الرسائل الأربع - ج ٢

عدّة من الأفاضل

الرسائل الأربع - ج ٢

المؤلف:

عدّة من الأفاضل


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٠٤

نعم لا يشترط ورود المحكوم مقدماً على الحاكم ، بل المقوّم ، لكون الدليل حاكماً كونه ناظراً وشارحاً ومفسّراً ، لا بخصوص اللفظ ، بل بنظر العرف عند المقايسة بينهما.

وبذلك يظهر الخلل في ما أفاده المحقّق النائيني (رحمه‌الله) في تعريف الحكومة حيث اشترط التقدّم الزماني للمحكوم والتأخّر كذلك للحاكم ، قال : إنّ الحكومة تتوقّف على ورود المحكوم أوّلاً ، ثمّ ورود الحاكم. وذلك لأنّه مسوق لبيان حكمه ومتفرّع عليه ، بخلاف التخصيص الذي هو أحد أقسام التعارض. (١)

لأنّه لو تمّ ، فإنّما يتمّ في أمثال «لا شكّ لكثير الشكّ» أو «لا ربا بين الوالد والولد» لا في مثل حكومة الأمارات على الأُصول على القول المشهور بين المتأخّرين ونظائرها.

ثمّ التفسير تارة يكون بالتصرّف في عقد الوضع ، وأُخرى بالتصرّف في عقد الحمل. ولكل ـ في بادي النظر ـ قسمان. لأنّ التصرّف تارة يكون بالتضييق ، وأُخرى بالتوسيع.

أمّا الأوّل ، فكقوله : «لا ربا بين الوالد والولد» ، فانّه حاكم على أدلّة حرمة الربا. ولو لا تشريع حكم في الربا ، لكان تشريع الدليل الحاكم لغواً. ومثل قوله : «ما جعل عليكم في الدين من حرج» ، بالنسبة إلى الأحكام المنتهية إلى الحرج أحياناً. والفرق بينهما ، أنّ الأوّل تصرّف في عقد الوضع على حسب الظاهر ، والآخر تصرّف في عقد الحمل ، أي الأحكام المحمولة على العناوين الأوّلية كوجوب الوضوء إذا صار حرجياً.

أمّا الثاني ، فالتوسيع من جانب الموضوع متصوّر معقول ، مثل قوله : «الطواف بالبيت ، صلاة» بالنسبة إلى قوله : «لا صلاة إلّا بطهور». فانّ الدليل الثاني

__________________

(١) قاعدة لا ضرر للخوانساري ، ص ٢١٤.

١٠١

لا يشمل الطواف حسب الدلالة اللفظية ، لكنّه بالنظر إلى الدليل الثاني يعمّ الطواف ، وإن كانت الغاية منه هي كونه محكوماً بحكمها ، لا كونه صلاة حقيقة ، نعم هو صلاة ادعاءً. ويكفي في عمومية المحمول ـ أعني وجوب الوضوء مثلاً ـ وسعته ، ادعاء كونه صلاة.

وأمّا التوسيع في جانب المحمول فهو غير متصوّر ، لأنّه مع تحقّق الموضوع حقيقة أو حكماً ، لا يحتاج إليه. فإنّ تحقّق الموضوع يستلزم الحكم استلزام الماهية لازمها. وأمّا مع عدمه ، فغير معقول ، إذ لا معنى للتعبّد بالحكم مع عدم الموضوع ، لا حقيقة ولا حكماً ولأجل ذلك لو صحّت حكومة القاعدة على الأحكام الواقعية ، تكون على نحو التضييق في جانب المحمول مثل قاعدة لا حرج.

ثمّ إنّ تصحيح كون القاعدة حاكمة على الأدلّة الواقعيّة متفرّع على قبول تفسير الشيخ وهو : أنّه لا حكم ضرري في الشريعة الإسلاميّة ، وإلّا فلا وجه للحكومة.

٢ ـ تقديم القاعدة من باب التوفيق العرفي :

ذهب إليه المحقّق الخراساني قائلاً بأنّ العرف يوفق بين مفاد الأدلّة الواردة لبيان حكم العناوين الأوّلية ، ومفاد القاعدة. وذلك : «أنّ الحكم الثابت بالعنوان الأوّلي تارة يكون بنحو الفعلية مطلقاً أو بالاضافة إلى عارض دون عارض بدلالة لا يجوز الاغماض عنها ، بسبب دليل حكم العارض المخالف له ، فيقدّم دليل ذاك العنوان على دليله ، وأُخرى يكون على نحو لو كانت هناك دلالة للزم الإغماض عنها بسببه عرفاً حيث كان اجتماعهما قرينة على أنّه بمجرّد المقتضي ، وأنّ العارض مانع ، فيقدّم ولو لم نقل بحكومة دليله على دليله لعدم ثبوت نظره إلى مدلوله كما قيل. (١)

__________________

(١) كفاية الأُصول ، ج ٢ ، ص ٢٧٠ ، قاعدة لا ضرر.

١٠٢

يلاحظ عليه :

أنّ جعل المقام من قبيل المقتضي والمانع ، وتصوير الأحكام الأوّليّة مقتضيات للأحكام المترتبة عليها ، وجعل الضرر من قبيل المانع ، يحتاج إلى دليل فلو تمت قاعدة المقتضي والمانع ، فإنّما تتم في نظائر قتل الوالد ولده وكون المرابي ولداً أو زوجة ، فالقتل العمدي مقتض للقصاص ، كما أنّ الربا مقتض للحرمة ، غير أنّ كون القاتل والمرابي والداً أو زوجاً مانع عن تأثير الحكم وأمّا المقام فلم يحرز وجود المقتضي في الوضوء والعقد الضرريّين حتى يكون الضرر مانعاً عن تنجّز الوجوب في الوضوء ، أو لزوم الوفاء بالعقود في العقد الغبني.

