الرسائل الأربع - ج ٢

عدّة من الأفاضل

الرسائل الأربع - ج ٢

المؤلف:

عدّة من الأفاضل


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٠٤

والمتحصّل من المجموع هو أنّه بمعنى سوء الحال ، على اختلاف منشئه ، قال تعالى : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً). (١)

وقال سبحانه : (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ). (٢)

فإنّ ما يمسّ الإنسان في البحر ، هو القلق والاضطراب والخوف الهائل من الغرق نظير ما يمسّه من المرض والهرم والفقر.

وأمّا الضّرر فقد استعمل مرّة واحدة ، قال سبحانه : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) (٣)

وفسّره المفسّرون بالنقص في العضو كالأعمى ، فما ذكره اللغويون يؤيّده ظاهر الآيات.

وعلى أيّ حال فإنّه يمكن أن يفهم ممّا سبق أنّ بين الضّرر والنفع تقابل التّضاد (٤) ، لأنّ الضرّ هو الحالة الحاصلة للإنسان من ورود النقص على نفسه أو عرضه أو ماله وهو أمر وجودي كالمنفعة.

وما عن المحقّق الأصفهاني (قدس‌سره) من أنّ النقص ، المفسّر به الضرر ، ليس أمراً وجودياً حتّى يكون التقابل مع النفع ، الذي هو أمر وجودي ، تقابل التضاد ، غير تام لما عرفت من أنّ الضرر ليس مساوياً للنقص وإنّما هو المنشأ

__________________

(١) الاسراء / ٦٧.

(٢) الأنبياء / ٨٣.

(٣) النساء / ٩٥.

(٤) ويؤيّد هذا القول أنّ الضرر والنفع يمكن ارتفاعهما من موضوع قابل لهما ، مثل أن يبيع المتاع برأس ماله ، فانّه يصدق عليه بأنّه باع بلا نفع ولا ضرر. وهذه علامة المتضادّين ولو كانا من قبيل الملكة وعدمها ، لما أمكن ارتفاعهما.

٦١

لحصول تلك الحالة الخاصّة للإنسان. نعم ، لو فسّر الضرر بنفس النقص لكان لما ذكره وجه. هذا كلّه حول الضرر.

أمّا الضرار ، فقد فرّق بينه وبين الضرر بوجوه ذكر جملة منها ابن الأثير في نهايته : (١)

١ ـ الضرر : فعل الواحد. والضرار : فعل الاثنين.

٢ ـ الضرر : ابتداء الفعل. والضرار : الجزاء عليه.

٣ ـ الضرر : ما تضر به صاحبك وتنتفع به أنت. والضرار : أن تضرّه من غير أن تنتفع به.

٤ ـ هما بمعنى واحد ، وتكرارهما للتأكيد. نسبه في النهاية إلى القيل.

٥ ـ الضّرر : إيقاع الضرر على الغير عمداً كان أو غير عمد. والضّرار : القسم العمدي منه.

٦ ـ الضرار : التضييق ، وإيصال المكروه والحرج والتكلّف ، ذكره سيّدنا الأُستاذ. (٢)

والأوّل مبنيّ على الكلام المعروف في باب المفاعلة من أنّ الأصل فيه أن

__________________

(١) النهاية لابن الاثير ج ٣ ، ص ٨١ ـ ٨٣.

(٢) ويمكن اضافة وجه سابع ، وهو أنّ الضّرار بمعنى تكرار صدور الضرر ، بخلاف الضّرر وهذا ما اختاره السيد البجنوردي في قواعده الفقهيّة ج ١ / ١٧٨.

وملخّصه : إنّ الضرار بمعنى تكرار صدور المبدأ سواء كان الفاعل شخصاً واحداً أو شخصين وبما أنّ الغالب انّ باب المفاعلة يستعمل فيما كان الفاعل شخصين يتبادر إلى الذهن المشاركة من الطرفين وإن كان محط النظر فاعلية أحدهما ومفعوليّة الآخر كما يقال : ضارب زيد عمراً ، وهذا هو الفرق بين باب المفاعلة والتفاعل بعد اشتراكهما في المشاركة حيث إنّ النظر في باب التفاعل الفاعلية الاثنين ولذا يقال : «تضارب زيد وعمرو» برفع الاثنين. فالضرار بمعنى تكررا صدور الضرر ولو من فاعل واحد ، وهذا المعنى مناسب في المقام لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقام بيان أنّ سمرة كثير الضرر ومصر عليه.

٦٢

يكون فعل الاثنين لكنّه ليس بتام كتفسيره بالجزاء عليه ، لما عرفت من الآيات الناهية عن الضرار ، ولم يكن الفعل هناك إلّا من جانب واحد ، قال سبحانه : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) (التوبة / ١٠٧) ، فكان الاضرار من جانب المنافقين فحسب ، كما لم يكن هنا اضرار من باب الجزاء أصلاً. وقال سبحانه : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً) (البقرة / ٢٢١) ، والمقصود رجوع الزوج إلى المعتدة بقصد الاضرار. وقال سبحانه : (وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) (الطلاق / ٦) ، أي لا تضيّقوا عليهنّ بالنفقة.

وقال عزّ من قائل : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) (البقرة / ٢٨٢) ، ولم يكن هناك إلّا اضرار من جانب واحد لا من الجانبين ، كما أنّ الضرر الواقع لم يكن إلّا ابتدائياً لا مجازاة.

ويؤيّده ما قاله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مورد سمرة ، إذ لم يكن من الأنصاري إلّا الشكوى لا الاضرار الجزائي ولا غيره.

وما اشتهر من كون باب المفاعلة فعلاً للاثنين ، هو أن يكون كل من الفاعلين ، فاعلاً ومفعولاً مثل «ضارب زيد عمراً» ، غير تام ، لما عرفت عدم ثبوت ذلك ، وأنّه ربّما يكون الفعل وارداً من جانب واحد دون الآخر.

