الرسائل الأربع - ج ٢

عدّة من الأفاضل

الرسائل الأربع - ج ٢

المؤلف:

عدّة من الأفاضل


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٠٤

وإلى المنصب الأوّل يشير قوله سبحانه : (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) (الأحزاب / ٣٩). وليس للرسول الكريم في هذا الموقف أمر ولا نهي وإنّما هو مذكّر ، ليس عليهم بمسيطر ، وظيفته الابلاغ والبيان.

وإلى المنصب الثاني يشير قوله سبحانه : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (الأحزاب / ٣٦) والمراد من القضاء ، والأمر والنهي اللذان يناسبان مقام الامارة والسلطنة الموهوب له من الله تعالى فبعد تنصيبه في هذا المقام يصدر أمره ونهيه حسب المصالح ، ويجب على الأُمّة طاعته.

وإلى المنصب الثالث يشير قوله سبحانه : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء / ٦٥).

فهذه المقامات الثلاثة ثابتة للنبيّ الأكرم بهذه النصوص القرآنية. ثمّ إنّها قد تجتمع في غيره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد تفترق ، قال سبحانه : (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة / ٢٤٧) ، فكان لطالوت الحكم والسلطة فقط دون النبوّة والرسالة ، لمصلحة وقتية اقتضت ذلك.

الثاني : كلّما ورد في الأثر الصحيح أنّ الرسول أمر بشيء أو حكم أو قضى به ، فالظاهر منه أنّ هذه الأحكام صدرت منه بما له من منصب الحكم والقضاء لا بما أنّه رسول مبلّغ لأحكام الله ورسالاته ، إذ ليس له في هذا الموقف أمر ولا نهي ولا حكم ولا قضاء فكيف يصحّ له أن يأمر وينهى؟ ولأجل ذلك ترى أمثال هذه التعابير في حياة الرسول والوصي دون سائر الأئمّة ، لأنّ الظروف لم تسمح لهم

٨١

باعتلاء منصّة الحكم وسدة القضاء فانحصرت وظيفتهم (عليهم‌السلام) في التبليغ والبيان دون الحكم والقضاء.

نعم ، ربّما يستعمل لفظ «قال» في مقام القضاء والحكم ، ويعلم أنّ المراد هو الأمر والنهي ، لا تبليغ الحلال والحرام. كما إذا قيل : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأُسامة : أنت قائد الجيش ، اذهب إلى القطر الفلاني وقاتل الروم».

الثالث : إنّ السابر في الروايات يرى نماذج وافرة من أحكام الرسول السلطانية وأقضية مبثوثة في مختلف الأبواب.

روى الكليني عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والإيمان». (١)

وروى أيضاً عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في آداب الجهاد قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم فأجلسهم بين يديه ثمّ يقول : سيروا باسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله ، لا تغلوا ، ولا تمثّلوا ، ولا تغدروا ، ولا تقتلوا شيخاً فانياً ، ولا صبياً ، ولا امرأة ، ولا تقطعوا شجراً إلّا أن تضطرّوا إليها». (٢)

وروى أيضاً في حديث عبد الرحمن بن جندب ، عن أبيه : أنّ أمير المؤمنين (عليه‌السلام) كان يأمر في كل موطن لقينا فيه عدونا فيقول : «لا تقاتلوا القوم حتى يبدءوكم ، فإنّكم بحمد الله على حجّة ، وترككم إيّاهم حتى يبدءوكم حجّة أُخرى لكم فإذا هزمتموهم ، فلا تقتلوا مدبراً ولا تجهزوا على جريح ولا تكشفوا عورة ولا تمثّلوا بقتيل». (٣)

إلى غير ذلك من الروايات الحاكية عن الأحكام الصادرة عن منصبي الحكم والقضاء. ومن أراد الاطلاع عليها فليرجع إلى أبواب القضاء والجهاد

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ، ص ١٦٩ ، كتاب القضاء ، الباب ٢ ، كيفية الحكم ، الحديث ١.

(٢) الوسائل ج ١١ ، ص ٤٣ ، كتاب الجهاد ، الباب ١٥ «جهاد العدو وما يناسبه» الحديث ٢.

(٣) الوسائل ج ١١ ، ص ٦٩ ، كتاب الجهاد ، الباب ٣٣ ، جهاد العدو وما يناسبه ، الحديث ١.

٨٢

والاحياء.

إذا عرفت ذلك نقول : إنّ هنا ما يدل على أنّ «لا ضرر ولا ضرار» صدر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا بما أنّه حكم إلهي كسائر الأحكام الواردة عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، بل حكم سلطاني صدر عنه بما أنّه سائس الأُمّة وحاكمها لأجل قطع دابر الفساد وقلع جذوره. وإليك ما يدل عليه :

١ ـ قد نقل ابن حنبل في مسنده قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ضرر ولا ضرار» في ضمن أقضيته البالغة نيفاً وعشرين ، رواها عن عبادة بن الصامت حيث قال : «وقضي لا ضرر ولا ضرار». وبما أنّ المقام ليس من موارد القضاء ، إذ لم يكن هناك جهل بالحكم ولا جهل بالموضوع ، فلا يصحّ حمله على القضاء وفصل الخصومات ويتعيّن حمله على أنّه حكم سلطاني صدر عنه لأجل دفع الفساد. ومفاده أنّه حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن لا يضر أحد أحداً ، ولا يجعله في ضيق ولا حرج ومشقّة. فيجب على الأُمّة طاعة هذا النهي المولوي السلطاني لأنّه حكم السلطان المفروضة طاعته.