٣ ـ تقدّم القاعدة لأخصيّتها من مجموع الأحكام :

نقل المحقّق النائيني (قدس‌سره) وجهاً آخر ، وهو أخصيّة دليل القاعدة من دليل مجموع الأحكام ، وإن كان بين دليلها ودليل كل حكم مستقلاً ، عموم من وجه إلّا أنّ ورود نفيه على أحكام الإسلام ، كورود نفي الحرج في الدين ، يقتضي ملاحظته مع مجموع الأحكام فيقدّم عليها لأخصيته. (١)

الظاهر عدم تماميته ، لأنّ كل دليل إنّما يلاحظ مع كل واحد من الأدلّة بنفسه لامع مجموع الأدلّة ، وعند ذلك تصبح النسبة بين القاعدة وكل واحد من الأدلّة عموماً وخصوصاً من وجه ، ولا ملزم لتقديم واحد معيّن مطلقاً.

نعم كون أحد الحكمين وارداً لبيان حكم العنوان الثانوي وجه مستقل لتقديمه على الآخر ـ وعليه ـ لا حاجة إلى التركيز على الأخصّية.

٤ ـ تقدم القاعدة رفعاً للّغوية :

قد نُقِل وجهاً آخر أيضاً وهو أنّ نسبة القاعدة إلى جميع الأدلّة نسبة واحدة ،

__________________

(١) قاعدة لا ضرر للخوانساري ، ص ٢١٣.

١٠٣

فلو قدّم عليها كل دليل لم يبق لها مورد ، وتقديم البعض ترجيح بلا مرجح ، وأمّا لو قدّمت على سائر الأدلّة لم يلزم محذور لبقاء حكمها في غير مورد الضرر. (١)

ولا يخفى أنّ لازم ما ذكره ، كون القاعدة متعارضة مع سائر الأحكام وأنّ الجمع بين الدليلين لأجل التحرّز عن اللغوية. ولكنّه إنّما يتم إذا كان الدليل المعارض قطعياً مثل أدلّة الأحكام الأوّلية فلا مناص في مقام الجمع عن تقديم ما لا يلزم منه اللغوية. وأمّا إذا كان غير قطعي فطرح الظنّي متعيّن.

نعم حرمة الضرر أمر قطعي في الشريعة المقدّسة حسب ما استعرضنا من رواياتها.

٥ ـ تقديم القاعدة لقوّة دلالتها وكونها حديث امتنان :

الظاهر أنّ وجه التقديم ، إنّما هو قوّة الدلالة وذلك بملاك كون الدليل دليل امتنان فيقدّم على العموم ، وإن كانت النسبة بين القاعدة والعموم عموماً من وجه ، فانّ الامتنان في عدم نفوذ العقد الغبني لا في امضائه. (٢) وبالجملة : صدوره امتناناً على الأُمّة ، يعطي للحديث في نظر العرف تقدّماً على غيره سواء أصحّت تسميته بقوّة الدلالة أم لا.

وبذلك يتبيّن وجه تقدّم القاعدة في عامة الموارد ، من غير ملاحظة النسبة بينها وبين دليل آخر. ولو لا ذلك لوجب التوقّف إذا كانت النسبة عموماً وخصوصاً من وجه.

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) في خلال كلام الشيخ في الفرائد اشارة إلى هذا الوجه.

١٠٤

التنبيه الخامس :

هل الرواية مشتملة على ما يخالف القواعد؟

إنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بقلع الشجرة ، وقال في رواية الحذاء : «ما أراك يا سمرة إلّا مضاراً ، اذهب يا فلان فاقطعها واضرب بها وجهه». وقال في رواية عبد الله بن بكير عن زرارة : «اذهب فاقلعها وارم بها إليه فانّه لا ضرر ولا ضرار». وقال في رواية عبد الله بن مسكان عن زرارة : «إنّك رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن قال : ثمّ أمر بها فقلعت ورمى بها إليه».

ترى أنّ الأمر بالقلع معلل بالقاعدة في الرواية الثانية. وأمّا الأُولى والثالثة فالتعليل فيهما مفهوم من سياق الكلام لا من صريحه حيث وصف الرجل بأنّه مضار ثمّ أمر بالقلع ، فكأنّه وضع موضع التعليل. فما عن بعض الأكابر من الأساتذة (١) من اشتمال رواية واحدة على تعليل القلع بالقاعدة دون البقية ، فكأنّه ناظر إلى التعليل الصريح دون الأعم منه ومن غيره.

وعندئذ يقع الاشكال في صحة التعليل ، فانّ نفي الضرر يقتضي المنع عن الدخول بلا استئذان لا قلعها رأساً وإن شئت قلت : إنّ الحكم الضرري هو جواز الدخول بلا استئذان ، فيجب أن ينفى مع ابقاء الشجرة في الأرض فإنّه لم يكن ضررياً والشاهد عليه أنّ سمرة لو كان ملتزماً بالدخول مع الاستئذان ، لما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقلع.

وأُجيب عنه بوجوه :

الأوّل : ما أفاده المحقّق النائيني ، قال : إنّ القلع كان من باب قطع الفساد ،

__________________

(١) هو السيد المحقّق الدّاماد ـ قدس‌سره ـ.

