الرسائل الأربع - ج ٢

عدّة من الأفاضل

الرسائل الأربع - ج ٢

المؤلف:

عدّة من الأفاضل


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٠٤

١ ـ إذا كان السبب في توجّه الضرر هو أحد الشخصين ، فيجب عليه تحمّل الضرر ، كما إذا صار سبباً لدخول رأس الدّابة في القدر ، أو السّكّة في المحبرة ، فيكسر القدر والمحبرة لاستخلاص الدّابة واخراج الدينار ، ولا يعكس. ويكون العامل ، والمباشر لهذا العمل ضامناً.

٢ ـ إذا كان السبب شخصاً ثالثاً ، يستقرّ الضّمان عليه ، فهو حينئذ يخيّر في اتلاف أيّ المالين شاء حتّى يتمكّن من ردّ الآخر ، ولكنّه بطبعه لن يختار إلّا الأقل ضرراً.

٣ ـ إذا تحقّق ذلك بأمر خارج عن الاختيار ، كالحوادث السّماويّة والأرضيّة ، فلا شكّ أنّه يُختَار الأقل ضرراً ، فيكسر القدر ويخلّي بين المالك ودابته ويجعل الخسارة عليهما بالسوية ، أو بنسبة القيمة. فلو كانت قيمة القدر ربع دينار وقيمة الدابة ديناراً ، قسمت الخسارة بين الشخصين أرباعاً ، على صاحب القدر ربعها وعلى صاحب الدابة ثلاثة أرباعها ، أي الخسارة. أو أخماساً بناءً على نسبة الضرر إلى مجموع القيمتين.

ويدل على ذلك قاعدة العدل والإنصاف ، وما ورد من أمر الودعي إذا أودع شخص عنده ديناراً وأودع آخر دينارين ، فضاع أحد الدنانير الثلاثة ، فقد حكم الإمام (عليه‌السلام) بأنّ أحد الدينارين لصاحبهما ، والدينار الآخر يقسم بينهما. (١) وبذلك يظهر حكم ما إذا دخلت الدابة بيتاً ، فيختار أقل الضررين ، ويقسط الضرر على الحقّين حسب قيمة مالهما.

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٣ ، ص ١٧١ ، كتاب الصلح ، الباب ١٢ ، الحديث ١.

١٢١

التنبيه التاسع :

فيما إذا استلزم تصرّف المالك تضرّر الجار

الفرق بين هذا البحث وما تقدّم في التنبيهين الأخيرين واضح ، فإنّ ملاك البحث فيما سبق هو تبيين حكم الضرر المتحقّق في الخارج ، سواء تحقّق فيه باختيار المكلّف أو لا ، بخلاف المقام ، فإنّ محوره هو تبيين حكم العمل الذي يستلزم الإضرار بالغير في المستقبل بحيث لو لا العمل لما كان من الضرر عين ولا أثر.

قال الشيخ الأعظم : «إذا استلزم تصرّف المالك في ملكه تضرّر جاره ، فهل يجوز أم لا؟ المشهور على الجواز ، قال الشيخ في المبسوط في باب إحياء الموات : إن حفر رجل بئراً في داره وأراد جاره أن يحفر بالوعة أو بئر كنيف بقرب هذه البئر ، لم يمنع منه وإن أدى ذلك إلى تغيّر ماء البئر أو كان صاحب البئر يستقذر ماء بئره لقربه من الكنيف والبالوعة ، لأنّ له أن يتصرّف في ملكه بلا خلاف». ثمّ نقل عن السرائر في باب حريم الحقوق ، والقواعد والدروس كلمات من مختلف الأبواب كلّها تتفق على أنّ للمالك التصرّف في ملكه وإن أدّى إلى نقص ماء البئر الأُولى. (١)

أقول : الظاهر من المشهور في نظائر المقام ـ مثل ما إذا أعدّ داره السكنية خاناً أو اصطبلاً أو طاحوناً أو حانوت حدّاد ، أو قصّار على خلاف العادة ـ هو الجواز قائلين بأنّه لا حريم في الأملاك وأنّ كل واحد يتصرّف في ملكه على العادة كيف شاء ، ولا ضمان وإن أفضى إلى التلف. إلّا أن يتعدّى ، ومثله ما إذا كان يدق في داره دقاً عنيفاً يزعج به الجار ، أو حبس الماء في ملكه بحيث ينشر النداوة إلى

__________________

(١) رسالة قاعدة «لا ضرر» الملحقة بالمكاسب ، ص ٣٧٥.

١٢٢

حيطانه ، كل ذلك ـ إلّا ما استثني ـ لأنّه لا حريم في الأملاك.

لكن الشيخ ـ قدس‌سره ـ ذكر للمسألة صوراً ثلاثة ، فجوّز في صورتين ، ومنع في الاخرى وإليك البيان :

الأُولى : إذا كان التصرّف لدفع ضرر يتوجّه إليه ، فنفى الخلاف في الجواز ، لأنّ الزامه بتحمّل الضرر ومنعه عن ملكه لئلّا يتضرّر الغير ، حكم ضرري منفي ، مضافاً إلى عموم «الناس مسلّطون على أموالهم». واستظهر عدم الضمان لو تضرّر الجار ، كما إذا أجّج ناراً بقدر الحاجة فتضرّر الجار به ، واستضعف قول بعض معاصريه في وجوب ملاحظة مراتب ضرر المالك وضرر الغير.