٢ ـ إنّ الناظر في قضية سمرة وما ورد فيها من الروايات يقف ، على أنّ الأنصاري التجأ إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما وقع في الضيق والحرج ، واستنجد به واستنصره ، ولم يلجأ إليه إلّا بما أنّه سلطان ورئيس ، وحاكم ومقتدر ، يقدر على دفع شر المعتدي وضرره. فأحضره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذكر له شكوى الأنصاري ، فلمّا تأبّى عن الطاعة أمر بقلع الشجرة وحكم بأنّه لا يضر أحد أخاه في حمى سلطانه وحوزة حكومته. فليس المقام مناسباً لبيان حكم الله ، وانّ الأحكام الواقعية الضررية ليست مجعولة ، أو أنّ الموضوعات الضررية مرفوعة الحكم ، أو أنّ الحكم الإلهي هو أن لا يضرّ أحد أحداً ، فإنّ كل ذلك ليس مربوطاً بما دار بين الرسول وسمرة.

فالصادر عن رسول الله في هذا المقام هو حكم سلطاني مفاده أنّ الرعية ممنوعة عن الضرر والضرار بعضها ببعض ، دفاعاً عن المظلوم وحفظاً للنظام. (١)

__________________

(١) تهذيب الأُصول ج ٢ ص ٤٨١ ـ ٤٨٩ مع تصرّف يسير.

٨٣

تحليل نظرية السيّد الأُستاذ :

لا يخفى أنّ في ما ذكره (قدس‌سره) نظر ، من جهات :

أمّا أوّلاً : فإنّ منصب الحكم وإن كان لا ينفك عن نصب وعزل وأمر ونهي مع وجوب طاعة الناس لما يصدر عنه ، إلّا أنّ الأوامر المناسبة لذاك المنصب هي الأوامر التي تصدر بصورة جزئية ولا تدخل تحت ضابطة ، وتختلف صورها باختلاف الظروف ، كعزل وال ونصب آخر مكانه ، وما يرجع إلى كيفيات القتال ، وحبس المتّهم أو إطلاقه ، وعقد اتّفاقيّة مع قوم أو نقضها ، وكتقسيم أراضي بني النضير بين المهاجرين ، إلى غير ذلك من الأُمور التي يلزم تنفيذها حفظاً للأحكام الكلّية الإلهيّة وصيانة لها. وبما أنّ تلك الأحكام المزبورة لا تدخل تحت ضابطة خاصّة ، وربّما تقتضي المصلحة الأمر بالشيء وأُخرى النهي عنه ، وقد جاء الوحي الإلهي ملزماً بتنفيذ ما أتى الرسول به وما نهى عنه قائلاً : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر / ٧) ، فالمولى سبحانه فوّض حكم تلك الموارد الجزئية إلى ولي الأمر لا بصورة فوضوية بل في إطار مصلحة الأُمّة مع عدم مخالفة ما يأمر وينهى للأحكام الكليّة الشرعية. وقوله سبحانه : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (الأحزاب / ٣٦) ، راجع إلى القضاء في هذه الموارد.

وأمّا الأحكام الكلية ، كالنهي عن الضرر والضرار ، والحرج والمشقّة ، التي لا تختصّ بمكان دون مكان ولا زمان دون زمان ، حيث إنّ الاضرار قبيح والإيقاع في الحرج لا يوافق الفطرة ، ففي مثلها يكون الحكم إلهياً ناشئاً من ملاحظة المصالح والمفاسد الكلية دون الوقتية والزمنية ، لا حكماً سلطانياً صادراً عن المنصب الموهوب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٨٤

ويؤيد ذلك : أنّ في قصة سمرة أحكاماً سلطانية لها طابع الجزئية والوقتية ، كأمره بالاستئذان وقلع الشجرة ورميها في وجهه ، صدرت لحفظ الحقوق أو لقلع جذور الفساد. وأمّا قوله : «لا ضرر» فهو حكم إلهي له طابع الكلّية والدوام وهو المصحح للأوامر السلطانية الجزئية.

وثانياً : إنّ الأوامر السلطانية إنّما تتعلّق بموضوعات ليست لها أحكام شخصية بسبب جزئيتها ، وأمّا الموضوعات التي قد سبق من الشارع جعل الحكم لها وتحريمها فلا معنى لجعل حكم سلطاني عليها. وهذا كالضرر ، فقد عرفت تضافر آيات الكتاب وروايات السنّة على حرمتها. وعلى ضوء هذا ، ينسبق إلى الذهن ، أنّ الرسول الكريم كان بصدد الإشارة إلى الحكم المعلوم المتضافر.

وثالثاً : إنّ ما ذكره لا يصحّ في حديث الشفعة ، فانّ الظاهر من توسيط قوله «لا ضرر ولا ضرار» بين الكلامين أنّ هذه القاعدة الإسلامية صارت سبباً لتشريع حق الشفعة للشريك ، ولم يكن في البين أيّة أرضية صالحة لصدور حكم سلطاني ، وإنّما قضى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشفعة بين الشركاء دفعاً للضرر والضرار.