١٠٥

لكونه أولى بالمؤمنين من أنفسهم. (١)

وأوضحه تلميذه المحقّق الخوئي ـ قده ـ على ما في المصباح قائلاً : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حكم في قضيّة سمرة بشيئين :

١ ـ أن لا يدخل الرجل بلا استئذان.

٢ ـ أن تقلع الشجرة وتقطع.

والحكم الأوّل مستند إلى القاعدة دون الثاني. فإنّ الثاني ناشئ من ولايته على أموال الأُمّة وأنفسهم ، دفعاً لمادة الفساد ، أو تأديباً لسمرة لقيامه مقابل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقام العناد واللجاح. (٢)

يلاحظ عليه :

أنّ ظاهر الرواية هو كون الأمر بالقلع لأجل كونه من موارد القاعدة وجزئياتها ، لا من باب الولاية على الأنفس والأموال.

الثاني : ما أفاده المحقّق النائيني أيضاً وحاصله :

أنّ الحكم الضرري وإن كان عبارة عن الدخول بلا استئذان ، ولكن لمّا كان هذا الحكم الضرري معلولاً لاستحقاق سمرة لا بقاء العذق في الأرض ـ لأنّ جواز الدخول بلا استئذان من فروع هذا الاستحقاق ـ صح رفع هذا المعلول برفع علّته ، أعني : استحقاق الابقاء بجواز قلع الشجرة.

ومن هنا ، يصح أن يدّعى أنّه إذا كان المعلول ضررياً يصحّ رفع علّته ، كما إذا انعكس وكانت المقدّمة ضررية دون ذيها ، مثل ما إذا كان المشي إلى الحمام ضررياً دون نفس الغسل ، يصح رفع المعلول لأجل رفع علّته. (٣)

__________________

(١) قاعدة لا ضرر للخوانساري ، ص ٢٠٩ ، طبعة النجف.

(٢) مصباح الأُصول ، ج ٢ ، ص ٥٣٢.

(٣) قاعدة لا ضرر للخوانساري ، ص ٢٠٩. ومصباح الأُصول ، ج ٢ ، ص ٥٣١.

١٠٦

يلاحظ عليه :

أنّ رفع الحكم الضرري إنّما يقتضي رفع علّته ، إذا لم يكن له إلّا معلول واحد ضرري ، فعندئذ لا مناص من استلزام رفعه رفعها ، إذ لا معنى لرفع المعلول مع ابقاء علّته في عالم التشريع. وأمّا إذا كان للعلّة (استحقاقه لا بقاء العذق) حكمان أحدهما ضرري وهو الدخول بلا استئذان ، والآخر ليس بضرري وهو الدخول معه ، فلا وجه لاستلزام رفعه رفعها ، ولأجل ذلك أمر النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوّلاً بالدخول مع الاستئذان ، إذ نهاه عن الدخول بدونه.

وهذا نظير ما إذا كانت إطاعة الوالد في مورد محرّمة ، كما إذا أمر بالمعصية ، فرفع لزوم إطاعته في ذاك المورد لا يستلزم رفع علّته على الإطلاق ، وهو حق طاعته.

وقياس المقام بباب المقدمة الضررية المستلزم رفعُ حكمها رفعَ ذيها ، قياس مع الفارق. لأنّ مع تحريم المقدّمة يمتنع الوصول إلى ذيها عن طريق مشروع فيحكم العقل بالملازمة بين الرفعين. وأين هو من رفع أحد الملازمين الاعتباريين وإبقاء علّته لأجل مشروعية الملازم الآخر.

وبالجملة ، انّ لإبقاء الشجرة آثاراً كثيرة ، من بيعها ، وإيجارها وبيع ثمارها ، وتأبيرها ، والدخول مع الاستئذان. فهل يصح رفع موضوع لأحكام كثيرة بسبب حرمة أحد الآثار؟

والأولى أن يقال : إنّ اجراء القاعدة وتجسيدها في ذلك اليوم لم يكن ممكناً إلّا بالقلع ، لأنّ دفع الضرر يوم ذاك كان ممكناً بأحد الطرق التالية :

١ ـ الدخول مع الاستئذان ، والمفروض أنّ سمرة لم يقبله.

٢ ـ اجراء الحكم عن طريق السلطة والقدرة بنصب مأمور على الباب حتى لا يدخل إلّا باستئذان.

٣ ـ حبسه واعتقاله إلى أن يلتزم بالدخول مع الاستئذان.

١٠٧

٤ ـ قلع الضرر بقلع موضوعه.

والطريقان الثاني والثالث لم يكونا أمرين ممكنين في ذاك اليوم لبساطة الحكومة الإسلامية ، فتعيّن الرابع. فصحّ عند ذاك تحليل قلعها بالقاعدة ، لأنّ تجسيد القاعدة ودفع الضرر والضرار يوم ذاك كان منحصراً بقلع الشجرة لا غير فلذلك أمر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وإن شئت قلت : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان جالساً يوم ذاك منصّة القضاء واجراء الأحكام ، لا الإفتاء المحض حتى يكتفي ببيان الحكم. ومن شئون القضاء اجراء القانون بقدر الامكان ، وقد عرفت أنّه لم يكن لاجرائه إلّا طريق واحد وهو قلعها ورميها في وجهه.