الثانية : ما إذا كان لجلب المنفعة ، فيظهر منه الجواز أيضاً ، قائلاً بأنّ حبس المالك عن الانتفاع بملكه ، وجعل الجواز تابعاً لعدم تضرّر المالك ، حرج عظيم. ولا يعارضه تضرّر الجار لما عرفت من أنّه لا يجب تحمّل الحرج لدفع الضرر عن الغير.

الثالثة : إذا كان تصرّفه لغواً محضاً ، فاستظهر عدم الجواز مع تضرّر الغير لأنّ تجويز ذلك حكم ضرري ، ولا ضرر على المالك في منعه من هذا التصرّف. وعموم «الناس مسلّطون على أموالهم» محكوم عليه بقاعدة نفي الضرر.

توضيح الصور المتصوّرة :

الظاهر أنّ صور المسألة خمس :

الأُولى : إذا دار الأمر بين الضررين.

الثانية : إذا دار الأمر بين الحرج والضرر.

الثالثة : إذا دار الأمر بين الحرجين.

الرابعة : إذا كان الانتفاع مستلزماً للإضرار بالجار.

الخامسة : إذا كان الهدف إيقاع الضرر أو الحرج على الجار.

لا شكّ في عدم جواز الأخير ، وهو مورد قاعدة «لا ضرر» ، إذ لم يكن يترتّب

١٢٣

على ترك دخول «سمرة» بلا استئذان ، شيء ، وكان الهدف من اعمال السلطنة إيقاع الضرر على الأنصاري. ولأجل ذلك لو أجّج شخص ناراً زائداً عن مقدارها المتعارف ايذاءً وسرت إلى دار الجار فهو ضامن.

ويبقى الكلام في سائر الصور :

أمّا الصورة الرابعة : فالظاهر عدم الجواز وذلك لوجهين :

الأوّل : فقد المقتضي والمجوّز لهذا التصرّف ، فانّ قاعدة السلطنة قاعدة عقلائية ممضاة للشارع ، وليست قاعدة تعبّدية حتّى يؤخذ بإطلاقها. وعلى ذلك ، فلا تكون دليلاً إلّا إذا ساعد فهم العقلاء في هاتيك الموارد ، حتى أنّ الفقهاء يحدّدون السلطنة بما جرت عليه العادة. ومن المعلوم أنّ العرف يخالفون كونه ذا حق وسلطة إلى هذا الحدّ غير المألوف ، فانّ لكلّ من الخان والاصطبل وحانوت الحدادة والقصارة أماكن مشخّصة يعد التجاوز عنها تجاوزاً عن الحدود ، ويعد بناءها في الأماكن السكنية ، نقضاً للحقوق وإيذاءً للجيران.

وبالجملة ، انّ قاعدة السلطنة قاعدة عقلائية مقيّدة بقيود ، ومحدّدة بحدود كيفاً ، ولا يصحّ الاستدلال بها إذا كان الارتكاز عندهم على خلافها.

الثاني : إنّ تجويز ذلك حكم ضرري ، ولا ضرر على المالك في منعه عن هذا التصرف ، بل غايته عدم النفع الكثير ، لا الحرمان المطلق.

واستدلّ على الجواز بوجهين :

١ ـ إنّ حبس المالك عن الانتفاع بملكه وجعل الجواز تابعاً لعدم تضرّر الجار ، حرج عظيم. (١)

يلاحظ عليه :

أنّ الحرج المنفي عبارة عن الحرج الوارد على الإنسان إذا منع عن حقوقه

__________________

(١) رسالة «لا ضرر» المطبوعة في آخر المكاسب ، ص ٣٧٦.

١٢٤

الشرعيّة القانونية.

وأمّا الحرج الوارد على الإنسان لأجل عدم الانتفاع بما لم يشرع له ، فليس مرتفعاً. فلو صار الإنسان في حرج من جهة المنع عمّا لا يسوغه العرف العام ويستنكره فليس له استساغته لأجل الحرج. والحاصل : أنّ المنع عن الانتفاع عن الملك بما هو خارج عن حدود السلطنة على المال في نظر العقلاء ، لا يعد ضرراً ولا حرجاً.

٢ ـ إنّ تضرّر الجار في المقام معارض بما دلّ على عدم وجوب تحمّل الضرر عن الغير ، كما يدلّ عليه تجويز الإضرار مع الإكراه. (١)

يلاحظ عليه :

أنّ منعه عن التصرّف ليس بمعنى تحمّله الضرر عن الغير ، بل غايته أنّه يمنع عن الإضرار بالغير ، ويمنع عن الانتفاع بماله على وجه يكون نفعه أكثر. وإنّما يصدق تحمّل الضرر إذا كان الضرر موجوداً دائراً بين الشخصين ، كالسيل المتهجم ، فيفتح بابه ليصون به دار جاره. وأين هو من المنع عن الانتفاع غير الرائج لئلّا يتضرّر الجار بعمله.

إذا عرفت حكم القسمين الأخيرين فلنرجع إلى بيان أحكام الصور الباقية ونكتفي ببيان حكم الأُولى ، ومنها يظهر حكم البقية.

الصورة الأُولى عبارة عمّا إذا دار الأمر بين الضررين ، فلو تصرّف في ملكه يتضرّر الجار ، ولو ترك يتضرّر هو نفسه.

أقول : لهذه الصورة حالتان :

١ ـ أن يعد تصرّفه في ملكه تصرّفاً في ملك الغير ، كما إذا كان حفر الأرض سبباً لحدوث صدع في حيطان الدار ، فلا شك أنّه عمل محرّم موجب للضرر لأنّ

__________________

(١) نفس المصدر.