أضف إلى ذلك أنّ تفسير النفي بالنهي خلاف المتبادر في هذه الموارد كما لا يخفى. (١)

إلى هنا ظهرت حقيقة الآراء والنظريات الّتي قيلت في القاعدة ، وقد عرفت أنّ الكلّ لا يخلو من علّة أو علّات ، وأمّا مختارنا فيها فإليك بيانه :

__________________

(١) ويضاف إلى ما ذكره شيخنا في تحليل كلام استاذه ، بأنّه لو سلّم اندفاع جميع الاشكالات الّتي ذكرها حول تلك النّظريّة ، فإنّها تقبل إذا كانت أدلّة القاعدة منحصرة بقضيّة سمرة وحديث اقضية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المروي عن عبادة بن الصّامت. ولكن حيث اثبتنا في بحث «الضّرر والضّرار في السّنّة» عدم انحصارها بهما وأنّ هناك عشرات الأحاديث قد وردت في عشرات المجالات من العبادات والمعاملات ، وكلّها تشير إلى مضمون القاعدة ولم يوجد في أكثرها رائحة الأوامر والنّواهي السّلطانية ، فلا يبقى مجال لقبول تلك النّظريّة.

٨٥

بيان المختار في تفسير القاعدة :

إنّ المختار في تفسير القاعدة هو كون النفي بمعناه لا بمعنى النهي ، وبذلك يفترق عن النظريتين الأخيرتين ، وأنّ مصدر الضرر وفاعله هو الناس ، بعضهم ببعض لا الشارع ولا تكاليفه ، وبذلك يفترق عن النظريات الثلاث الأُول.

والغاية من قاعدة نفي الضرر ، الأخبار ـ بعد وجوده في المجتمع وجداناً ـ عن عدم إمضائه تكليفاً ولا وضعاً. ومعناه الابتدائي هو الاخبار عن عدم الضرر في الخارج ولكنّه ليس بمراد جداً بل هو كناية عن عدم إمضائه له وضعاً وتكليفاً ، غير أنّ المصحح لهذا الاخبار (غير المطابق للخارج) هو خلو صفحة التشريع عن الحكم الضرري تكليفاً ووضعاً. فهو إمّا حرام شرعاً أو غير جائز وضعاً ، ولو لا خلو صفحته عن مثل ذاك الحكم ، لما جاز له الاخبار عن عدم الضرر في الخارج.

توضيحه : أنّك قد عرفت أنّ المتبادر من هذه الصيغة هو نفي المتعلّق ، وأنّ استعماله في النهي يحتاج إلى قرينة. وبما أنّ مورد القاعدة تجاوز سمرة حقوق الأنصاري وعدوانه عليه ، يكون الضرر المنفي هو الضرر الوارد من بعض الناس إلى بعضهم الآخر. وبما أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاطب سمرة بقوله : «إنّك رجل مضار» أو «ما أراك يا سمرة إلّا مضاراً» وقال : «لا ضرر ولا ضرار» ، يكون هذا قرينة على أنّ المنفي في لسان الشارع مثل هذا الضرر ، لا الضرر الحاصل من حكم الشارع كإيجاب الوضوء والحج على المريض.

وبما أنّ الاخبار عن عدمهما مع وجودهما في المجتمع ممّا لا يجتمعان ، يكون الاخبار عن عدمهما بهدف تفهيم أنّ الضرر ممنوع شرعاً وقانوناً ، وغير ممضى عند الشارع تكليفاً ووضعاً.

٨٦

أمّا تكليفاً فيحرم كل عمل ضرري يتوجه من بعض النّاس إلى البعض الآخر كإيذاء الجار لجاره ، وأمّا وضعاً فلا تنفذ المعاملات الضرريّة كالغبن وغيره.

وبذلك يتّحد المختار مع مختار الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني فيما يكون الضرر متأتّياً من جانب الناس ، ويصح الاستدلال به في مورد الغبن وتبعيض الصفقة وتأخير الثمن والتدليس وغيرها.

ومن هنا استند الفقهاء في أبواب العبادات غالباً إلى أدلّة «لا حرج» ، فالحكم باشتراء ماء الوضوء والغسل بثمن غال لا يتحمل عادة ، أو إيجاب الوضوء على المريض الذي يضرّه استعمال الماء أو إيجاب الحج على المريض والشيخ الفاني حكم حرجي منفي بأدلّة الحرج.

وبذلك تقدر على دفع الاشكال الّذي ربّما يستعصيه بعض الافهام ، من إنّ الشارع كيف يخبر عن صفحة التشريع بعدم الحكم الضّرري فيها ، مع شيوعه في العبادات والمعاملات ، حيث حكم بدفع الزكاة والخمس والمقاتلة في ميادين الحرب ، كما أمر بإراقة الخمور وكسر الأصنام والصلبان والملاهي وغير ذلك.

وذلك لما عرفت من أنّ منحى الحديث هو اضرار النّاس بعضهم ببعض ، وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر عن خلو حياة الناس عن الضرر والضرار ، ادّعاءً لأجل خلوّ صفحة التشريع عن تجويز ذلك. فإذا انتفى التشريع عنهما ، فكانت رقعة الحياة خالية عنهما ، لأنّ النّاس ملزمون بالعمل بما جاء به الشارع المقدّس.

وأمّا الأحكام الّتي ربّما تكون ذريعة للضّرر. فمع قطع النظر عن عدم كونها ضرريّة ، لأنّ فيها حياة الفرد والمجتمع ، قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ). (١) ـ فهي خارجة عن مفاد الحديث موضوعاً ، ولا نحتاج إلى تجشّم

__________________

(١) الأنفال / ٢٤.

