الرسائل الأربع - ج ٢

عدّة من الأفاضل

الرسائل الأربع - ج ٢

المؤلف:

عدّة من الأفاضل


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٠٤

وهذا إن دلّ على شيء فهو يدلّ على خاتميّة شريعة الإسلام وجدارتها لقيادة البشر فرداً ومجتمعاً نحو السعادة والهناء ومعالجة قضاياه في جميع المناحى والأبعاد عبر العصور والدّهور.

ج ـ ملاحظة جريان قاعدة نفي الضّرر بهذا الشكل من الوسعة في كثير من المسائل الشّرعيّة من العبادات والمعاملات ، مع لحاظ النقطتين السالفتين ممّا يؤيّد مبنى المشهور من الأُصوليّين في تفسير قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ضرر ولا ضرار» وأنّه بمعنى نفي الحكم الضّرري ، فانّه لا يبقى ريب للمتتبّع في موارد استعمال القاعدة في الفقه في أنّ الضرر منفي في عالم تشريع الأحكام سواء كان في مجال العبادات أو المعاملات.

١٦١
١٦٢

خاتمة المطاف

في الإضرار بالنفس

حكم الإضرار بالنفس مسألة فقهية جديرة بالبحث عنه ، على وجه التفصيل ، وقد أوجز شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ الكلام فيه ، لضيق المجال وانتهاء العام الدراسي ، ولذلك قمنا بتحرير المسألة على وجه مبسوط ولما تم نظامه عرضته على شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ فقرأه وأصلح ما رآه خاطئاً وأبقى ما وجده صائباً فنقول : يجب تقديم أُمور :

الأوّل : في بيان نماذج من الإضرار بالنفس :

إنّ للإضرار بالنفس مصاديق مختلفة نشير إليها :

١ ـ قتل الإنسان نفسه لمصلحة الدفاع عن المسلمين أو لأجل إفضاح الحكومة الكافرة أو العميلة ، أو انتحار المرأة إذا وقعت في خطر الاعتداء على عرضها ، أو انتحار الإنسان فيما إذا ابتلي بمرض صعب العلاج وأمثال ذلك من أسباب الانتحار.

٢ ـ إهداء الشخص إحدى كليتيه أو عينيه ـ في حياته أو بعد مماته ـ إلى شخص محتاج إليها ، وكذلك إعطاؤه قلبه أو عضواً آخر من أعضائه بعد مماته.

١٦٣

٣ ـ التدخين ، حيث ثبت أضرار السجاير لجوارح الإنسان ، وما هو حكم ذلك فيما لو اعتاد الشخص استعمالها بحيث إذا أراد تركها يتضرّر بأضرار أُخرى؟

٤ ـ التملّي من الأكل والشبع المفرط الّذي ثبت طبّياً ضرره كما ثبت نقليّاً.

٥ ـ تحمّل المرض واضراره وعدم المراجعة إلى الطبيب والمعالجة.

٦ ـ المباراة الرياضية التي يلقي الإنسان بنفسه إلى التهلكة أو نقص عضو من أعضائه بسببها كالملاكمة.

٧ ـ تلويث البيئة الطبيعيّة بحيث ينتهي إلى الاضرار بحياة الناس ومنهم نفس الملوِّث.

الثاني : ما هو حكم الضرر المنجبر؟

قد يقع التزاحم في ما بين ضررين لا بدّ من توجّه أحدهما إلى نفس الإنسان ، مثل ما ل ـ وأُصيب الشخص بمرض يتوقف علاجه على إجراء عمليّة جراحيّة بما فيها من الاضرار البدنيّة والماليّة.

كما قد ينتفع الإنسان بمنفعة عقلائية إذا تحمّل ضرراً ، مثل ما لو أراد السفر للتجارة ، فانّه يتضرّر جسميّاً وماليّاً إلّا أنّ هذه الاضرار تنجبر بما يربحه من المال.

وكذلك قد يتوقّف أداء التكليف الشرعي كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على تحمّل الاضرار الشخصيّة.

أمّا بالنسبة إلى المثال الأوّل فالأمر واضح لأنّ قاعدة ترجيح الأهم على المهم عقلائية وشرعيّة يمكن تطبيقها على المورد ويحكم بجواز العمليّة أو وجوبها من أجل دفع الضرر الأكبر خطراً.

وكذلك بالنسبة إلى المثال الثاني ، فانّ العقلاء لا يرون ذلك الضرر ضرراً في قبال المنفعة فلا تشمله أدلّة قاعدة نفي الضرر.