١٢٥

قاعدتي السلطنة واللاضرر بالنسبة إلى الشخصين على السواء ، فلو جاز للمالك أن يتصرّف في ملكه بالحفر ، لجاز للجار منع الغير عن التصرّف في ملكه. ولو كان منع المالك عن التصرّف ضررياً لكان التصرّف في ملك الجار ولو بالتسبيب ضررياً أيضاً. فالظاهر إلحاقه بما إذا دار الأمر بين أحد الضررين على أحد الشخصين ، كما إذا دخل رأس الدابة في القدر ، فيجوز له الحفر مع ضمان ما يطرأ على دار الجار ، جمعاً بين الحقين.

٢ ـ إنّما الكلام إذا لم يكن كذلك بل تمحض العمل في دفع الضرر عن نفسه ، كما إذا كان ترك حفر البئر مستلزماً للضرر فهل يجوز أو لا؟

ذهب الشيخ الأعظم إلى الجواز وعلّله بوجهين :

١ ـ إنّ إلزامه بتحمّل الضرر وحبسه عن ملكه لئلّا يتضرّر الغير ، حكم ضرريّ منفي.

٢ ـ عموم «الناس مسلّطون على أموالهم» يشمل ذلك ، والظاهر عدم الضمان عندهم أيضاً.

فإن قلت : إنّه من باب دفع الضرر عن النفس بإدخال الضّرر على الغير ، وقد مرّ عدم جوازه. وبعبارة أُخرى :

«إذا فرض انّه يتضرّر بالترك فالضرر ابتداءً يتوجّه إليه ، ويريد دفعه بالتصرّف ، وحيث فرض أنّه إضرار بالغير ، رجع إلى دفع الضرر الموجّه على الشخص عن نفسه بإضرار الغير ، وقد تقدّم عدم جوازه. ولذا لو فرضنا كون التصرّف المذكور لغواً كان محرّماً لأجل الإضرار بالغير».

قلت : فرق هناك بين المقامين فإنّ ما تقدّم عدم جوازه ، هو فيما إذا كان سبب التضرّر أمراً خارجاً عن حيطة الشخصين كالسيل المتهجّم ، لاما إذا كان عامله تصرّف أحدهما في ملكه ، كما في المقام. وبعبارة أُخرى :

١٢٦

«إنّ ما تقدّم من عدم جواز إضرار الغير لدفع الضرر عن النفس إنّما هو في تضرّر الغير ، الحاصل بغير التصرّف في مال نفسه ، وأمّا إذا كان دفع الضرر عن نفسه بالتصرّف في ماله ، المستلزم لتضرّر الغير ، فلا نسلّم منعه ، لأنّ دليل المنع هو دليل نفي الضرر ، ومن المعلوم أنّه قاض في المقام بالجواز ، لأنّ منع الإنسان عن التّصرّف في ماله ، لدفع الضرر المتوجّه إليه بالترك ، ضرر عظيم وحرج منفي». (١)

ثمّ إنّ المحقّق النائيني (قدس‌سره) منع كون المقام من باب تعارض الضررين أو تعارض الضرر من جانب والحرج من جانب آخر ، أوّلاً. كما منع كون المرجع بعد التعارض هو قاعدة السلطنة ثانياً. وأوضح ذلك من الجهة الأُولى ، أعني : تعارض الضررين ، بوجهين :

الأوّل : إنّ المقام ليس من قبيل تعارض الضررين حتى يتعارضا. لأنّ أحدهما في طول الآخر ، وذلك لأنّ المجعول في هذه الواقعة ليس إلّا حكم واحد. فالحكم المجعول منه : إمّا جواز تصرّف المالك في ملكه وإمّا عدم جوازه. فإن كان الأوّل ، فهو مرفوع بقاعدة «لا ضرر» ولو استلزم رفعه ، الضررَ على المالك ، لأنّ الضرر الناشئ من رفع الأحكام الجوازية لا يعقل أن يدخل في عموم «لا ضرر». وإن كان الثاني ، فهو مرتفع وإن استلزم رفعُ عدم الجواز ، الضررَ على الجار. لأنّ الضرر الناشئ من حكومة «لا ضرر» على الأحكام التحريمية ، لا يعقل أن يدخل في عموم «لا ضرر» ، لأنّ قاعدة «لا ضرر» حاكمة على الأحكام الوجوبية أو التحريمية ، فإذا نشأ ضرر من حكومة «لا ضرر» فلا يمكن أن يكون «لا ضرر» ناظراً إلى هذا الضرر ، لأنّ المحكوم لا بدّ أن يكون مقدّماً في الرتبة على الحاكم حتّى يكون الحاكم شارحاً له وناظراً إليه. والمفروض أنّ هذا الضرر الحادث متأخّر في الرتبة عن قاعدة لا ضرر ، فلا يمكن أن يكون محكوماً ب ـ «لا ضرر».

الثاني : إنّ الحرج عبارة عن المشقة. ومطلق منع المالك عن التصرّف في ملكه

__________________

(١) رسالة «لا ضرر» الملحقة بالمكاسب ، ص ٣٧٥.