٨٧

الجواب الذي ذكرناه سابقاً. فمورد الحديث ومنحاه وهدفه وغايته ، تربية الناس تربية سامية إسلاميّة ، حتّى لا يضرّ أحد أحداً. ولأجل ذلك فقد أخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتأكيد عن عدم أيّ تشريع للضرر ، أي ضرر بعض النّاس بعضاً. (١)

هذا تمام الكلام في المقامات الأربعة وينبغي ، تكميلاً لمفاد القاعدة ، وتعييناً لحدودها ، البحث عن أُمور ، ولذلك ذيّلنا البحث بعدّة تنبيهات :

__________________

(١) يلاحظ على مختاره ـ دام ظلّه ـ بما يلي :

أوّلاً : إنّ من فحص فحصاً تامّاً في طيّات كتب الحديث عن مدارك القاعدة سوف يجد أنّ هناك موارد ليست بالقليلة يظهر منها أنّ مصدر الضّرر وفاعله ليس النّاس بعضهم بعضاً بل هو الشّارع ، ولذلك نفيت تلك الأحكام ورفعت لوجود الضّرر فيها لو شرّعت على المكلّفين.

نعم لو قلنا بأنّ مدرك القاعدة هو حديث سمرة واضرابُه فقط ، لكان للقول بانحصار مصدر الضرر في النّاس مجال. إلّا أنّنا أثبتنا خلاف ذلك كما مرّ.

وثانياً : إنّ استناد الفقهاء في جميع أبواب العبادات من الطهارة والصلاة والصوم والحجّ والجهاد والزّكاة وما إلى ذلك ، إلى أدلّة قاعدة نفي الضّرر لا يقل عن استنادهم إلى أدلّة نفي الحرج وسنتعرّض إلى تلك الموارد مع اعطاء فهرس كامل لها إن شاء الله في ملحقات هذا الكتاب.

ثمّ إنّ استنادهم إلى أدلّة نفي الحرج في بعض الموارد ليس لاعتقادهم بعدم صحّة الاستدلال بقاعدة نفي الضّرر هناك ، بل لاعتقادهم عدم الفرق الكبير بين القاعدتين منحًى ومورداً كما يبدو لمن تأمّل في عباراتهم.

وخاصة إذا لاحظنا عدم تعنون قاعدة لا ضرر في كتب القدماء بصورة مستقلّة ومتميّزة ثغورها عن القواعد الأُخر المشابهة كقاعدة نفي الحرج وما شاكلها.

ولذلك نرى المحقّق الحليّ في كتابه المعتبر ج ١ ، ص ١٣٨ في مكروهات التخلّي من كتاب الطهارة ، عند ما يريد الاستدلال على عدم كراهة التكلّم حين التغوّط عند الضرورة يقول : «وأمّا حال الضرورة فلما في الامتناع من الكلام من الضّرر المنفي بقوله تعالى : (وما جعل عليكم في الدّين من حرج).

٨٨

التنبيه الأوّل :

في اختصاص القاعدة

بنفي الأحكام الالزامية أو عمومها لغيرها

هل النفي يختص بنفي تشريع الحكم الالزامي من الوجوب والحرمة أو يعم نفي مطلق الأحكام التي تكون مبدأً للضرر وإن كانت ترخيصاً وإباحة؟

ذهب إلى الأوّل صاحب مصباح الأُصول قائلاً باختصاص النفي بجعل حكم الزامي من الوجوب والحرمة ، فانّه الذي يكون العبد ملزماً في امتثاله. فعلى تقدير كونه ضررياً ، كان وقوع العبد في الضرر مستنداً إلى الشارع بجعله الحكم الضرري ، وأمّا الترخيص في شيء يكون موجباً للضرر على نفس المكلّف أو غيره فلا يكون مشمولاً لدليل نفي الضرر لأنّ الترخيص في شيء غير ملزم بشيء ، حتّى يعد الترخيص ضررياً فيكون الضرر مستنداً إليه لا إلى الترخيص المجعول من قبل الشارع. (١)

ثمّ استظهر أنّ نفي الضرر كنفي الحرج المستفاد من أدلّة نفي الحرج. فكما أنّ المنفي بها هو الحكم الالزامي الموجب لوقوع المكلّف في الحرج دون الترخيص ، وهكذا في المقام بلا فرق.

يلاحظ عليه :

أنّ ما ذكره إنّما يتم في الأحكام غير الإلزاميّة إذا كانت مبدأً لإضرار المكلّف على نفسه ، كما إذا أراد أن يصوم ندباً أو يحجّ استحباباً مع اضرارهما ، فلا يصحّ أن يتمسّك بالقاعدة في نفي الترخيص فيهما لأنّه لا يعدّ مصدراً للضرر ، بل يستند

__________________

(١) مصباح الأُصول ، ج ٢ / ٥٣٣.

٨٩

الاضرار عندئذ إلى نفس المكلّف حيث ألزم نفسه بما لم يلزمه الشارع به.

وأمّا في مورد الاضرار بالغير ، فالقاعدة تعم الحكم الالزامي والاباحي ، فإنّ إطلاق ترخيص الشارع جواز العبور لصاحب النخل ، حكم ضرري جاء من جانب الشارع ، إذ لو لا ترخيصه لما كانت لسمرة بن جندب حجة في الاضرار بالجار.

وما ذكره من أنّ الترخيص في شيء غير ملزم بشيء حتى يعد الترخيص ضررياً إنّما يتم في الاضرار بالنفس ، وأمّا في الاضرار بالغير فربما يكون ذلك الترخيص مبدأً ومصدراً للاضرار كما لا يخفى.

والحاصل أنّه لا فرق بين الالزامي وغيره ، فإذا كان مصدراً للضرر ينفى بالقاعدة سواء كان مورد الاضرار هو النفس أو الغير ، ولعلّ مراده (قدس‌سره) هو الصورة الأُولى ، على أنّ الاضرار بالغير حرام بغير كلام.

هذا كلّه على مشرب القوم في مفاد القاعدة ، من أنّ المقصود نفي الأحكام الشرعية الضررية.