١٠٨

التنبيه السادس :

في شمول القاعدة للأحكام العدمية

يظهر من الشيخ الأعظم التردّد في شمولها لها. قال في رسالته المطبوعة في آخر المكاسب :

إنّ القاعدة تنفي الأحكام الوجودية الضررية تكليفية كانت أو وضعية. وأمّا الأحكام العدمية الضررية مثل عدم ضمان ما يفوت على الحُرّ من عمله بسبب حبسه ، ففي نفيها بهذه القاعدة ، فيجب أن يحكم بالضمان ، اشكال :

من أنّ القاعدة ناظرة إلى نفي ما ثبت بالعمومات من الأحكام الشرعية. فمعنى نفي الضرر في الإسلام ، أنّ الأحكام المجعولة ليس فيها حكم ضرري. ومن المعلوم أنّ عدم حكم الشرع بالضمان في نظائر المسألة ليس من الأحكام المجعولة في الإسلام ، وحكمه بالعدم ليس من قبيل الحكم المجعول بل هو اخبار بعدم حكمه بالضمان ، إذ لا يحتاج العدم إلى حكم يُنفى به ، نظير حكمه بعدم الوجوب والحرمة ، فانّه ليس إنشاءً منه بل هو اخبار حقيقة.

ومن أنّ المنفي ليس خصوص المجعولات ، بل مطلق ما يتديّن به ويعامل عليه في شريعة الإسلام وجودياً كان أو عدمياً ، فكما أنّه يجب في حكمة الشارع نفي الأحكام الضررية ، كذلك يجب جعل الأحكام التي يلزم من عدمها الضرر ....

هذا مضافاً إلى إمكان استفادة ذلك من مورد رواية سمرة بن جندب حيث إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سلّط الأنصاري على قلع نخل سمرة معللاً بنفي الضرر ، حيث إنّ عدم تسلّط الأنصاري على القلع ، ضرر كما أنّ سلطنة سمرة على ماله والمرور عليه بغير الإذن ، ضرر. (١)

__________________

(١) قاعدة لا ضرر ، الأمر الثاني ، ص ٣٧٣ ـ ٣٧٤ ، في آخر المكاسب طبعة زين العابدين.

١٠٩

أقول : الهدف من إثبات شمول القاعدة للأحكام العدمية هو إثبات الضمان ، وعلى ذلك لو كان المورد داخلاً تحت قاعدة الاتلاف أو اليد ، فلا ثمرة في البحث ، كما إذا فتح قفس طائر فطار ، أو حبس شاة فمات ولدها ، أو أمسك رجلاً فهربت دابّته ، أو حبس حرّاً ففوّت عليه منافعه ، إذ يكفي في القول بالضمان صدق الاتلاف فيها من دون حاجة إلى القاعدة.

وهذا بخلاف ما إذا امتنع الزوج عن بذل النفقة لزوجته ، فعدم جواز طلاقها ، ولو للحاكم ، ضرر عليها.

هذا ولا يخفى عدم تماميّة ما أفاده الشيخ الأعظم (قدس‌سره) في الشقّ الأوّل لأنّه لا يخلو أن يكون المراد من الأحكام العدميّة ، هي الأحكام العدميّة المجعولة من جانب الشارع فلا فرق بين الوجودي والعدمي بعد كونهما من متعلّقات الجعل ، فكما أنّ الاشتغال حكم مجعول فكذلك الحكم بالبراءة وعدم الضمان ، مجعول أيضاً ، فهو تارة يحكم بالاشتغال وأُخرى بالبراءة. فالحكم المجعول في مورد الحابس ، إمّا الاشتغال أو البراءة ، والثاني ضرري دون الأوّل. ولك أن تقول : إنّ الأحكام العدميّة ترجع إلى الوجوديّة وهو حكم الشارع بالبراءة أو عدم الوجوب ، والحرمة.

أو يكون المراد منها سكوت الشارع وعدم حكمه بشيء ، ولكنّه غير متصوّر في حق الشارع الخاتم ، لتواتر الأخبار على أنّ ما تحتاج إليه الأُمّة إلى يوم القيامة قد جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (١) وعلى هذا فما جاء به النبي هو إمّا الاشتغال أو البراءة.

والحاصل أنّه لا يخلو موضوع من الموضوعات إلّا وله حكم شرعي مجعول. ففي مورد تفويت منافع الحر ، الحكم الشرعي ـ سواء كان هو ضمانها أو البراءة من غرامتها ـ أمر مجعول ، وليس حكمه بالبراءة اخباراً عن عدم حكمه بالضمان ، بل عبارة عن انشاء البراءة ، كما أنّ حكمه بعدم الوجوب أو الحرمة يرجع غالباً إلى

__________________

(١) الكافي : ٢ / ٧٤ ، الباب ...

١١٠

إنشاء الاباحة إذا كان المورد فيه اقتضاء التساوي لا الاخبار عن عدم الجعل والانشاء ، غاية الأمر أنّ بعض الأحكام تحتاج إلى البيان والتعريف ، والبعض الآخر يكفي فيها عدم بيان الإيجاب والتحريم.

وبالجملة : ففي مورد تفويت منافع الحر وعدم بذل النفقة ، ومورد جعل العبد تحت الشدة ، إمّا أن يكون هناك حكم شرعي ، من الحكم بالضمان أو البراءة ، أو جواز الطلاق أو عدم جوازه ، أو جواز عتقه أو عدمه ، أو لا يكون. وعلى الأوّل يكون مرجع الأحكام إلى أحكام وجودية ، وعلى الثاني ، أعني ما لا يكون هناك حكم فهو يخالف الأصل المسلم عليه بين المسلمين ، إذ ما من فعل إلّا وله حكم في الإسلام.