ولكنّ هذا يصحّ فيما لم يكن النفع مضمحلاً في جانب الضرر ، فانّه عندئذ يترجّح جانب الضرر ويحكم بعدم جواز ارتكاب ذلك الشيء الذي ينتفع به

١٦٤

الإنسان من بعض الوجوه ، كالخمر والميسر فقد حرّمتا مع ما بهما من منافع اقتصاديّة لما فيها من الاضرار الفادحة.

قال سبحانه : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما). (البقرة / ٢١٩)

والإثم وإن كان لغة بمعنى كلّ شيء يبطئ عن الثواب ويرادف الذنب ، إلّا أنّه في هذه الآية بمعنى الضرر أو ما يوجبه (١) بدليل مقابلته بالنفع. وقد حرّم سبحانه الإثم على كل حال. قال سبحانه : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ). (الأعراف / ٣٣)

وأمّا بالنسبة إلى المورد الثالث فالأمر أيضاً معلوم ، لأنّ طبيعة تلك التكاليف نوعاً تقتضي التضحية وبذل النفس والنفيس فلا بدّ من توطين النفس على ذلك ، مضافاً إلى رجحان منافعها الاجتماعية والأخلاقيّة على أضرارها الفرديّة.

الثالث : في تحرير محلّ النزاع :

من أجل تعيين محلّ النقاش في المسألة يلزم أن نعرف بأنّ للإضرار بالنفس مراتب ودرجات لا نقاش في بعضها وإنّما يقع النزاع في بعضها الآخر.

ويمكن تقسيم تلك المراتب إلى ما يلي :

الأُولى : إتلاف النفس وإفنائها.

الثانية : قطع الأعضاء.

الثالثة : إفساد قوّة من القوى مثل الحواس الخمسة وقوّة الباه والإنجاب.

الرابعة : تعريض الإنسان نفسه إلى الأمراض وانحراف المزاج وثقله.

الخامسة : إتلاف المال المعتدّ به عرفاً.

السادسة : تعريض الإنسان شخصيّته وعرضه إلى الإذلال.

__________________

(١) راجع التبيان للشيخ الطوسي : ٢ / ٢١٣ ، وتفسير المنار : ٢ / ٣٢٥.

١٦٥

السابعة : تحمّل الاضرار اليسيرة ، كإتعاب الإنسان نفسه أو عدم التوقّي من البرد والحرّ في ما لم ينته إلى المرض ، وكذلك إتلاف المال غير المعتدّ به.

أمّا المرتبة الأُولى والثانية ، فلا نقاش لأحد فيهما لصراحة حكم الشارع في حرمة الانتحار وقتل الإنسان نفسه ، بمثل قوله سبحانه :

١ ـ (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) (النساء / ٢٩).

٢ ـ (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرة / ١٩٥).

وأمّا قطع العضو ، فلا شكّ في مبغوضيّته عند الشارع ولا يبعد أن تشمله الآية الثانية ، لأنّه إلقاء الإنسان بيده إلى التهلكة عرفاً. والظاهر أنّه لا نزاع في المرتبة السادسة أيضاً فإنّها حرام قطعاً.

وكذلك المرتبة الأخيرة فلا نزاع فيها أيضاً فإنّها جائزة لأنّه يمكن أن يقال بانصراف أدلّة حرمة الإضرار بالنفس عن الاضرار اليسيرة الّتي لا يعتدّ بها ما لم تبلغ مرتبة الإسراف والتبذير ، مضافاً إلى أنّ مواظبة الإنسان على أن لا يتعرّض لها ممّا توجب العسر والحرج على نوع المكلّفين فلا يمكن القول بوجوبها ، وينتج من ذلك عدم حرمتها.

وأمّا المراتب الأُخر أي الثالثة إلى الخامسة ، فقد وقع النزاع فيها.

ويمكن تلخيص الأقوال في قولين :

الأوّل : القول المشهور ، وهو حرمة مطلق الإضرار بالنفس ما عدا الاضرار اليسيرة.

الثاني : القول الشاذ ، وهو عدم حرمته إلّا في مثل قتل النفس وقطع الأعضاء.

* * *

إذا عرفت ما ذكرنا نقول : ينبغي الخوض في المسألة من خلال فصلين :

الأوّل : توضيح الأقوال في المسألة.

الثاني : أدلّة القول المختار.