أمّا على المختار من أنّ مفادها نفي الضرر المتوجّه من شخص إلى آخر ، فقد عرفت أنّ مفاد الأخبار هو نفيه تكليفاً ووضعاً. وأنّ الاضرار حرام أو لا ، ولا يترتب عليه الأثر ثانياً. غير أنّ هذا المطلب لا يصح إلّا إذا خلت صفحة التشريع عن أيّ حكم يسوغ الاضرار بالغير ، سواء كان ذلك الحكم وجوباً أم اباحة ، لما قلنا من أنّ الأخبار عن عدم اضرار الناس ، بعضهم ببعض ، بعناية عدم تصويبه تكليفاً ووضعاً ، لا يتم إلّا بخلو صفحة التشريع عن أي حكم يمكن أن يقع ذريعة للاضرار بالغير. كتسويغ منع الماء لمنع الكلاء ، فإنّ هذا التسويغ لا يجتمع مع الهتاف بانتفاء الضرر في الخارج وعدم تصويبه تكليفاً ووضعاً. ففي مثل المعاملة الغبنية يرتفع لزوم الوفاء المترتّب على المعاملة لو لا الضرر ، كما أنّ في مثل منع الماء المستلزم للضرر ، يرتفع الجواز السابق.

٩٠

التنبيه الثاني :

في أنّ المدار في الضرر هل هو الشخصي أو النوعي؟

١ ـ اشتهر في ألسن المتأخّرين أنّ الضرر في العبادات شخصي وفي المعاملات نوعي. ولأجل ذلك لا يصح العدول من الوضوء إلى التيمّم إلّا إذا كان ضررياً بالنسبة إلى شخص المتيمّم ، لا بالنسبة إلى فرد آخر. ومثل الوضوء ، الحج. ونظير «الضرر» ، «الخوف» و «الحرج» فالمدار فيهما مطلقاً على الخوف والحرج الشخصيين لا النوعيين.

وأمّا المعاملات ، فالمدار في كونها ضررية كونها كذلك بالنسبة إلى النوع لا إلى الشخص. ولأجل ذلك حكموا بالخيار ، إذا كان البيع مشتملاً على الغبن ـ وإن غلت السلعة حين ظهور الغبن ـ بما يتدارك به الغبن فلا يكون الحكم باللزوم في مثله موجباً للضرر على المشتري شخصاً ، ولكنّه إذا قيس إلى النوع يكون ضررياً.

وكذلك الأمر في الشفعة ، إذا قلنا بأنّ ملاك الحكم بالشفعة في الأراضي والمساكن هو الضرر ، فيجب أن يحمل على النوعي منه. فإنّه ربّما لا يتوجّه من بيعه للغير أيّ ضرر ، كما إذا باعه من مؤمن ورع.

وكذلك فيما إذا باعه بأقلّ من القيمة السوقيّة جاهلاً ثمّ اطّلع على غبنه في البيع ، عند ما كان البائع عاجزاً عن حفظه إذا استردّه.

ولو قلنا بأنّ المدار في المعاملات هو الضرر الشخصي ، لزم عدم الخيار في هذه الموارد. لأنّ الضرر في صورة الاسترداد ، آكد من ضرره عند البيع بأقلّ من القيمة السوقية.

٩١

ولا يخفى أنّ التفكيك بين العبادات والمعاملات مع كون القاعدة واردة بلفظ واحد ، بلا جهة. والظاهر ظهوره في الضرر الشخصي. والاحتجاج على المكلّف بملاك أنّه ضرري بالإضافة إلى النوع ، وإن لم يكن ضرريّاً بالنسبة إلى الشخص ، يتوقّف على الدليل.

والظاهر أنّ هذا هو الدّليل ، وأمّا الاستدلال عليه بأنّ فعليّة الأحكام تابعة لتحقّق الموضوع ـ كما عن المحقق الخوئي (قدس‌سره) (١) فليس أمراً ظاهراً. لأنّ الفعليّة أمر مشترك بين الاحتمالين فالضرر في كلا الوجهين فعليّ ، غاية الأمر أنّ المقيس عليه في الشخص ، غيره في النوع فلاحظ.

وأمّا ما ذكر من الأمثلة ، فإنّ الضرر فيها أيضاً شخصي ، غاية الأمر أنّه صار مجبوراً بأمر خارجي. فغلاء السلعة لا يخرج المعاملة الواقعة قبل شهر ، عن كونها غبنية وضررية ، لأنّ الغلاء أمر خارجي لا صلة له بالمعاملة ، كما أنّ نفس كون الشريك مختاراً في البيع ممّن شاء في مورد الشفعة ، أمر ضرري. وبيعه من شخص مؤمن قضية خارجية لا صلة لها بنفس ذلك الاختيار ، ولا يخرجه من حيث هو هو عن كونه ضررياً. ومنه يظهر حال المثال الثالث.

وعلى كل تقدير ، فالملاك في جميع الموارد هو الضرر الشخصي ، والقول به لا يوجب عدم الخيار في الموارد المذكورة. فالمقياس في كون المعاملة ضررية ، نفسها لا ملاحظتها مع الأُمور الخارجة عنها.

__________________

(١) مصباح الأُصول ، ج ٢ / ٥٣٥.