وبذلك يظهر ضعف ما أفاده المحقّق النائيني فإنّه جاء بما ذكره الشيخ بعبارة ثانية وقال :

«إنّ قاعدة لا ضرر ناظرة إلى نفي ما ثبت بالعمومات في الأحكام الشرعية ، ومرجع مفادها إلى أنّ الأحكام المجعولة إذا نشأ منها الضرر فهي منفية ، وعدم الحكم بالضمان ليس من الأحكام المجعولة.

وبعبارة أُخرى ، لو كان الحكم المجعول هو عدم الضمان ، فإذا نشأ منه الضرر لقلنا بارتفاعه. وأمّا إذا لم يكن هناك جعل أصلاً ، فلا يمكن أن تكون قاعدة لا ضرر حاكمة على ما ليس مجعولاً ، فانّ ما ليس مجعولاً لا يستند إلى الشارع». (١)

يلاحظ عليه :

أنّ تفويت منافع الحرّ يجب أن يكون محكوماً بحكم ، من الضمان أو البراءة منه ، ولا يصحّ للشارع الحاكم ، السكوت وعدم الحكم بشيء ، والأوّل منهما هو المطلوب وأمّا الثاني فحكم ضرري.

__________________

(١) قاعدة لا ضرر للخوانساري ، ص ٢٢٠.

١١١

ثمّ إنّ المحقّق النائيني (قدس‌سره) استدل على عدم الشمول بوجه آخر ، وهو أنّ الالتزام بالشمول يستلزم تأسيس فقه جديد ، لأنّه :

١ ـ لو وجب تدارك كل ضرر ، فلو كان هناك انسان صار سبباً له ، فالضمان عليه ، وإلّا فمن بيت المال.

٢ ـ يلزم كون أمر الطلاق بيد الزوجة لو كان بقاؤها على الزوجية مضراً بها ، كما إذا غاب عنها زوجها أو لم ينفق عليها لفقر أو عصيان ... ولا يمكن إثبات الولاية للحاكم الشرعي بالقاعدة لأجل أنّ عدم ثبوت الولاية له ضرر على الزوجة. مضافاً إلى أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الطلاق بيد من أخذ بالساق» ظاهر في أنّ رفع علقة الزوجية منحصر في طلاق الزوج إلّا في بعض الموارد يكون بيد الغير ، كولي المجنون والمعتوه.

٣ ـ لو كان لقاعدة نفي الضرر مجال في هذا المورد وكل ما كان من هذا القبيل كالعبد الواقع تحت الشدة لكان مقتضاها رفع بقاء علاقة الزوجية وعلاقة الرقية ، والمفروض أنّهم لا يلتزمون بذلك بل يجعلون طلاق الحاكم نازلاً منزلة طلاق الزوج ، وهذا مرجعه إلى إثبات الحكم بقاعدة نفي الضرر ، وقد عرفت أنّ لازمه أن يتدارك ضرر كل متضرّر إمّا من بيت المال أو من مال غيره وهذا فقه جديد. (١)

ولا يخفى عدم لزوم ما تصوّره من الفقه الجديد.

أمّا الأوّل : فلأنّ الضرر لو كان مستنداً إلى حكم الشرع ، أو فعل الإنسان ، فالالتزام بلزوم التدارك لا يلزم منه شيء. وأمّا إذا لم يكن مستنداً إلى أحدهما ، كالسيل والزلزلة فالحكم بلزوم تداركه من بيت المال لا وجه له. لأنّ القاعدة لا تخبر عن التكوين حتى يحاول تصحيحها بلزوم التدارك ، بل هي اخبار عن عدم الضرر لغاية النهي عنه تكليفاً ووضعاً ، وأنّه لو أضرّ يحرم ولا يكون جائزاً وماضياً. وأين هو من لزوم الجبر من بيت المال إذا لم يستند إلى الشارع أو المكلّف.

__________________

(١) رسالة قاعدة لا ضرر ، للخوانساري ، ص ٢٢١.

١١٢

وأمّا الثاني : فلو قلنا بتدارك كل ضرر لا يلزم أن يكون الطلاق بيد الزوجة لأنّ للمسألة صوراً كثيرة. لأنّه إمّا أن يكون الزوج حاضراً ، أو غائباً. وعلى الثاني إمّا أن يعلم حياة زوجها أو لا ، وعلى كلا التقديرين إمّا أن ينفق عليها ولي الزوج المفقود أو لا ، فأقصى ما يلزم جواز حل علقة الزوجية ، وإمّا كون طلاقها بيدها فلا ، بل يرجع في ذلك إلى القواعد فيقوم به ولي الزوج أو الحاكم الشرعي ولا مانع من القول به في بعض صور المسألة ، كما إذا كانت شابة واستلزم صبرها وقوعها في مشقة شديدة.

وأمّا الثالث : أعني ارتفاع علقة الزوجية والرقية بلا طلاق واعتاق ، فغير لازم لأنّ الضروريات تتقدّر بقدرها. وأقصى ما يستفاد من القاعدة هو رفع الضرر عن الزوجة والعبد الواقع تحت الشدة ، وأمّا فراقهما بلا سبب فلا يدل عليه دليل ، لأنّ رفع الضرر غير متوقّف على رفع العلقة بلا سبب ، فلا وجه لمخالفة النصوص الواردة في أنّ حل العلقة يحتاج إلى الطلاق والاعتاق.

