ ما يطلبه الدّليل الأوّل موجود في مشكوك الطّهارة أو الحليّة. فإذا صلّى المكلّف به فقد أتى بصلاة جامعة الأجزاء والشرائط وإن كان نجساً في الواقع ، وذلك لأنّ الشرط الواقعيّ للصّلاة هو الأعمّ من الطّهارة الواقعيّة والظّاهريّة ، وربّما حكم يترتّب على الطّهارة الواقعيّة وآخر يترتّب على الأعمّ منها

__________________

(١) المحاضرات للفيّاض : ٢ / ٢٦٠ ، بتصرّف.

(٢) نوقش في أنّ هذه الحكومة حكومة ظاهرية مؤقّتة بزمن الجهل بالواقع والشك فيه ، وليست بحكومة واقعيّة لكي توجب توسعة الواقع أو تضيقه. والجواب واضح لسقوط الأمر بانطباق عنوان الصلاة على المأتي به ، فلا وجوب بعد ارتفاع الجهل.

١٠٢

ومن الظاهريّة ، وعلى الفقيه الملمّ بالفقه تمييز كلّ واحد من الآخر.

ثمّ إنّ للمحقّق النّائينيّ (قدس‌سره) إشكالات خمسة على القول بحكومة دليل الطّهارة على دليل الشرطيّة (١) ، نقلناها عنه وأوضحنا حالها في مبحث الإجزاء فلاحظ.

ولنكتف بهذا المقدار في المقام ، وأمّا حكم المقلّد لو تبدّل رأي المجتهد فسيوافيك بيانه في مبحث التقليد إن شاء الله تعالى.

الاجتهاد في عصر الصحابة والتّابعين :

إذا كان الاجتهاد بمعنى بذل الطاقة لاستنباط الحكم الشرعيّ عن أدلّته ، فقد تحقّقت هذه الظّاهرة بوضوح بعد عصر النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث إنّ الصحابة والتّابعين واجهوا بعد رحيله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قضايا مستجدّة لم يرد فيها نصّ في المصدرين الأساسيّين الرئيسيّين ، فحاولوا استنباط أحكامها الشرعية منهما ببذل الجهد بالتأمّل في الكتاب والسنّة تارة والسؤال من ذاك وذاك أُخرى ، والذي حملهم على الاجتهاد هو وفود أسئلة كثيرة من مختلف البلدان المفتوحة إلى المدينة ولم يكن بدّ من الاجابة عليها.

غير أنّ الآيات المتكفّلة لبيان الأحكام الشرعية لمّا كانت قليلة ، وكانت السنّة المحفوظة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مجال الأحكام لا تتجاوز الخمسمائة حديث لم يجدوا بدّاً من تأسيس أُصول وقواعد ، ما أنزل الله بها من سلطان ، فبنوا عليها اجتهاداتهم ، وإليك بعض تلك القواعد :

__________________

(١) راجع أجود التقريرات : ١ / ١٩٨ و ١٩٩ و ٢٠٠.

١٠٣

أ ـ الاستحسان (١) ، وأوّل من رجعَ إليه «عبد الله بن عمر» وتبعه أبو حنيفة وصار أصلاً واسعاً في فقه الأحناف ، غير أنّ الإماميّة والشّافعية والظّاهرية والأوزاعيّة (٢) والثوريّة (٣) رفضوه ولم يعتدّوا به ، حتّى أنّ الشافعيّ ألّف كتاباً باسم «إبطال الاستحسان» وقال : من استحسن فقد شرّع.

__________________

(١) ذكر له ابن قدامة معاني ثلاثة : «أحدها : العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل خاصّ من كتاب أو سنّة ، ثانيها : ما يستحسنه المجتهد بعقله ، ثالثها : دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على التعبير عنه».

وذكر البزدوي من الأحناف من أنّه : «العدول عن موجب قياس إلى قياس أقوى منه أو هو تخصيص قياس بدليل أقوى منه». (الأُصول العامّة للفقه المقارن للسيد محمد تقي الحكيم : ٣٦٢).

(٢) نسبة إلى الأوزاعي وهو عبد الرّحمن بن عمرو بن يحمد بن عبد عمرو الأوزاعي.

قال الحافظ «أبو حاتم محمّد بن حبّان التميمي البستيّ» في مشاهير علماء الأمصار وأعلام فقهاء الأقطار : ٢٨٥ و ٢٨٦ رقم ١٤٢٥ :

«والأوزاع التي عرف بها قرية بدمشق خارج باب ـ الفراديس ، كنيته : أبو عمرو ، تولّد سنة ٨٠ ه‍ ـ ومات ببيروت سنة ١٥٧ ه‍ ـ كان قد دخل الحمّام فزلقت رجله وسقط فغشي عليه ولم يعلم به حتّى مات فيه وقبره ببيروت مشهور يزار».