١٦٦

الفصل الأوّل :

في توضيح الأقوال في المسألة

القول الأوّل : وهو المشهور :

الذي يتتبّع أقوال الفقهاء من المتقدّمين والمتأخّرين والمعاصرين يجد بوضوح أنّ المشهور بينهم هو القول بحرمة الإضرار بالنفس مطلقاً بحيث لم يعثر على مخالف له فيما مضى ، ولهذا لا يبعد أن يقال بوجود إجماع العلماء على حكم المسألة كما صرّح صاحب الرياض ـ على ما سيأتي ـ وإليك قائمة من فطاحل الفقهاء والأُصوليين وبعض عباراتهم حول المسألة :

١ ـ مؤلّف كتاب فقه الرضا (عليه‌السلام):

قال : «... إنّ الله تعالى لم يبح أكلاً ولا شرباً إلّا لما فيه المنفعة والصلاح ، ولم يحرّم إلّا ما فيه الضرر والتلف والفساد ، فكل نافع مقوّ للجسم فيه قوّة للبدن فحلال وكلّ مضرّ يذهب بالقوّة أو قاتل حرام ...» (١).

__________________

(١) الينابيع الفقهية : ١ / ٥ (فقه الرضا (عليه‌السلام)) فقد حقّق شيخنا ـ مدّ ظلّه ـ أنّ فقه الرضا إمّا رسالة والد الصدوق إليه ، أو رسالة التكليف للشلمغاني ، فلاحظ كلامه في «المواهب في تحرير أحكام المكاسب» ، ص ١٩ و ٢٠.

١٦٧

٢ ـ الشيخ المفيد (م ٤١٣ ه‍ ـ. ق)

قال في المقنعة : «وإذا عرض للإنسان مرض وكان الصوم يزيد فيه زيادة بيّنة وجب عليه الإفطار ... فإن علم أنّ المرض الذي يزيد فيه الصوم ، ويلحقه به الضرر ، وتعظم مشقّته عليه ، أفطر». (١)

والظاهر من عبارة الشيخ المفيد أنّ الملاك في وجوب الإفطار هو الضرر ويستفاد من ذلك حرمة الإضرار بالنفس وإلّا لما وجب الإفطار.

٣ ـ السيّد المرتضى (م ٤٣٦ ه‍ ـ. ق)

قال في الذريعة : «إنّ العلم بأنّ ما فيه نفع خالص من مضرّة عاجلة أو آجلة له صفة المباح وأنّه يحسن الإقدام عليه ، كالعلم بأنّ ما فيه ضرر خالص عن كلّ منفعة ، قبيح محظور الإقدام عليه ، والعلم بما ذكرناه ضروري ...». (٢)

٤ ـ الحلبي (م ٤٤٧ ه‍ ـ. ق)

قال في كتابه الكافي : «إذا كان ما عدا واجبات العقول ومندوباتها وقبائحها على الإباحة ، لأنّه القسم الرابع في أوائل العقول كالحسن والقبيح ولكونه نفعاً خالصاً لا ضرر فيه». (٣)

والظاهر من كلامه أنّ ملاك الإباحة في الأشياء هو النفع وعدم الضرر ، ومفهوم ذلك أنّ وجود الضرر يخرج الشيء عن الإباحة ويجعله محظوراً لأنّه المقابل له حسب الفرض.

__________________

(١) المقنعة : ٣٥٥ ، ط. مؤتمر الشيخ المفيد ، عام ١٤١٣ ه‍ ـ.

(٢) الذريعة : ٢ / ٨٠٩.

(٣) الينابيع الفقهيّة : ٢١ / ١٥٦ ، كتاب الكافي للحلبي.

١٦٨

٥ ـ الشيخ الطوسي (م ٤٦٠ ه‍ ـ. ق)

قال في عدّة الأُصول : «وقد قيل في حدّ المباح هو أنّ لفاعله أن ينتفع به ولا يخاف ضرراً في ذلك لا عاجلاً ولا آجلاً ، وفي حدّ الحظر أنّه ليس له الانتفاع وأنّ عليه في ذلك ضرراً إمّا عاجلاً أو آجلاً وهذا يرجع إلى المعنى الّذي قلناه». (١)

وقال في الخلاف : «إذا اضطرّ إلى أكل الميتة يجب عليه أكلها ولا يجوز له الامتناع منه ... دليلنا : ما علمناه ضرورة من وجوب دفع المضارّ عن النفس». (٢)

وقال في المبسوط بمثل ذلك. (٣)

وقال في النهاية : «يجب الإفطار مع الخوف من الضرر». (٤)

وقال في هذا الكتاب : «ويجوز لفقهاء أهل الحقّ أن يجمعوا بالناس الصلوات كلّها وصلاة الجمعة والعيدين ويخطبون الخطبتين ويصلّون بهم صلاة الكسوف ما لم يخافوا في ذلك ضرراً». (٥)

ولا شكّ أنّ مفهوم قوله : «ما لم يخافوا في ذلك ضرراً» هو عدم جواز هذه الأشياء مع خوف الضرر.

