الرسائل الأربع - ج ٢

عدّة من الأفاضل

الرسائل الأربع - ج ٢

المؤلف:

عدّة من الأفاضل


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٠٤

يستفاد من هذه الكريمة أنّ عمل السوء وظلم الإنسان نفسه أمران محرّمان والاستغفار دليل عليه ، فلو قلنا بأنّ المراد من السوء التعدّي على الغير وبالظلم التعدّي على النفس (١) يكون دليلاً على حرمة الاضرار بالنّفس لأنّه من مصاديق التعدّي عليها.

الاستدلال بالسنّة :

تدلّ على المقصود طوائف من الأحاديث وهي متضافرة إن لم نقل بتواترها المعنوي أو الإجمالي ، فلا حاجة إلى الفحص عن أسنادها ، مضافاً إلى صحّة بعضها وعمل المشهور من أصحابنا على وفقها إن لم نقل بحصول الإجماع على مضمونها.

وإليك تلك الطوائف :

الطائفة الأُولى :

أدلّة قاعدة نفي الضرر مثل الحديث المشهور «لا ضرر ولا ضرار» أو مع قيد «في الإسلام». وتقريب الاستدلال به يتمّ بوجهين :

أ: بناءً على أنّ المقصود من «لا» هو النّهي فالمعنى أنّ ايراد الضرر والضرار حرام ومنهي عنه ، وهذا مطلق يشمل الاضرار بالغير وبالنفس.

ب : بناءً على أنّ المقصود من «لا» هو النفي ، أي نفي الحكم الضرري (٢) وعلى أنّ «الاباحة» حكم شرعي فإذا استلزم الضّرر يكون حكماً ضرريّاً ، فينتفي هذا الحكم ويثبت المقابل وهو الحرمة للقطع بانتفاء الثلاثة الأُخر : الكراهة والوجوب والاستحباب.

__________________

(١) تفسير الميزان : ٥ / ٧٤.

(٢) الاستدلال بالوجه الثاني ثمّ على مختار الشيخ الأنصاري من أنّ المنفي ، هو الحكم الضرري لا على مختار شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظله ـ كما مرّ في الرسالة.

١٨١

وأمّا إذا قلنا بأنّ الاباحة ليس حكماً ضرريّاً فلا يتم المقصود ، كما قال بذلك الشيخ الأعظم حيث قال : «فإنّ اباحته (أي الاضرار بالنفس) بل طلبه على وجه الاستحباب ليس حكماً ضرريّاً ولا يلزم من جعله ضرر على المكلّفين». (١)

يلاحظ عليه : بأنّ الضرر على هذا وصف للحكم ، فإذا كانت الاباحة حكماً شرعيّاً ـ حسب الفرض ـ تكون صفحة التشريع مشتملة على الحكم الضرريّ ، وهو ينافي نفيه عنها.

هذا وقد أنكر المحقّق الخوئي استفادة المقصود من حديث لا ضرر بقوله : «لا يستفاد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ضرر» حرمة الاضرار بالغير ولا حرمة الاضرار بالنفس ، وإن كان الأوّل ثابتاً بالأدلّة الخاصّة ، بل يمكن استفادته من الفقرة الثانية في نفس هذا الحديث ....

ـ إلى أن قال : ـ وأمّا الثاني وهو الاضرار بالنفس فلا يستفاد حرمته من الفقرة الثانية أيضاً ، لأنّ الضّرار وغيره ممّا هو من هذا الباب كالقتال والجدال لا يصدق إلّا مع الغير لا مع النفس». (٢)

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ الفقرة الأُولى «لا ضرر» كافية في اثبات المطلوب فهي تدلّ على حرمة الاضرار بالغير كما تدلّ على حرمة الاضرار بالنّفس وذلك لأنّ مبنى الاستدلال هو أنّ المنفي هو الحكم الضرري فإذا لم يكن الاضرار بالغير أو بالنفس حراماً لكان مباحاً. ولكنّ إباحة الاضرار يكون حكماً ضرريّاً حينئذ ، وقاعدة لا ضرر ناظرة إلى نفي الأحكام الضررية في عالم التشريع ـ على الفرض ـ إذن فالاضرار بالغير أو بالنفس محرّم بناءً على القاعدة.

نعم لو قلنا بعدم كون الإباحة حكماً ضرريّاً لكان كلامه صحيحاً.

__________________

(١) المكاسب : ٣٧٣ رسالة قاعدة نفي الضرر.

(٢) مصباح الأُصول : ٢ / ٥٣٣ و ٥٣٤.

١٨٢

وثانياً : أنّ قوله : بأنّ الفقرة الثانية «لا ضرار» لا تدلّ إلّا على تحريم الاضرار بالغير ، مبنيّ على أنّ الضرار من باب المفاعلة وانّ هيئة المفاعلة ، وضعت لقيام الفعل بالاثنين وقد مرّ الكلام فيه وأنّه غير ثابت ، ولأجل ذلك قال بعضهم بأنّ الضرار بمعنى الضّرر أيضاً وأتى به تأكيداً له ، لأنّه مصدر للفعل المجرّد كالقيام.

وبناءً على هذا المبنى الأخير تكون الفقرة الثانية كالأُولى ، وعليه فكما تشمل حرمة الاضرار بالغير تشمل حرمة الاضرار بالنّفس أيضاً.

الطائفة الثانية : في مورد الافطار لأجل المرض :

وهي ما تدلّ على وجوب الافطار بالنسبة إلى المريض الذي يتضرّر من الصوم ، منها :

١ ـ قال الصدوق : «وقال (عليه‌السلام) : كلّما أضرّ به الصوم فالافطار له واجب». (١)

٢ ـ روى الشيخ باسناده عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه‌السلام) قال : سألته عن حدّ ما يجب على المريض ترك الصوم ، قال : «كلّ شيء من المرض أضرّ به الصوم فهو يسعه ترك الصّوم». (٢)

٣ ـ عن فقه الرضا (عليه‌السلام) : «لا يجوز للمريض والمسافر الصيام فإن صاما كانا عاصيين وعليهما القضاء». (٣)

هذه الأحاديث تدلّ على حرمة تحمّل الضرر بالنسبة إلى المريض وعلى الأقل تشعر بذلك.