١٢٧

لدفع ضرر الغير ليس حرجاً. وبعبارة أُخرى : لا يشمل نفي الحرج ، المشقة الطارئة على الجوانح فترك حفر البئر في الدار ، وترك مطلق التصرّف في الأموال ليس حرجاً. (١)

إنّ كلاً من الوجهين لا يخلو من تأمّل :

أمّا الأوّل ، فلأنّا نختار الشقّ الثاني وأنّ المجعول في هذه الواقعة عدم تصرّف المالك في ملكه وأنّ قاعدة لا ضرر حاكمة ورافعة له ، ويلزم منه ورود الضرر على الجار ، لكن عدم شمول القاعدة لهذا الضرر المتولِّد من جريان القاعدة ، غير واضح لأنّ القاعدة وإن كانت قاصرة عن الشمول للضرر المتوجّه إلى الجار لأجل جريانها في جانب المالك لفظاً ، لكنّها ليست بقاصرة عن الشمول ملاكاً إذ لا فرق بين الحكمين الضرريين ، وإن كان أحدهما موجوداً قبل الشمول والآخر متولّداً بعده فالكلّ مرفوع. وما ذكره من أنّ المحكوم يجب أن يكون متقدّماً على الحاكم إنّما يصحّ لو قلنا بأنّه يشمله لفظاً. وأمّا إذا قلنا بشموله له ملاكاً ، فلا يشترط ذلك أبداً ، لأنّ المفروض أنّ الشمول لأجل إحراز العقل عدم الفرق بين الحكمين الشرعيين في كونهما ضرريين ، لا للدلالة اللفظية.

وأمّا الثاني ، فهو عجيب فقد استعمل الحرج في القرآن في المشقة الطارئة على الجوانح ، قال سبحانه : (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ) (الأحزاب / ٣٧) ، وقال تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء / ٦٥) ، إلى غير ذلك من الآيات التي ورد فيها الحرج وأُريد منه الطارئ على الجوانح. فالحق في المسألة ما ذكره الشيخ (قدس‌سره).

__________________

(١) رسالة قاعدة «لا ضرر» ص ٢٢٤. وهذان الوجهان لأجل منع الصغرى أي وقوع التعارض بين الضررين أو بين «لا ضرر» و «لا حرج». وأمّا وجه منع الكبرى ، أي الرجوع بعد التساقط إلى قاعدة التسلّط ، فقد ذكر (قدس‌سره) وجهه ، وتركنا نحن ايراده روماً للاختصار فلاحظه.

١٢٨

التنبيه العاشر :

فيما لو ترتّب من تكليف فرد بحكم ،

ضرر على فرد آخر

لو ترتّب من تكليف فرد بحكم ، ضرر على فرد آخر ، فهل يرتفع وجوبه أو لا؟ كما إذا كان صوم الحامل المقرب أو المرضعة ، مضرّاً بالحمل أو الرضيع.

الظاهر نعم. أمّا على القول المختار في تفسير الحديث ، فلأنّه داخل في اضرار الناس بعضهم ببعض ، وقد نهي عنه.

وأمّا على مختار المشهور ، فلأنّ إيجاب الصوم عليها حكم ضرري على الولد وإن لم يكن ضررياً على الصائمة ، غير أنّ الناس لدى الشارع سواسية. فإيجاب الصوم عليها في هذا الظرف لا يجتمع مع القول بأنّه لا حكم ضرري مجعول في الإسلام.

١٢٩

التنبيه الحادي عشر :

في شمول القاعدة

فيما إذا كان المكلّف سبباً لتوجّه حكم ضرري

إذا أقدم المكلّف على موضوع يتعقّبه حكم ضرري ، كمن أجنب نفسه ، وكان الغسل ضررياً ، فهل يرتفع وجوب الاغتسال والصوم بالقاعدة أو لا؟

الحق هو الأوّل ، لأنّ تجويز الاغتسال والصوم أو إيجابهما على المقدّم حكم ضرري. ولا يجتمع القول بأنّه لا حكم ضرري مع تشريع الحكم الضرري في ذاك المورد. ويؤكده أنّ الجزء الأخير من العلّة التامّة للاضرار بالمكلّف هو حكم الشارع. ولو لا إيجابه الغسل أو الصوم ، لما كان المكلّف متضرّراً بالاجناب أو شرب الدواء.

هذا ممّا لا كلام فيه. وإنّما الكلام في وجه ذهاب المشهور إلى خلاف المختار في موارد لا تفترق عن المقام. فلو أقدم على المعاملة الغبنية أو عمل عملاً يستلزم تعلّق حكم ضرري به ، كما إذا غصب ألواحاً وصنع بها سفينة ، أو بنى في الأرض المستأجرة ، أو غرس فيها أشجاراً. فإنّ المعاملة مع كونها ضررية ، لازمة. كما أنّ المكلّف الغاصب مأمور بردّ الألواح إلى صاحبها وإن استلزم خسارات. كما يجب عليه تخليص الأرض من البناء والأشجار. فعندئذ يقع الكلام في وجه الفرق بين الحكمين الأوّلين وأحكام هذه الصور ، مع أنّ هذه الأحكام كالحكمين المتقدمين ضررية جدّاً.

التحقيق أن يقال بانصراف القاعدة عن الموارد التي صار المكلّف نفسه فيها هاتكاً لحرمة ماله حيث اشترى الجنس بثمن غال عالماً عامداً. فكما أنّه لو

١٣٠

اشترى بالمحاباة أو وهب ماله لرحمه ، لا تكون القاعدة حاكمة على نفوذ المعاملة ووجوبها ، فهكذا إذا اشترى بالثمن الغالي. ومثله إذا أدخل الخشب في بنائه ، أو نصب لوحة في سفينة مع العلم بكونهما مغصوبين ، لأنّه تصرّف في شيئين كانا محكومين من أوّل الأمر بردّهما إلى صاحبيهما ، سواء كان قبل الادخال والنصب أو بعدهما ، فهو بعمله هذا قد هتك حرمة ماله أعني البناء أو السفينة. ومثله ما إذا بنى داراً أو غرس أشجاراً في أرض مستأجرة ، مع علمه بأنّ الاجارة تنتهي قبل كمال الزرع والشجر.

