الرسائل الأربع - ج ٢

عدّة من الأفاضل

الرسائل الأربع - ج ٢

المؤلف:

عدّة من الأفاضل


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٠٤

بدنه إلّا به فأمره أن ينال منه بقدر البلغة لا غير ذلك الخ ...». (١)

٧٣ ـ الحسن بن عليّ بن شعبة في كتاب (تحف العقول) عن الصادق (عليه‌السلام) في حديث قال : «وأمّا ما يحلّ للإنسان أكله ممّا أخرجت الأرض فثلاثة صنوف من الأغذية :

صنف منها جميع الحبّ كلّه من الحنطة والشّعير والارز والحمص وغير ذلك من صنوف الحبّ وصنوف السّماسم وغيرهما ، كلّ شيء من الحبّ ممّا يكون فيه غذاء الإنسان في بدنه وقوته فحلال أكله ، وكلّ شيء يكون فيه المضرّة على الإنسان في بدنه وقوته فحرام أكله إلّا في حال الضرورة.

والصنف الثاني ما أخرجت الأرض من جميع صنوف الثّمار كلّها ممّا يكون فيه غذاء الإنسان ومنفعة له وقوّة به فحلال أكله ، وما كان فيه المضرّة على الإنسان في أكله فحرام أكله.

والصّنف الثالث جميع صنوف البقول والنّبات وكلّ شيء تنبت من البقول كلّها ممّا فيه منافع الإنسان وغذاء له فحلال أكله ، وما كان من صنوف البقول ممّا فيه المضرّة على الإنسان في أكله نظير بقول السّموم القاتلة ونظير الدّفلى وغير ذلك من صنوف السّم القاتل فحرام أكله .... وما يجوز من الأشربة من جميع صنوفها فما لم يغيّر العقل كثيره فلا بأس بشربه ، وكلّ شيء يغيّر منها العقل كثيره فالقليل منه حرام». (٢)

٧٤ ـ في فقه الرضا (عليه‌السلام) : «اعلم ـ يرحمك الله ـ إنّ الله تبارك وتعالى ، لم يبح أكلاً ولا شرباً إلّا لما فيه المنفعة والصّلاح ، ولم يحرّم إلّا ما فيه الضرر والتلف

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١٦ باب ١ من أبواب الأطعمة المحرّمة ح ١ ، وأيضاً : الفروع ج ٢ / ١٥٠ ؛ والفقيه ج ٢ / ١١١ والأمالي ٣٩٥ والعلل ١٦٥ والمحاسن ٣٣٤ وتفسير العياشي ١ / ١٩١ والتهذيب ٢ / ٣٧٠.

(٢) الوسائل ج ١٧ الباب ٤٢ من أبواب الأطعمة المباحة ح ١ ، وأيضاً : تحف العقول ط ت ص ٣٣٧.

٤١

والفساد ، فكلّ نافع مقوّ للجسم فيه قوّة للبدن فحلال ، وكلّ مضرّ يذهب بالقوّة أو قاتل فحرام ، مثل السموم والميتة والدّم ولحم الخنزير ـ إلى أن قال : ـ والميتة تورث الكلب وموت الفجأة والآكلة ، والدم يقسي القلب ويورث الداء الدبيلة والسموم فقاتلة ، والخمر تورث فساد القلب ويسوّد الأسنان ، ويبخر الفم ، ويبعد من الله ، ويقرّب من سخطه ، وهو من شراب إبليس» إلى آخره. (١)

٧٥ ـ محمّد بن عليّ بن الحسين في (العلل) و (عيون الأخبار) بأسانيده عن محمّد بن سنان ، عن الرّضا (عليه‌السلام) فيما كتب إليه في جواب مسائله : وأحلّ الله تبارك وتعالى لحوم البقر والإبل والغنم لكثرتها وإمكان وجودها ، وتحليل البقر الوحشي وغيرها من أصناف ما يؤكل من الوحش المحلّل ، لأنّ غذاها غير مكروه ولا هي مضرّة بعضها ببعض ولا مضرّة بالإنس ، ولا في خلقها تشويه ، وكره أكل لحوم البغال والحمير الأهلية لحاجات الناس إلى ظهورها واستعمالها وخوف من قلّتها ، لا لقذر خلقتها ولا قذر غذائها». (٢)

٧٦ ـ روى الحسن بن الفضل الطبرسي في (مكارم الأخلاق) عن جعفر بن محمد (عليهما‌السلام) قال : «يحتجم الصّائم في غير (شهر رمضان) متى شاء فأمّا في شهر رمضان فلا يضرّ بنفسه ولا يخرج الدّم إلّا أن تبغ به فأمّا نحن فحجامتنا في شهر رمضان بالليل ، وحجامتنا يوم الأحد ، وحجامة موالينا يوم الاثنين». (٣)

٧٧ ـ محمّد بن محمّد المفيد في (المقنعة) قال : سئل (عليه‌السلام) عمّن يضرّ به الصّوم في الصّيف يجوز له أن يؤخّر صوم التطوّع إلى الشتاء؟ فقال : «لا بأس بذلك إذا حفظ ما ترك». (٤)

__________________

(١) مستدرك الوسائل ج ١٦ الباب ١ من أبواب الأطعمة المحرّمة ح ٥ ، وأيضاً : فقه الرضا (عليه‌السلام) ص ٣٤.

(٢) الوسائل ج ١٧ الباب ١٩ من أبواب الأطعمة المباحة ح ٣.

(٣) الوسائل ، كتاب الصوم ، ج ٧ ص ٥٦ ، ب ٢٦ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، ح ١٤.

(٤) الوسائل ، كتاب الصوم ، ج ٧ ص ٣١٥ ، ب ١٩ من أبواب الصوم المندوب ، ح ٥.