__________________

(١) الوسائل : ٧ / ١٥٦ ح ١٣٢٦٥.

(٢) المصدر : ١٥٨ ح ١٣٢٧٣.

(٣) مستدرك الوسائل : ج ٧ ، كتاب الصوم ، الباب ١٥ من أبواب من يصحّ منه الصوم ، الحديث ١٠.

١٨٣

وربما يناقش في ذلك ويقال : بأنّ ملاحظة مجرّد هذه الأحاديث وإن كانت ربّما توجب استشعار الحرمة لمطلق ما كان مضرّاً إلّا أنّ الرجوع إلى سائر الأدلّة من الرّوايات بل الآية المباركة يرفع هذا الاستشعار والاستدلال فإنّها تدلّ على أنّ سرّ حرمة الصيام على المرضى هو أنّ الله تعالى قد أهدى إلى عباده المرضى والمسافرين هديّة الافطار ... فإذا صام المريض ردّ هدية الله تعالى ردّاً عمليّاً فكان صيامه بما أنّه ردّ لهديّة الله معصية وكان الافطار له واجباً ، وعليه فليس ايجاب الافطار للمريض إذا أضرّ به الصيام دليلاً على حرمة ايراد الضرر بالنفس بل ايجاب الافطار على المريض كايجابه على المسافر من باب واحد.

يلاحظ عليه : صحيح أنّ الظاهر من الآية وصريح الحديث هو أنّ حكم الافطار للمسافر والمريض هديّة وامتنان وصدقة من الله إلى العباد ، إلّا انّنا نعلم بأنّ أحكام الله سبحانه على العموم ومنها امتناناته ليست اعتباطيّة ، بل ناشئة عن حكمة الهيّة بالغة ترتبط بجلب المنافع والمصالح للعباد أو دفع المضارّ والمفاسد عنهم. وهذه الحكمة تارة تكون تعبّدية لا يفهمها البشر وعليه أن يتعبّد بها ، وتارة تكون واضحة للإنسان بايحاء عقله أو باشارة النصوص إلى وجهها.

وما نحن فيه من القسم الأخير فإنّ الله سبحانه رفع وجوب الصّوم عن المريض والمسافر لما يلاقيان عادة ونوعاً من الحرج والضّرر والمشقّة بسببه فامتنّ الله عليهما برفع هذا الوجوب وقد أشار سبحانه إلى وجه العلّة أو الحكمة لهذا الحكم في نفس الآية بقوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (١) ، ولو لا أنّ في تحمّل الحرج والضرر حزازة ومفسدة لا يرتضيها الله سبحانه للإنسان لما صدر ذلك الامتنان منه برفع وجوب الصوم عن المسافر والمريض ، وخاصّة بالنسبة إلى الأخير ، فانّ المسافر وجب عليه الافطار لصرف عذر السفر وإن لم يكن سفره حرجياً وموجباً للعسر ، ولكنّ المريض الذي جاز له الافطار بل وجب عليه هو خصوص المتضرّر منه ، وأمّا القادر على الصّوم أي الذي لا يوجب الصوم فيه شدّة أو طول

__________________

(١) البقرة / ١٨٥.

١٨٤

برء فلا يجوز له الافطار كما تدلّ عليه النصوص الشّرعية وفتاوى الفقهاء.

فمن النصوص ما روي عن يونس عن سماعة قال : سألته ما حدّ المرض الذي يجب على صاحبه فيه الافطار كما يجب عليه في السفر من كان مريضاً أو على سفر؟ قال : «هو مؤتمن عليه مفوّض إليه فإن وجد ضعفاً فليفطر وإن وجد قوّة فليصمه كان المرض ما كان». (١) ومثل ذلك بقية أحاديث هذا الباب فراجع ، وأمّا فتاوى الفقهاء فقد مرّ جملة منها.

منها : قال الشيخ الطوسي : «وحدّ المرض الذي يجب معه الافطار إذا علم الإنسان من نفسه أنّه إن صام زاد في ذلك في مرضه أو أضرّ به ...». (٢)

وقال المحقّق في المعتبر : «والمريض لا يصحّ صومه مع التضرّر لقوله (عليه‌السلام) «لا ضرر ولا ضرار» ولو تكلّفه لم يصحّ ، لأنّه منهيّ عنه ، والنهي يدل على فساد المنهيّ في العبادات ويجب عليه لو لم يتضرّر ، والانسان على نفسه بصيرة». (٣)

وصريح عبارة المحقّق أنّ المدرك لعدم صحّة صوم المريض هو قاعدة نفي الضرر وإنّ مفاد القاعدة هو النهي عن الاضرار بالنفس ولذلك يكون الصوم المضرّ حراماً.

فالحاصل أنّ الملاك في وجوب الافطار على المريض هو الضرر ، وقياسه على المسافر من هذه الجهة قياس مع الفارق. ويستكشف من هذا كلّه أنّ وجوب الافطار يشعر على الأقلّ بحرمة الاضرار بالنفس ، ولا منافاة بين هذا الاشعار وبين كون صوم المريض يعتبر ردّاً لهديّة الله وصدقته ، فانّهما متلازمان أو كالمتلازمين في الوجود ، ولا مانع من أن يكون في حكم واحد ملاكان ، كلّ يكفي في إيجاب الحكم إذا توحّدا.

__________________

(١) الوسائل : ج ٧ ، باب ٢٠ من أبواب من يصحّ منه الصوم ، ح ٤.

(٢) النهاية : ١٥٨.

(٣) المعتبر : ٢ / ٦٨٥ ، وراجع : الشرائع : ١ / ١٥٥ والمختصر : ٧١.