أضف إلى ذلك ما تضافر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أنّه «ليس لعرق ظالم حق» فإنّ تسويغ بقاء الخشب في بناء الغير أو اللوح في السفينة ، إعطاء حق للظالم في التحفّظ على عرقه.

وبذلك يظهر انّه لو باع بأقلّ من الثمن ، يكون نافذاً. لأنّ نفوذ المعاملة في هذه الحالة من آثار سلطنة المرء على ماله ، وليست نفس السلطنة أمراً ضرريّاً. ولأجل ذلك تصحّ هبة المال للرحم وغيره بلا عوض وإن كان تلزم في الأوّل دون الثاني.

نعم ، تسلّط الغير على ماله حكم ضرري ، وأمّا تسليط الغير عليه وإن كان ضرريّاً لكن الدليل منصرف عنه ، والمقام من مصاديق القسم الثاني.

وكل تصرّف صدر من المالك عن علم واختيار ، نافذ سواء كان ضرريّاً عند العرف أو لا ، والحكم بعدم نفوذها إبطال لسلطانه وسلطنته وهو ضرر أكبر.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني أجاب عن الإشكال بوجه آخر وقال : «إنّ هدم البناء وكسر السفينة ليس ضرراً لأنّه مع فرض كون اللوح أو الخشب مغصوبين ، لم يكن صاحب السفينة مالكاً لتركب السفينة ، ولا صاحب الدار مالكاً لبنائها. فهذه الهيئة الحاصلة لها إذا لم تكن مملوكة له فرفعها ليس ضرراً ، لأنّ الضرر عبارة عن نقص ما كان واجداً له. وبعبارة أُخرى : كما أنّ الغاصب لم يكن مالكاً من أوّل

١٣١

الأمر لإدخال الخشب في البناء ونصب اللوح في السفينة ، لا يكون مالكاً لابقائهما فيهما. وكما لا ضرر عليه في ردّهما إلى مالكهما قبل البناء والغصب ، فكذا بعدهما.

يلاحظ عليه : بأنّ امتثال أمر الشارع بردّ المغصوب إلى مالكه وإن لم يكن ضرريا حدوثا ـ قبل نصبه في السفينة ـ ولكن امتثاله بقاءً مستلزم للضرر بلا إشكال. وكونه غير مالك للهيئة الحاصلة ، وإن كان صحيحاً ، لكن هدمها يستلزم ورود الضرر على السفينة قطعاً. لأنّ كون اللوح مغصوباً لا يستلزم كون السفينة بأجمعها وما فيها مغصوباً. ومثله إذا كان قد أدخل خشبة في بناء الغير ، فإنّ تخليص البناء من الخشبة الموضوعة عليه ضرري بقاءً ، لاستلزامه انهدام البناء.

والحق في الجواب ما ذكرناه.

ثمّ إذا كان الحكم ضررياً ، وجهل المكلّف بالضرر وأقدم على العمل ، كما إذا توضأ وكان استعمال الماء مضراً ، فهل يحكم ببطلان العمل بحجة أنّ العمل ضرري مرفوع حكمه أو لا؟

قال السيّد ـ د الطباطبائي (رحمه‌الله) في العروة الوثقى : «لو كان أصل الاستعمال مضرّاً ، وتوضّأ جهلاً أو نسياناً ، فإنّه يمكن الحكم ببطلانه لأنّه مأمور واقعاً بالتيمّم». ومع ذلك كله ، فقد أفتى بخلاف ما اختاره هنا في ذيل الشرط السابع للوضوء وقال : «ولو كان جاهلاً بالضرر صحّ ، وإن كان متحقّقاً في الواقع والأحوط الإعادة أو التيمّم». (١)

والظاهر هو البطلان ، لأنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية ، فليس الموضوع هو الحكم الضرري المعلوم ، بل الحكم الضرري في الواقع ، موضوع على الاطلاق. فهو عندئذ محكوم بالتيمّم دون الوضوء ، فما أتى به غير مأمور به ، وما هو مأمور به لم يأت به.

__________________

(١) العروة الوثقى ، فصل في شرائط الوضوء ، الشرط السابع.

١٣٢

وإن شئت قلت : لو كان الحكم الواقعي في صورة الجهل هو التوضؤ دون التيمّم ، لما صحّ للشارع الهتاف بأنّه لا حكم ضرري في الإسلام ، وأنّ الحكم الضرري غير مجعول. فنفي الحكم الضرري بتاتاً مع تشريعه في حال الجهل لا يجتمعان أبداً.

استدلّ المحقّق النائيني (رحمه‌الله) على الصحّة بأمرين :

الأوّل : انّ كون الحديث مسوقاً للامتنان يقتضي التقييد بالضرر المعلوم ، وإلّا تلزم إعادة الوضوء والصوم على من تضرّر بهما ، ولم يعلم به ، وهذا خلاف المنة.

الثاني : انّ في مورد الضرر الواقعي ليس الحكم الشرعي بوجوب الوضوء والصوم هو الموجب للضرر ، أي ليس إطلاق الحكم هو الجزء الأخير من العلّة التامّة للضرر. ولو فرض انتفاء الحكم في الواقع ، لوقع هذا الشخص في الضرر لجهله واعتقاده بعدم التضرّر. فليس الضرر مستنداً إلى تشريع الحكم.