٤٢

٧٨ ـ روى الكليني باسناده عن إسحاق بن عبد العزيز قال : سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) عن التدلّك بالدّقيق بعد النّورة؟ فقال : «لا بأس» ، قلت : يزعمون أنّه إسراف ، فقال : «ليس فيما أصلح البدن إسراف وإنّي ربما أمرت بالنقى فيلثّ لي بالزيت فأتدلّك به ، إنّما الإسراف فيما اتلف المال وأضرّ بالبدن». (١)

٧٩ ـ وباسناده عن أبان بن تغلب قال : قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : إنّا لنسافر ولا يكون معنا نخالة فندلّك بالدّقيق؟ فقال : «لا بأس إنّما الفساد فيما أضرّ بالبدن وأتلف المال ، فأمّا ما أصلح البدن فإنّه ليس بفساد ، إنّي ربما أمرت غلامي فلتّ لي النقيّ بالزيت فأتدلّك به». (٢)

٨٠ ـ روى الكليني باسناده عن محمّد بن الفضل النيسابوري عن بعض رجاله ، عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : سأله رجل عن الجبن؟ فقال : «داء لا دواء فيه» فلمّا كان بالعشيّ دخل الرّجل على أبي عبد الله (عليه‌السلام) ونظر إلى الجبن على الخوان فقال : سألتك بالغداة عن الجبن فقلت لي : هو الداء الذي لا دواء فيه ، والسّاعة أراه على الخوان؟! قال : فقال له : «هو ضارّ بالغداة نافع بالعشيّ ويزيد في ماء الظّهر». (٣)

٨١ ـ روى الصدوق : أنّه قال الرضا (عليه‌السلام) : «لا تبذل لإخوانك من نفسك ما ضرره عليك أكثر من نفعه لهم». (٤)

٨٢ ـ روى الكليني باسناده عن عبد الله بن يحيى الكاهليّ عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : سأله رجل ضرير وأنا حاضر فقال : أكتحل إذا أحرمت؟ قال : «ولم تكتحل؟» قال : إنّي ضرير البصر فإذا أنا اكتحلت نفعني وإذا لم اكتحل

__________________

(١) الوسائل ، كتاب الطهارة ، ج ١ ص ٣٩٧ ، الحديث ١٥٤١.

(٢) المصدر الحديث ١٥٤٢.

(٣) الوسائل ، ج ١٧ ص ٩٢ ، ب ٦٢ من أبواب الأطعمة المباحة ، ح ١.

(٤) الفقيه ج ٣ / ١٦٨.

٤٣

ضرّني ، قال : «فاكتحل» ، قال : فإنّي أجعل مع الكحل غيره؟ قال : «وما هو؟» قال : آخذ خرقتين فأربعهما فأجعل على كلّ عين خرقة وأعصبهما بعصابة إلى قفاي ، فإذا فعلت ذلك نفعني فإذا تركته ضرّني. قال : «فاصنعه». (١)

ولا يخفى أنّ الاكتحال من محرّمات الإحرام ومع ذلك رخّص الإمام (عليه‌السلام) لذلك الضّرير المحرم أن يكتحل وأن يشدّ عينيه بخرقتين ويعصبهما بعصابة إلى قفاه لما يواجهه من ضرر إذا لم يفعل ذلك.

٨٣ ـ روى الكليني بإسناده عن عليّ بن يقطين ، قال : قلت لأبي الحسن الأوّل (عليه‌السلام) : رجل مات وعليه زكاة وأوصى أن تقضى عنه الزكاة وولده محاويج ، إن دفعوها أضرّ ذلك بهم ضرراً شديداً؟ فقال (عليه‌السلام) : «يخرجونها فيعودون بها على أنفسهم ويخرجون منها شيئاً فيدفع إلى غيرهم». (٢)

٨٤ ـ وروى أيضاً باسناده عن إسحاق بن عمّار قال : قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : الرجل يكون عنه اليمين [الدّين] فيحلّفه غريمه بالأيمان المغلّظة أن لا يخرج من البلد إلّا بعلمه؟ فقال : «لا يخرج حتى يعلمه» ، قلت : إن أعلمه لم يدعه؟ قال : «إن كان ضرراً عليه وعلى عياله فليخرج ولا شيء عليه». (٣)

٨٥ ـ روى الصدوق باسناده عن إسماعيل بن الفضل عن ثابت بن دينار عن سيد العابدين عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليهم‌السلام) قال : «... وحقّ من أساءك أن تعفو عنه وإن علمت أنّ العفو يضرّ انتصرت ، قال الله تعالى : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ)». (٤)

__________________

(١) الوسائل ٩ ص ١٥٢ ، الباب ٧٠ من أبواب تروك الاحرام ، الحديث ٣.

(٢) الوسائل ج ٦ ص ١٦٨ ، كتاب الزكاة ، الحديث ١١٩٣٩.

(٣) الوسائل ج ١٦ ص ٢٠٧ ، كتاب الايمان ، الحديث ٢٩٥٦٦.

(٤) الوسائل ج ١١ ص ١٣٨ ، كتاب الجهاد ، الباب ٢ من أبواب جهاد النفس ، ح ١.

٤٤

استدلال المشهور بالقاعدة :

وقد استدلّ المشهور بالقاعدة في موارد كثيرة نشير إلى أقل القليل منها :

قال الشيخ في الخلاف في خيار الغبن في المسألة الستين : دليلنا ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لا ضرر ولا ضرار». واستدلّ به أيضاً في كتاب الشفعة في المسألة الرابعة عشرة وفيه إضافة : «في الإسلام» في ذيل الحديث. (١)

وقال ابن زهرة في خيار العيب : ويحتجّ على المخالف بقوله : «لا ضرر ولا ضرار». (٢)

واستدلّ العلّامة في التذكرة بالحديث في باب خيار الغبن في المسألة الأُولى قال : الغبن سبب ثبوت الخيار للمغبون عند علمائنا وبه قال مالك وأحمد ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام». (٣)

وقد اهتمّ بنقله شرّاح الأحاديث ، ففي مجمع البحرين قال : وفي حديث الشفعة : قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكين وقال : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام». (٤)

وقال ابن الأثير في النهاية : وفي الحديث : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام». (٥)

__________________

(١) الخلاف ج ٢ ، ص ١٩ في خيار الغبن وص ٨٦ في كتاب الشفعة.

(٢) الغنية (ضمن الجوامع الفقهيّة) ص ٥٨٨.