محاولات للتعميم :

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم (قدس‌سره) وغيره حاولوا إثبات تعميم القاعدة بوجوه :

١ ـ انّ عدم ضمان ما أتلفه على الحرّ من المنافع ، يستلزم حرمة مطالبته ومقاصته ، وحرمة التعرّض له ، وجواز دفعه ، والكل أحكام ضرريّة.

يلاحظ عليه :

أنّه لو لم يكن «عدم ضمان ما أتلفه الحر من المنافع» حكماً ضررياً على وفق القاعدة ، لما كانت هذه الأحكام المتفرّعة عليه ضررية. فانّ حرمة المطالبة والمقاصة والتعرض إنّما تعد ضررية لو كان ما أتلفه على الحر من المنافع مضموناً ، وأمّا مع عدمه فلا يعد ما يترتب عليه من حرمة المطالبة مخالفاً للقاعدة.

١١٣

٢ ـ استفادة ذلك من مورد رواية سمرة بن جندب حيث إنّه سلّط الأنصاري على قلع نخل سمرة معلّلاً بنفي الضرر ، حيث إنّ عدم تسلّطه عليه ضرر ، كما أنّ تسلّطه على ماله في المرور إليه بغير الإذن ضرر.

يلاحظ عليه :

أنّ الظاهر أنّ القاعدة تعليل لرفع حرمة التصرّف في أموال الناس بغير إذنهم ، فانّ القلع تصرّف في مال الناس. وهو حرام بلا إذن. فالحرمة مرفوعة بالقاعدة ، لا الحكم العدمي أعني : عدم تسلّطه على القلع ، كما يحتمل أن يكون علّة لحكم وجوديّ آخر ، وهو تسلّط «سمرة» على ماله بالمرور إلى النخلة بلا إذن.

٣ ـ استفادة ذلك من ورودها في مورد الشفعة وفي مورد منع فضل الماء ، فانّ مفادها نفي «عدم ثبوت حق للشريك» ، ونفي «عدم ثبوت حق لصاحب المواشي».

يلاحظ عليه :

أنّ القاعدة رافعة للزوم المعاملة فيما إذا باع الشريك ، وهو حكم وجودي ، كما أنّها رافعة لسلطة صاحب الماء وجواز منعه ، وهو أيضاً حكم وجودي.

وعلى الجملة ، فهذه المحاولات فاشلة لا تفيد. وإنّما المفيد إثبات عمومية القاعدة من جهة أُخرى وهي أنّ الأحكام العدمية أحكام ، مثل الوجودية ، وليست من قبيل عدم الحكم والسكوت عمّا سكت الله عنه. وتقسيم الإباحة إلى إباحة حكمية وإباحة لا حكمية لم يعلم كنهه ، والظاهر انحصار الإباحة في القسم الأوّل. نعم احتملنا وجود ذلك في باب الأوامر عند البحث عن الدليل الثاني على حرمة الضد الخاص ، حيث قلنا إنّ من الممكن أن لا يوجد في المورد رجحان ، لا في جانب الفعل ولا في جانب الترك ، حتى يكون محكوماً بأحد الأحكام الأربعة ، وأن

١١٤

لا يكون فيه اقتضاء للتساوي حتى يكون محكوماً بالإباحة الشرعية بل يكون «لا اقتضاءً» محضاً ، فيكون محكوماً بالإباحة العقلية. بحجة أنّه ليس محكوماً شرعاً بحكم من الأحكام. ومع ذلك كلّه فهو احتمال محض لا ينافي ما يظهر من الأدلّة من أنّه ليس هناك فعل من الأفعال إلّا وله في الشرع حكم.

وبذلك يظهر أنّ القاعدة مثبتة للضمان على فرض الشمول ، لأنّ البراءة أو عدم الضمان بلا حكم بالتدارك ودفع الغرامة ، لا يجتمع مع نفي الضرر في محيط التشريع. سواء قلنا بأنّ مفاد الحديث هو نفي الحكم الضرري ، أو قلنا بأنّ المراد الاخبار عن عدم الضرر لغاية النهي عنه تكليفاً وعدم امضائه وضعاً كما هو المختار ، فإنّ ذلك الهتاف لا يتحقّق إلّا بالحكم بالضمان لا بالسكوت وعدم الحكم بشيء.

وبالجملة ، فمن يجاهر بالقول بأنّه «لا ضرر ولا ضرار» ، سواء كان مخبراً عن عدم تشريع الحكم الضرري أو مخبراً عن أنّ الضرر منهي عنه تكليفاً ووضعاً ، لا يصحّ له السكوت في هذه الموارد عن الحكم بالضمان.

أضف إلى ذلك ، انّه لو سلّمنا كون سكوت الشارع عن الحكم بالضمان موجباً للضرر ، فلا شك أنّه أمر مبغوض عنده ، ولو لم تكن القاعدة شاملة له لفظاً فإنّها شاملة له ملاكاً كما هو الحال في سائر الموارد.