١٨٥

الطائفة الثالثة : ما يدلّ على لزوم التيمّم عند خوف الضرر :

منها : ما روي عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر ، عن الرضا (عليه‌السلام) : في الرجل تصيبه الجنابة وبه قروح أو جروح أو يكون يخاف على نفسه من البرد فقال : «لا يغتسل ويتيمّم». (١)

كيفية الاستدلال بهذا الحديث كما يلي :

إنّ الإمام (عليه‌السلام) نهى من به قروح أو جروح أو يخاف على نفسه من البرد أن يغتسل إمّا بجملة انشائية إذا قلنا بأن ال ـ «لا» ناهية ، أو خبرية بناء على أنّها نافية ، فانّه قد ثبت في علم الأُصول أنّ الأمر أو النهي بالجمل الخبريّة أبلغ منهما في الجمل الانشائية ، ولا شكّ أنّ النهي عن الشّيء يوجب حرمة استعماله تكليفيّاً كما يقتضي فساده وضعيّاً فينتج من ذلك أنّ الاضرار بالنفس حرام ، وعلى هذا الأساس نرى أساطين الفقه أفتوا بحرمة استعمال الماء إذا كان مضرّاً.

فقد قال صاحب الجواهر : «وكيف كان فمتى تضرّر لم يجز استعمال الماء ، فإن استعمل لم يجز لانتقال فرضه فلا أمر بالوضوء مثلاً بل هو منهيّ عنه فيفسد ، وما في بعض أخبار الجروح والقروح «أنّه لا بأس عليه بأن يتمّم» ممّا يشعر بالرّخصة لا الوجوب لا يراد منه ظاهره قطعاً ، كما يوضحه مضافاً إلى العقل الاخبار الأُخر ، وكذا كلّ ما كان كذلك من أسباب التيمّم ممّا يفيد تحريم العمل نفسه ، لا ما كان منها ليس فيه تحريم للعمل نفسه ، كالخوف من اللص ونحوه ، فانّه لو خالف وغرّر بنفسه فوجد الماء عاد فرض الماء وإن فعل حراماً في ذلك لتحقّق الوجدان حينئذ عليه ...». (٢)

__________________

(١) الوسائل : ج ١ ، كتاب الطهارة ، الباب ٢ من أبواب التيمّم ، الحديث ٧.

(٢) الجواهر : ٥ / ١١١.

١٨٦

الطائفة الرابعة : ما يرتبط بالأطعمة والأشربة :

وهي مجموعة روايات كثيرة ، نقتطف عدّة منها :

١ ـ ما روي عن مفضّل بن عمر أنّه قال : قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : أخبرني جعلني الله فداك ، لم حرّم الله الخمر والميتة والدّم ولحم الخنزير؟ قال : «إنّ الله تبارك وتعالى لم يحرّم ذلك على عباده وأحلّ لهم ما سواه من رغبة منه فيما حرّم عليهم ولا زهداً فيما أحلّ لهم ، ولكنّه خلق الخلق فعلم ما تقوم به أبدانهم وما يصلحهم فأحلّه لهم وأباحه تفضّلاً منه عليهم به لمصلحتهم وعلم ما يضرّهم فنهاهم عنه وحرّم عليهم ... ـ ثمّ قال : ـ أمّا الميتة فانّه لا يدمنها (لم ينل منها ـ خل) أحد إلّا ضعف بدنه (ونحل جسمه) وذهبت قوّته وانقطع نسله ولا يموت آكل الميتة إلا فجأة ...» (١).

٢ ـ مثل هذا الحديث ما رواه الأمالي بسند معتبر عن محمّد بن عذافر عن أبيه قال : قلت لأبي جعفر (٢) (عليه‌السلام) الخ. وتقريب الاستدلال به على المقصود كما يلي :

إنّ الإمام (عليه‌السلام) في هذا الحديث أعطى ضابطة كلّية للسّائل وهي : أنّ كلّ ما كان مضرّاً للعباد ، منهيّ عنه ومحرّم عليهم ، وأنّ الميتة والخمر والدم ولحم الخنزير لم تكن محرّمة إلّا لأنّها مصاديق لتلك الكبرى. فالمتفاهم العرفي من الحديث هو : أنّ تناول المضرّ أيّاً كان تمام الموضوع للحرمة ، فالحرمة تدور مدار الضرر وإن كانت في لسان النصوص تتعلّق بالمصاديق كالميتة وغيرها.

__________________

(١) الوسائل : ج ١٦ ، باب ١ من أبواب الأطعمة المحرّمة ، ح ١ ، وأيضاً : الفروع : ٢ / ١٥٠ والفقيه : ٢ / ١١١ والأمالي : ٣٩٥ والعلل : ١٦٥ والمحاسن : ٣٣٤ ، وتفسير العياشي : ١ / ١٩١ والتهذيب : ٢ / ٣٧٠.

(٢) نفس المصادر الآنفة.

١٨٧

ويستفاد من هذا البيان حرمة الاضرار بالبدن والنفس بصورة مطلقة وإن لم يبلغ مستوى اتلاف النفس.

هذا ، ولكنّ المحقّق الخوئي (قدس‌سره) أنكر دلالة الرواية على المقصود وقال :

«ولكنّ التأمّل فيها يشهد بعدم دلالتها على حرمة الاضرار بالنفس فانّ المستفاد منها أنّ الحكمة في تحريم جملة من الأشياء كونها مضرّة بنوعها ، لا أنّ الضرر موضوع للتحريم. والذي يدلنا على هذا أُمور :

الأوّل : إنّ الضرر لو كان علّة للتحريم يستفاد عدم حرمة الميتة من نفس هذه الرواية ، لأنّ المذكور فيها ترتّب الضّرر على إدمانها ، فلزم عدم حرمة الميتة من غير ادمان ، لأنّ العلّة المنصوصة كما توجب توسعة الحكم توجب تضييقه أيضاً ، فإذا ورد أنّ الخمر حرام لكونه مسكراً ، فالتعليل المذكور كما يدلّ على حرمة غير الخمر من المسكرات ، يدلّ على عدم حرمة الخمر إن لم يكن فيه سكر. وهذا من حيث القاعدة مع قطع النظر عن النصّ الخاص الدالّ على حرمة الخمر قليله وكثيره.