(٣) تذكرة الفقهاء ، ج ١ ص ٤٩٧ في أحكام خيار الغبن.

(٤) مجمع البحرين ، ص ٢٦٣ تحت كلمة «ضرر».

(٥) النهاية ، ج ٣ ، ص ٨١.

٤٥

هذا جملة ما وقفنا عليه من طرق الحديث وما يؤيد مضمونه ، ويقتدر الفقيه بها على استنباط قاعدة كلّية من حرمة الاضرار بالنفس والعرض والمال تكليفاً ووضعاً كما سيوافيك. ولعلّ في الكتب ما لم نقف عليه ، فعليك بالتفحّص التام. (١)

* * *

إذا عرفت ذلك ، فيجب لتنقيح القاعدة ، البحث عن أُمور :

الأوّل : هل ورد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا ضرر ولا ضرار» في غير مورد حديث سمرة أو لا؟

الثاني : هل الحديث مذيّل بقوله : «على مؤمن» أو «في الإسلام» أو لا؟

الثالث : ما هو الفرق بين «الضرر» و «الضرار»؟

الرابع : ما هو مفاد الهيئة التركيبية؟

__________________

(١) ومن جملة ذلك ما جاء في الايضاح ، ج ٤ ، ص ١٠١ عند قول العلّامة : «ولو نذر أثانين سنة ففي وجوب الصبر حتى تخرج ، اشكال أقربه الوجوب إلّا مع الضرر» قال ولده في توضيحه : «أقول : وجه القرب أنّه مع عدم الضرر بالتأخير قادر على الاتيان بالتتابع من غير ضرر حقيقة ... إلى أن قال : وأمّا الضرر فهو عذر لقوله (عليه‌السلام): «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام».

وجاء في الايضاح أيضاً ج ٤ ، ص ١٠٣ عند قول العلّامة : «ولو خاف المظاهر الضرر بترك الوطء مدة وجوب التتابع لشدة شبقه فالأقرب الانتقال إلى الاطعام» قال ولده في توضيحه : «أقول : وجه القرب استلزامه الضرر وقال (عليه‌السلام): «لا ضرر ولا اضرار».

٤٦

الأمر الأوّل : في ورود القاعدة في غير حديث سمرة :

قد عرفت ورود قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ضرر ولا ضرار» في قضيّة سمرة ، وقد ورد في موثقة زرارة ومرسلته. وعدم اشتمال صحيحة الحذّاء أو رواية أبي داود عليه (١) ، مع وجود نقل قصّة سمرة لا يضرّ بها. لاختلاف الدّواعي في نقل الحديث. وإذا دار الأمر بين الزيادة والنقيصة فالحمل على الثّاني متعيّن. (٢)

أضف إلى ذلك اشتمال عدّة من الرّوايات على تلك القاعدة وإن لم تكن مقرونة بحديث سمرة. (٣)

ومن أجل ذلك قال فخر المحققين في رهن «الايضاح» بتواتره. (٤)

هذا ممّا لا بحث فيه. إنّما الكلام هو أنّه هل وردت القاعدة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستقلّة في غير واقعة سمرة أم لا؟

أقول : الروايات على طائفتين :

إحداهما : ما يكتفي بنقل نفس القاعدة من دون إشارة إلى شيء غيرها كما هو الحال في أكثرها ، نظير مرسلة الصدوق ورواية دعائم الإسلام (الأُولى لا الثانية

__________________

(١) الحديثان ٣ و ٤ من أحاديث القسم الأوّل.

(٢) توضيح ذلك : أنّه لو كان لدينا حديثان متشابهان من حيث اللفظ والمعنى بحيث يعتبران حديثاً واحداً ، إلّا أنّ في أحدهما كلمة أو جملة لا توجد في الآخر ، فهل يؤخذ بالأوّل ويقال إنّ الثاني ناقص أم يؤخذ بالثاني الفاقد لتلك الزيادة ويقال بأنّ الأوّل فيه زيادة على الحديث؟

وهنا قال العلماء بأنّ الحمل على النقيصة هو المتعيّن. أي يؤخذ بالأوّل (الواجد لتلك الجملة أو الكلمة) ويقال بانّ الثاني ناقص للأصل العقلائي في الراوي بأنّه لا يزيد من نفسه على كلام المرويّ عنه.

(٣) لاحظ الأحاديث ٦ ـ ٢١.

(٤) الايضاح ، ج ٢ ، ص ٤٨.

٤٧

فقد ورد فيها مقروناً بقصّة الجدار) والموطأ ومسند أحمد بن حنبل وسنن ابن ماجة (١) ، ونظيرها ما ورد في الخلاف والغنية والتذكرة عند الاستدلال بها ولا شكّ انّ ورودها كذلك لا يدلّ على ورودها مستقلّة ، لأنّ ظاهرها أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تكلّم بها بلا مقدّمة ولا مؤخّرة ، وهو بعيد ، ومن أجل ذلك يجب أن نقول إنّما مقتطفة من الحديث الوارد في قصّة سمرة.

أو من الحديث الوارد حول الشّفعة أو النّهي عن منع الماء ، ونقله الصدوق أو غيره في مقام الاستدلال على الحكم الشرعي ، كما أنّ أصحاب اللغة نقلوه عند تفسير الضرر والضرار ، ونقله أحمد في مقام جمع أقضية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وبالجملة فهذه الطائفة لا تدلّ على صدورها مستقلّة.

* * *

الطائفة الثانية : ما تنقل الرواية ضمن الحكم بالشفعة أو النهي عن منع الماء أو وجوب بناء الجدار ، فهل هي تدل على صدور القاعدة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غير واقعة سمرة وأنّ الحكم في هذه الموارد كان مذيّلاً من أوّل الأمر بالقاعدة في لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو أنّ ضم القاعدة إلى هذه الموارد من فعل الراوي ولم يكن الصادر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الموارد الثلاثة مذيلاً بها؟

إنّ شيخ الشريعة الأصفهاني (قدس‌سره) أوّل من فتح باب التشكيك ، وذهب إلى أنّ ضمّ القاعدة إلى تلك الموارد من صنع الرواة وتبعه عدّة من الأعلام كالمحقّق النائيني وغيره ولنقدم البحث عن حديث الشفعة ثمّ عن حديث الناهي عن نقع الماء فنقول : واستدلوا على ذلك بوجوه :

الأوّل : ما ذكره شيخ الشريعة في رسالته وحاصله : أنّ أقضية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في طرق أهل السنّة ، كانت مجتمعة في رواية عبادة بن الصامت وقد نقلها إمام

__________________

(١) لاحظ الأحاديث ٩ ، ١٥ و ١٧ ـ ٢١.