وفي تعليقة تاريخ أسماء الثقات لابن شاهين : ٢١٨ : «ولادته ٨٨ ه‍ ـ ووفاته ١٥٨ ه‍ ـ ، وكان بعض العلماء يفضلونه على سفيان الثوري ، وهو صاحب مدرسة في الفقه ، وكان مذهبه منتشراً في الشام انتشاراً واسعاً ، وظلّ لمذهبه أنصار في المغرب والأندلس حتّى القرنين الثالث والرّابع للهجرة ، ثمّ توارى أمام المذهب الشافعي ومذهب مالك».

(٣) نسبة إلى سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبد الله الكوفيّ من ثور ابن عبد مناة بن أدّ بن طانجة ، وقيل : من ثور همدان والصحيح الأوّل ، كما في تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني : ٤ / ٩٩ رقم ١٩٩ ، وقال : روى عنه خلق لا يحصون منهم ... الأوزاعي ومالك ... ثمّ قال : قال الخطيب : كان إماماً من أئمّة المسلمين وعلماً من أعلام الدّين مجمعاً على إمامته.

وقال النسائي : وهو أحد الأئمة الّذين أرجو أن يكون الله ممّن جعله للمتقين إماماً.

وقال صالح بن محمّد : سفيان ليس يقدّمه عندي أحدّ في الدّنيا وهو أحفظ وأكثر حديثاً من مالك ، ولكنّ مالكاً كان ينتقي الرّجال وسفيان يروي عن كلّ أحد.

١٠٤

وتلت هذه القاعدة قواعد أُخرى حسبوها مباني للاستنباط نذكرها بلا تفصيل :

ب ـ السّيرة العمليّة لأهل المدينة.

ج ـ المصالح المرسلة (١).

د ـ سدّ الذّرائع (٢).

ه ـ ـ فتح الذّرائع (٣).

فقد جعلوها من قبل أكثر المذاهب أُصولاً للاستنباط وعليها بنوا ما أسندوا إلى الله من أحكام.

و ـ القياس ، والمراد منه : «استنباط حكم ما للمقيس بعلّة قد ثبتت في المقيس عليه» وهذا هو المسمّى بالتمثيل في المنطق ، وليس المراد منه القياس

__________________

(١) يقول الغزالي : «نعني بالمصلحة : المحافظة على مقصود الشرع» «ومقصود الشرع من الخلق خمسة : وهو أن يحفظ عليهم دينهم ، ونفسهم ، وعقلهم ، ونسلهم ، ومالهم ، فكلّ ما يتضمّن هذه الأصول الخمسة ، فهو مصلحة ، وكلّ ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة» أمّا تعريفهم للإرسال ، فقد وقع موقع الاختلاف لديهم ، فالذي يبدو من بعضهم أنّ معناه عدم الاعتماد على أيّ نصّ شرعيّ ، وإنما يترك للعقل حقّ اكتشافها ، بينما يذهب البعض الآخر إلى أنّ معناه هو عدم الاعتماد على نص خاص ، وإنّما تدخل ضمن ما ورد في الشريعة من نصوص عامّة. (الأصول العامّة للفقه المقارن : ٣٨١).

(٢ ـ ٣) الذريعة في الاصطلاح وقعت موضعاً لاختلافهم في مقام التحديد ، فالأنسب تعريفها ب ـ : «الوسيلة المفضية إلى الأحكام الخمسة» وقال سلام : الذّرائع إذا كانت تفضي إلى مقصد هو قربة وخير ، أخذت الوسيلة حكم المقصد ، وإذا كانت تفضي إلى مقصد ممنوع هو مفسدة ، أخذت حكمه ولذا فإنّ الإمام مالكاً يرى أنّه يجب فتح الذرائع في الحالة الأولى ، لأنّ المصلحة مطلوبة ، وسدّها في الحالة الثانية لأنّ المفاسد ممنوعة. (الأُصول العامة للفقه المقارن : ٤٠٧ و ٤٠٨).

١٠٥

المنطقيّ البرهاني المركّب من مقدّمات يقينيّة منتجة حكماً مثلها. وقد اعتمدت على القياس أئمّة المذاهب الأربعة ولكن رفضته الإمامية والظّاهريّة ، وقد قال الإمام الصادق (عليه‌السلام) : «إنّ السنّة إذا قيست محق الدّين» (١).