وبعبارة أُخرى : الحكم الفعلي على المتضرّر العالم بالضرر ، موجب للضرر ، وأمّا الحكم الواقعي الذي لا يتفاوت وجوده وعدمه في إقدام المكلّف على هذا الفرد ، فليس هو الجزء الأخير من العلّة للضرر. (١)

وفي كلا الوجهين تأمّل :

أمّا الأوّل ، فلأنّ معنى كون الحديث مسوقاً للامتنان ، ليس هو وجود الامتنان في كل مورد من موارده ، بل يكفي كون الحكم المشروع امتنانياً على الوجه الكلّي نظير كون رفع الحكم في موارد الاضطرار والإكراه امتنانياً. ولأجل ذلك لا يصحّ العقد المكره عليه وإن كان نافعاً لحال المكره ، كما إذا باع ما يساوي مائة بمائتين على وجه الإكراه ، لعموم دليل الإكراه ، إذ لا يلزم اشتمال كل مورد على الامتنان ، بل يكفي كون التشريع على ذلك الأساس.

__________________

(١) رسالة «لا ضرر» للخوانساري ، ص ٢١٥ ـ ٢١٦ بتلخيص.

١٣٣

وعلى هذا ، لمّا كان تنفيذ الحكم الضرري على خلاف الامتنان ، بل كان الامتنان في رفعه وعدم تنفيذه ، يحكم بارتفاع حكم الوضوء الضرري على وجه الإطلاق ، وإن لم يكن الامتنان في مورد الإقدام جهلاً ، موجوداً. لأنّ في الحكم ببطلان الوضوء ولزوم التيمم عليه كلفة ، وليس في جانب عكسها أي صحّة الوضوء وعدم وجوب التيمّم.

أمّا الثاني : فانّ الحكم لا يكون جزءاً أخيراً من العلّة التامّة في جميع الصور ، حتّى في صورة العلم بالضرر فضلاً عن الجهل به ، لأنّه يتوسّط بين الحكم والفعل ، إرادة المكلّف واختياره. فعدم كون الحكم جزءاً أخيراً من العلّة التامّة لا يمنع من شمول إطلاق القاعدة له ، إذ ليس الحكم في عامة الموارد علّة تامّة ولا جزءاً أخيراً للضرر لما عرفت من أنّه تتوسط بين حكم الشارع ، والوقوع في الضرر ، إرادة المكلّف واختياره ، وعلى ذلك تشمل القاعدة كلتا الصورتين بلا كلام ، أقدم على العمل علماً أو جهلاً.

١٣٤

التنبيه الثاني عشر

هل الرفع رخصة أو عزيمة؟

قد عرفت أنّ المختار عندنا هو نفي إضرار الناس بعضهم ببعض لا رفع الحكم الضرري ، وانّ كثيراً من المباحث المتقدّمة كان مبنياً على تفسير القوم برفع الحكم الضرري. وعلى ذلك فهل الرفع من باب العزيمة ، فلا تجوز مخالفته ، أو الرفع من باب الرخصة؟

تظهر الثمرة فيما إذا انقلب التكليف بالطهارة المائية ، إلى الترابية. كما إذا كان الوضوء مضرّاً وكان عالماً به ، فلو توضّأ بطل وضوؤه على الأوّل دون الثاني.

وهذا البحث يجري في مورد العناوين الثانوية الحاكمة على أحكام العناوين الأوّلية كرفع الاضطرار والإكراه والحرج وغير ذلك.

وقد أوضحنا حقيقة الحال عند البحث عن قاعدة «لا حرج» وذكرنا أنّ الحق هو كون الرفع عزيمة لا رخصة. والمسألة غير معنونة في كلمات القوم على وجه الاستقلال ، لكنّهم أشاروا إلى مختارهم في خلال أبحاث التيمّم والصوم.

قال السيد الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ في العروة الوثقى : «إذا تحمّل الضرر وتوضّأ واغتسل ، فإن كان الضرر في المقدّمات من تحصيل الماء ونحوه ، وجب الوضوء أو الغسل وصحّ. وإن كان في استعمال الماء في أحدهما بطل. وأمّا إذا لم يكن استعمال الماء مضرّاً بل كان موجباً للحرج والمشقّة ، كتحمّل ألم البرد أو الشين مثلاً ، فلا تبعد الصحّة وإن كان يجوز معه التيمّم ، لأنّ نفي الحرج من باب الرخصة لا العزيمة ، ولكن الأحوط ترك الاستعمال وعدم الاكتفاء به على فرضه ، فيتيمّم أيضاً». (١)

__________________

(١) العروة الوثقى ، فصل التيمّم ، المسألة ١٨.

١٣٥

وقد فرّق ـ كما ترى ـ بين استعمال الماء المضر ، واستعمال المحرج ، فحكم بالبطلان في الأوّل دون الثاني ، مع أنّ الدليلين من واد واحد. ولذا استشكل على الصحّة عند الحرج بعض الأعلام فحكم بضمّ التيمّم لو توضّأ وضوءاً حرجياً.

ومن هذا الباب الشيخ والشيخة إذا كان الصوم عليهما حرجياً لا متعذّراً ، ومثله من به داء العطش لا بحيث لا يقدر على الصبر بل على وجه يكون فيه مشقّة.