٤٨

الحنابلة في مسنده ويناهز عددها العشرين قضاءً. وهي من طرقنا كانت مجتمعة في رواية عقبة بن خالد عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) ، غير أنّ أئمّة أهل الحديث فرقوها في أبواب مختلفة. ولما كان حديثا الشفعة والنهي عن منع الماء غير مذيلين بحديث «لا ضرر» في رواية «عبادة» ، صحّ أن يقال إنّ ما ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طرقنا أيضاً كان غير مذيّل ، لكن الراوي لما أراد الجمع بين الأقضية في رواية واحدة ، ذيّل حديث الشفعة والنهي عن منع الماء بحديث «لا ضرر» ، فهو من باب الجمع في الرواية لا الجمع في المروي.

ولا يصحّ العكس ، وهو تذييل الحديثين بالقاعدة في نفس الأمر ، غير أنّ عبادة بن الصامت روى جميع الفقرات مطابقة للواقع إلّا الفقرتين. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الدقة في رواية عبادة بن الصامت تقضي بوضوح أنّ الراوي كان بصدد الجمع بين الأقضية ، ولأجل ذلك كرّر لفظ «قضى» في تسعة عشر مورداً. وأمّا المنقول عن عقبة بن خالد فهو على خلاف ذاك الظهور ، فعبّر في الشفعة بلفظ «قضى» وفي مورد لا ضرر ب ـ «قال» ، مشعراً بأنّه لم يكن في هذا المورد قضاءً بل تعليلاً. وإليك نصّ الحديث :

«قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن وقال : «لا ضرر ولا ضرار». وقال : إذا أرفت الأُرف وحدّت الحدود فلا شفعة». (٢)

ومثله حديث النهي عن بيع الماء ، وإليك نصّه :

«قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أهل المدينة في مشارب النخل أنّه لا يمنع نفع

__________________

(١) رسالة قاعدة لا ضرر ، ص ١٩ إلى ص ٣٢ بتلخيص. وهذا الوجه مشترك بين كلا الحديثين.

(٢) الوسائل ، ج ١٧ ، الباب ٥ ، من كتاب الشفعة ، الحديث ١.

والأُرَف : جمع الأُرفة ، كالغُرَف جمع الغُرفة. والأُرف هي الحدود والمعالم. ففي نهاية ابن الأثير : قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشفعة ما لم يرف : ما لم يقسّم المال أو يحدّ. وفي الحديث : أيّ مال أقسم وارّف عليه فلا شفعة فيه : أي حُدَّ وعُلِّم. وفيه : الأُرف تقطع الشفعة.

٤٩

الشيء ، وقضى بين أهل البادية أنّه : لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء ، فقال ـ أو (وقال) على اختلاف النسخ : ـ «لا ضرر ولا ضرار». (١)

فالعدول عن لفظ «قضى» إلى لفظ «قال» يدل على أنّ الهدف من نقل القاعدة هو الاستدلال لا نقل قضاء آخر ، واحتمال أنّ التركيب والتعليل كان من جانب الراوي ، وأراد تعليل أحد القضاءين بقضاء آخر ، يوجب سلب الاعتماد على سائر الروايات.

والحاصل أنّه لو كان قضاءً مستقلاً غير مربوط بالشفعة ونهي الماء ، لما كان للعدول عن لفظ «قضى» إلى «قال» وجه.

الثاني : إنّ بين موارد ثبوت حقّ الشفعة وتضرر الشريك بالبيع ، عموم من وجه ، فربّما يتضرر الشريك ولا يكون له «حق الشفعة» كما إذا كان الشركاء أكثر من اثنين. وقد يثبت حق الشفعة بلا ترتب ضرر على الشريك ، كما إذا كان البائع مؤذياً والمشتري محسناً. وقد يجتمعان ، وعند ذاك لا يصح تعليل الحكم بالشفعة بشيء يفارقه تارة ويجتمع معه أُخرى.

الثالث : إنّ الضرر يأتي من قبل بيع الشريك حصته ، فلو كان ذلك مورداً لقاعدة «لا ضرر» ، للزم الحكم ببطلان البيع أو عدم لزومه. وأمّا جعل حقّ الشفعة لجبران الضرار وتداركه بالحكم بانتقال المبيع إلى ملك الشريك ، فليس مستفاداً من أدلّة نفي الضرر فإنّها لا تدلّ على جعل حكم يتدارك به الضرر ، غايتها نفي الحكم الضرري. (٢)

ولا يخفى عدم تمامية الوجهين الأخيرين.

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٧ ، الباب ٧ ، من احياء الموات ، الحديث ٢.

(٢) مصباح الأُصول ، ج ٢ ، ص ٥٢١ ، تقرير درس آية الله العظمى السيد أبي القاسم الموسوي الخوئي (قدس‌سره).

٥٠

أمّا أوّلهما : فإنّ تسلّط الشريك على ماله على وجه الإطلاق بحيث كان له البيع ممّن يشاء صالحاً كان أو طالحاً ، حكم ضرري حسب الطبع. والمقياس في الحكم بالضّرر ، ملاحظة نفس الحكم المجعول ، أي جواز بيع الشريك حصّته ممّن يشاء ، فهو بلا شكّ يوجب الاضطراب في الحياة ولا يرتفع ذلك إلّا بإعطاء القدرة للشريك الآخر على أخذ السهم المباع بردّ ثمن المثل حتّى يسدّ حاجة البائع ، لاحتياجه إلى الثمن. وبذلك يرتفع قلق الشريك.

وعدم ترتّب الضرر فيما كان المشتري رجلاً بارّاً ، لا يوجب عدم كون التسلّط المطلق ضرريّاً.