وقال أيضاً بما يشبه ذلك حول إقامة الحدود والحكم بين الناس والقضاء في النهاية. (٦)

وقال في المبسوط : «وإن رضى بإتلاف نفسه لم يقلع ، لأنّه لا يملك إدخال

__________________

(١) عدّة الأُصول : ٢ / ١١٧ ، ط. قديم.

(٢) الخلاف : ٢ / ٥٤٤ ، كتاب الأطعمة ، المسألة ٢٣.

(٣) المبسوط : ٦ / ٢٨٦.

(٤) النهاية : ١٥٨.

(٥) المصدر نفسه : ٣٠٢.

(٦) المصدر نفسه : ٣٠٠ و ٣٠١.

١٦٩

الضرر على نفسه». (١)

وقد علّل الشيخ حرمة إتلاف النفس بحرمة إدخال الضرر عليها ، ولا ريب أنّ ذلك أعم من إتلاف النفس وما دون ذلك.

٦ ـ القاضي ابن البرّاج (م ٤٨١ ه‍ ـ. ق)

استدلّ على جواز قتال المضطرّ لصاحب الطعام الذي منعه منه بقوله : «لأنّ دفع المضارّ واجب بالعقل». (٢)

وليراجع كتابه المهذّب حول سبّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (٣)

٧ ـ الطبرسي (م ٥٤٨ ه‍ ـ. ق)

قال : «إذا اضطرّ إلى أكل الميتة وجب عليه أكلها ... لما نعلمه من ضرورة وجوب دفع المضار عن النفس». (٤)

٨ ـ ابن حمزة الطوسي (م حوالي ٥٨٠ ه‍ ـ. ق)

قال في تفسير الاضطرار ومراتبه : «والمضطرّ : من يخاف التلف أو ما هو في حكم التلف وهو أربعة أشياء : المرض بترك الأكل والضعف عن المشي للمسافر ماشياً وعن الركوب للمسافر راكباً ...». (٥)

وحيث إنّ الفقهاء صرّحوا بوجوب استعمال المضطرّ ما اضطرّ إليه وأنّ المضطرّ يشمل من يخاف الضرر ولو كان دون الهلاك فيثبت المطلوب.

__________________

(١) المبسوط : ٣ / ٨٦.

(٢) المضار : ١ / ٨٦ ، وجواهر الفقه للقاضي ابن البراج : ٢٠٨ ، ط. جماعة المدرسين بقم.

(٣) المهذب : ٢ / ٥٥١.

(٤) المؤتلف من المختلف بين أئمّة السّلف : ٢ / ٤٧٣ ، ط. المشهد الرضوي.

(٥) الينابيع الفقهيّة : ٢١ / ١٥٦ ، كتاب الوسيلة لابن حمزة.

١٧٠

٩ ـ ابن إدريس الحلّي (م ٥٩٨ ه‍ ـ. ق)

استدلّ في السرائر على وجوب أكل الميتة للمضطرّ بضرورة وجوب دفع المضارّ عن النفس. (١) كما استدلّ بمثل ذلك على وجوب شرب المسكر لخوف ضرر العطش (٢).

١٠ ـ المحقّق الحلّي (م ٦٧٦ ه‍ ـ. ق)

قال في باب الأطعمة والأشربة المحرّمة : «... والكثير من شحم الحنظل والشوكران فإنّه لا يجوز ، لما يتضمّن من ثقل المزاج وإفساده». (٣)

وقال أيضاً : «ويكره الأكل متّكئاً والتملّي من المآكل وربما كان الإفراط حراماً لما يتضمّن من الاضرار». (٤)

وقال في كتاب الصوم من المعتبر : «والمريض لا يصحّ صومه مع التضرّر ، لقوله (عليه‌السلام) : «لا ضرر ولا ضرار» ولو تكلّفه لم يصحّ ، لأنّه منهيّ عنه ، والنهي يدل على فساد المنهيّ في العبادات ويجب عليه لو لم يتضرّر». (٥)

واستدلال المحقّق على حرمة الصيام على المتضرّر به بحديث «لا ضرر» يدفع التوهّم بأنّ حرمة الصيام عليه فقط من أجل ردّ هدية الله.