الثاني : انّه لو كان الضرر علّة للتحريم كانت الحرمة دائرة مدار الضرر ، فإذا انتفى الضرر في مورد انتفت الحرمة. ولازم ذلك أن لا يحرم قليل من الميتة مثلاً بمقدار نقطع بعدم ترتّب الضّرر عليه ، مع أنّ ذلك خلاف الضّرورة من الدّين.

الثالث : أنّا نقطع بعدم كون الميتة بجميع أقسامها مضرّة للبدن فإذا ذبح حيوان إلى غير جهة القبلة ، فهل يحتمل أن يكون مضرّاً بالبدن مع التعمّد في ذبحه إلى غير جهة القبلة ، وغير مضرّ مع عدم التعمّد في ذلك ، أو يحتمل أن يكون مضرّاً في حال التمكّن من الاستقبال وغير مضرّ في حال العجز عنه.

١٨٨

الرابع : ما ورد في الرّوايات من ترتّب الضّرر على أكل جملة من الأشياء ، كتناول الجبن في النّهار وادمان أكل السمك وأكل التفّاح الحامض إلى غير ذلك ممّا ورد في الأطعمة والأشربة ، ... مع أنّه لا خلاف ولا إشكال في جواز أكلها». (١)

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ الحديث في بعض النسخ وفي الاختصاص ورد كالتالي :

«... لا يدنو منها أحد ولا يأكل إلّا ضعف بدنه ...» (٢) فيعم المدمن وغيره.

ثانياً : افترضنا أنّ اضرار الميتة مختصّ بصورة الادمان وعليه فتكون الحرمة الناشئة من الضّرر مختصّة بهذه الصورة ، ولكنّه لا يأبى أن يكون مطلق أكل الميتة حراماً لملاك آخر وإن لم نقف عليه. وبعبارة أُخرى : انّ غاية ما تدلّ عليه الرواية هو جواز أكل الميتة بصورة غير الادمان وهذا ليس بأزيد من دلالة مفهومية يجوز رفع اليد عنها بما دلّ على حرمة أكل مطلق الميتة.

ثالثاً : الظاهر أنّ الميتة الواردة في الرواية هي الميتة العرفيّة أي ما مات حتف أنفه ، فهذا هو محور البحث ، وأمّا مطلق غير المذكّى فليس ميتة لغة وعرفاً ، وإن كان محكوماً بحكم الميتة أي الحرمة. ولأجل ذلك ذهب هو (قدس‌سره) إلى عدم نجاسة ما لم يذبح بغير التسمية والاستقبال وإن كان حراماً.

رابعاً : من أين يحصل العلم بعدم الضرر في أكل لحم الحيوان غير المذبوح على جهة القبلة؟ وخاصة أنّ الضرر لا ينحصر بالضرر الجسمي بل يشمل المعنوي ومن المحتمل انّ في ترك استقبال القبلة عند الذبح اضراراً معنويّة ، ولا يبعد حرمة ذلك اللحم لهذا الضّرر المعنوي.

خامساً : لما ذا لا يستكشف من عدم حرمة تناول الجبن في النّهار وادمان أكل السمك وأكل التّفاح الحامض ، أنّ الضرر المترتب عليها ليس كثيراً بحيث يوجب

__________________

(١) مصباح الأُصول : ٢ / ٥٤٩ و ٥٥٠.

(٢) الاختصاص للشيخ المفيد : ١٠٣.

١٨٩

حرمتها ، لأنّ أدلّة حرمة استعمال المضرّات منصرفة عن الاضرار اليسيرة كما قلنا ، وغاية ما يمكن أن يحكم عليها بالكراهة كما لا يبعد القول بحمل النهي الوارد عن مثل تناول الجبن على ذلك.

وعلى أيّ حال أنّ دلالة الحديث على المقصود قويّة ويمكن دفع الايرادات الواردة عليها ، ولكن هناك مناقشة أُخرى حول الحديث من حيث سنده فقد يقال : إنّ الراوي عن المعصوم (عليه‌السلام) في اسناد الصدوق في كتبه الثلاثة هو عذافر أبو محمّد بن عذافر وهو عذافر بن عيسى أو ابن عيثم الخزاعي الصيرفي الكوفي عدّ من أصحاب أبي عبد الله الصادق (عليه‌السلام) إلّا أنّه لم يذكر بمدح ولا ذمّ ، وفي بعض اسناد علل الشرائع رواه عذافر عن بعض رجاله فيشتمل على ارسال مثل المروي عن تفسير العياشي. كما أنّ في سند الكافي مجاهيل أو ضعف أو ارسال ونحوه سند المحاسن والتهذيب.

وبالجملة ، فالحديث وإن ورد في كتب متعدّدة إلّا أنّ سنده إمّا يرجع إلى ابن عذافر عن أبيه أو بعض رجاله وإمّا إلى مفضّل بن عمر وكلا السندين ولا سيّما الثاني منهما مخدوش.

ولكن يمكن دفع هذا الاشكال بهذا البيان :

انّ التحقيق في ملاك حجيّة خبر الواحد هو كون الخبر موثوق الصدور ، لا كون الراوي ثقة ، ولو قيل بحجية رواية الثقة ، فلأجل أنّ وثاقته موجبة للوثوق بالصدور ، وعلى ضوء ذلك فلو كانت هناك قرائن مورثة للوثوق بالصدور يكفي ذلك في جواز العمل ، وذلك لأنّ الرواية المذكورة وردت في الكتب المعتبرة بعدّة طرق بعضها مرسلة وبعضها مسندة. أمّا المرسلة فقد وردت بسبع طرق ، أحدها ينتهي إلى محمّد بن عذافر عن بعض رجاله عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (١) وستّة منها

__________________

(١) الوسائل : ١٦ / ٣٧٧ ، العلل : ٤٨٤.