ولمّا لم يكن خبر الواحد حجّة عند أبي حنيفة بخلاف الآخرين ، توغّل هو وأصحابه في الرّأي واستنباط الأحكام من هذه الأُصول ، حتّى قيل إنّه لم يصحّ عند أبي حنيفة في الحديث إلّا سبعة عشر حديثاً ، بخلاف الآخرين حيث قالوا بحجيّة السنّة وإن رويت بطريق الآحاد ، ولأجل ذلك شاعت السنّة عند غير الأحناف وصار ذلك سبباً لتشقيق الأُمّة إلى أهل الحديث والسنّة وأهل الرأي ، والغالب على أهل الحجاز هو الأوّل كما أنّ الغالب على أهل العراق هو الثاني.

وقد استمرّ اجتهادهم على تلك الأُصول وغيرها إلى أواخر القرن السابع وكثرت المذاهب وتشتّتت الآراء بوجه غير محمود حتّى صدر الأمر بإغلاق باب الاجتهاد والرّجوع إلى فقه الأئمّة الأربعة وصار الأساس في الفتوى والحكم هو فقههم وآراؤهم فقط.

فكانت هذه النتيجة أمراً قطعيّاً لاجتهاد مبنيّ على أُصول لم يرد فيها نصّ من الشّارع.

ثمّ إنّ للمقريزيّ كلاماً حول انتشار المذاهب وانغلاق باب الاجتهاد لا بأس بذكره ، قال : «تولّى القاضي أبو يوسف القضاء من قبل هارون الرّشيد بعد سنة (١٧٠) إلى أن صار قاضي القضاة ، وكان لا يولّي القضاء إلّا من أراده ، ولمّا كان من

__________________

(١) الوسائل : ١٨ / ٢٥ ح ١٠ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي.

١٠٦

أخصّ تلامذة أبي حنيفة فكان لا ينصب للقضاء في بلاد خراسان والشام والعراق وغيرها ، إلّا من كان مقلّداً لأبي حنيفة ، وكان من المسبّبين لانتشار مذهب الحنفيّة في البلاد. وفي أوان انتشار مذهب الحنفيّة في المشرق انتشر مذهب «مالك» في بلاد إفريقية والمغرب ، من خلال «زياد بن عبد الرحمن» فإنّه أوّل من حمل مذهب مالك إليها ، وأوّل من حمل مذهب مالك إلى «مصر» سنة (١٦٠) هو «عبد الرحمن بن القاسم».

ثمّ قال : وانتشر مذهب محمد بن إدريس الشافعي في مصر بعد قدومه إليها عام (١٩٨) ، وكان المذهب في «مصر» لمالك والشافعي إلى أن أتى القائد «جوهر» بجيوش مولاه «المعزّ لدين الله أبي تميم معدّ» الخليفة الفاطميّ إلى «مصر» سنة (٣٥٨) فشاع فيها مذهب الشيعة حتّى لم يبق فيها مذهب سواه.

ثمّ إنّ المقريزيّ بيّن بعد ذلك بدء انحصار المذاهب في أربعة وقال :

فاستمرّت ولاية القضاة الأربعة من سنة (٦٦٥) حتّى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب أهل الإسلام سوى هذه المذاهب الأربعة ، وعقيدة الأشعريّ وعملت لأهلها المدارس والخوانك والزّوايا والرّبط في سائر ممالك الإسلام وعودي من تمذهب بغيرها ، وأنكر عليه ، ولم يولَّ قاض ولا قبلت شهادة ولا قدِّم للخطابة والإمامة والتّدريس أحد ما لم يكن مقلّداً لأحد هذه المذاهب وأفتى فقهاء هذه الأمصار في طول هذه المدّة بوجوب اتّباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها ، والعملُ على هذا إلى اليوم». انتهى المراد من كلامه بتصرّف منّا (١).

__________________

(١) الخطط المقريزيّ ـ ة : ٢ / ٣٣٣ و ٣٣٤ و ٣٤٤ لأبي العباس أحمد بن عليّ المقريزيّ متوفى سنة (٨٤٥ ه‍ ـ).