وليراجع الشرائع في باب جواز إقامة الحدود للفقهاء (٦) وكذلك الصوم من المختصر النافع. (٧)

__________________

(١) السرائر : ٣ / ١٢٥ ، ط. جماعة المدرسين بقم.

(٢) السرائر : ٣ / ١٣٢.

(٣) الشرائع : ٣ / ٧٥ ، ط. انتشارات استقلال ـ طهران.

(٤) المصدر نفسه : ٤ / ٢٧.

(٥) المعتبر : ٢ / ٦٨٥ ، ط. منشورات مؤسّسة سيد الشهداء (عليه‌السلام) بقم.

(٦) الشرائع ١ / ٣٤٤ ، مطبعة الآداب في النجف.

(٧) المختصر النافع : ٧١.

١٧١

١١ ـ العلّامة الحلّي (م ٧٢٦ ه‍ ـ. ق)

قال حول حرمة القليل أو الكثير من السموم والافيون وغيره : «وبالجملة ما يخاف معه الضرر». (١)

وفي هذه العبارة أعطى ضابطة كلّية للحرام من الأطعمة.

وليراجع كتاب قواعد الأحكام في باب المضطرّ. (٢)

وقال في تبصرة المتعلمين بحرمة الافراط في الأكل المتضمّن للضرر. (٣)

١٢ ـ الشهيد الثاني (م ٩٦٦ ه‍ ـ. ق)

قال في الروضة : «وضابطة المحرّم ما يحصل به الضرر على البدن وافساد المزاج». (٤)

وليراجع المسالك في حرمة أكل الطين (٥) واستعمال السموم. (٦)

١٣ ـ المقدّس الأردبيلي (م ٩٩٣ ه‍ ـ. ق)

قال : «والمشهور بين المتفقّهة أنّه يحرم التراب ... لما فيه من الاضرار بالبدن والضّرر مطلقاً غير واضح». (٧)

والظاهر أنّ مقصوده من عدم وضوح الاطلاق هو بحيث يشمل الاضرار

__________________

(١) الينابيع الفقهية : ٢١ / ٢٨ ، كتاب قواعد الأحكام.

(٢) الينابيع الفقهية : ٢١ / ٢٨٣.

(٣) تبصرة الفقهاء : ٢ / ٢٥٨.

(٤) الروضة : ٧ / ٣٢٩.

(٥) المسالك : ج ٢ ، باب الأطعمة المحرمة.

(٦) المصدر نفسه.

(٧) مجمع الفائدة والبرهان : ١١ / ٢٣٥.

١٧٢

اليسيرة بدليل أنّه حرّم القليل من السمّ غير القاتل إذا كان يؤدّي إلى الضرر الكثير من المرض وغيره.

فقد قال : «نعم ما لا يقتل قليله ، ولكن يؤول إلى الضرر الكثير من المرض وغيره ، يمكن تحريم قليله أيضاً حتّى يصير عادة ويئول تركه إلى الضرر فيجب ، فتأمّل». (١)

ومن الممكن أن يقال بتسرّي نظره إلى مثل السّجائر ، فانّ التّدخين إذا صار عادة بحيث يؤول تركه إلى الضرر فيجب. وأمّا إذا لم يصر عادة فيحرم استعماله لما فيه من اضرار ، وكذلك إذا لم يؤدّ تركه إلى الضرر وإن صار عادة.

وليراجع نظره حول مراتب الاضطرار في ذلك الكتاب. (٢)

١٤ ـ الشيخ حسين الكركي العاملي (م ١٠٧٦ ه‍ ـ. ق)

قال في كتابه هداية الأبرار : «إنّ وجوب الاحتياط يطابق عليه العقل والنقل ، أمّا العقل فلدفع الضّرر المتوقّع من تركه». (٣)

١٥ ـ الفيض الكاشاني (م ١٠٩١ ه‍ ـ. ق)

قال في أبواب التيمّم من الوافي : «... فإنّ العقل قاض بوجوب دفع الضرر المظنون ...». (٤)

١٦ ـ السيّد علي الطباطبائي ـ صاحب الرّياض ـ (م ١٢٣١ ه‍ ـ. ق)

قال بالنسبة إلى السموم والأشياء الضارّة : «وضابط المحرّم ما يحصل به

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان : ١١ / ٢٣٧.

(٢) المصدر نفسه : ٣١٢.

(٣) هداية الأبرار : ٢٢٤.

(٤) الوافي : ٣ / ٨٤ ، من الطبعة القديمة.