١٩٠

تنتهي إلى محمّد بن عبد الله عن بعض أصحابه أو عن رجل عن أبي عبد الله. (١)

وأمّا نقلها مسندة فقد ورد من طريقين أحدهما ينتهي إلى عذافر والآخر إلى مفضّل بن عمر.

وعذافر وهو ابن عيسى الخزاعي الصيرفي روى عن أبي جعفر (عليه‌السلام) ، كوفي من أصحاب الصّادق. (٢)

والظاهر من كتب الرجال انّه لم يرد فيه مدح أو ذمّ ، لكن الظاهر من المجلسي الأوّل كونه ممدوحاً قال : (وروى محمد بن عذافر) في الصحيح (عن أبيه) الممدوح ورواه الشيخان في القوي عن بعض أصحابنا كالمصنّف أيضاً والكليني في القويّ عن المفضّل بن عمر عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) وعذافر (عن أبي جعفر (عليه‌السلام) الخ). (٣)

مضافاً إلى ذلك فانّ هناك قرائن كثيرة إذا ضممنا بعضها إلى بعض يحصل الاطمئنان العرفي بوثوق روايته والقرائن هي :

١ ـ إنّ رجال الطرق المنتهية إلى عذافر هم :

الشيخ الصدوق وأبوه ، ومحمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد ، ومحمّد بن الحسن الصفّار ، ومحمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب ، ومحمّد بن إسماعيل بن بزيع ، وسعد بن عبد الله ، وأحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري ، وإبراهيم بن هاشم القمّي ، ومحمّد بن عذافر. وهؤلاء كلّهم ثقات وجلّهم من وجوه الأصحاب وعيونهم وأجلّائهم (٤) ، ممّن يسكن إلى روايتهم ويبعد منهم أن ينقلوا حديثاً غير معتبر.

__________________

(١) راجع : فروع الكافي : ٦ / ٢٤٢ ، والتهذيب : ٩ / ١٢٨ ، والمحاسن : ١ / ٣٣٥ ومستدرك الوسائل : ١٦ / ١٦٣.

(٢) راجع : معجم رجال الحديث : ١١ / ١٣٥ و ١٣٦ وقاموس الرجال : ٦ / ٢٩٥.

(٣) روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه : ٧ / ٤٨٢.

(٤) راجع : معجم رجال الحديث : ١٥ / ٢٠٦ ، ٢٠٧ ، ٢٤٨ ، ٢٩١ ، ٩٥ ، ٩٧ ، وج ٨ / ٧٤ و ٧٥ وج ٢ / ٢٩٦ وج ١ / ٣١٦ ، ٣١٧ وج ١٦ / ٢٨٠.

١٩١

٢ ـ نقل هذا الحديث بطرق قويّة ويعتمد عليها إمّا مسندة وإمّا مرسلة في كتب الشيعة المعتبرة أمثال الفروع للكليني وتفسير العيّاشي ، ومحاسن البرقي وعلل الشيخ الصدوق ، واختصاص الشيخ المفيد ، وتهذيب الشيخ الطوسي.

٣ ـ وجود نفس الرّواية بطرق أُخرى منتهية إلى مفضّل بن عمر الذي سيأتي الكلام عن اعتباره ووثوقه.

٤ ـ اتقان متن الحديث وورود مضمونه في كثير من الرّوايات الأُخرى التي سنذكر بعضاً منها في هذا الباب.

فهذه القرائن حتّى لو نوقش في كلّ واحدة منها على حدة إلّا أنّ المجموع يفيد علماً واطمئناناً بصحّة الرّواية.

هذا كلّه حول عذافر وروايته وأمّا مفضّل بن عمر فقد وردت روايته من ثلاث طرق أغلب رجال أسنادها ثقات وهم أحمد بن محمّد بن خالد ومحمّد بن مسلم ومحمّد بن أسلم ، وعبد الرحمن بن سالم.

«ومفضّل بن عمر أبو عبد الله الجعفي رجل قد اختلفت فيه علماء الرجال. فقد عدّه الشيخ المفيد من خاصّة أبي عبد الله (عليه‌السلام) وبطانتة وثقاته الفقهاء الصّالحين ، وعدّه الشيخ من الممدوحين وعدّه ابن شهرآشوب من خواصّ الإمام الصادق (عليه‌السلام) من الثقات الذين رووا النصّ على موسى بن جعفر (عليه‌السلام) من أبيه.

وقد روى الكشي في شأن المفضّل عدّة روايات منها مادحة ومنها ذامّة وقد ضعّفه ابن الغضائري ... وقال النجاشي : وقيل إنّه كان خطّابيّاً.

والمحقّق الخوئي بعد أن نقل هذه المطالب ، قال : «إنّ نسبة التفويض والخطابيّة إلى المفضّل بن عمر لم تثبت وما تقدّم من الروايات الواردة في ذمّه فلا يتعدّ بما هو ضعيف السند منها ، نعم انّ ثلاث روايات ، منها تامّة السند ، إلّا أنّه لا بدّ من ردّ علمها إلى أهلها فانّها لا تقاوم ما تقدّم من الروايات الكثيرة المتضافرة التي لا يبعد دعوى العلم بصدورها من المعصومين إجمالاً على أنّ فيها ما

١٩٢

هو الصحيح سنداً ، فلا بدّ من حملها على ما حملنا عليه ما ورد من الروايات في ذمّ زرارة ومحمّد بن مسلم ، ويزيد بن معاوية واضرابهم ... ويكفي في جلالة المفضّل تخصيص الإمام الصادق (عليه‌السلام) إيّاه بكتابه المعروف بتوحيد المفضّل ... والنتيجة انّ المفضّل بن عمر جليل ، ثقة والله أعلم ...». (١)

ومال المحقّق التستري أيضاً إلى توثيقه وقال :

«وتبيّن ممّا تقدم اختلاف الأقوال والأخبار فيه فقد عرفت قول المفيد في إرشاده بجلالته وكذا في الاختصاص على خبره وكذلك الشيخ في غيبته ... كما عرفت قول الغضائري بضعفه وتبعه النجاشي ، والظاهر انّ منشأ طعن الغضائري فيه حمل الغلاة في حديثه حملاً عظيماً كما اعترف به نفسه وكما عرفت من الكشي من قوله : «وذكرت الطيارة الغالية في بعض كتبه عن المفضّل» الخ ـ وزاد الشبهة فيه والتهمة له افتراء العامّة عليه ، شأنهم مع أجلّة الشيعة ....