٩٢

التنبيه الثالث

في كثرة التخصيص الوارد على القاعدة

إنّ مشكلة القاعدة هي مسألة كثرة التخصيص الوارد عليها بحيث يكون الخارج منها أضعاف الباقي ، خصوصاً إذا فسّرنا الضرر بإدخال المكروه ، ولو بني على العمل بعموم القاعدة حصل منه فقه جديد. ويدلّ على ذلك ، الأمر بالخمس ، والزكوات ، والكفّارات ، والخراج ، والجزية ، ومنها تشريع الحدود والديات ، والغرامات والضمانات وعلى وجه ، الأمر بإراقة الدهن المذاب والشيرج الملاقي للنجس ، والخمور ، واشتراء ماء الوضوء بثمن غال ، وكسر الأصنام ، والصُّلبان والملاهي الغالية ، وإلى غير ذلك ممّا يقف عليه السابر في الفقه.

وقد أُجيب عن هذا الإشكال بوجوه :

الأوّل : ما نقله الشيخ في رسالته المطبوعة في آخر المكاسب عن الفاضل النراقي من أنّ الضرر ما لا يحصل في مقابله نفع ، وأمّا ما يحصل في مقابله نفع دنيوي أو أُخروي فلا يكون ضرراً. فإذا ورد مثلاً «حجّوا إذا استطعتم» ، أو «صلّوا إذا دخل الوقت» ، أو «صوموا إذا دخل شهر رمضان» ، دلّ بعمومه على وجوب هذه الأفعال وإن تضمّنت ضرراً كثيراً ، والأمر يدلّ على العوض فلا يكون ضرراً. (١)

يلاحظ عليه :

بما أفاده الشيخ الأعظم ، أنّ الأجر الأُخروي لا يخرجه عن الضرر بل يكون مسوّغاً للأمر به ، وإلا لغت القاعدة. لأنّ كل حكم شرعي ضرري لا بد أن يترتّب

__________________

(١) رسالة قاعدة «لا ضرر» المطبوعة في آخر المكاسب ، ص ٣٦٩.

٩٣

على موافقته الأجر ، فلو كان الأجر موجباً لخروجه عن موضوع القاعدة ، لم يبق لها مورد ، ولا وجه حينئذ لنفي الضرر في الإسلام ، وعلى مقالته يكون الوضوء المضر بالبدن غير ضرري ، لما فيه من الثواب المجبر.

الثاني : ما أفاده الشيخ في الفرائد وحاصله : أنّ لزوم تخصيص الأكثر على تقدير إرادة العموم ، قرينة على إرادة معنى لا يلزم منه ذلك. ومراده أنّ القاعدة كانت مقرونة حين الصدور بقرينة متّصلة حالية أو مقالية صارفة إيّاها عن الإطلاق والعموم ، وقد عمل بها القدماء في ضوء هذه القرينة ولم يتجاوزوا عنها. وعند ذاك يكون مفاد القاعدة مجملاً ، لعدم وصول القرينة المحدَّدة لمفادها إلينا ، ولا يعمل بها إلّا إذا عمل بها الأصحاب ، فإنّ عملهم جابر وكاشف عن القرينة الواصلة إليهم ، وإن لم تصل إلينا.

يلاحظ عليه :

أنّا نقطع بخلاف ذلك ، فإنّ المتأخّرين والقدماء في هذا المضمار سواء. وإنّ عملهم كان مستنداً إلى ظاهر القاعدة وعمومها ، لا إلى القرينة المحددة لموردها.

الثالث : ما عنه أيضاً (قدس‌سره) من أنّ تخصيص الأكثر لا استهجان فيه إذا كان بعنوان واحد جامع لأفراد هي أكثر من الباقي ، كما إذا قيل : أكرم الناس ، ودلّ دليل على اعتبار العدالة.

والظاهر عدم الفرق في الاستهجان بين العنوان الواحد والعناوين الكثيرة ، وأنّ ملاك الاستهجان هو غرابة التعبير ، كان التخصيص بعنوان أم بعناوين.

وربّما يفرق في لزوم الاستهجان بين القضايا الخارجية التي يكون الأفراد والمصاديق الخارجية فيها موضوعات للحكم ، والقضايا الحقيقية التي يكون الحكم فيها ثابتاً للموضوع الأعم من المحقق والمقدّر بلا نظر إلى الأفراد الخارجية. فتخصيص الأكثر قبيح في الأُولى ، سواء كان بعنوان أم بعناوين ، دون الثانية وإن

٩٤

بلغ أفرادها ما بلغوا. (١)

وهذا أيضاً ليس بتام ، لأنّ الحكم في النهاية على الأفراد عن طريق العنوان ، وهو في الخارجية على المحققة بالفعل ، وفي الحقيقية على المحقّقة والمقدّرة. فلو كان ملاك الاستهجان هو غرابة التعبير عن الموارد والمصاديق اليسيرة ، بلفظ عام وسيع ، فلا فرق بين القضيتين. نعم ، لو كان الحكم في الحقيقة على العناوين المختلفة المجتمعة تحت عنوان واحد هو موضوع للحكم ، «كالصرفيين» و «النّحاة» و «الأطباء» المجتمعة تحت عنوان «العلماء» في قولنا : «أكرم العلماء» ، فلا إشكال في التعبير عن الأفراد اليسيرة بلفظ عام لأنّ الموضوع حقيقة هو الصرفيون ، والنحاة ، والفقهاء ، والحكماء ، والأطباء بما هم علماء. فلو فرضنا أنّ مصاديق العناوين الأربعة الأُولى قليلة لا تتجاوز العشرة ، ولكن مصاديق العنوان الأخير كثيرة ، فأخرج الأطباء عن تحت العام وبقي الباقون ، فمثل هذا وإن انتهى إلى تخصيص الأكثر ، لكنّه لا يعدّ قبيحاً ، لأنّ الملاك في القلّة والكثرة هو العناوين لا الأفراد ، والمفروض أنّ العناوين الباقية أكثر من الخارجة ، إذ الباقية أربعة والخارج واحد. وإن كانت من حيث المصداق على العكس ، فمصاديق العناوين الباقية عشرة ، ومصاديق العنوان الخارج كثيرة جداً.