١٠٧

وهذه الكلمة الأخيرة «وتحريم ما عداها» تكشف عن أعظم المصائب على الإسلام ، حيث إنّه قد مضى من الإسلام ما يقرب من سبعة قرون ومات فيها على دين الإسلام ما لا يحصي عددهم إلّا ربّهم ، ولم يسمع أحد من أهل القرنين الأوّلين اسم المذاهب الأربعة أبداً ، ثمّ فيما بعد القرنين كان المسلمون بالنّسبة إلى الأحكام الفرعيّة في غاية من السّعة والحريّة ، وكان عاميّهم يقلّد من اعتمد عليه من المجتهدين وكان المجتهدون يستنبطون الأحكام من الكتاب والسنّة على طبق الموازين المقرّرة عندهم في العمل بالسنّة النبويّة.

فأيّ شيء أوجب في هذا التاريخ على عامة المسلمين «عاميّهم ومجتهدهم» أن لا يخرج أحد في الأحكام الشرعيّة عن حدّ تقليد الأئمّة الأربعة ، وبأيّ دليل شرعيّ صار اتّباع أحد المذاهب الأربعة واجباً تخييريّاً ، والرّجوع إلى ما ورائها حراماً وإثماً ، مع علمنا بأحوال جميع المذاهب من بدئها وكيفيّة انتشارها وتأثير العوامل في تقدّم بعضها على غيرها بالقهر والغلبة من الدّولة والحكومة كما أفصح عن بعض ذلك ما ذكره ابن الفوطيّ في «الحوادث الجامعة ص (٢١٦) في وقائع سنة (٦٤٥)» يعني قبل انقراض بني العبّاس بإحدى عشر سنة في أيام «المستعصم» الّذي قتله «هولاكو» سنة (٦٥٦) فلاحظ ذلك الكتاب (١).

هذا بالنسبة إلى أهل السنّة ، وأمّا الشّيعة ، فتختلف عنهم في الحاجة إلى الاجتهاد بعد رحيل النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك لأمرين :

الأوّل : إنّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن كان خاتم النبيّين وكتابه خاتم الكتب السّماويّة وبموته انقطع الوحي وخبر السّماء عن الأرض ، إلّا أنّ العترة الطاهرة

__________________

(١) راجع «تاريخ حصر الاجتهاد» للعلّامة الطهراني : ١٠٤ و ١٠٥.

١٠٨

على طبق حديث الثقلين ـ المتواتر عند الفريقين ـ هم خزنة علم الرّسول وحفظة السنّة المحمّدية ، وعندهم ما تحتاج إليه الأُمّة إلى يوم القيامة وعلى ضوء ذلك لم تكن الحاجةُ ملحّة بفتح باب الاجتهاد للتمكّن من السنّة عن طريق الرّجوع إلى العترة (عليه‌السلام) مع كون الرّاجعين إليها في جانب القلّة بالنسبة إلى غيرهم.

الثاني : لمّا كان الحكم والقضاء بيد الخلفاء وأُمرائهم والعلماء الحافّين بهم كانت الأسئلة موجّهة ووافدة إليهم من الدّاخل والخارج ، ولم يكن للشيعة مناص عن ذلك إلّا القليل ، فكانوا يرجعون إلى عليّ أمير المؤمنين (عليه‌السلام) والسبطين (عليهما‌السلام) وعليّ بن الحسين (عليه‌السلام) أحياناً ، ولذلك لم تكن هناك حاجة إلى الاجتهاد وبذل الجهد في طريق الاستنباط.

نعم ، لمّا كثرت الشيعة وضرب بجرانها أطراف الأرض وانتشرت في الحجاز والعراق وغيرهما وتفرّق علماؤهم في البلاد وصعب التمكّن في كلّ زمان من السؤال عن العترة (عليهم‌السلام) بدت ظاهرة الاجتهاد بينهم للضّرورة والحاجة ، خصوصاً بعد انتشار علوم الباقرين ومآثر الصادقين (عليهما‌السلام) في الأطراف والأكناف وتربّى في أحضانهما أصحاب الفتيا والاجتهاد ، ويعرف ذلك من راجع طبقات تلاميذهما القدامى والجدد (١).

هذا وسوف نقوم بنشر أسماء فقهاء الشيعة مع تراجمهم الإجمالية في كتاب خاص باسم «طبقات الفقهاء وتاريخ الفقه» بإذن الله سبحانه ، وقد قام لفيف من أصحابنا بتأليفها وتصنيفها طوال سنين ، وفّقهم الله لإكماله.

__________________

(١) راجع مقدّمة كتاب «إبانة المختار» ص ١.