وأمّا انتفاء الشفعة إذا كان الشّركاء أكثر من اثنين ، فهو المشهور بين الفقهاء مع القول بثبوتها. قال المحقق : هل تثبت لما زاد عن شفيع واحد؟ فيه أقوال : أحدها : نعم تثبت مطلقاً على عدد الرءوس ، والثاني : تثبت في الأرض مع الكثرة ولا تثبت في العبد إلّا للواحد والثالث : ولا تثبت في شيء مع الزيادة على الواحد وهو أظهر. وأضاف صاحب الجواهر : وأشهر ، بل المشهور شهرة عظيمة كادت تكون إجماعاً ، بل هي كذلك كما ستعرف.

وعلى كلّ تقدير فعدم الشفعة لوجود النصّ الصريح ، أعني صحيح عبد الله بن سنان «لا تكون الشفعة إلّا لشريكين ، ما لم يتقاسما ، فإذا صاروا ثلاثة فليس لواحد منهم شفعة» (١) ومثله لا يكون نقضاً لوجود النص غاية الأمر يلزم عدم الأخذ بالملاك في مورد.

وأمّا ثانيهما : فلأنّ الحكم ببطلان البيع أو عدم لزومه ، ضرر على البائع السهيم ، لأنّه ربّما يكون محتاجاً إلى البيع فإبطال تصرّفه من دون جبران ، ضرر ، فلا معنى لدفع الضرر بالضرر بل لا يتم دفع الضررين إلّا بتجويز الأخذ بالشفعة بردّ مثل الثمن الذي باع حصته به.

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٧ ، الباب ٧ ، الحديث ٣.

٥١

وإن شئت قلت : إنّ مقتضى الجمع بين الحقّين أو دفع الضررين ، أوجب تشريع الأخذ بالشفعة. ولعلّ قوله : «لا ضرر» إشارة إلى كلا «الضررين» المقصودين في المقام ، أو أنّه إشارة إلى تجويز إبطال بيعه ، وأمّا أخذه بمثل الثمن فلأجل الجمع بين الحقّين. هذا كلّه حول الشفعة.

وأمّا الحديث الناهي عن نقع الماء (١) ، فقد ردَّ عليه أيضاً بوجهين :

الأوّل : أنّ الضرر لا ينطبق على منع المالك فضل ماله عن الغير. إذ من الواضح أنّ ذلك لا يعدّ ضرراً على الغير ، غايته عدم الانتفاع به.

الثاني : أنّ النهي في هذا المورد تنزيهي قطعاً لعدم حرمة منع فضل المال عن الغير بالضرورة. (٢)

والوجهان من حيث الضعف كالسابقين :

أمّا الأوّل : فلأنّ الحياة في البادية ـ خصوصاً يوم ذاك ـ كانت مقرونة بالضيق والمشقّة ، وكانت الآبار قليلة والتمكّن من الماء أمراً غير سهل ، فكان منع الغير من سقي المواشي ولو ببذل المال ، موجباً لتعرّض الأنعام والمواشي للهلاك والدمار ، لأنّ منع السقي كان ملازماً لترك الرعي والانتقال من البادية إلى بادية أُخرى فيكون موجباً لضرر أقوى.

وبذلك يظهر ضعف الوجه الثاني ، فإنّ الظاهر لزوم البذل وحرمة المنع ، رعاية لمصالح المسلمين إذا انحصر الماء في البادية بماء واحد. وقد أفتى بهذا ، الشيخ في المبسوط وابن زهرة في الغنية ، ونقله العلّامة عن ابن الجنيد في المختلف. والقول بأنّ النهي مخالف لقاعدة السلطنة ضعيف ، لأنّه مخالف لإطلاقه في بعض الأحايين ، ولا بعد فيه ، كإلزام المحتكر على البيع في عام الضيق ، وصاحب الدابة على بذل العلوفة لها ، والرجل لعائلته.

__________________

(١) على اختلاف النسخ ففي بعضها (نفع الماء).

(٢) مصباح الأُصول ج ٢ ، ص ٥٢١ ـ ٥٢٢.

٥٢

قال الشيخ في الخلاف : إذا ملك البئر بالاحياء وخرج ماؤها فهو أحق بمائها من غيره بقدر حاجته وحاجة ماشيته ، وما يفضل عن ذلك يجب عليه بذله لغيره لحاجته إليه للشرب ، له ولماشيته. ولا يجب عليه بذله لسقي زرعه ، بل يستحب له ذلك. ثمّ ذكر أقوال الفقهاء واستدلّ على مختاره بالروايات. (١)

وقال في المبسوط : فكلّ موضع قلنا إنّه يملك البئر فإنّه أحقّ بمائها بقدر حاجته لشربه وشرب ماشيته وسقي زرعه ، فإذا فضل بعد ذلك شيء ، وجب عليه بذله بلا عوض لمن احتاج إليه لشربه وشرب ماشيته من السابلة وغيرهم ، وليس له منع الفاضل من حاجته حتى لا يتمكّن غيره من رعي الكلاء الذي بقرب ذلك الماء. (٢)

ونقل العلّامة في المختلف القول بالاستحباب عن ابن الجنيد وابن البراج ، وحمل العلّامة الروايات على الكراهة (٣). ولكنّه خلاف الظاهر ، وعلى أيّ حال فليست الروايات معرضاً عنها ولا على خلاف الأُصول المسلّمة في الفقه.

وبذلك يظهر أنّه لا إشكال في القول بتذييل الحديثين بالقاعدة وورودها تارة في حديث سمرة وأُخرى في مورد الشفعة وثالثاً في مورد النهي عن بيع الماء.

وبذلك يظهر النظر فيما أفاده سيدنا الأُستاذ (٤) حيث نفى صلاحية كون القاعدة علّة للتشريع أو نكتة له.