الرابع : هو الالتزام بعدم ورود تخصيص للقاعدة أصلاً ، وإليك تحليل الجواب : فإنّ موارد النقض عبارة عن :

١ ـ الحدود والدّيات.

٢ ـ الغرامات والضمانات.

__________________

(١) يظهر هذا الفرق من المحقّق النائيني ، ولكنّه لم يعتمد عليه في الاجابة عن الاشكال بل أجاب بجواب آخر وحاصله منع الصغرى وانّ خروج ما خرج إنّما هو بالتخصص لا بالتخصيص. فلاحظ قاعدة لا ضرر ، للخوانساري ، ص ٢١١.

٩٥

٣ ـ الضرائب الشرعيّة كالخمس والزكاة والكفّارات.

٤ ـ الجهاد في سبيل الله.

٥ ـ إراقة الخمر والدهن أو المرق الّذي وقعت فيه الفأرة ، وكسر الأصنام والملاهي والصلبان.

٦ ـ شراء ماء الوضوء ولو بأضعاف قيمته.

فنقول : أمّا الأُولى : فهي الأحكام الجزائيّة للإسلام ، الّتي وصفها الإمام (عليه‌السلام) بقوله :

«حدّ يقام في الأرض أزكى فيها من مطر أربعين ليلة وأيّامها» (١) ، فليس ضرراً عند العرف ، ولا عند العقل ، لا بين المسلمين ولا بين سائر الملل. لأنّ لكل أُمّة أحكاماً جزائيّة خاصّة يراها المقنّن والشّعب خيراً وسبباً لبقاء نظامهم ، فلولا تلك الضمانات لانحلّ شمل الاجتماع ، وأصبح المجتمع غابة من الغابات.

قال الله سبحانه : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ). (٢)

وأمّا الثانية : أعني الغرامات والضمانات ، فلأنّ الحديث حديث امتنان وهو يقتضي تضمين المتلِف وتغريم المعتدي ، فليس هو مصداقاً للضّرر في اطار التشريع والمجتمع.

ومثلها الثالثة : فانّ كل مجتمع راق وأُمّة حيّة لا تنفك عن الضرائب التي بها قوامها ولا يتلقّاها ضرراً ، بل يراه أمراً ينتفع به هو وأقوامه ومواطنه. غير أنّ الإسلام حدّدها بشكل ، والملل الأُخرى بشكل آخر.

فإنّ الزكوات والأخماس والكفّارات تؤخذ من الناس وتصرف في مصالح

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، الباب ١ من أبواب مقدّمات الحدود ، الحديث ٢ ، ٣ ، ٤ ، ٥.

(٢) البقرة / ١٧٩.

٩٦

المجتمع ، فلا ترى مجتمعاً يصرف الضّرائب ـ إذا كانت عادلة ـ مجتمع جور وظلم.

فانّ الخدمات الّتي تقدّمها الدولة للشعب ، إنّما هي تحت ظل هذه الضّرائب.

وأمّا الجهاد في سبيل الله ، فقد وصفه سبحانه بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ). (١)

ويصفه في موضع آخر بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ). (٢)

فإذا كان هذا هو انطباع الشارع من الجهاد في سبيل الله ، فإذا قال : لا ضرر ولا ضرار ، فإنّما ينصرف إلى غير هذا النوع من الضرر الذي لا ينتفع به المجتمع. وليس لنا تفسير الحديث مع غضّ النّظر عن سائر ما يرتبط بالتشريع.

هذا كلّه حول الموارد الأربعة. وأمّا الموردان الأخيران فهما جزئيان ولو زاد هناك مورد أو موردان آخران فلا يستلزم التخصيص المستهجن ، على أنّ هناك مصالح في تحمّل هذه الاضرار لا تقاس بالأموال التي يخسرها.

وما ذكرناه من الجواب ينطبق على مبنى القوم في تفسير القاعدة ، وأمّا على ما اخترناه من أنّ مفاد القاعدة ، هو نفي اضرار الناس بعضهم بعضاً ، فالجميع خارج عن مصبّ القاعدة وليس هناك أيّ تخصيص أبداً.

__________________

(١) الأنفال / ١٢٤.

(٢) الصف / ١٠ ـ ١١.

٩٧

التنبيه الرابع :

في تقدّم القاعدة على أدلّة العناوين الأوّلية

اتفقت كلمتهم على تقديم القاعدة على أدلّة العناوين الأوّلية ، وإن اختلفوا في وجه التقديم على وجوه وأقوال نشير إليها :

١ ـ تقديم القاعدة من باب الحكومة :

وهذا هو مختار الشيخ الأعظم ، قال في توضيحه :

«إنّ القاعدة حاكمة على جميع العمومات الدالّة بعمومها على تشريع الحكم الضرري كأدلّة لزوم العقود ، وسلطنة الناس على أموالهم ، ووجوب الوضوء على واجد الماء ، وحرمة الترافع إلى حكّام الجور ، وغير ذلك.

وما يظهر من بعضهم من احتمال التعارض بين العمومات المثبتة للتكليف وهذه القاعدة ثمّ ترجيح هذه إمّا بعمل الأصحاب وإمّا بالأُصول كالبراءة في مقام التكليف وغيرها في غيره ، فهو خلاف ما يقتضيه التدبّر في نظائرها من أدلّة رفع الحرج ، ورفع الخطاء والنسيان ، ونفي السهو على كثير السهو ، ونفي السبيل على المحسنين ، ونفي قدرة العبد على شيء وتنميته. مع أنّ وقوعها في مقام الامتنان يكفي في تقديمها على العمومات.