ثمّ إنّ الظاهر من المحقّق الخوئي (قدس‌سره) أنّ المقصود من كون باب المفاعلة للطرفين هو أن يصدر الفعل من واحد ويقع على الآخر فقط. ثمّ حاول ردّ ذلك وقال :

«إنّ هيئة المفاعلة وضعت لقيام الفاعل مقام إيجاد المادّة وكون الفاعل بصدد إيجاد الفعل ، وأقوى شاهد على ذلك هي الآيات الشريفة القرآنية :

فمنها قوله سبحانه : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) (البقرة / ٩).

٦٣

فذكر سبحانه وتعالى أنّ المنافقين بصدد إيجاد الخدعة ، ولكن لا تقع خدعتهم إلّا على أنفسهم ، ومن ثمّ عبّر في الجملة الأُولى بهيئة المفاعلة ، لأنّ الله تعالى لا يكون مخدوعاً بخدعتهم ، لأنّ المخدوع ملزم للجهل ، وتعالى الله عنه علوّاً كبيراً. وعبّر في الجملة الثانية بهيئة الفعل المجرّد ، لوقوع ضرر خدعتهم على أنفسهم لا محالة.

ومنها : قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ، يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ...) (التوبة / ١١١) (١).

يلاحظ عليه :

أوّلاً : انّ المراد من كون هيئة المفاعلة فعلاً للاثنين هو كون كلّ فاعلاً ومفعولاً ، لا كون واحد فاعلاً ومُورِداً والآخر مفعولاً ومورَداً عليه ، حتى يردّ بقوله سبحانه : (يُخادِعُونَ اللهَ) وإنّ الله لا يكون مخدوعاً بخدعتهم.

فهذا سعد الدين التفتازاني يقول في شرح التّصريف : «وتأسيسه على أن يكون بين اثنين فصاعداً يفعل أحدهما بصاحبه ما فعل الصّاحب به ، نحو «ضارب زيد عمراً». (٢)

وقال الرّضي ـ بعد كلام ـ في الفرق بين بابي «فاعَلَ» وَ «تَفاعَلَ» : والأولى ما يقول المالكي ، وهو أنّ «فاعَلَ» لاقتسام الفاعليّة والمفعوليّة لفظاً والاشتراك فيهما معنىً ، و «تفاعَل» للاشتراك في الفاعلية لفظاً وفيها وفي المفعوليّة معنى». (٣)

فإذا تبيّن معنى كون الباب فعلاً للاثنين ، يجب أن يركّز الردّ على هذا المعنى الّذي ذكره أئمّة الصرف لا على المعنى الّذي لم يذكروه.

أضف إلى ذلك : أنّ الاستدلال بالآيتين على ما اختاره من المعنى وإن كان صحيحاً ، لكنّهما لا تدلّان على خلاف ما هو المشهور بين الصرفيّين من قيام كلّ

__________________

(١) مصباح الأُصول ، ج ٢ ، ص ٥٢٣.

(٢) شرح التصريف من كتاب جامع المقدمات ص ٧٤ (بخطّ طاهر خوشنويس).

(٣) شرح الكافية ص ١٠٠.

٦٤

بالفعل.

أمّا الأُولى ، فلأنّ الفعل استعمل في فعل الاثنين بشهادة قوله سبحانه : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) (النساء / ١٤٢) ولا ينافيه قوله في آخر الآية (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) بغير صيغة المفاعلة وذلك لأجل أنّ حقيقة المخادعة من المنافقين بالمؤامرة ضدّ الإسلام ، وهي من الله سبحانه بإبطال تخطيطاتهم وإرجاع ضررها إلى أنفسهم ، فصحّ التعبير بالمخادعة لأجل المشاكلة ، كما صحّ التعبير بغير صيغة المفاعلة ، لعدم وجودها إلّا من جانب واحد.

وأمّا الآية الثانية ، أعني قوله : (يُقاتِلُونَ) ، فلأنّ استعمال صيغة المفاعلة في مورد الجهاد إنّما هو بالنظر إلى كيفيّة العمل ، فإنّ القتال في ميادين الحرب كان قائماً بالطّائفتين ، فئة مؤمنة وأُخرى كافرة ، وإن كان القتال في سبيل الله مختصّاً بالطّائفة الأُولى دون الأُخرى ، والأولى الاستدلال بما ذكرناه.

هذا حال المعنيين الأوّلين.

وأمّا المعنى الثالث ، أعني التفريق بالانتفاع في الضّرر ، وعدم الانتفاع في الضرار ، فيرد عليه أنّه إن أُريد منه ما لا ينتفع به مطلقاً ، لا روحياً ولا مالياً ولا غيره ، فهو ممنوع إذ لا وجه لأن يقوم به العاقل ويدخل الضرار على الغير ولا ينتفع به أصلاً.

وإن أُريد خصوص عدم النفع المالي ، ففيه أنّ النفع غير منحصر بالمالي بل هو أمر أعم منه ومن النفسي والبدني والعرضي.

أضف إلى ذلك : أنّه من المحتمل أن يكون المراد من الاعتداء في قوله سبحانه : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) (البقرة / ٢٣١) هو الاعتداء المالي بتحليل مهورهنّ حتى يسترحن ، فقد استعمل الضرار لأجل تحصيل النفع المالي.

وأمّا المعنى الرابع ، أعني كونهما بمعنى واحد ، فبعيد جدّا. مع أنّ الإمام (عليه‌السلام) يركّز في بعض الروايات على الضرار ، ويقول في قصة الرأس والجلد : «إنّ هذا هو الضرار» ، ولا يقول : «هو الضرر» ، وقد وصف القرآن الكريم عمل المنافقين

٦٥

بالضرار ، وهذا يفيد أنّ الضرار يشتمل على ما لا يشتمل عليه الضرر.