أمّا الأوّل ، فلأنّها عبارة عن تشكيل صغرى وكبرى وحدّ وسط ، فيكون المحمول في الصغرى نفس الموضوع في الكبرى. مثل قولنا : الخمر مسكر ، وكل مسكر حرام ، فالخمر حرام. ولكن المحمول في المقام هو جائز أو حرام ، كأن تقول : أخذ مال الشريك شفعة جائز ، أو منع فضول الماء حرام ، وليس المحمول

__________________

(١) الخلاف ، ج ٢ ، ص ٢٢٤ ـ ٢٢٥ ، كتاب احياء الموات ، المسألة ١٣.

(٢) المبسوط ، ج ٣ ، ص ٢٨١ ، كتاب احياء الموات.

(٣) المختلف ، ج ٢ ، ص ١٥ ، كتاب احياء الموات ، الطبعة الحجرية.

(٤) هو الإمام المجاهد آية الله العظمى السيد روح الله الخميني (قدس‌سره).

٥٣

فيها موضوعاً في الكبرى ، أعني قوله : «لا ضرر ولا ضرار».

وأمّا الثاني ، فلأنّها عبارة عن الحكم التي لا يلزم أن تكون سائرة في كل مورد ، بل تكفي الأغلبية ، كما في كون الحكمة في العدة عدم اختلاط المياه. وأمّا المقام فليس كذلك ، لأنّ دفع الضرر الذي هو نكتة التشريع فرضاً ، يصلح لجعل عدم اللزوم لبيع الشريك أو عدم صحّته ، لا لجعل جواز أخذه شفعة. وأمّا منع فضول الماء فالنكتة فيه منتفية ، لعدم الضرر في المنع بل أقصاه عدم النفع. (١)

ويظهر النظر مما ذكرناه في دفع الإشكالات السابقة ، فإنّ القاعدة في المقام ليست إلّا من قبيل نكتة التشريع. ودفع الضرر ، وإن كان يحصل برفع اللزوم والصحّة ، لكنّه يستلزم ورود الضرر على البائع فيلزم أن يكون ماله بلا مشتر. فلا محيص ، من باب دفع الضرر ، عن اختيار شيء آخر ، وهو جواز أخذه بالشفعة بثمن المثل.

وأمّا القول بأنّ الموجود في مورد منع الماء هو عدم الانتفاع لا الضرر ، فقد عرفت عدم تماميته ، وأنّ الحياة البدوية في المناطق الحارة ، أو أكثر المناطق المعمورة ، تدور على الاعاشة من المياه الموجودة. وحرمان أصحاب الدواب منها ، يستلزم هلاكها ودمارها كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الثمرة في ورودها في ذيل الحديث تظهر في توضيح مفاد القاعدة لأنّ من محتملاتها جعل النفي بمعنى النهي. وهذا لا يتمشّى في مورد الحديثين ، إذ لا معنى فيهما للنهي عن الضرر ، بل الظاهر كون النفي بمعناه ، وقد صار مبدءاً لإثبات حقّ الشفعة ، وتحريم المنع عن بذل فضل الماء ، ولا معنى للخطاب إذا لم يكن هناك مخاطب.

نعم في صحّة الروايتين تأمّل ، لأنّ محمّد بن هلال وعقبة بن خالد لم يوثقا وإن كان الأوّل من مشايخ الكليني والثاني من أصحاب الصادق (عليه‌السلام) ، فلاحظ معاجم الرجال.

__________________

(١) تهذيب الأُصول ، ج ٢ ، ص ٤٥٢ ، بتحرير جديد.

٥٤

الأمر الثاني : هل الحديث مذيّل بكلمتي «في الإسلام» أو «على مؤمن» أو لا؟

قد وردت لفظة «في الإسلام» في مرسلة الصدوق (١) : كما وردت مرسلة أيضاً في نهاية ابن الأثير ومجمع البحرين والكتب الاستدلاليّة (٢) ، ولا عبرة بالمراسيل إلّا مرسلة الصدوق (٣) ، لأنّه عبر بقوله : مع قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا ضرر ولا ضرر في الإسلام»

__________________

(١) هذه هي المرسلة المشهورة التي وردت في كتابه «من لا يحضره الفقيه» وهناك مرسلة أُخرى نقلها في كتابه الآخر «معاني الأخبار» كما مرّ سابقاً. لاحظ ص ١٧ من هذا الكتاب.

(٢) مثل كتاب الخلاف للشيخ الطّوسي وتذكرة الفقهاء للعلّامة الحلّي. لاحظ ص ١٨ من هذا الكتاب.

(٣) هذا هو المشهور بين الأصحاب في اعتبار مراسيل الصدوق مسانيد ـ إذا كانت بهذا التعبير ـ إلّا أنّ سماحة المحقّق الرّاحل السيّد الخوئي ـ قده ـ قد عدل عن هذا المبنى بقوله في مصباح الأُصول ج ٢ ، ص ٥١٩ و ٥٢٠ : «فتعبير الصدوق (رضي الله عنه) في الفقيه بقوله قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدلّ على أنّه ثبت عنده صدور هذا القول منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطريق صحيح ، وإلّا لم يعبّر بمثل هذا التعبير ، فيعامل مع هذا النحو من المراسيل معاملة المسانيد. هذا ما ذكرناه في الدورة السابقة ، لكن الانصاف عدم حجية مثل هذه المرسلة أيضاً ، لأنّ غاية ما يدلّ عليه هذا النحو من التعبير صحّة الخبر عند الصدوق. وأمّا صحّته عندنا فلم تثبت ، لاختلاف المباني في حجية الخبر».

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ الشيخ الصدوق (رضي الله عنه) وإن ضمن صحّة جميع ما رواه في الفقيه عنده بقوله : «إنّي لا أذكر في هذا الكتاب إلّا ما هو حجّة عندي» ، إلّا انّنا لا نعتبر جميع مراسيله مسانيد ، لأنّ مراسيله على نوعين :

أحدهما : ما ينقله بقوله : «روى» ونحوه. وثانيهما : ما يعبّر عنه بقوله : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو «قال الصادق (عليه‌السلام)» مثلاً. ولا شكّ في أنّ اختلاف التعبير ينبئ عن اختلاف في كيفية المنقول ، فلو كان حجّة ظنيّة مثل خبر الواحد يعبّر عنها بتعبير النوع الأوّل. وإن كانت قطعيّة مثل الخبر المتواتر أو المستفيض المفيد للاطمئنان يعبّر عنها بالنوع الثاني. وكلام المحقّق الخوئي (قدس‌سره) صحيح بالنسبة إلى النوع الأوّل. وأمّا بالنسبة إلى النوع الثاني كمثل ما نحن فيه فليس بتام.