ثمّ الروايات عن الصادق (عليه‌السلام) وإن كانت مختلفة إلّا أنّها عن الكاظم متّفقة في مدحه وكذا ترحم الرضا (عليه‌السلام) عليه. وكتابه المعروف بتوحيد المفضّل الذي عبر عنه النجاشي بقوله : «كتاب فكر» أقوى شاهد عملي على استقامته فانّه يقهر كل ملحد على أن يكون موحّداً وبالجملة الحقّ كون مدحه محقّقاً وقدحه غير محقّق». (٢)

الحاصل أنّ مفضّل بن عمر كما تبيّن من خلال تحقيقات هذين العَلَمين رجل ثقة يعتمد على قوله ، ولو تنزّلنا عن ذلك وانتهجنا منهج من لا يقول بتوثيقه ، فمع ذلك نقول باعتبار الرواية المنقولة عنه لوجود أكثر القرائن الّتي مرّت الاشارة إليها في الرواية المنقولة عن عذافر ، في رواية مفضّل بن عمر.

* * *

__________________

(١) معجم رجال الحديث : ١٨ / ٢٩٢ ـ ٣٠٤.

(٢) قاموس الرجال : ٩ / ١٠٢ ـ ١٠٤.

١٩٣

٣ ـ الحسن بن عليّ بن شعبة في كتاب «تحف العقول» عن الصادق (عليه‌السلام) قال : وأمّا ما يحلّ للإنسان أكله ممّا أخرجت الأرض فثلاثة صنوف من الأغذية ... ـ إلى أن قال : ـ وكلّ شيء يكون فيه المضرّة على الإنسان في بدنه وقوّته فحرام أكله إلّا في حال الضّرورة ... والصنف الثاني ... وما كان فيه المضرّة على الإنسان في أكله فحرام أكله ...». (١)

كيفيّة الاستدلال بهذا الحديث كما مرّ في الحديثين الآنفين.

٤ ـ عن فقه الرّضا (عليه‌السلام) : «اعلم ـ يرحمك الله ـ إنّ الله تبارك وتعالى ، لم يبح أكلاً ولا شرباً إلّا لما فيه المنفعة والصّلاح ، ولم يحرّم إلّا ما فيه الضّرر والتلف والفساد ، فكلّ نافع مقوّ للجسم فيه قوّة للبدن فحلال ، وكلّ مضرّ يذهب بالقوّة فحرام ...». (٢)

ودلالة هذا الحديث على المقصود أوضح ممّا سبق ففيه تصريح بتلك الضابطة الكلّية التي مرّ الكلام حولها. إلّا أنّ الكلام المهمّ يتعلّق باعتبار هذا الكتاب وقد مرّ الحديث حول ذلك فلا نعيد.

وعلى فرض انّ الكتاب ليس كتاباً حديثيّاً بل كتاب فتوى ، فلا يضر بالمقصود وذلك لأنّ كتب فتاوى الفقهاء القدماء أمثال الشيخ الصدوق وأبيه كانت نفس عبارات الأحاديث مع حذف أسانيدها على الأغلب ، فغاية ما تكون تلك الفتاوى أحاديث مرسلة وحيث إنّ الأحاديث حول المسألة متضافرة فلا حاجة إلى الفحص السندي ولا يضرّ الإرسال.

٥ ـ وفي العلل عن الرضا (عليه‌السلام) قال : «إنّا وجدنا انّ ما أحل الله ففيه صلاح العباد وبقاؤهم ولهم إليه الحاجة ووجدنا المحرّم من الأشياء لا حاجة

__________________

(١) تحف العقول : ٣٣٧ ، والوسائل ج ١٧ ، الباب ٤٢ من أبواب الأطعمة المباحة ، ح ١.

(٢) فقه الرضا (عليه‌السلام) : ٣٤ من موسوعة الينابيع الفقهية ، ومستدرك الوسائل ، ج ١٦ ، الباب ١ من أبواب الأطعمة المحرّمة ، الحديث ٥.

١٩٤

بالعباد إليه ووجدناه مفسداً ...». (١)

٦ ـ ما رواه في العيون عن محمّد بن سنان عن الرّضا (عليه‌السلام) فيما كتبه إليه : «وحرّم الميتة لما فيها من فساد الأبدان والآفة ـ إلى أن قال : ـ وحرّم الدّم كتحريم الميتة لما فيها من فساد الأبدان». (٢)

٧ ـ ما رواه أيضاً في باب تحريم جميع السباع من كلّ ذي ناب ومخلب من حديث الأربعمائة عن علي (عليه‌السلام) : «ولا تأكلوا الطّحال فانّه ينبت الدم الفاسد». (٣)

٨ ـ أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي في الاحتجاج عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : «انّ زنديقاً قال له : لم حرّم الله الدّم المسفوح قال : لأنّه يورث القساوة ويسلب الفؤاد الرّحمة ويعفّن البدن ويغيّر اللّون وأكثر ما يصيب الإنسان الجذام يكون من أكل الدم قال : فأكل الغدد قال : يورث الجذم. قال : فالميتة لم حرّمها قال : فرقاً بينها وما ذكر اسم الله عليها والميتة قد جمد فيها الدم وترجع إلى بدنها فلحمها ثقيل غير مرئي لأنّها يؤكل لحمها بدمها ...». (٤)

٩ ـ عن مسمع عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) : إذا اشترى أحدكم اللحم فليخرج منه الغدد فانّه يحرّك عرق الجذام. ورواه الصّدوق في العلل ، ورواه البرقي في المحاسن». (٥)

١٠ ـ الحسين بن بسطام في طبّ الأئمّة (عليهم‌السلام) عن محمّد بن جعفر النرسي عن محمّد بن يحيى الأرمني عن محمّد بن سنان عن المفضّل بن عمر عن أبي

__________________

(١) الوسائل : ج ١٧ ، الباب ١٩ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث ٤.