١٠٩

شبهة حول الاجتهاد الدّارج في عصرنا :

ربّما يختلج في أذهان بعض القصّر من النّاس عدم مشروعية الاجتهاد الدّارج في أعصارنا هذه مستدلاً بأنّ الفقه فيها أخذ لنفسه صورة فنيّة ، وجاء على طراز سائر العلوم العقليّة الفكرية بعد ما كان في أعصار المتقدمين من العلوم البسيطة المبنيّة على سماع الأحكام من النبيّ والأئمة (عليهم‌السلام) وبثها بين الناس من دون اجتهاد من الرّاوي في تشخيص حكم الله تعالى بترجيح دليل على آخر أو تقييده أو تخصيص واحد بالآخر إلى غير ذلك من الأُصول الدّارجة في زماننا.

الجواب :

إنّ ذلك أشبه شيء بالشّبهة ويمكن الإجابة عنها بوجهين :

الأوّل : إنّ الاجتهاد بالمعنى الوسيع وإعمال النظر في الرّوايات والتدقيق في دلالتها وترجيح بعضها على بعض ، كان موجوداً في أعصارهم ، دارجاً بين أصحابهم (عليهم‌السلام) ، فإنّ الاجتهاد وإن توسّع نطاقه في أعصارنا وبلغ مبلغاً عظيماً ، إلّا أنّ أصله بالمعنى الجامع بين عامّة مراتبه كان دارجاً في تلك العصور ، وإنّ الأئمة (عليه‌السلام) أرجعوا شيعتهم إلى فقهاء أعصارهم ، وكانت السيرة آنذاك هي الرّجوع إليهم من دون تزلزل وتردّد ، والدالُّ على وجود الاجتهاد بهذا المعنى آنذاك عدّة من الرّوايات وهي كالتّالي :

الأُولى : ما رواه ابن إدريس (رضي الله عنه) في «مستطرفات السرائر» نقلاً عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «إنمّا علينا أن نلقي إليكم الأُصول وعليكم أن تفرّعوا» (١).

__________________

(١) الوسائل : ١٨ / ٤٠ ح ٥١ ، كتاب القضاء ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي.

١١٠

الثانية : ما روي عن كتاب أحمد بن محمّد بن أبي نصر عن الرّضا (عليه‌السلام) قال : «علينا إلقاء الأُصول وعليكم التفريع» (١).

أقول : إنّ التفريع الّذي هو استخراج الفروع عن الأصول الكليّة الملقاة وتطبيقها على مواردها وصغرياتها ، إنّما هو شأن المجتهد وما هو إلا الاجتهاد ، نعم التفريع والاجتهاد يتفاوت صعوبة لتفاوت نطاقه حسب مرور الزّمن ، فإذا قال الإمام (عليه‌السلام) : «لا تنقض اليقين بالشك» أو روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ضرر ولا ضرار» كان على المخاطبين وعلى علماء الأعصار المستقبلة استفراغ الوسع في تشخيص صغرياتها ، وما يصلح أن يكون مصداقاً له وما لا يصلح ، وهذا ما نسمّيه بالاجتهاد.

الثالثة : ما رواه الصّدوق (رضي الله عنه) في «معاني الأخبار» عن داود بن فرقد قال : سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : «أنتم أفقه النّاس إذا عرفتم معاني كلامنا ، إنّ الكلمة لتنصرف على وجوه ، فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب» (٢).

أقول : إنّ عرفان معاني الكلام ليس إلّا تشخيص ما هو الأظهر بين المحتملات بالفحص عن القرائن الحافّة بالكلام ، وبعرض أخبارهم (عليهم‌السلام) على الكتاب والسنّة إلى غير ذلك ممّا يوضّح به المراد ويعيّن المفاد ، وليس هذا إلّا الاجتهاد.

الرابعة : ما رواه الصّدوق (رضي الله عنه) في عيونه بإسناده عن الرضا (عليه‌السلام) قال : «من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه فقد هدي إلى صراط مستقيم ، ثمّ قال (عليه‌السلام) : إنّ في أخبارنا محكماً كمحكم القرآن ومتشابهاً كمتشابه القرآن ، فردّوا متشابهها إلى

__________________

(١) الوسائل : ١٨ / ٤١ ح ٥٢ ، كتاب القضاء ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي.

(٢) نفس المصدر : ٨٤ ح ٢٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي.

١١١

محكمها ، ولا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا» (١).

أقول : إنّ ردّ المتشابه إلى محكمه ، بجعل أحدهما قرينة على الآخر ، وتحقّقه موقوف على الاجتهاد.