وثانياً : إذا صحّ هذا العدول يبقى كثير من المسائل الفقهيّة بلا حجّة ، بل لا يبقى مجال لحجيّة أقوال المشايخ في توثيق الرّجال. إذ كلّ شيخ له مبناه الخاص في حدود حجيّة خبر الثقة أو العادل ، فيصبح قسم من مسائل الفقه جلّها بلا حجّة وبرهان. وعليه فلا محيص من اعتبار مرسلات الصدوق إذا كانت من النوع الثاني.

٥٥

ولكنّ الاعتماد على هذه الزّيادة مشكل لأمرين :

الأوّل : إنّ كلمة في الإسلام من الألفاظ كثيرة الدّوران على اللّسان ، ومن الأُمور المرتكزة في الذهن فربّما يتسابق إلى اللّسان والقلم بلا اختيار.

الثاني : احتمال وقوع التصحيف من النساخ حيث إنّ المراسيل الثلاثة التي نقلها الصدوق كانت متّصلة ، وإليك نص عبارة الصدوق :

«الإسلام يزيد ولا ينقص ، مع قوله (عليه‌السلام) : لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ، فالإسلام يزيد المسلم خيراً ولا يزيده شرّاً».

ومن المحتمل جدّاً أنّ الكاتب كتب لفظة «فالإسلام» مرّتين اشتباهاً ، فجاء الآخرون وأرادوا تصحيح النسخة فتصوّروا أنّ الأوّل مصحّف «في الإسلام» ثمّ تتابعت النسخ عليه. (١)

ولو لا هذان الوجهان (٢) لكان الأصل الحاكم هو تقدّم احتمال الزيادة ، لأنّ

__________________

(١) هذا الاحتمال هو ما ذكره سيّد مشايخنا الإمام الخميني (قدس‌سره) لاحظ كتابه الرسائل ١ / ٢٥.

(٢) نعم لا يجري ذلك الاحتمال فيما فعله الشيخ الصدوق نفسه في معاني الأخبار حيث رواه مع زيادة «في الإسلام» أيضاً مجرّداً عن سائر الأحاديث فلا يتوهّم احتمال تصحيفه على أيدي النّساخ.

وثانياً : قد جاء هذا الحديث بهذه الزيادة في الكتب الاستدلاليّة للمتقدّمين والمتأخّرين مضافاً إلى وروده في الكتب اللغويّة العاميّة والشيعيّة أيضاً. وهذا ما يبعد انسباق هذه الكلمة إلى ألسنتهم بلا اختيار.

وعلى أيّ حال فلا ينبغي رفع اليد عن مرسلتي الصدوق ـ إذا نظرنا إليهما بعين الاعتبار ـ بسبب هذين الاحتمالين. لأنّ مثل هذه الاحتمالات إذا كانت تمنع من الأخذ بالأحاديث المعتبرة ، سوف يلزم الاعراض عن كثير منها وهو ممّا لا يلتزم به أحد.

وعليه فيتأيّد النظر القائل بزيادة كلمة في الإسلام ، كما يمكن تأييده بهاتين النكتتين :

الأُولى : انّ قاعدة لا ضرر تنسجم وقاعدة نفي الحرج من حيث المبنى والملاك (سهولة الشريعة وسماحتها) ، ومستند الثانية قوله سبحانه : (ما جعل عليكم في الدّين من حرج) فالحرج قد نفى من محيط التشريعات الدينيّة ، فكذلك ينبغي أن يكون الضّرر منفيّاً من ذلك المحيط.

٥٦

النقيصة السهويّة أكثر من الزّيادة كذلك ، فاحتمال السقط في سائر الروايات أقوى من الزيادة في رواية الصدوق ، لكن الوجهين عافانا عن الأخذ بهذا الأصل.

وأمّا لفظة «على مؤمن» فقد جاءت في رواية زرارة الثانية ، كما اشتملت على قوله : «انطلق فاغرسها حيث شئت» ويجري فيها ما ذكرناه في لفظة «في الإسلام» ، من الوجه الأوّل ، ولو لا هذا الوجه لكان المعتمد هو تقدّم احتمال النقيصة على الزيادة.

وتظهر الفائدة في مفاد الحديث ، فلو قلنا باشتمال الحديث على لفظة «في الإسلام» ، يستقرب ما أفاده الشيخ في تفسير الحديث من أنّ المراد نفي الحكم الضرري وأنّه غير مجعول في الإسلام ، فينفى به وجوب الوضوء والحج الضرريين بخلاف ما إذا لم يكن مذيلاً به ، إذ من المحتمل كون النفي بمعنى النهي كما عليه شيخ الشريعة ، وسيّدنا الأُستاذ على اختلاف بينهما كما أنّه لو كان الحديث مشتملاً على لفظة «على مؤمن» ، تختص القاعدة بما إذا كان هناك ضرر على مؤمن ، ولا يشمل مورد الوضوء والحج الضرريين. هذا ويكون حمل النفي على النهي أوضح من بقائه على معناه.

* * *

__________________

الثانية : إذا أمعنّا النظر في الأحاديث المتضمّنة مفاد القاعدة والّتي قد نقلنا حوالي ثمانين حديثاً منها آنفاً ، نجد بوضوح أنّ القاعدة لها مفعولها في كثير من أبواب الفقه من العبادات والمعاملات. وبناءً على هذا لفهم نجد الفقهاء من العامّة والخاصّة قد استندوا إلى القاعدة في جميع تلك الأبواب كما سيتّضح لك في الفصول الآتية. وإن دلّ هذا على شيء فإنّما يدلّ على أنّ الفقهاء من المتقدمين والمتأخّرين قد فهموا من القاعدة نفي الضّرر من محيط التشريع الإسلامي بتاتاً فالمناسب اذن تذييل القاعدة بكلمة «في الإسلام».