وأمّا المعنى الخامس ، فهو الحقّ الذي لا ريب فيه. وإن شئت فعبّر عن الضرار فيه : بالاضرار الصادر عن الشخص عناداً ولجاجة. ويؤيّده : قوله سبحانه : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) (البقرة / ٢٣١) ، فإنّ لفظة (لِتَعْتَدُوا) تفسير «للضرار» (١).

وقوله سبحانه : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (التوبة / ١٠٧)

والآية تدلّ على أنّهم كانوا متعمّدين للإضرار.

ويزيده توضيحاً ، رواية هارون بن حمزة الغنوي حيث طلب صاحب الدرهمين نحر البعير وأخذ الرأس والجلد ، فوصفه الإمام (عليه‌السلام) بأنّه ضرار ، لأنّ برء البعير صار سبباً لارتفاع قيمته السوقية ، فيجب أن يستفاد منه في الركوب لا في الأكل. (٢)

وروى في مجمع البيان في تفسير قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ) (النساء / ١٢) ، قال : إنّ الضرار في الوصية من الكبائر ، والمراد هو الإيصاء بأكثر المال أو جميعه حتّى لا يرث الوارث مطلقاً أو شيئاً قليلاً. (٣) والرواية التي ذكرناها في توضيح قوله سبحانه : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا عليهنَّ) تؤكّد ذلك. كما يؤكّده ما ورد فيه فعل ذلك المصدر ، مثل «لا تضار» ، فإنّه

__________________

(١) قال الطبرسي في مجمع البيان ج ١ / ٣٣٢ ، ط صيدا : أي لا تراجعوهن لا لرغبة فيهنّ بل لطلب الاضرار بهنّ إمّا في تطويل العدّة أو بتضييق النفقة في العدّة.

(٢) لاحظ الحديث رقم ٢٢ مما سردناه من الروايات الدالّة على القاعدة.

(٣) لاحظ الحديث رقم ٢٣.

٦٦

أيضاً بمعنى الاضرار عن عمد وعناد ولجاجة.

وأمّا المعنى السادس ، الذي هو مختار سيدنا الأُستاذ ـ دام ظلّه ـ ، فقد قال في توضيحه : «إنّ الضرر والضر والإضرار وما يشتق منها ، إنّما يستعمل في الضرر المالي والنفسي بخلاف الضرار ، فإنّ الشائع من استعماله ، هو استعماله في التضيق والحرج وإيراد المكروه وإيقاع الكلفة». (١)

يلاحظ عليه : أنّ عدم استعمال الضرار وما يشتق منه في المالي والنفسي بعيد.

أمّا الأوّل ، فقد استعمل في حديث هارون بن حمزة الغنوي في الضرر المالي حيث قال (عليه‌السلام) لمن طلب الرأس والجلد : «ليس له ذلك ، هذا الضرار ، وقد أُعطي حقه إذ أُعطي الخمس». (٢) ويقرب منه قوله سبحانه : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) إذ من المحتمل أنّ الاعتداء عن طريق الإكراه على بذل مهورهن.

وأمّا الثاني ، أعني ما يشتق منه ، فقد استعمل في الضرر المالي في قوله سبحانه : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) (النساء / ١٢).

فإنّ المراد من «المضارّة» ، الاعتراف بدين ليس عليه ، دفعاً للميراث عن الورثة.

كما هو كذلك في قوله سبحانه : (وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) (الطلاق / ٦) فانّ المقصود هو الضرر المالي بشهادة قوله سبحانه في صدر الآية : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ). قال الطبرسي :

«لا تدخلوا الضّرر بالتقصير في المسكن والنفقة والكسوة طالبين بالاضرار التضييق عليهنّ».

* * *

__________________

(١) تهذيب الأُصول ، ج ٢ ، ص ٤٦١.

(٢) لاحظ الحديث رقم ٢٢.

٦٧

الأمر الرابع : في مفاد الهيئة التركيبية :

قد اختلفت كلماتهم في بيان مفاد الحديث على وجوه

أربعة أو خمسة : (١)

الأوّل : أنّ المراد نفي الأحكام الضرريّة :

ذهب الشيخ الأعظم إلى أنّ مفاد الهيئة هو نفي الأحكام الشرعية الضررية وأنّها غير مجعولة. والمراد نفي الحكم الناشئ منه الضرر فيكون الضرر عنواناً للحكم لكونه معلولاً له في مقام الامتثال ، فكل حكم موجب لوقوع العبد المطيع في الضرر ، فهو مرتفع في عالم التشريع.

قال (قدس‌سره) في الفرائد : «إنّ المعنى بعد تعذّر إرادة الحقيقة ، عدم تشريع الشارع حكماً يلزم منه ضرر على أحد ، تكليفياً كان أو وضعياً. فلزوم البيع مع الغبن يلزم منه ضرر على المغبون فينتفي بالخبر. وكذلك لزوم البيع من غير شفعة للشريك. وكذلك وجوب الوضوء على من لا يجد الماء إلّا بثمن كثير ، وكذا سلطنة المالك على الدخول إلى عذقه وإباحته له من دون استئذان من الأنصاري. وكذلك حرمة الترافع إلى حكّام الجور إذا توقف أخذ الحقّ عليه. ومنه براءة ذمة الضار عن تدارك ما أدخله من الضرر إذ كما أنّ تشريع حكم يحدث معه ضرر ، منفي بالخبر ، كذلك تشريع ما يبقى معه الضرر الحادث. بل يجب أن يكون الحكم المشروع في تلك الواقعة على وجه يتدارك ذلك الضرر كأن لم يحدث». (٢)

وقال (قدس‌سره) في الرسالة المطبوعة في ملحقات المكاسب : «الثالث : أن يراد به نفي الحكم الشرعي الذي هو ضرر على العباد ، وأنّه ليس في الإسلام مجعول

__________________

(١) تشترك ثلاثة منها في كون النفي باقياً على معناه بخلاف الأخيرين فإنّه فيهما بمعنى النهي. نعم النفي في الثلاثة الأولى على الحقيقة الادعائية كما ستعرف.