ومنه أيضاً الحامل المقرب التي يضرّها الصوم أو يضرّ بحملها ، والمرضعة القليلة اللبن إذا أضرّ بها الصوم أو أضرّ بالولد. فهل يجب الإفطار والتكفير ، أو يجوز الصوم؟

احتمالان مبنيان على أنّ الرفع عزيمة أو رخصة. فلاحظ هذه المسائل في كتب القوم مفصّلها ومختصرها.

ولكن الحقّ هو الأوّل ، لما عرفت من أنّ قوله «لا ضرر» إخبار عن عدم الضرر في الخارج. ومن المعلوم أنّ الأخبار عن عدمه مع شيوعه كذب لا يصدر عن المعصوم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، فيحتاج إلى مصحّح وهو أنّ الشارع لمّا نظر إلى صفحة التشريع رأى خلوها عن أي تشريع ضرري فصار ذلك سبباً لأخباره بعدم الضرر ، كما إذا وضع مدير المدرسة ضوابط لها ، فإذا رأى تخلّفاً من أحد يقول : «لا فوضى ولا هرج» مخبراً عن عدمهما مع وجودهما. والمصحّح لقول المدير خلو قانون المدرسة عن أي عمل يخالف النظم. ولا يصح هذا الاخبار إلّا أن يكون الالتزام بها ضرورياً وواجباً ، لا سائغاً وجائزاً.

وبعبارة أُخرى : لو وجد في برنامجه ما يجوز الفوضى واللانظام ، لما صحّ له الهتاف بانّه «لا فوضى ولا هرج».

ومن هنا يعلم أنّ الشارع الحكيم إذا قال هاتفاً : «لا ضرر» مخبراً عن نفي الضرر في الخارج ، لا يصحّ هذا الهتاف منه إلّا إذا كان صعيد التشريع خالياً عن

١٣٦

أيّ حكم ضرري واجباً كان أو جائزاً. وإلّا فلو اشتمل على بعض ذلك لما صحّ الأخبار على وجه القطع. هذا هو الوجه الذي اعتمدنا عليه في كلا البابين واخترنا فيهما كون الرفع عزيمة لا رخصة.

ثمّ إنّ القائلين بصحّة الأعمال الضررية والحرجية استدلّوا بوجوه نشير إليها :

١ ـ القول بالملاك وكون الوضوء والصوم واجدين له.

وفيه أنّه أوّل الكلام لأنّ استكشاف الملاك يتفرّع على وجود الإطلاق الشامل لحالتي الضرر والحرج وهو غير موجود. فمن أين نقف على وجود الملاك؟

٢ ـ الترتّب ، فالوضوء أو الصوم الضرريان واجبان على وجه الترتّب بعصيان الأمر بالتيمم أو الافطار.

يلاحظ عليه : بأنّ إطلاق القاعدة ينفي تشريع مثل هذا الحكم الضرري وإن كان في رتبة متأخّرة مقارناً لعصيان الأمر بالتيمّم والإفطار.

٣ ـ انّ المرفوع هو الفصل ، أعني : اللزوم والوجوب ، دون الجنس ، أعني : الجواز. كما هو الحال في باب العقود الضررية ، فانّ المرفوع هو اللزوم لا الصحّة لأنّه الجزء الأخير للضرر لا الصحّة.

يلاحظ عليه : بأنّ القول برفع اللزوم دون الجواز تدقيق فلسفي بعيد عن الأذهان العرفية ، وأمّا العقود الضررية ، فلو كان المستند فيها هو القاعدة فيجب أن يكون المرفوع صحّة المعاملة الضررية وإن كان الاستناد في العقود الضررية إلى القاعدة ، غير تام عندنا.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني ـ أعلى الله مقامه ـ استدل على كون الرفع عزيمة لا رخصة بوجه آخر ، وهو أنّه لو صحّ الوضوء الضرري يلزم أن يكون ما في طول الشيء في عرضه ، وهذا خلف ، لأنّ التكليف لا ينتقل إلى التيمّم إلّا إذا امتنع استعمال الماء خارجاً أو شرعاً. وإذا كان مرخصاً شرعاً في الطهارة المائية فلا يدخل في «من لا يجد

١٣٧

الماء» ، حتى يشمله قوله عزّ من قائل : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) (النساء / ٤٣). (١)

يلاحظ عليه : بأنّ الخلف يرتفع بتقييد الإطلاق الوارد في الآية بما إذا أقدم على الضرر فهو مع أنّه يجوز له التيمّم ، يجوز له الوضوء أيضاً ، ولا مانع من التخيير في هذه الصورة. وليس كون التيمم في طول الوضوء من قبيل كون المعلول في طول العلّة حتى يمتنع اجتماعهما. فلا مانع من أن يكون الأوّل في طول الثاني. غير أنّهما يكونان مجتمعين في مورد واحد ، كما إذا أقدم على الضرر.

وله نظائر في الفقه ، وقد ورد في من آوى إلى فراشه فنسي أن يتوضّأ أنّ له الاكتفاء بالتيمّم وهو في الفراش ، مع أنّه يجوز له القيام عنه إلى الوضوء.

والأولى الاستدلال بما ذكرناه من النفي الإطلاقي.

أضف إلى ذلك ما ورد في بعض الروايات من أنّ الترخيص في هذه المقامات من الله سبحانه هدية لا ترد ومن خالف فقد رد هدية الله سبحانه. روى ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : سمعته يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله عزوجل تصدّق على مرضى أُمتي ومسافريها بالتقصير والافطار ، أيسر أحدكم إذا تصدق بصدقة أن ترد عليه». (٢)

وروى السكوني عن الصادق (عليه‌السلام) عن آبائه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ الله أهدى إلي وإلى أُمّتي هدية لم يهدها إلى أحد من الأُمم ، كرامة من الله لنا. قالوا : وما ذاك يا رسول الله؟ قال : الإفطار في السفر والتقصير في الصلاة فمن لم يفعل ذلك فقد ردّ على الله عزوجل هديته». (٣)

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في المقام.