٥٧

الأمر الثالث : في بيان الفرق بين «الضرر» و «الضرار» :

إنّ هنا ألفاظاً ثلاثة يجب التعرّف على مفاهيمها :

١ ـ الضر : بفتح الفاء وتشديد اللام. وهو مصدر هذا الباب ويقابل النفع. يقال : ضرّ ، يضرُّ ، ضرّاً. ضد : نفع ، ينفع ، نفعاً.

٢ ـ الضرر : هو اسم مصدر الباب ، وسيوافيك أنّ الضُّر بضمّ الفاء ، أيضاً اسم مثل الضرر.

٣ ـ الضرار : وهو مصدر باب المفاعلة.

وعلى ذلك ، فالفرق بين الأوّلين هو الفرق الموجود بين المصدر واسمه ، فما ذكره اللغويون للمصدر من المعنى يرجع إلى اسمه أيضاً فنقول :

قال في الصحاح : الضر خلاف النفع ، وقد ضرّه وضارّه بمعنى ، والاسم الضرر ... إلى أن قال : و «الضرار» المضارّة. (١)

وقال في معجم مقاييس اللغة : الضرّ ضد النفع. (٢)

وقال الراغب في مفرداته : الضرّ سوء الحال ، إمّا في نفسه لقلّة العلم والفضل والعفة ، وإمّا في بدنه لعدم جارحة ونقص ، وإمّا في حالة ظاهرة من قلّة مال أو جاه. وقوله : «فكشفنا ما به من ضر» محتمل لثلاثتها. (٣)

وقال في القاموس : «الضرّ» بالضم ضد النفع أو بالفتح مصدر ... إلى أن

__________________

(١) الصحاح ، ج ٢ ، ص ٧١٩ ـ ٧٢٠ ، مادة ضرر.

(٢) معجم مقاييس اللغة ، ج ٣ ، ص ٣٦٠.

(٣) مفردات الراغب ، ص ٢٩٣.

٥٨

قال : والضرّ سوء الحال ... والنقصان يدخل في الشيء ... والضيق. (١)

وقال الفيومي : «الضر» الفاقة والفقر. بضم الضاد اسم وبفتحها مصدر «ضرّه ، ويضرّه» إذا فعل به مكروهاً. وقال الأزهري : كل ما كان سوء حال وفقر وشدة في بدن فهو ضرّ بالضم. وما كان ضد النفع فهو بفتحها. وفي التنزيل (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) أي المرض ، والاسم الضرر. وقد أطلق على نقص يدخل الأعيان. (٢)

وقال ابن الأثير : «الضرّ» ضد النفع. فمعنى قوله : لا ضرر : أي لا يضرّ الرجل أخاه فينقصه شيئاً من حقه ، والضرار فعال من الضرّ أي لا يجازيه على اضراره بإدخال الضرر عليه. (٣)

وقال الطريحي : «والضرّ» بالضم : سوء الحال ، وبالفتح ضد النفع. (٤)

هذه هي كلمات أعلام أهل اللغة ويظهر من الجميع : أنّ «الضرّ» بضم الفاء هو سوء الحال في النفس لأجل نزول المرض والعلّة ، أو لحلول الفقر والفاقة ، بخلاف الضرّ بفتح الفاء ، والضرر فإنّهما يقابلان النفع.

والمتحصّل من هذه النصوص أنّ الضرر عبارة عن النقص النازل بالنفس والبدن أو المال والجاه ، وليس النقص بما هو هو ، نفس الضرر ، بل الهيئة الحاصلة من هذا النقص هي الضرر.

وإن شئت قلت : إنّ النفع عبارة عن التزايد المطلوب كالعافية في البدن ، والوفرة في المال ، وحسن السمعة في الجاه. ويقابله الضرر فهو النقص الوارد على الشيء كإذهاب العافية من البدن ، ورأس المال من المال وحسن السمعة من

__________________

(١) القاموس المحيط ، ج ٢ ، ص ٧٥.

(٢) المصباح المنير ، ج ٢ ، ص ٦.

(٣) النهاية لابن الأثير ، ج ٣ ، ص ٨١.

(٤) مجمع البحرين ، ص ٢٦٣ من الطبعة القديمة.

٥٩

العرض والجاه.

وعلى ذلك ، فالنفع هو التزايد المطلوب ، والضرر هو النقص غير المطلوب ، وهذا ما يعبّر عنه في الفارسية ب ـ «افزايش» و «كاهش» غير أنّ الزيادة المطلوبة وغير المطلوبة تختلف حسب اختلاف الموضوعات.

ولك أن تستوضح معاني هاتيك الألفاظ من الإمعان في الآيات الكريمة.

أمّا الضرّ بالفتح فقد جاء في القرآن عشر مرّات ، واستعمل في موارد تسعة مقابلاً للنفع وفي مورد واحد مقابلاً للرّشد. (١)

قال سبحانه : (أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً). (٢)

وقال تعالى : (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً). (٣)

وأمّا الضُّر بضمّ الضاد فقد استعمل تسع عشرة مرّة (٤) ، وقد قوبل تارة بالخير ، مثل قوله سبحانه : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (٥)

وأُخرى بالنعمة ، قال سبحانه : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ). (٦)

وثالثة بالرحمة ، قال تعالى : (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ). (٧)

__________________

(١) لاحظ : المائدة / ٧٦ ، الاعراف / ١٨٨ ، يونس / ٤٩ ، الرعد / ١٦ ، طه / ٨٩ ، الفرقان / ٢٥ ، سبأ / ٤٢ ، الفتح / ١١ ، الجن / ٢١ ، الحج / ١٣.

(٢) المائدة / ٧٦.

(٣) الجن / ٢١.

(٤) راجع : المعجم المفهرس للقرآن الكريم.

(٥) الانعام / ١٧ ، ولاحظ أيضاً الآية ١٠٧ من سورة يونس.

(٦) النحل / ٥٣ ، لاحظ أيضاً النحل / ٥٤ ، والزمر / ٤٩ و ٨.

(٧) الروم / ٣٣ ، لاحظ أيضاً ٣٨ منها.

٦٠