(٢) فرائد الأُصول ، ص ٣١٤ ، من طبعة رحمة الله.

٦٨

ضرري. وبعبارة أُخرى : حكم يلزم من العمل به ، الضرر على العباد. مثلاً يقال : إنّ حكم الشرع بلزوم البيع مع الغبن ضرر على المغبون فهو منفي في الشريعة.

وعلى ذلك فلو أُريد من الهيئة التركيبية معناها الحقيقي ، أعني عدم الضرر في الخارج ، لزم الكذب. وإن أُريد معناها المجازي ، إمّا من باب المجاز في الكلمة ، أعني إطلاق المسبب (الضرر) وإرادة سببه (الحكم) ، أو من باب المجاز في الاضمار ، والتقدير : (لا حكم ضرري) فلا. وهو المطلوب.

وبالجملة : المراد من نفي الضرر في عالم التشريع ، هو نفي الحكم الضرري. كما أنّ المراد من نفي الحرج ، نفي الحكم الحرجي. فنفي الضرر عنوان لنفي الحكم الموجب له ، فهو من قبيل نفي المعلول وإرادة نفي علّته. فتكون القاعدة حاكمة على جميع العمومات ، الدالة بعمومها على تشريع الحكم الضرري ، كلزوم العقود ، وسلطنة الناس على أموالهم ووجوب الوضوء على واجد الماء». (١)

تحليل نظرية الشيخ الأعظم (قدس‌سره):

أقول : إنّ فقه الحديث يتوقّف على تعيين فاعل الضرر ومبدئه وأنّه هل هو الشارع بالنسبة إلى المكلفين؟ أو الناس بعضهم إلى بعض؟

لو كان الحديث مذيّلاً بلفظ «في الإسلام» لكان للاحتمال الأوّل وجه لو لا تعارضه ببعض القرائن الدّالّة على الثّاني كما ستعرف ـ وقد عرفت عدم ثبوته.

ولكن هناك قرائن تؤيّد وتثبت الوجه الثاني ، وأنّ فاعله هو الناس ، وأنّ المنفي هو الضرر الوارد من بعضهم على بعضهم الآخر ، لا الضرر الوارد من جانب الشارع ، وإذا ثبت ذلك كان الاستدلال به في الموارد التي يكون منشأ الضرر فيها حكم الشارع ، كإيجاب الوضوء على المريض والصوم والحج على من يتضرّر بهما ، بلا ملاك لما عرفت من أنّ محط النظر في الرواية نفي الضرر الوارد من الناس لا من

__________________

(١) لاحظ رسالة «لا ضرر» المطبوعة في ملحقات المكاسب ، ص ٣٧١.

٦٩

الشارع ، والمنشأ للضرر في العبادات هو الأحكام الإيجابية. فلا يبقى للتمسّك بالقاعدة في أبواب العبادات أيّ مجال. وتتضيق الرواية ، لا محالة ، بما كان للناس دور في تحقّق الضرر ، كالذي رأيته في حديث سمرة ، ومسألة بيع الشريك سهمه من الغير ، ومنع الماء. وأمّا إذا لم يكن لهم دور في تحقّقه ، فالحديث منصرف عنه. وإليك القرائن التي تعيّن الاحتمال الثاني.

١ ـ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّك رجل مضار» أو «ما أراك إلّا رجلاً مضاراً» ، فإنّه صغرى لقوله : «لا ضرر ولا ضرار». وعلى ذلك فالضار هو الرجل لا الشارع ولا حكمه. والقول بأنّه اعتمد في اضراره على إطلاق دليل الشارع : سلطنة الناس على أموالهم ، كما ترى. بل كان معتمداً على قوّته وتجبّره.

٢ ـ إنّ الضرار ، كما عرفت ، بمعنى الاضرار العمدي الناشئ عن لجاج وعناد. ولا يحتمل أبداً أن يكون الشارع المقدّس مبدئاً لهذا النوع من الضرر بأحكامه وانشاءاته ، حتّى يكون الحديث بصدد نفيه.

٣ ـ قد عرفت أنّ حديث منع فضل الماء لمنع فضل الكلاء ، كان معلّلاً بحديث لا ضرر ولا ضرار. وهذا يوضح كون مبدأ الضرر هو الناس ، وأنّ الحديث بصدد ردّ مثل هذا.

وعلى ذلك ، فالاستدلال بالحديث في الموارد الّتي ليس للنّاس فيها في تحقّق الضرر كالعبادات المحضة ، غير تامّ (١). وأمّا الاستدلال به في أبواب المعاملات كدفع لزوم المعاملة في الغبن ، وإثبات الضمان في الإتلاف ، فسيجيء البحث عنه.

ثمّ إنّ هنا سؤالاً يتوجّه على مختار الشيخ وهو : أنّ نفي الأحكام الضرريّة

__________________

(١) نعم يبقى استدلال المتقدمين والمتأخّرين بها في جميع أبواب الفقه من العبادات والمعاملات وهو يؤيد هذا الفهم الواضح من القاعدة ومداركها.

٧٠

لا يجتمع مع وجودها في الإسلام كالحدود والديات والغرامات والضمانات ، والضرائب الإسلاميّة كالخمس والزكاة ، واتلاف الملاهي وآلات الطّرب ، واراقة الدّهن النّجس والمرق إلى غير ذلك من الأحكام الضرريّة الكثيرة. وسيوافيك البحث عن هذا في التنبيه الثالث.

الثاني : أنّ المراد نفي الحكم بلسان نفي الموضوع :

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ المقام من قبيل نفي الحكم بلسان نفي موضوعه وأنّ الغاية هي التأكيد على أنّ الموضوع الضرري لا حكم له.