١٧٣

الضرر على البدن وافساد المزاج والأصل فيه بعد الإجماع حديث نفي الضرر والاضرار ...». (١)

وهذا الإجماع الّذي ذكره ـ قده ـ وإن كان مدركيّاً وإنّ من مداركه حديث نفي الضرر إلّا أنّه يدلّ على أنّ صاحب الرياض لم يجد أحداً يقول بحليّة الاضرار بالنفس وإلّا لعبّر عنه بالشهرة بدل الإجماع.

١٧ ـ صاحب الجواهر ـ الشيخ محمد حسن النجفي ـ (م ١٢٦٦ ه‍ ـ. ق)

قال في مسألة حرمة السموم القاتلة وغير القاتلة القليل منها والكثير : «... وبالجملة كلما كان فيه الضّرار علماً أو ظنّاً أو خوفاً معتدّاً به حرم ...». (٢)

وليراجع جواهر الكلام في مسألة حرمة رطوبات الحيوان مثل بصاق الإنسان وعرقه (٣) ، ومسألة بطلان الوضوء إذا كان استعمال الماء مضرّاً (٤) ، ومسألة أنّ المدار في الافطار على خوف الضرر (٥) ، ومسألة عدم كفاية حجّ المريض (٦) ، ومسألة وجوب دخول المؤمن غير المجتهد في ولاية الجائر دفعاً للضرر (٧) ، ومسألة عدم جواز قتل من سبّ النبيّ إذا كان السّامع يخاف على نفسه (٨) ، ومسألة موجبات الضمان على التسبيب من كتاب الدّيات. (٩)

__________________

(١) رياض المسائل : ج ٢ ، في ذيل القسم الرابع من الأطعمة الجامدة.

(٢) الجواهر : ٣٦ / ٣٧٠.

(٣) المصدر نفسه : ٢٩٣.

(٤) المصدر نفسه : ٥ / ١١١.

(٥) المصدر نفسه : ١٦ / ٣٤٧.

(٦) المصدر نفسه : ١٧ / ٢٨٧ و ٢٨٨.

(٧) المصدر نفسه : ٢١ / ٤٠٧.

(٨) المصدر نفسه : ٤١ / ٤٣٤.

(٩) المصدر نفسه : ٤٣ / ١١٥.

١٧٤

١٨ ـ الشيخ الأعظم الأنصاري (م ١٢٨١ ه‍ ـ. ق)

قال في الفرائد : «فكل اضرار بالنّفس أو الغير محرّم غير ماض على من أضرّه». (١)

وهذه العبارة صريحة في تحريم كل اضرار بالنفس مطلقاً ، وقد صرّح بهذا النظر أيضاً في رسالة قاعدة نفي الضرر المطبوعة مع ملحقات المكاسب بقوله :

«إنّ العلماء لم يفرّقوا في الاستدلال بين الاضرار بالنفس والاضرار بالغير ... نعم قد استفيد من الأدلّة ـ العقلية والنقليّة ـ تحريم الاضرار بالنفس ...». (٢)

١٩ ـ المحقّق الخراساني (م ١٣٢٩ ه‍ ـ. ق)

بعد أن ذكر كلام القائلين بحجيّة الظنّ المطلق في بحث القول بالانسداد وأنّ استدلالهم مركب من صغرى وكبرى ، ردّ كلامهم بمنع الصغرى ، وأمّا الكبرى وهي «استقلال العقل بدفع الضرر المظنون» فليست مخدوشة عنده ، بل زاد على ذلك بوجوب دفع الضرر المشكوك أيضاً بقوله : «... ودعوى استقلاله بدفع الضرر المشكوك كالمظنون قريبة جدّاً ...». (٣)

٢٠ ـ السيّد الطباطبائي اليزدي (م ١٣٣٧ ه‍ ـ. ق)

ليراجع كتاب العروة ، المسألة ١٨ من باب مسوّغات التيمّم (٤) ومسألة شرائط صحّة الصوم. (٥)

__________________

(١) فرائد الأُصول : ٣١٥

(٢) المكاسب : ٣٧٣.

(٣) كفاية الأُصول : ٣٥٣ ، ط. جماعة المدرسين بقم.

(٤) العروة الوثقى : ١ / ٤٧٣.

(٥) المصدر نفسه : ٢ / ٢١٦.