الخامسة : الرّوايات الواردة في تعليم أصحابهم (عليهم‌السلام) كيفيّة استفادة أحكام الفروع من الذّكر الحكيم ، رواية زرارة عن الباقر (عليه‌السلام) قوله : ألا تخبرني من أين علمت وقلت : إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرّجلين؟ فضحك فقال (عليه‌السلام) : «يا زرارة ، قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونزل به الكتاب من الله عزوجل ، لأنّ الله عزوجل قال : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أن يغسّل ، ثمّ قال : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) ، فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه ، فعرفنا أنّه ينبغي لهما أن يغسّلا إلى المرفقين ، ثمّ فصل بين الكلام فقال : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) فعرفنا حين قال : (بِرُؤُسِكُمْ) أنّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء ، ثمّ وصل الرّجلين بالرّأس كما وصل اليدين بالوجه فقال : (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) فعرفنا حين وصلهما بالرّأس أنّ المسح على بعضهما ، ثمّ فسّر ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للنّاس فضيّعوه» (٢).

السادسة : ما في رواية عبد الأعلى مولى آل سام بعد ما سأل الإمام (عليه‌السلام) عن حكم المسح على المرارة ، قال (عليه‌السلام) : «يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزوجل قال الله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحجّ ـ ٧٨) ، امسح عليه» (٣).

أقول : لقد أوضح للسائل كيفيّة الاستنباط ، وردّ الفروع إلى أُصولها ، ونظير ما

__________________

(١) الوسائل : ١٨ / ٨٢ ح ٢٢ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٢) الوسائل : ١ / ٢٩١ ح ١ ، الباب ٢٣ من أبواب الوضوء.

(٣) الوسائل : ١ / ٣٢٧ ح ٥ ، الباب ٣٩ من أبواب الوضوء.

١١٢

تقدّم بل أقوى منه ما في مرسلة يونس (١) الطويلة الواردة في أحكام الحائض والمستحاضة فإنّ فيها موارد ترشدنا إلى طريق الاجتهاد ، وغير ذلك من الرّوايات المرشدة إلى دلالة الكتاب وكيفيّة الاستدلال ، وهي منبثّة في طيّات أبواب الفقه فراجع.

السابعة : قول الباقر (عليه‌السلام) لزرارة ومحمّد بن مسلم حيث سألاه (عليه‌السلام) وقالا له : ما تقول في الصلاة في السّفر كيف هي؟ وكم هي؟ فقال (عليه‌السلام) : «إنّ الله عزوجل يقول : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) (النساء ـ ١٠١) فصار التقصير في السّفر واجباً كوجوب التمام في الحضر» قالا : قلنا له : قال الله عزوجل : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) ولم يقل «افعلوا» فكيف أوجب ذلك؟ فقال (عليه‌السلام) : «أوليس قد قال الله عزوجل في الصّفا والمروة : (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) (البقرة ـ ١٥٨) ، ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض لأنّ الله عزوجل ذكره في كتابه ، وصنعه نبيّه ، وكذلك التقصير ، شيء صنعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذكره الله في كتابه» (٢).

__________________

(١) الوسائل : ٢ / ٥٣٨ و ٥٣٩ ح ٤ ، الباب ٣ من أبواب الحائض.

وهناك حديث أيضاً في أبواب الحيض ، الباب ٤١ الحديث ٥ ـ ص ٥٨٩ يمكن أن يفي بالمطلوب ، وهو عن إسماعيل الجعفيّ عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال الراوي : قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام) : إنّ المغيرة بن سعيد ، روى عنك أنّك قلت له : إنّ الحائض تقضي الصّلاة؟ فقال (عليه‌السلام): «مالهُ ، لا وفّقه الله ، إنّ امرأة عمران نذرت ما في بطنها محرّراً ، والمحرّر للمسجد يدخله ثمّ لا يخرج منه أبداً ، فلمّا وضعتها قالت : ربّ إنّي وضعتها أُنثى وليس الذكر كالأُنثى ، فلمّا وضعتها أدخلتها المسجد ، فساهمت عليها الأنبياء ، فأصابت القرعة زكريّا (عليه‌السلام) فكفلها ، فلم تخرج من المسجد حتّى بلغت ، فلمّا بلغت ما تبلغ النساء خرجت ، فهل كانت تقدر على أن تقضي تلك الأيّام التي خرجت وهي عليها أن تكون الدهر في المسجد».

(٢) الوسائل : ٥ / ٥٣٨ ح ٢ ، الباب ٢٢ من أبواب صلاة المسافر.