وحاصله : أنّ النفي بمعناه الحقيقي لا بمعنى النهي لكن لا من باب نفي الحكم ابتداءً ومباشرة ، بل من باب نفي الموضوع استعمالاً لغاية نفي الحكم جدّاً نظير قوله : لا شكّ لكثير الشك ، أو لا ربا بين الوالد والولد. أو بين الزوج والزوجة. فلا شكّ أنّ الأخبار عن عدم الشك في كثيره أو عن عدم الربا بين الطرفين كاذب في نفسه وإنّما يصحّحه كون الهدف من نفيهما نفي أثرهما لا نفي أنفسهما.

قال (قدس‌سره) في الكفاية : إنّ الظاهر أن يكون «لا» لنفي الحقيقة ، كما هو الأصل في هذا التركيب ، حقيقة أو ادّعاءً ، كناية عن نفي الآثار كما هو الظاهر من مثل «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد». و «يا أشباه الرجال ولا رجال». فانّ قضية البلاغة في الكلام هو إرادة نفي الحقيقة ادعاءً لا نفي الحكم أو الصفة. ونفي الحقيقة ادعاءً بلحاظ الحكم أو الصفة غير نفي أحدهما ابتداءً مجازاً في التقدير أو في الكلمة ... إلى أن قال : ثمّ الحكم الذي أُريد نفيه بنفي الضرر ، هو الحكم الثابت للأفعال بعناوينها أو المتوهّم ثبوته بها كذلك في حال الضرر لا الثابت له بعنوانه لوضوح أنّه العلّة للنفي ، ولا يكاد يكون الموضوع يمنع عن حكمه وينفيه بل يثبته ويقتضيه».

٧١

لا يخفى وحدة النظريتين جوهراً (١) ، وإن اختلفتا تقريراً وصورة. ونتيجتهما واحدة وهي تحديد الأحكام الشرعية بنفي شمولها لحالة الضرر عبادياً أو معاملياً ، إلّا أنّ طريق الاستفادة مختلفة ، فذهب الشيخ إلى أنّ المنفي ابتداءً أوّلاً وبالذات هو الحكم ، إمّا من باب المجاز في الكلمة حيث أطلق المسبب وأُريد السبب (الحكم) ، أو من باب الاضمار بتقدير كلمة «الحكم». وبما أنّ هذا الأُسلوب لا يوافق البلاغة بل يوجب خروج الكلام عن طورها كما حرّر في محلّه ، سلك المحقق الخراساني ـ للوصول إلى مقصد الشيخ ـ طريقاً آخر وهو نفي الموضوع وإرادة نفي الحكم كما في «يا أشباه الرجال ولا رجال» ، فانّ حقيقة الرجوليّة متمثّلة في البسالة والشجاعة ، ومن فقدهما ، فقد حقيقتها ، فيصح أن يقال : «لا رجال». ومثله المقام ، لأنّ منشأ الضرر هو الحكم والتشريع فصحّ نفي الضرر بالحقيقة الادّعائية لأجل نفي منشئه وأساسه ، وهو الحكم. وعلى كل تقدير فالنتيجة واحدة ، وإن كان طريق الوصول إليها مختلفاً.

تحليل نظرية المحقّق الخراساني (قدس‌سره):

يلاحظ عليه : أنّه إنّما يصحّ فيما إذا كان الموضوع المنفي ذا أثر شرعي كالشك والربا. وأمّا المقام ، أعني الضرر ، فليس كذلك إذ ليس الضرر بما هو هو

__________________

(١) هذا. ولكن بعض المحقّقين يرى فرقاً بين النظريتين بحسب الماهية والآثار فقد جاء في كتاب القواعد الفقهيّة للسيّد البجنوردي ج ١ ص ١٨١ و ١٨٢ ما هذا نصّه :

«وخلاصة الكلام أنّه تظهر الثمرة بين القولين أي : الثاني (نظريّة المحقّق الخراساني) والثالث (نظريّة الشيخ الأنصاري) في كل مورد لا يكون موضوع الحكم ضرريّاً ولكن نفس الحكم يكون ضرريّاً (وبعبارة أُخرى) يكون الضرر مسبّباً عن نفس الحكم كما ربّما تكون المعاملة الغبنيّة كذلك ، فانّ الضرر يأتي من قبل لزوم المعاملة لا من نفس المعاملة ، واللّزوم حكم شرعي (ففي جميع) هذه الموارد بناءً على القول الثاني لا حكومة لقاعدة لا ضرر على الأدلّة الأوّليّة بخلاف القول الثالث فإنّها بناءً عليه تكون حاكمة عليها (فظهر) الفرق بين القولين بحسب الماهية والآثار.

٧٢

موضوعاً لحكم شرعي إلّا الحرمة ، ومن المعلوم أنّه لا يصحّ نفيه وطرحه. وما ذكره في ذيل كلامه من أنّ الحكم الذي أُريد نفيه بنفي الضرر ، هو الحكم الثابت للأفعال بعناوينها ... خروج عن البحث لأنّ نفي الضرر يصحّ أن يكون كناية عن نفي حكم نفسه ، لا عن حكم الوضوء والبيع في حال الضرر كما هو المدّعى ، لأنّ الضرر في الموردين ليس موضوعاً بل يعد من أحوالهما وأطوارهما.