١٧٥

٢١ ـ المحقّق العراقي (م ١٣٦١ ه‍ ـ. ق)

قال في أبحاثه الأُصولية : «... بل الاطلاق مناسب مع الأخذ بأدلّة تحريم الاضرار بالنفس». (١)

٢٢ ـ السيد أحمد الخونساري (م ١٤٠٥ ه‍ ـ. ق)

قال في مسألة حرمة السموم : «... والمعروف أنّ ما كان فيه الضّرر علماً أو ظنّاً بل خوفاً معتدّاً به حرم ...». (٢)

٢٣ ـ الإمام الخميني ـ قده ـ (م ١٤٠٩ ه‍ ـ. ق)

قال في باب الأطعمة والأشربة : «يحرم تناول كلّ ما يضرّ بالبدن ، سواء كان موجباً للهلاك كشرب السموم القاتلة وشرب الحامل ما يوجب سقوط الجنين أو سبباً لانحراف المزاج أو لتعطيل بعض الحواس الظاهرة أو الباطنة ، أو لفقد بعض القوى ، كالرجل يشرب ما يقطع به قوّة الباه والتّناسل أو المرأة تشرب ما به تصير عقيماً لا تلد». (٣)

٢٤ ـ المحقّق الخوئي ـ قده ـ (١٤١٣ ه‍ ـ. ق)

قال في منهاج الصّالحين : «تحرم السّموم القاتلة وكلّ ما يضرّ الإنسان ضرراً يعتدّ به ومنه الأفيون المعبّر عنه بالتّرياك سواء أكان من جهة زيادة المقدار المستعمل منه أم من جهة المواظبة عليه». (٤)

__________________

(١) تنقيح الأُصول : ١٤١.

(٢) جامع المدارك : ٥ / ١٧٠.

(٣) تحرير الوسيلة : ٢ / ١٦٣.

(٤) منهاج الصالحين : ٢ / ٣٣٧.

١٧٦

والملاحظة هنا أنّ هذا المحقّق قد مشى في هذا الكتاب الفقهي على ما أفتى به المشهور إلّا أنّه خالفهم في أبحاثه الأُصوليّة وسوف نتعرّض لكلامه.

٢٥ ـ السّيد محمد رضا الكلبايكاني (م ١٤١٤ ه‍ ـ. ق)

قال في كتاب الصوم من هداية العباد : «من شرائط صحّة الصوم كما مرّ عدم المرض أو الرّمد الذي يضرّه الصوم ... ويلحق به الخوف العقلائي من حدوث المرض والضّرر بسببه ، فانّه لا يصحّ معه الصوم ، ويجوز بل يجب عليه الافطار». (١)

هذا هو القول المشهور ، وقد أتينا بشيء من الاسهاب في نقل كلمات ثلّة من مشاهير فقهاء الخاصّة لما فيها من فوائد.

* * *

القول الثاني : وهو غير المشهور :

قول آخر وهو إنكار حرمة مطلق الاضرار بالنّفس وهو خيرة المحقّق الخوئي (قدس‌سره) قال ـ على ما في تقريراته ـ : «ذكر شيخنا الأنصاري (رحمه‌الله) في رسالته المعمولة في قاعدة لا ضرر إنّ الاضرار بالنفس كالاضرار بالغير محرّم بالأدلّة العقليّة والنقليّة ولكن التحقيق عدم ثبوت ذلك على إطلاقه ، أي من غير التهلكة وما هو مبغوض في الشّريعة المقدّسة كقطع الأعضاء ونحوه ، فانّ العقل لا يرى محذوراً في إضرار الإنسان بماله بأن يصرفه كيف يشاء بداع من الدّواعي العقلائية ما لم يبلغ حدّ الإسراف والتبذير ، ولا بنفسه بأن يتحمّل ما يضرّ ببدنه فيما إذا كان له غرض عقلائي ، بل جرت عليه سيرة العقلاء ، فانّهم يسافرون للتجارة مع تضرّرهم من الحرارة والبرودة بمقدار لو كان الحكم الشرعي موجباً لهذا المقدار من الضرر

__________________

(١) هداية العباد : ٢٦٨.

١٧٧

لكان الحكم المذكور مرفوعاً بقاعدة لا ضرر وكذا النّقل لم يدلّ على حرمة الاضرار بالنفس فانّ أقصى ما يمكن أن يستدلّ به لحرمة الاضرار بالنفس روايات نتكلّم عنها ...». (١)

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ الكلام الذي نقله عن الشيخ الأنصاري ليس مختصّاً به وإنّما هو نظر المشهور بل قد ادّعى عليه الإجماع كما مرّ.