(٢) المصدر نفسه : ١٦ / ٣١١.

(٣) المصدر نفسه : ٣٢٢.

(٤) المصدر نفسه : ٣١٢.

(٥) المصدر نفسه : ٣٦١.

١٩٥

عبد الله (عليه‌السلام) عن آبائه عن علي (عليه‌السلام) عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إيّاكم وأكل الغدد فانّه يحرّك الجذام وقال : عوفيت اليهود لتركهم الغدد». (١)

١١ ـ في العلل ومعاني الأخبار بأسانيده عن محمّد بن سنان عن الرضا (عليه‌السلام) في حديث العلل التي كتبها إليه : «وحرّم الطحال لما فيه من الدم ولأنّ علّته وعلة الدم والميتة واحدة لأنّه يجري مجراها في الفساد». (٢)

١٢ ـ عن ابن أبي زياد عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «وأكثر مكايد الشيطان أكل الطين. إنّ الطين يورث السقم في الجسد ويهيّج الدّاء ومن أكل الطين فضعف عن قوّته الّتي كانت قبل أن يأكله وضعف عن العمل الّذي كان يعمله قبل أن يأكله حوسب على ما بين ضعفه وقوّته وعذّب عليه». (٣)

فهذه الأحاديث كلّها تشير إلى أنّ الميتة والدم والطّحال والطين والغدد لم تحرّم إلّا لأنّها مصاديق لتلك الضابطة الكلّية وهي حرمة كلّ ما كان مضرّاً لبدن الإنسان ويستفاد من مجموعها بصورة قطعية حرمة الإضرار بالنّفس مطلقاً.

الطائفة الخامسة : ما ترتبط بالعلاقات الاجتماعيّة :

منها : ما عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «إنّ الجار كالنّفس غير مضارّ ولا آثم ، ورواه الشيخ باسناده عن أحمد بن محمّد مثله». (٤)

ففي هذا الحديث نهى عن الاضرار بالجار بجملة خبريّة ودلالتها على التحريم واضحة ، وشبّه هذا التحريم بتحريم الاضرار بالنّفس وجعل المشبّه به

__________________

(١) الوسائل : ج ١٧ ، الباب ١٩ من أبواب الأطعمة المباحة ، ص ٣٦٢.

(٢) المصدر نفسه : ٣٧٩.

(٣) المصدر نفسه : ٣٩٢.

(٤) المصدر نفسه : باب ١٢ من أبواب احياء الموات ، الحديث ٢ ، وأيضاً : الفروع : ٥ / ٢٩٢ ح ١ من باب الضرار ، والتهذيب : ٧ / ١٤٦ ح ٣٥.

١٩٦

أمراً مفروغاً عنه ، أي كما أنّ الإنسان لا يجوز له الإثم ولا الاضرار بالنّفس فكذلك لا يجوز له أن يضرّ جاره وأن يأثم به.

والمقصود من الجار هنا ليس الذي يكون بيته في جوار بيت الإنسان ، بل هو الذي يجيره المسلم ويعطيه الأمان في زمان الحرب. لأنّ هذه الفقرة من الحديث الذي جاء فيه «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار ومن لحق بهم من أهل يثرب إنّ كلّ غازية غزت بما يعقّب بعضها بعضاً بالمعروف والقسط بين المسلمين فانّه لا يجوز حرب إلّا باذن أهلها وانّ الجار كالنفس غير مضار ...».

والتفسير الذي قدّمناه للحديث هو ما يتبادر إلى الذّهن العرفي ، خاصّة مع ملاحظة ما بعده وما قبله من الفقرات. وما قلناه ينسجم مع التفسير الذي ذكره العلّامة المجلسي حيث قال : «قوله : «غير مضارّ» إمّا حال من المجير على صيغة الفاعل أي يجب أن يكون المجير غير مضارّ ولا آثم في حقّ المجار ، أو حال من المجار فيحتمل بناء المفعول أيضاً». (١)

وأمّا ما ذكره المحقّق الخوئي في تفسيره بقوله : «المستفاد منها انّ الجار بمنزلة النّفس ، فكما انّ الإنسان بطبعه لا يقدم على ضرر نفسه ولا يظهر عيوبه فليكن هكذا حاله مع جاره». (٢) ، فهو خلاف الظاهر ويحتاج إلى تكلّف ومئونة زائدة لا تستفاد من ظاهر الكلام مضافاً إلى أنّه لا ينسجم مع سياق الحديث الذي ذكرناه وينسجم مع الجار بمعنى الذي يحل بجوار دار الانسان أكثر ممّا يدلّ عليه الحديث.

الطائفة السّادسة : ما ترتبط بالاضرار بالبدن :

١ ـ روى الكليني باسناده عن إسحاق بن عبد العزيز قال : «سئل أبو عبد

__________________

(١) مرآة العقول : ١٨ / ٣٥٩.

(٢) دراسات الأُستاذ المحقّق الخوئي ، تأليف السيد علي الحسيني الشاهرودي : ٣ / ٣٤٠.