وبالجملة ، فرق واضح بين «الشك» ونفس «الضرر» ، لأنّ الأوّل موضوع حكم ، كالربا ، فيصح نفيهما لغاية نفي حكمهما. بخلاف الضرر ، فإنّه موضوع لحكم واحد وهو الحرمة ولا يمكن نفيها بضرورة الفقه والعقل. ونفي وجوب الوضوء أو لزوم البيع في حال الضرر ، ليس نفياً إلّا لحكم الوضوء والبيع ، وهما ليسا موضوعين في الحديث ، بل الضرر من أطوارهما وأحوالهما ، ولم يتعارف نفي الحالة وإرادة نفي حكم ذي الحالة كما لا يخفى. نعم لو كان المنفي في لسان الشارع هو الفعل الضرري كان لما ذكره وجه.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ الضّرر كالخطإ والنسيان في حديث الرفع حيث إنّ الجميع عناوين لأفعال المكلّف ، فكما أنّ رفعهما فيه ، بمعنى رفع الفعل الصادر عن خطأ ونسيان بما للفعل من الحكم بما هو هو فهكذا المقام ، فرفع الضّرر ، كناية عن رفع الفعل الضّرري بما للفعل من الحكم بما هو هو.

فكما أنّ رفع الخطأ والنسيان لا يرفع نفس الحكم المتعلّق بنفسهما من الكفّارة وسجدة السّهو ، فهكذا في المقام لا يرتفع حكم نفس الضرر أعني الحرمة بل يرتفع حكم الفعل الثابت له بما هو هو في حال الضرر.

والحاصل : أنّ الوضوء مثل القتل ، والضرر في الأوّل عنوان للفعل كالخطإ الذي هو عنوان للقتل. فكما أنّ رفع الخطأ ليس بمعنى رفع حكم الفعل الصّادر منه عن خطأ فهكذا في المقام ، وليس المقصود نفي حكم نفس الضرر بل حكم الفعل الحامل للضّرر.

٧٣

الثالث : أنّ المنفي هو الضرر غير المتدارك :

ذهب بعض الفحول (١) إلى أنّ المراد نفي الضرر المجرّد عن التدارك ، فكما أنّ ما يحصل بازائه نفع لا يسمّى ضرراً ، كدفع مال بازاء عوض مساو له أو زائد عليه ، كذلك الضرر المقرون بحكم الشارع بلزوم تداركه فانّه نازل منزلة عدم الضرر وإن لم يسلب عنه مفهوم الضرر بمجرد حكم الشارع بالتدارك. فالمراد نفي وجود الضرر المجرد عن التدارك. فاتلاف المال بلا تدارك ، ضرر على صاحبه ، فهو منفي. فإذا وجد في الخارج فلا بد أن يكون مقروناً بلزوم التدارك. وكذلك تمليك الجاهل بالغبن ، ماله بازاء مادون قيمته من الثمن ، ضرر عليه ، فلا يوجد في الخارج إلّا مقروناً بالخيار. (٢)

تحليل هذه النظريّة :

لما كانت القاعدة ناظرة إلى الخارج بشهادة قضيّة سمرة ، وكان الخارج مليئاً بالضّرر ، فلا يصحّ نفيه.

إذن ، فتدارك مثل هذا لا يكون بالجعل والتشريع بل بالعمل الخارجي فاتلاف مال الغير ضرر خارجي وتداركه بدفع المثل أو القيمة ، لا الحكم بأنّه يجب عليه دفع أحد الأمرين. وهذا ما أشار إليه الشيخ الأعظم في رسالته بقوله : «إنّ الضرر الخارجي لا ينزل منزلة العدم بمجرّد حكم الشارع بلزوم تداركه». والحاصل أنّ الضرر إن اتّفق تداركه ، يمكن تنزيله منزلة ما لم يوجد ، وأمّا إذا لم يتعقّبه فلا وجه

__________________

(١) المقصود من بعض الفحول هو : الفاضل التّوني (رضي الله عنه). راجع مباحث الحُجج والأُصول العمليّة ج ٢ ص ٤٦٠ تقريرات الشهيد السيد محمّد باقر الصدر ، بقلم السيد محمود الهاشمي.

(٢) لاحظ رسالة لا ضرر للشيخ الأعظم الأنصاري المطبوعة في ملحقات المكاسب ، ص ٣٧٢.

٧٤

لتنزيله منزلة العدم بمجرّد حكم الشارع بوجوب تداركه. وإن شئت قلت : الضرر المتدارك غير الضرر المحكوم بوجوبه.

والظاهر وجاهة الإشكال ، فانّ الضرر لو كان فعلاً للشارع لصحّ الحكم بعدمه بحكم الشارع بجبره وتداركه. وأمّا إذا كان فعل المكلّف ، فلا يصح تداركه بحكم الشارع ، فانّ المتدارك به يجب أن يكون من سنخ المتدارك. فلو حكم الشارع بجواز قتل الرجل إذا قتل امرأة ، فانّه يتدارك مثله بدفع أولياء المرأة نصف الدية إلى ورثة الرجل. أو حكم بقتل العشرة المشتركين في قتل واحد ، فانّه يتدارك مثله بايجاب دفع تسعة أعشار الدية إلى ورثة كل واحد. وأمّا إذا كان الضرر من المكلّف ، فلا يتدارك مثله بحكم الشارع وإنشائه.

نعم ، لو كان النفي ناظراً إلى عالم التشريع فقط كان لما ذكره وجه ، ولكنّه خلاف الظاهر حيث ورد ردّاً لعمل سمرة كما عرفت.

أضف إليه أنّ ذلك المعنى لا يفي بما هو المتعارف بين المتأخّرين من التمسّك به في باب العبادات إذ ليس في الأمر بالوضوء الضرري أو الحج الضرري أي تدارك فيلزم عدم صحة التمسّك به في تلك الأبواب.

إلى هنا تمت النظريات الثلاث المشتركة في حمل الهيئة التركيبية على النفي دون النهي وتصحيح الاخبار عن عدم الضرر بوجه من الوجوه.

وهناك نظريتان مبنيتان على كون النفي بمعنى النهي.