وثانياً : أنّ الأمثلة التي ذكرها بأنّ العقل لا يرى محذوراً في اضرار الإنسان بماله أو نفسه خارجة عن محلّ النزاع وذلك لأنّ الاضرار التي يتحمّلها الإنسان بداع عقلائي منجبرة بالمصالح التي يحصل عليها وهي لا تعدّ اضراراً عرفاً ، فأدلّة حرمة الاضرار بالنفس منصرفة عنها ، وإنّما النزاع في الاضرار غير المنجبرة بالدّواعي والمصالح العقلائيّة ، وبناءً على هذا يصبح نزاعه مع نظر الشيخ الذي هو نظر المشهور نزاعاً لفظيّاً ، فانّه وإن ناقش بعض أدلّة القول المشهور في بحثه الأُصولي إلّا أنّه مشى على منوالهم في فتواه الفقهيّة كما مرّ آنفاً ، فإن لم نقل بأنّ ذلك نزاع لفظي فلا بدّ وأن يقال إنّه عدل عما في بحثه الأُصولي.

وثالثاً : أنّ قوله : «أقصى ما يمكن أن يستدلّ به ...» غريب جدّاً منه فإنّ الأدلّة الأربعة تدلّ على المسألة كما سيأتي أو تؤيّدها على الأقلّ.

* * *

__________________

(١) مصباح الأُصول : لمؤلفه السيد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي : ٢ / ٥٤٨ و ٥٤٩ وليراجع دراسات الأُستاذ المحقّق الخوئي في الأُصول العمليّة ، تأليف السيد علي الحسيني الشاهرودي : ٣ / ٣٣٩.

١٧٨

الفصل الثاني :

في أدلّة حرمة الاضرار بالنفس

قد عرفت أنّ محلّ النزاع وهو مطلق الاضرار بالنّفس أعمّ من اتلاف النفس أو قطع الأعضاء أو إفساد قوّة من القوى أو حاسّة من الحواس أو تعريض الإنسان نفسه إلى الأمراض وانحراف المزاج ، فحان حين سرد أدلّة القول المختار وهو المشهور ، فنقول :

إنّ الأدلّة الأربعة من الكتاب والسنّة والإجماع والعقل تدلّ على القول المشهور أو تؤيّده على الأقل.

الاستدلال بالكتاب :

يمكن الاستدلال بلفيف من الآيات غير انّ المهم هو ما يلي وإن كانت دلالة البعض غير تامّة :

ما دلّ على جواز أكل الحرام عند الاضطرار :

هناك آيات تدلّ على جواز أو وجوب أكل الميتة والدم ونحوهما عند الاضطرار نأتي بواحدة منها ونشير إلى مواضع ما لم نذكرها قال سبحانه :

١٧٩

(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). (البقرة / ١٧٣). (١)

تدلّ على الميتة ولحم الخنزير وغير المذكّى وما يشبه ذلك محرّمة تشريعاً إلّا في حالة الاضطرار فالمضطرّ يباح له ذلك.

والمضطرّ في اللغة : هو المحتاج إلى الشيء من الاضطرار والاسم الضرّة والضرورة وبناؤه من باب الافتعال وأصله الضّرر أي الضيق فجعلت التّاء طاءً لأنّ التّاء لم يحسن لفظه مع الضّاد ، فأصل المضطرّ «مضترر». (٢)

ودلالة الآيات على المقصود «حرمة الاضرار بالنّفس» تتوقف على ثبوت أمرين :

أحدهما : انّ المضطرّ يجب عليه استعمال المحرّم الذي اضطرّ إليه.

وثانيهما : انّ المضطرّ لا ينحصر بمن يخاف الموت وتلف نفسه.

أمّا الأوّل ، فليس بثابت إذ ليست الآية بصدد بيانه بل هي بصدد بيان حليّة هذه المحرّمات للمضطرّ لا أكثر ، إلّا أنّ الفقهاء نظراً إلى الأدلّة العقلية والنقليّة على وجوب دفع الضرر عن النفس افتوا بوجوب استعمال المضطرّ ما اضطر إليه من تلك المحرّمات بمقدار ما تندفع الضرورة كما أشرنا إلى كلماتهم آنفاً.

وأمّا الثاني فالظاهر أنّ الآية مطلقة من هذه النّاحية فتشمل كلّ نوع من أنواع الاضطرار سواء كان يخاف منه تلف النفس أو دون ذلك كما أفتى به الفقهاء على ما مرّ عليك.

قوله سبحانه : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً). (النساء / ١١٠)

__________________

(١) لاحظ المائدة / ٣ ، الأنعام / ١١٩ ، ١٤٥ والنحل / ١١٥.

(٢) راجع لسان العرب وتاج العروس ومجمع البحرين وأقرب الموارد.

١٨٠