__________________

(١) رسالة قاعدة «لا ضرر» للخوانساري ، ص ٢١٧.

(٢) الوسائل الجزء الخامس ، الباب ٢٢ من أبواب صلاة المسافر الحديث ٦ ، و ١١.

(٣) الوسائل الجزء الخامس ، الباب ٢٢ من أبواب صلاة المسافر الحديث ٦ ، و ١١.

١٣٨

قاعدة لا ضرر في المسائل الفقهيّة :

البحث حول المسائل الأُصوليّة والقواعد الفقهيّة على مستوى المجال النظري فحسب ، بلا تطبيق على المسائل الفقهيّة الّتي تعتبر مجالاً عمليّاً لتلك الضوابط الأُصوليّة والفقهيّة ، بحث جافّ قليل الفائدة قد لا تحصل منه للطّالب ثمرة تجديه في ممارسة عمليّة الاستنباط والحصول على ملكة الاجتهاد.

وأمّا البحث عن تلك القضايا مشفوعاً بالتّتبّع عن المسائل الفقهيّة وتحقيق الموارد الّتي استدلّ الفقهاء بالقوانين الأُصوليّة أو القواعد الفقهيّة عليها ، فهو أُسلوب علميّ دراسي راق يأخذ بيد المحصّل إلى الامام ويعطيه مجالاً عمليّاً خصباً للتمرين والممارسة الاجتهاديّة.

وهذا الأُسلوب الرّاقي كثيراً ما يركّز عليه أُستاذنا الكبير المحقّق سماحة الشيخ السبحاني في حلقات درسه ومحاضراته ويجهد لأن يذكر للمسائل الأُصولية ثمرات فقهية في مختلف الأبواب وقد شكل في سالف الأيّام لجنة علمية لمطالعة الموسوعات الفقهية كالجواهر ومجمع الفائدة لاستخراج المسائل الفقهيّة المستنبط حكمها من المسائل الأُصوليّة واللجنة بعد في عملها وقد أرشدني حينما أوعز إليّ تحرير رسالة قاعدة لا ضرر ، إلى استخراج الموارد الفقهيّة الّتي استدلّ الفقهاء بالقاعدة عليها حتّى تكمل بذلك الرّسالة عن الأُسلوب العلميّ الجافّ.

فتتبّعت المسألة في متون الكتب الفقهيّة لفقهائنا الأقدمين والمتأخّرين والمعاصرين ، وكذلك فقهاء العامّة بما تيّسر وسنحت لي بذلك الظروف ، فاستعنت مضافاً إلى المراجعة المستقيمة ـ بجهاز الكمبيوتر المعدّ لتلك الدراسات في المؤسّسات العلميّة في حوزة قم المقدّسة ـ بُغية الحصول على نصوص أكثر في أسرع وقت ممكن.

واستخرجت من كتب أصحابنا ما يقارب ٦٥٠ نصّاً معظمها من جواهر الكلام حيث استخرجت منه حوالي ٥٠٠ مورد.

١٣٩

وأمّا من كتب العامّة فقد استخرجت حوالي مائتين (٢٠٠) نصّاً وأكثرها من كتاب المغني لابن قدامة حيث استخرجت من سبعة أجزاء حوالي ١٨٨ مورداً.

وإذا أضفنا الموارد التي استخرجتها حول مسألة الاضرار بالنفس والّتي تبلغ حوالي خمسين مورداً ، يصبح المجموع تسعمائة نصّاً تقريباً.

وفي هذه العجالة نشير إلى نماذج من عناوين تلك الموارد في كلّ كتاب من كتب الفقه من الطّهارة إلى الدّيات ـ حسب ترتيب شرائع الإسلام ـ ونترك المراجعة التفصيليّة للمحقّقين ، لأنّ ذكر جميع النصوص يتطلّب كتابة كتاب مستقلّ ضخم وهذا ممّا لا يتسنّى لنا في هذه الحال. والموارد المذكورة كما يلي :

١ ـ كتاب الطهارة :

١ ـ من شرائط التيمّم كون استعمال الماء موجباً لزيادة الضرر في المرض. (١)

٢ ـ وجوب وضع موضع الجبائر في الماء حتى يصل إلى البشرة إذا لم يكن فيه ضرر. (٢)

٣ ـ كراهة إسخان الماء إلّا إذا خاف الضرر. (٣)

٤ ـ وجوب طلب الماء للطهارة إذا لم يدخل عليه ضرر. (٤)

٥ ـ وجوب التيمّم إذا كان في المسح ضرر. (٥)

٦ ـ لزوم شراء الماء للوضوء ما لم يكن مضرّاً. (٦)

__________________

(١) السرائر لابن إدريس ج ١ / ١٣٥ ، والمعتبر ١ / ٣٦٩.

(٢) المعتبر للمحقّق ، ج ١ / ١٦٢.

(٣) رسائل الشريف الرضي ، ٣ / ٥١ ، والجواهر ١ / ٣٣٥.

(٤) المبسوط للشيخ ج ٢١ / ٣١.

(٥) تذكرة الفقهاء للعلّامة ج ١ / ٢١.

(٦) الجواهر ، ج ٥ / ١٠٠.

١٤٠