إحداهما : ما نقلها الشيخ في الرّسائل وأوعز إليها المحقّق الخراساني في الكفاية ، واختارها شيخ الشريعة الاصفهاني (١) في رسالته التي عملها في تبيين

__________________

(١) هو الشيخ فتح الله بن محمّد جواد الاصفهاني الملقّب بشيخ الشريعة ولد سنة ١٢٦٦ وتوفّي ١٣٣٩ ه‍ ـ. وهو فقيه إماميّ ، من كبار المشاركين في ثورة العراق الأُولى على السلطة الأجنبيّة. أصله من شيراز ، من أسرة تعرف بالنّمازيّة ، ومنشؤه باصبهان. تفقّه وقرأ علوم العربيّة. وانتقل إلى

٧٥

معنى القاعدة.

ثانيتهما : نظريّة السّيّد الأُستاذ (قدس‌سره) (١) حيث جعل النفي بمعنى النهي وحمله على النّهي السلطاني الشرعي.

وإليك بيان كلتيهما :

الرابع : أنّ النفي بمعنى النهي :

ذهب شيخ الشريعة إلى أنّ النفي في المقام بمعنى النهي عن الضرر ، وله اشباه ونظائر في الكتاب والسنّة ، منها قوله تعالى :

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ). (٢)

أي : إنّ أشهر الحجّ ، أشهر معلومات وأشهر موقتة لا يجوز فيها التبديل والتغيير ، فمن فرض فيهنّ الحج ، أي فمن أحرم فيهنّ بالحجّ ، فلا رفث أي لا جماع ، ولا فسوق ، أي لا كذب أو المعاصي كلها ، ولا جدال في الحجّ.

__________________

النجف فانتهت إليه رئاسة علمائها.

وبرز اسمه في ثورة العراق أيّام الاحتلال البريطاني (سنة ١٩٢٠ م) وتناقل الناس ما أصدره من الفتاوى فيها. وكان في بدئها عوناً لآية الله «محمّد تقي الشيرازي» وبوفاة الشيرازي (سنة ١٣٣٨ ه‍ ـ) انتقلت إليه الزعامة وانتقل مركز القيادة من كربلاء إلى النجف.

وتوفّي الاصبهاني بالنجف. له في فقه الإماميّة رسالة في «إرث الزوجة من ثمن العقار» ورسائل أُخرى وحواش.

راجع كتاب الأعلام ، خير الدين الزّركلي ج ٥ ص ١٣٥ ؛ ومقدمة كتاب في أحكام الخيار لوالد شيخنا الاستاذ ـ مدّ ظله ـ وقد كان والده من تلاميذه الخاصة به.

(١) وهو آية الله العظمى الإمام الخميني ـ قدّس الله نفسه الزّكيّة ـ.

(٢) البقرة / ١٩٧.

٧٦

وقوله تعالى :

(فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً). (١)

قال الطبرسي : المساس على وزن «فعال» من المماسة. ومعنى لا مساس ، لا يمس بعضنا بعضاً. فصار السامري يهيم في البرية مع الوحش والسباع لا يمسّ أحداً ولا يمسّه أحد. عاقبه الله تعالى بذلك وكان إذا لقي أحداً يقول : لا مساس. أي لا تقربني ولا تمسّني. (٢)

وأمّا السنّة فقد ذكر نماذج ممّا استعمل فيها النفي بمعنى النهي. مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا إخصاء في الإسلام ولا بنيان كنيسة» و «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». و «لا غش بين المسلمين».

وبذلك أبطل قول صاحب الكفاية ، حيث قال ردّاً على هذا القول : «انّ النفي بمعنى النهي وإن كان ليس بعزيز إلّا أنّه لم يعهد في مثل هذا التركيب» ، وقال : إنّ الأذهان الفارغة لا تسبق إلّا إلى هذا الوجه. ثمّ أيّد (رحمه‌الله) مقاله بما ورد في رواية عبد الله بن مسكان عن زرارة : «... فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّك رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن» ، فانّ هذا الكلام بمنزلة صغرى وكبرى هما : إنّك رجل مضار ، والمضارة حرام. والكبرى ، كما ترى مناسبة للصغرى بخلاف ما لو أُريد غيره من المعاني الأُخرى فانّ المعنى يصير : إنّك رجل مضار ، والحكم الموجب للضرر منفي ، أو الحكم المجعول منفي في صورة الضرر. وهذا ممّا لا تستسقيه الأذهان المستقيمة.

وبعد أن استشهد (رحمه‌الله) بكلمات أئمّة اللغة ، ومهرة الحديث ، حيث فسّروا الحديث بالنهي ، قال : إنّ المدعى هو أنّ حديث الضرر يراد منه إفادة النهي عنه

__________________

(١) طه / ٩٧.

(٢) مجمع البيان ج ٧ / ٢٨.

٧٧

سواء كان هذا باستعمال التركيب في النهي ابتداءً ، أو أنّه استعمل في معناه الحقيقي وهو النفي ولكن لينتقل منه إلى إرادة النهي ... إلى أن قال : فالمدعى أنّ الحديث يراد به إفادة النهي ، لا نفي الحكم الضرري ولا نفي الحكم المجعول للموضوعات عند الضرر. (١)

تحليل نظرية شيخ الشريعة (قدس‌سره):

ما ذكرناه هو خلاصة كلامه (قدس‌سره) ، وقد بالغ في تحقيق مرامه. وما ذكره (قدس‌سره) أوضح ممّا ذكره العلمان ولكنّه أيضاً غير متعيّن بل لا يخلو من إشكال.

أمّا أوّلاً : فإنّ بعض الأمثلة التي ذكرها ليس النفي فيها بمعنى النهي ، حتّى قوله سبحانه : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) بل هو باق على معناه ، ولم يرد منه النهي لا ابتداءً ، ولا انتهاءً بأن يستعمل في النفي ابتداءً لينتقل به إلى النهي. وإنّما استعمل في هذه النماذج في النفي لا تتجاوز عنه وإن كان الغرض الأعلى منها هو النهي. ولكن كون النهي غاية عليا غير كونه مستعملاً فيه ابتداءً أو انتهاءً.