١١٥

التنبيه السابع :

في حكم الضرر الواحد المتوجّه إلى أحد شخصين

إذا كان هناك ضرر واحد دائر أمره بين شخصين ، وكان دفعه عن أحدهما مستلزماً لتوجّهه إلى الآخر ، فهل يجب على أحدهما دفعه عن الثاني بتوجيهه إلى نفسه أو يجوز ترك تحمّله بإيجاد السدّ وتوجيهه إلى الغير؟ كالسيل المندفع إلى دار زيد فهل يجب عليه تحمّله أو يجوز له إحداث سد أمام داره فيتوجه السيل إلى دار جاره؟

هذا ما بحث عنه الشيخ الأنصاري في التنبيه الرابع من تنبيهات رسالته في القاعدة ، قال : إنّ مقتضى هذه القاعدة أن لا يجوز لأحد اضرار انسان لدفع الضرر المتوجّه إليه ، وأنّه لا يجب على أحد دفع الضرر عن الغير بإضرار نفسه ، لأنّ الجواز في الأوّل والوجوب في الثاني حكمان ضرريان. (١)

وموضوع البحث في هذا التنبيه كما قلنا عبارة عن وجود ضرر واحد ، متوجه إلى أحد الشخصين. فيقع الكلام تارة في وجوب تحمله وأُخرى في جواز دفعه بالإضرار بالغير. وأمّا إذا كان هناك ضرران ، يكون رفع أحدهما مستلزماً للحكم بثبوت الآخر ، فهو خارج عن هذا البحث ، وسيوافيك البحث عنه في التنبيه الآتي وقد طرحه الشيخ في التنبيه السادس من تنبيهات رسالته. فنقول :

أمّا احتمال وجوب التحمّل فيكفي في رفعه أصالة البراءة ، ومعها لا يصل الأمر إلى قاعدة «لا ضرر» ، إذ لا يكون هناك حكم شرعي قابل للارتفاع بالقاعدة. فينحصر البحث في جواز دفعه عن نفسه بالإضرار بالغير ، فهل تجري فيه القاعدة ،

__________________

(١) رسالة لا ضرر المطبوعة في آخر المكاسب ، ص ٤٧٤ من طبعة زين العابدين.

١١٦

أو لا تجري ، أو يفصل ، ولعلّ الثالث هو الأوفق بالقاعدة.

فلو كان الضرر حسب الطبع والعادة متوجّهاً إلى داره ، كما إذا كانت واقعة في المسيل أو جوانبه ، فلا يجوز له دفعه عن نفسه بالإضرار بالغير ، لأنّها قاعدة امتنانية وأيّ امتنان في دفعه عن نفسه وإدخاله على غيره. فتضرّر أحد الفردين على الآخر متعيّن إذا كان الضرر طبعاً وعادة متوجهاً إلى الدافع لا إلى الغير وإنّما يحاول هو إيراده على الغير تسبيباً. وهذا بخلاف ما إذا كان الأمر على العكس ، وكان السيل متوجّهاً حسب الطبع إلى دار الغير وإنّما يحاول هو تغيير مسيره وتوجيهه إلى دار نفسه ، لا خلاف في جوازه ، وأمّا وجوبه فلا شكّ في عدمه ، للبراءة أوّلاً ، وكون الوجوب ضررياً ثانياً.

فإن قلت : إذا كانت القاعدة رافعة للجواز في الأوّل والوجوب في الثاني لزم من جريانها طروء ضرر متوجّه إلى الإنسان نفسه في الأوّل ، وجاره في الثاني. فأي فرق بين الضرر الموجود قبل جريان القاعدة ، والضرر الحادث بعد جريانها.

قلت : إنّ القاعدة لا تعمّ الضرر الحادث من جريانها ، وإنّما تشمل ما كان موجوداً قبل الجريان ، لأنّ الضرر الناشئ من حكومة «لا ضرر» لا يعقل أن يدخل في عموم «لا ضرر» لفظاً.

نعم ، قلنا في محله بشمول قوله : «صدق العادل» للخبر المتولّد من تصديق خبر وجداني ، كما إذا تولّد من تصديق الكليني موضوع تعبّدي للتصديق وهو خبر علي بن إبراهيم. ولا يشترط كون الموضوع موجوداً قبل الشمول ، بل يكفي في الشمول إمكان استكشافه من شموله لموضوع واحد ، هذا.

وأمّا عدم شمولها للضرر المتولّد من جريانها فقد علّله المحقّق النائيني بقوله : «إنّ قاعدة لا ضرر حاكمة على الأحكام فإذا نشأ ضرر من حكومة لا ضرر ، فلا يصحّ أن تكون قاعدة لا ضرر ناظرة إلى هذا الضرر ، لأنّ المحكوم لا بدّ أن يكون مقدّماً في الرتبة على الحاكم حتى يكون الحاكم شارحاً وناظراً إلى هذا الضرر ،

١١٧

والمفروض أنّ هذا الضرر الحادث متأخّر في الرتبة عن قاعدة لا ضرر ، فلا يمكن أن يكون محكوماً بلا ضرر». (١)

والظاهر عدم تماميّة ما أفاده ، فانّ القاعدة لا تختصّ بالموضوعات الواقعيّة الوجدانيّة ، أو المنكشفة بواسطة الشمول للفرد الوجداني المحكوم ، بل تشمل الضرر الحادث بعد جريانها أيضاً ، إذ ليس المراد من الرفع رفع حكم موجود ، بل المراد مظنّة وجوده وإمكان جعله في هذا الظرف. وهذا الأمر بالنسبة إلى الحكم الضرري المتولّد من جريان القاعدة في الحكم الضرري ، متحقّق.

ولو سلّمنا عدم الشمول لفظاً ، لكن عدم الشمول لفظاً غير مانع عن شمولها للحكم الضرري الثاني ملاكاً ، لعدم الفرق بين الحكمين الضرريّين عند الشارع.