والمراد من الحكومة أن يكون أحد الدليلين ـ بمدلوله اللفظي ـ متعرّضاً لحال دليل آخر من حيث اثبات الحكم لشيء أو نفيه عنه. فالأوّل مثل ما دلّ على الطهارة بالاستصحاب أو شهادة العدلين ، فانّه حاكم على ما دلّ على أنّه «لا صلاة إلّا بطهور» ، فانّه يدلّ على أنّ ما ثبت من الأحكام للطهارة مثل : «لا صلاة إلّا بطهور» ، ثابت للمتطهّر بالاستصحاب أو بالبيّنة. والثاني مثل الأمثلة المذكورة.

٩٨

وأمّا المتعارضان فليس في أحدهما دلالة لفظية على حال الآخر من حيث العموم والخصوص وإنّما يفيد حكماً منافياً للآخر». (١)

يلاحظ عليه :

أنّ تفسير الحكومة بالمعنى الذي ذكره لا ينطبق على المورد. فانّ مرجعه إلى كون أحد الدليلين متعرّضاً لحال الدليل الآخر تعرضاً بالدلالة المطابقية. والحال أنّ الأدلّة الحاكمة التي اعترف الشيخ بحكومتها ، ليست على هذا النمط ، حتى القاعدة مثلاً إذ ليست متعرّضة بالدلالة المطابقية لحال أدلّة وجوب الوفاء بالعقود ، وسلطنة الناس على أموالهم ، أو وجوب الوضوء على واجد الماء ولو بالاشتراء بثمن كثير ، وغير ذلك. اللهمّ إلّا أن يريد الأعم من الدلالة المطابقية أو الالتزامية.

نعم ، ينطبق ما ذكره على قليل من الروايات ، مثل ما رواه عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : سألته عن رجل لم يدر ركعتين صلّى أم ثلاثاً. قال : يعيد. قلت : أليس يقال : لا يعيد الصلاة فقيه. فقال إنّما ذلك في الثلاث والأربع. (٢)

والأولى أن يقال : إنّ الحكومة عبارة عن كون أحد الدليلين في نظر العرف شارحاً ومفسّراً ومبيّناً لمقدار المراد من الدليل المحكوم بحيث لو لا الدليل المحكوم لصار التشريع الوارد في الحاكم لغواً. وهذا ينطبق على الموارد التي اشتهرت فيها حاكمية الدليل على الأحكام الموضوعة على العناوين الأوّلية مثل قوله : «لا ضرر» على القول بأنّ مفاده : «لا حكم ضرري» ، وقوله : «ما جعل عليكم في الدين من حرج» ، وقوله : «لا شك لكثير الشك» ، أو «لا شكّ للإمام مع حفظ المأموم». فلو لم يرد من الشارع حكم من الأحكام ، لما صحّ أن يرد قوله : «لا حرج في الدين» ، أو

__________________

(١) الفرائد ، ص ٣١٥.

(٢) الوسائل ، ج ٥ ، ص ٣٢٠ ، الباب ٩ من أبواب الخلل في الصلاة ، الحديث ٣.

٩٩

«لا ضرر» ، على المعنى المختار عند الشيخ. وهذا بخلاف ما إذا قال : «لا تكرم زيداً» فانّ صحّة النهي عن اكرامه لا تتوقف على ورود الأمر باكرام العلماء جميعاً. وعلى هذا ، تكون الحكومة قائمة بلسان الدليل عند مقارنة دليل مع دليل آخر.

فإن قلت : كيف تفسّرون الحكومة بالشرح والتفسير والتعرّض والنظارة ، مع أنّ هناك قسماً من الحكومة ليس بهذا النمط كحكومة الأمارات على أدلّة الأُصول الشرعية.

قلت : هذا ـ وإن كان مشهوراً بين المتأخّرين حتى ذهب بعضهم إلى التفصيل بين الأُصول العقلية والشرعية فجعل الأمارة واردة في الأُولى وحاكمة في الثانية ـ ولكن الحقّ كما أوضحناه عند البحث عن تعارض الأدلّة هو ورود الأمارات مطلقاً على الأُصول عقلية كانت أو شرعية ، لأنّ موضوع الأُصول الشرعية هو الجهل بالواقع بنفسه أو بطريقه ، ومع قيام الأمارة يرتفع جزء من موضوعه.

والفرق بين الحكومة والتخصيص لطيف دقيق ، فإنّ التخصيص عند المقارنة لسانه لسان يلوح منه التعارض بين الخاص والعام ، ولسانه لسان التدافع الخفيف دون الشرح والتفسير ، ويقدّم الخاص فيه على العام لا لقوّة دلالته بل لقرينة عامة هي جريان السيرة على ذكر المخصصات بعد العمومات غير ملتزمين بذكرها متصلة بها.

وإن شئت قلت : كون الخاص بياناً للعام ، بحكم العقل. وكون الحاكم بياناً للمحكوم ، باللفظ عند المقارنة.

وما ربما يقال من أنّ وزان الخاص إلى العام وزان القرينة إلى ذيها خلط بين المحاورات العرفية والخطابات القانونية ، ففي الأولى يعدّ الخاص معارضاً إذا كان منفصلاً : ولا يعد قرينة ، وإنّما يعدّ قرينة في الخطابات القانونية ، ووجه كونها قرينة هو جريان السيرة على انفصال المخصصات عن العمومات ، ولو لا هذه السيرة لما عد الخاص قرينة على العام.

١٠٠