١٩٧

الله (عليه‌السلام) عن التّدلّك بالدّقيق بعد النّورة فقال : لا بأس به ، قلت : يزعمون انّه إسراف ، فقال : ليس فيما أصلح البدن اسراف ، وانّي ربّما أمرت بالنقي فيلثّ لي بالزّيت فاتدلّك به ، إنّما الإسراف فيما أتلف المال وأضرّ بالبدن». (١)

٢ ـ وباسناده عن أبان بن تغلب قال : قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : انّا لنسافر ولا يكون معنا نخالة فندلّك بالدّقيق؟ فقال : «لا بأس إنّما الفساد فيما أضرّ بالبدن وأتلف المال ، فأمّا ما أصلح البدن فانّه ليس بفساد ، إنّي ربما أمرت غلامي فلتّ لي النقيّ بالزيت فاتدلّك به». (٢)

دلالة هذين الحديثين على المقصود واضحة وذلك لأنّ الاسراف والفساد واضح الحرمة وقد خصّهما الإمام الصادق (عليه‌السلام) بما أضرّ البدن أو أتلف المال.

فينتج من ذلك انّ الاضرار بالبدن واتلاف المال بلا داع عقلائي محرّمان.

الاستدلال بالعقل :

يمكن تبيين الدّليل العقلي على حرمة الاضرار بالنّفس بوجهين :

أ: إنّ الاضرار بالنفس من مصاديق الظّلم ، والظّلم قبيح ومحظور عند العقل والشّرع وهذا من المستقلّات العقليّة ، فالاضرار بالنّفس محرّم عقلاً وشرعاً. لأنّه كلّما حكم به العقل حكم به الشرع أيضاً.

ب : إنّ العقل مستقلّ في وجوب دفع المضارّ عن النفس فينتج من ذلك انّ تحمّل الاضرار يكون محظوراً عند العقل والشّرع. وهذا الدّليل العقليّ استند إليه الفقهاء والأُصوليون في كثير من المسائل كما مرّت الإشارة إلى بعض كلماتهم.

__________________

(١) الوسائل : ١ / ٣٩٧ ح ١٥٤١ ، كتاب الطهارة.

(٢) المصدر نفسه : الحديث ١٥٤٢.

١٩٨

هذا ، وقد ناقش المحقّق الخوئي (قدس‌سره) في دلالة العقل على المقصود بقوله :

«إنّ العقل لا يرى محذوراً في إضرار الإنسان بماله بأن يصرفه كيف يشاء بداع من الدّواعي العقلائيّة ، ما لم يبلغ حدّ الاسراف والتبذير ، ولا بنفسه بأن يتحمّل ما يضرّ ببدنه فيما إذا كان له غرض عقلائي ، بل جرت عليه سيرة العقلاء ، فانّهم يسافرون للتجارة مع تضرّرهم من الحرارة والبرودة بمقدار لو كان الحكم الشرعي موجباً لهذا المقدار من الضرر لكان الحكم المذكور مرفوعاً بقاعدة لا ضرر». (١)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من أمثلة للضرر حيث كان فيها أغراض عقلائية كالتجارة وغير ذلك خلاف الفرض. لأنّ المفروض هو انّ مجرّد الاضرار بالنّفس بلا اقترانه بداع عقلائي هل هو حرام أم لا؟

وأمّا وجود الدّاعي العقلائي فلا يرفع حرمة الاضرار الضئيلة فحسب كتحمّل الحرارة والبرودة بل يرفع حرمة الاضرار الكبيرة أيضاً ، حتى مثل قطع الأعضاء واتلاف الأموال بل تعريض الإنسان نفسه للتّلف ، بل قد يصبح تحمّل تلك الاضرار الفادحة واجباً في بعض الأحيان كما إذا توقّف الدفاع عن الدين وبيضة الإسلام والمسلمين عليه.

وذلك لأنّ الدّواعي العقلائية والشّرعيّة تجبر الضرر وتسبّب تداركه بها وحينئذ لا يرى العقل محذوراً في اضرار الإنسان بنفسه وماله ، ولكنّ هذا العقل يرى كلّ المحذور في تحمّل الاضرار حتّى ما دون اتلاف النفس وقطع الأعضاء إذا لم يكن بداع عقلائي.

نعم لا يبعد القول بعدم حرمة الاضرار اليسيرة لعدم اعتناء العقلاء بها. اللهمّ إلّا أن تكون مصداقاً للإسراف والتبذير أو اللغو فانّها تكون منهيّة عنها بحكم الأدلّة النقليّة.

__________________

(١) مصباح الأُصول : ٢ / ٥٤٨ و ٥٤٩.

١٩٩

الاستدلال بالإجماع :

قد نقل كما مرّ سابقاً بأنّ علماء الطّائفة أجمعوا على حرمة الاضرار بالنفس مطلقاً ولا يبعد القول بذلك ، لأنّ المخالف للمسألة ظهر على ما يبدو وبرهنّا عليه آنفاً في الآونة الأخيرة فلا يضرّ الإجماع المنقول.

هذا ، ولكنّ الإنصاف انّ ذاك الإجماع لا يمكن أن يكون دليلاً مستقلاً ، وذلك لأنّه مدركيّ بعد أن عرفت دلالة الآيات والرّوايات والعقل على المسألة.

نعم ، يمكن أن نعتبره مؤيّداً للمطلوب ، إذ ينبئ على الأقل عن شهرة منقطعة النظير بين الأصحاب ، خاصّة المتقدّمين منهم بحيث يصعب على الفقيه جدّاً أن لا يكترث بتلك الشهرة العظيمة الّتي تكاد أن تكون من ضروريات الدين الإسلامي الحنيف والشّريعة السهلة السّمحة.

تم تحرير رسالة «لا ضرر ولا ضرار» وله الحمد ، في شهر

شوال المكرم من شهور عام ١٤١٤ ه‍ ـ. ق.

بيد مؤلفها : محسن الحيدري الطرفيّ عامله الله بلطفه

الخفي ويرجو من الله أن يوفقه لنشر ما كتبه من

دروس شيخ واستاذه ـ مدّ ظلّه ـ بفضله وكرمه.

٢٠٠