١١٣

الثامنة : مقبولة عمر بن حنظلة (١) ، وقد تقدّمت ، وفيها إرشاد إلى كيفيّة استنباط الحكم من الكتاب والسنّة ، وعلاج الخبرين المتعارضين بعرضهما عليهما ، وهذا واضح لمن تأمّلها ، وهي صريحة بوجود الاجتهاد ـ بالمعنى الدارج في زماننا ـ في عصر الصادق (عليه‌السلام).

التاسعة : روى العباس ابن هلال عن أبي الحسن الرضا (عليه‌السلام) ، قال : ذكر أنّ ابن أبي ليلى وابن شبرمة دخلا المسجد الحرام فأتيا محمّد بن علي (عليه‌السلام) فقال لهما : «بما تقضيان»؟ فقالا : بكتاب الله والسنّة ، قال (عليه‌السلام) : «فما لم تجداه في الكتاب والسنّة»؟ قالا : نجتهد رأينا ، قال (عليه‌السلام) : «رأيكما أنتما؟! فما تقولان في امرأة وجاريتها كانتا ترضعان صبيّين في بيت وسقط عليهما فماتتا وسلم الصّبيان»؟ قالا : القافّة ، قال (عليه‌السلام) : «القافة (٢) ـ يتجهّم منه لهما ـ» قالا : فأخبرنا؟ قال : «لا»!!

قال ابن داود مولى له : جعلت فداك بلغني أنّ أمير المؤمنين عليّاً (عليه‌السلام) قال : «ما من قوم فوّضوا أمرهم إلى الله وألقوا سهامهم إلّا خرج السّهم الأصوب» ، فسكت (٣).

العاشرة : روى الحسن الصيقل عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : قلت : رجل طلّق امرأته طلاقاً لا تحلّ له حتى تنكح زوجاً غيره ، فتزوّجها رجل متعة أتحلّ للأوّل؟ قال (عليه‌السلام) : «لا ، لأنّ الله تعالى يقول : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها ...) والمتعة ليس فيها طلاق» (٤).

__________________

(١) الوسائل : كتاب القضاء : ١٨ / ٧٥ و ٧٦ ح ١ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٢) القافة جمع قائف وهو الّذي يعرف الآثار. وفي جامع أحاديث الشيعة : ٢٤ / ٥١٤ التعليقة : تجهّم لهما أي : استقبلهما بوجه عبوس كريه ، كناية عن عدم علم القافة وعدم تشخيصها ، ـ القافة تلحقهما بهما ـ في نسخة الوافي.

(٣) التهذيب : ٩ / ٣٦٣ ح ١٨ ، باب ميراث الغرقى والمهدوم عليهم.

(٤) الوسائل : ١٥ / ٣٦٩ ح ٤ ، كتاب الطلاق ، الباب ٩ ، من أبواب أقسام الطلاق وأحكامه.

١١٤

الحادية عشرة : روى الحسن بن الجهم قال : قال لي أبو الحسن الرّضا (عليه‌السلام) : «يا أبا محمّد ، ما تقول في رجل تزوّج نصرانيّة على مسلمة»؟ قال : قلت : جعلت فداك وما قولي بين يديك؟ قال (عليه‌السلام) : «لتقولنَّ فإنّ ذلك يعلم به قولي». قلت : لا يجوز تزويج نصرانيّة على مسلمة ولا غير مسلمة.

قال (عليه‌السلام) : «ولم»؟ قلت : لقول الله عزوجل : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ...) (البقرة ـ ٢٢١).

قال (عليه‌السلام) : «فما تقول في هذه الآية :

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ...)؟» (المائدة ـ ٥).

قلت : فقوله : (لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ) نسخت هذه الآية. فتبسّم (عليه‌السلام) ثمّ سكت (١).

الثانية عشرة : عن جعفر بن سماعة أنّه سأل عن امرأة طلّقت على غير السنّة : ألي أن أتزوّجها؟ فقال : نعم ، فقلت له : ألست تعلم أنّ عليَّ بن حنظلة روى : إيّاكم والمطلَّقات ثلاثاً على غير السنّة ، فإنّهنَّ ذوات الأزواج؟ فقال : يا بنيّ رواية عليّ بن أبي حمزة أوسع على الناس ، روى عن أبي الحسن (عليه‌السلام) أنّه قال : «ألزموهم من ذلك ما ألزموه أنفسهم ، وتزوّجوهنَّ فلا بأس بذلك» (٢).

فقدّم الخبر الثاني على الأوّل بإحدى ملاكات التقديم ، هذا وإلى غير ذلك من الرّوايات الكثيرة الظاهرة في وجود الاجتهاد بين أصحاب الأئمّة (عليهم‌السلام).