وبالجملة : انّ شيخ الشريعة اختار كون النفي بمعنى النّهي وانّه إمّا استعمل فيه ابتداءً على نحو المجاز ، مثل قوله : «زيد أسد» أو استعمل في النفي ابتداءً لينتقل المخاطب منه إلى النّهي على نحو الكناية مثل قوله : «زيد كثير الرماد» حيث استعمل في معناه اللغوي للانتقال منه إلى لازمه وهو الجود.

هذا ، مع أنّ مقتضى البلاغة التحفّظ على كون النفي بمعناه ، لا بمعنى

__________________

(١) راجع رسالة : قاعدة لا ضرر ، العلّامة شيخ الشريعة الاصفهاني (قدس‌سره) ص ٢٤ ـ ٢٨ ، ط مؤسسة النشر الإسلامي (التابعة) لجماعة المدرسين بقم المشرّفة (ايران).

٧٨

النهي وإلّا لنزل الكلام من ذروة البلاغة إلى حضيض الكلام العادي.

بيان ذلك في قوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) ، أنّ شدة علاقة الشارع بطهارة محيط الحجّ عن هذه الأُمور الثلاثة دفعه إلى الاخبار عن خلوه منها. وهذا كثير في المحاورات العرفية. ألا ترى أنّ الرجل يقول لزوجته أو صاحبه : «لا كذب ولا خيانة» وذاك أنّ رغبته بطهارة حياته العائلية أو الاجتماعية من الكذب والخيانة ، ألجأه إلى الاخبار عن عدم وجودهما. كما أنّ علاقة الأب بصلاة ابنه يدفعه بدل الأمر بها ، إلى الاخبار عنها فيقول في محضره : «ولدي يصلّي» ، مع أنّ الغاية في جميع ذلك هو النهي أو الأمر. وهذا غير القول بأنّ النفي مستعمل في الآية وأمثالها في النهي ابتداءً ، أو في النفي لينتقل إلى إرادة النهي. ولأجل ذلك لو جعلنا مكان «لا» لفظة «ليس» وقلنا : (ليس في الحج رفث ولا فسوق ولا جدال) ، كانت الجملة صحيحة ومتّزنة.

وثانياً : إنّ استعمال الهيئة في النفي ليس بأقلّ من استعمالها في النهي بأحد الوجهين لاحظ الجمل التالية : «لا بيع إلّا في ملك» ، «لا عتق إلّا في ملك» ، «لا طلاق إلّا على طهر» ، «لا يمين للولد مع والده» ، «لا يمين للمملوك مع مولاه ولا للمرأة مع زوجها» ، «لا رضاع بعد فطام» ، «لان ذر في معصية الله» ، «لا يمين للمكره» ، و «لا رهبانية في الإسلام» وغير ذلك ، تجد أنّه لا يصحّ فيها إلّا إبقاء النفي على معناه.

ولك أن تقول ، إنّ ما يقع بعد النفي إذا كان مناسباً للحكم الوضعي ـ كما في هذه الأمثلة ـ ، فالصيغة متعيّنة في النفي ، وأمّا غيره فهو محتمل للوجهين.

وثالثاً : إنّ حمل الصيغة على النهي لا يصحّ في حديث الشفعة حيث إنّ القاعدة جاءت علّة لجعلها ، حيث قال : «فقضى بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن». وقال : «لا ضرر ولا ضرار». وقال : «إذا أرفت الأُرف وحدّت الحدود فلا شفعة» فالقضاء بالشفعة من فعل الشارع ولا معنى لتعليله بحرمة اضرار الناس

٧٩

بعضهم ببعض بل يناسب نفي الضرر عن محيط التشريع.

وما ذكره (رحمه‌الله) من أنّ أئمّة اللغة فسّروه بالنهي ، فهو صحيح ، لكن لم يعلم كونهم في مقام بيان المستعمل فيه. بل يحتمل أنّهم كانوا في مقام بيان مقاصد الحديث ومراميه ، سواء كان النفي مستعملاً في النفي أو في النهي.

وعلى كل تقدير ، فشكر الله مساعي المحقّق شيخ الشريعة ، فقد جاء في تحقيق مفاد الحديث وسنده وما يرجع إليهما بأبحاث مفيدة لا توجد في غير رسالته.

الخامس : أنّ النفي بمعنى النهي والنهي مولوي سلطاني لا مولوي إلهي :

ذهب سيّدنا الأُستاذ (قدس‌سره) إلى أنّ النفي بمعنى النهي ، لكن ليس النهي المستفاد منه حكماً شرعياً إلهيّاً كالنّهي عن الغصب والكذب ، بل النهي حكم مولوي سلطاني ناجم عن كون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاكماً وسلطاناً على الأُمّة. وقد أوضح نظريته بترتيب مقدّمات وبيان أمور نأتي بملخّصها.

الأوّل : إنّ للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقامات ثلاثة :

١ ـ النبوّة والرسالة ، ٢ ـ الحكومة والسياسة ، ٣ ـ القضاء وفصل الخصومة.

فبما أنّه نبيّ ورسول ، يبلّغ أحكام الله سبحانه حقيرها وجليلها حتّى أرش الخدش.

وبما أنّه حاكم ، يسوس العباد في البلاد ويقوم بشئون الحكومة في حفظ الثغور وبعث الجيوش ، وجباية الصدقات ، وعقد الاتّفاقيات مع رءوس القبائل والبلاد.

وبما أنّ له منصب القضاء ، يقوم بفصل الخصومات والقضاء بين المتداعيين على الضوابط الشرعية. ولكل من هذه المناصب أحكام وشئون معيّنة.

٨٠