بل الوجه في عدم الشمول ، انصراف القاعدة عن هذه الأحكام المتولّدة من جريانها في مورد كما في المقام. ووجه الانصراف ما ذكرناه من أنّ العرف لا يرى حرمة دفاعه عن شخصه بتوجيهه إلى الغير ، إضراراً بالنفس في الأوّل ، ولا عدم وجوب التحمّل في الثاني ، إضراراً بالغير.

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم جعل قبول الولاية عن الجائر ، المستلزم للاضرار بالغير ، من هذا الباب لا من باب تعارض الضررين الذي سيوافيك بيانه في التنبيه اللاحق ، وقال (قدس‌سره) في كتاب المكاسب عند البحث عن التصدّي من قبل الظالم :

«إذا أجبره الظالم على دفع مال من أمواله فلا يجوز له نهب مال الغير لدفع الضرر عن نفسه ، أمّا إذا كان أوّلاً وبالذات متوجّهاً إلى الغير ، كما إذا أجبره على نهب مال الغير وأوعده على ترك النهب بأخذ مال نفسه ، فيجوز له ذلك لأنّ

__________________

(١) رسالة قاعدة لا ضرر ولا ضرار ، تقريرات الخونساري ، ص ٢٢٥.

١١٨

الضرر بحسب قصد المكره وإرادته الحتمية متوجّه نحو الغير. والمكره وإن كان مباشراً للإضرار إلّا أنّه ضعيف لا ينسب إليه الإضرار حتى يقال إنّه أضر بالغير حتى لا يتضرّر نفسه». (١)

وقد أفاد قريباً من ذلك في الفرائد. (٢)

وما ذكره ممنوع صغرى وكبرى.

أمّا الأُولى : فلأنّ المعروف عندهم أنّ المباشر أقوى من السبب الذي هو الأمر. والضرر يسند إلى المباشر حقيقة كما ينسب إلى الأمر كذلك. وما ذكره من أنّ الضرر إذا كان متوجّهاً إلى الغير أوّلاً وبالذات لا يجب دفعه عن الغير بتحمّله إنّما يصحّ إذا كانت العوامل الخارجية علّة تامّة لتوجّه الضرر إلى الغير ويعد عمل المتحمل مانعاً عن التوجّه ، بحيث لولاه لتوجّه الضرر إلى الغير قطعاً كما هو الحال في مثل السيل الجارف فلولا الدفع لدخل دار الغير. وهذا بخلاف إرادة المكرِه إذ ليس إلّا داعياً وجزء علّة ، ولو لا مثول المأمور بين يديه وإطاعته أمره لكانت إرادته قاصرة عن إدخال الضرر عليه ، وليس امتثاله وطاعة أمر الآمر إلّا إدخالاً للضرر على الغير ، وتركه تركاً له. وليس الترك مانعاً عن دخوله كما هو الحال في العلل الطبيعية.

وأمّا الكبرى ، فلأنّا لا نسلّم أنّ الإكراه والاضطرار يسوغان كل حرام سوى النفوس المحترمة ، فلو أمره الوالي بهدم بيوت الناس واعتقالهم وأوعده بالضرب والشتم إذا ترك ، فلا يجوز الإقدام على الهدم والاعتقال وإن ترتّب عليه ما أوعد به. فغاية ما يمكن أن يقال : إنّ دليل الاكراه والاضطرار حاكم على الأحكام الوضعية كلزوم البيع والطلاق. وأمّا الأحكام التكليفية فالحق أن يلاحظ فيها الأهمّ فالأهم كما هو الحال في تعارض الضررين كما سيوافيك.

__________________

(١) المكاسب ، ص ٥٨ من طبعة زين العابدين.

(٢) الفرائد ، ص ٣١٦.

١١٩

التنبيه الثامن :

في تعارض الضررين (١)

هذا ما طرحه الشيخ في رسالته في الأمر السادس ، فنقول :

لو دار الأمر بين حكمين ضرريين بحيث يكون رفع أحدهما مستلزماً لثبوت الآخر فللمسألة صورتان :

الأُولى : لو دار الأمر بين حكمين ضرريين بالنسبة إلى شخص واحد. فقال الشيخ ـ قدس‌سره ـ : بتقديم الأقل ضرراً على الأكثر منه ، لأنّ هذا هو مقتضى نفي الحكم الضرري عن العباد. فإنّ من لا يرضى بتضرّر عبده ، لا يختار له إلّا أقل الضررين عند عدم المناص عنهما.

أقول : إنّ ما ذكره إنّما يصح إذا كان الحكمان الضرريان من الأحكام التحريمية فيختار أقلّهما ضرراً. ومثله ما إذا دار الأمر بين المباحين. وأمّا إذا دار الأمر بين المباح والمحرّم فيجب اختيار الأوّل وإن كان أكثر ضرراً.

الثانية : إذا دار الأمر بين حكمين ضرريين بالنسبة إلى شخصين. فقال الشيخ (قدس‌سره) بترجيح الأقل ضرراً ، إذ مقتضى نفي الضرر عن العباد في مقام الامتنان ، عدم الرضا بحكم ، ضرره أكثر من ضرر الحكم الآخر ، لأنّ العباد كلّهم متساوون في نظر الشارع ، بل بمنزلة عبد واحد ، فإبقاء الشارع أحد الشخصين في الضرر بتشريع الحكم الضرري ، لا وجه له.

أقول : إنّ للمسألة صوراً :

__________________

(١) يتميّز هذا التنبيه عمّا تقدّم بوحدة الضرر المردّد بين الشخصين فيما تقدم ، وتعدّده هنا إلّا أنّ رفع أحدهما يكون مستلزماً لثبوت الآخر.

١٢٠