__________________

(١) الوسائل : ١٤ / ٤١٠ ـ ٤١١ ح ٣ ، كتاب النّكاح ، الباب ١ من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه.

(٢) الوسائل : ١٥ / ٣٢١ ح ٦ ، الباب ٣٠ من أبواب مقدّمات الطّلاق وشرائطه.

١١٥
١١٦

الفصل الثاني

في التقليد

ونكتفي فيه بالبحث عن مسائل سبع :

١ ـ التقليد لغة واصطلاحاً.

٢ ـ الدّليل على جوازه للعامّي.

٣ ـ في وجوب تقليد الأعلم وعدمه.

٤ ـ في تقليد الميّت ابتداءً.

٥ ـ في البقاء على تقليد الميّت.

٦ ـ في العدول عن تقليد مجتهد إلى آخر.

٧ ـ في تبدّل رأي المجتهد.

ولنشرع بالبحث فيها حسب الترتيب :

١١٧
١١٨

المسألة الأُولى : التقليد لغة واصطلاحاً :

التقليد من القلادة وهي التي تجعل في العنق تكون للإنسان والفرس والبدنة التي تهدى ونحوها.

قال ابن فارس :

«قلد : القاف واللّام والدّال أصلان صحيحان ، يدلّ أحدهما على تعليق شيء على شيء وليّه به ، والآخر على حظ ونصيب (القِلْد) فالأوّل التقليد : تقليد البدنة وذلك أن يعلّق في عنقها شيء ليعلم أنّها هدي ـ إلى أن قال ـ ويقال : قلّد فلان فلاناً قلادة سوء : إذا هجاه بما يبقى عليه وَسْمُه ، فإذا أكّدوه قالوا : قلّده طوق الحمامة : أي لا يفارقه كما لا يفارق الحمامة طوقها» (١).

وقال ـ ابن منظور ـ بعد بيان أنّه مأخوذ من القلادة ـ : «قلّدت المرأة فتقلّدت هي ، وفي الحديث : قلّدوا الخيل ـ إلى أن قال : ـ ومنه التقليد في الدّين وتقليد الولاة الأعمال ، وتقليد البدن : أن يجعل في عنقها شعار يعلم به أنّها هدي ، وقلّده الأمر : ألزمه إيّاه» (٢).

__________________

(١) مقاييس اللّغة : ٥ / ١٩.

(٢) لسان العرب : ٣ / ٣٦٦ و ٣٦٧.

١١٩

قال الخليل : «وتقلّدت السيف والأمر ونحوه : ألزمته نفسي ، وقلّدنيه فلان : أي : ألزمنيه وجعله في عنقي» (١).

وقال الطريحيّ : وفي حديث الخلافة : «فقلَّدها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً (عليه‌السلام) أي : ألزمه بها أي جعلها في رقبته وولّاه أمرها» (٢).

هذه الكلمات تعرب عن أنّ المادّة إذا صيغت من باب التفعّل كما إذا قال : تقلّدت السيف أو تقلّدت المرأة ، يكون معناه : تقلّد الفاعل بشيء من السيف والقلادة ، وأمّا إذا استعملت من باب التفعيل كما إذا قال : قلّدت الخيل ، أو قلّدت المرأة ، يكون معناه تقلد المفعول بشيء يصلح التقلّد به ، فاحفظ فإنه ينفعك فيما يأتي.

وقد عرّف التقليد اصطلاحاً بمعاني عديدة :

أ ـ الأخذ بفتوى الغير للعمل بها ، وبعبارة أُخرى : تعلّمها للعمل.

ب ـ الالتزام بالعمل بفتوى الغير وإن لم يتعلّم فضلاً عن أن يعمل ، وإلى ذلك يرجع قول السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزديّ (رضي الله عنه) في عروته ، حيث يقول : التقليد هو الالتزام بالعمل بقول مجتهد معيّن وإن لم يعمل بعد ، بل ولو لم يأخذ فتواه ، فإذا أخذ رسالته والتزم بالعمل بما فيها ، كفى في تحقّق التقليد (٣).

ج ـ الاستناد إلى فتوى الغير في مقام العمل. ولعلّ هذا هو المراد من تفسيره بنفس العمل ، فلا يتحقّق التقليد بنفس العمل ما لم يكن مستنداً إلى فتوى الغير

__________________

(١) ترتيب العين : ٦٨٣ ، مادّة قلد.

(٢) مجمع البحرين : ٣ / ١٣٢.

(٣) العروة الوثقى ، كتاب التقليد : ١ / ٤ و ٥ المسألة ٨.

١٢٠