الرسائل الأربع - ج ١

عدّة من الأفاضل

الرسائل الأربع - ج ١

المؤلف:

عدّة من الأفاضل


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٨

يلاحظ عليه : أنّ الرواية على خلاف المطلوب أدلّ ، لأنّه صريح في أنّه يحتج بأُمور ثلاثة : ١ ـ ما آتاهم وعرّفهم. ٢ ـ بما أرسل إليهم من الرسل. ٣ ـ بما أنزل عليهم من الكتب. ولكلّ من الحجج موقف. والمقصود من الأوّل هو العقول النيِّرة ، والفطريات السليمة فهي حجة في مواطنها وإن لم يكن فيها بيان من الرسول وآية من الكتاب.

والحاصل : أنّ قوله «ثمّ أرسل إليهم» ليس تفصيلاً لما سبق ، بل هو من قبيل عطف المباين على المباين ، فتكون الحجج ثلاثة وتكون الرواية على خلاف مقصود المستدل أدلّ.

٢ ـ استدل أيضاً بصحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «بني الإسلام على خمسة أشياء : أمّا لو انّ رجلاً قام ليله ، وصام نهاره ، وتصدّق بجميع ماله ، وحج جميع دهره ، ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه ، ويكون جميع أعماله بدلالته إليه ، ما كان له على الله حقّ في ثوابه ولا كان من أهل الإيمان». (١)

ومحلّ الشاهد في الخبر قوله : «ويكون جميع أعماله بدلالته إليه» إذ لو كانت دلالة العقل كافية لم يوجب أخذ جميع الأعمال عنه.

والحقّ أنّ الرواية أصحّ ما استدل به في المقام وهو يدل على سقوط العقل عن الحجية في مجال الأعمال والأحكام ، لا العقائد والأُصول لقوله (عليه‌السلام) : «ويكون جميع أعماله» ، ولا يلزم من رفض العقل فيها ، رفضه مطلقاً.

يلاحظ عليه : أنّه كما للآيات أسباب نزول فهكذا للروايات أسباب صدور لا يمكن تفسيرها صحيحاً إلّا بالوقوف على تلك الأسباب. انّ الرواية ونظائرها ممّا جمعها الأمين الاسترآبادي في «الفوائد المدنية» ناظرة إلى فقهاء العامة الذين استبدوا بالافتاء من دون الرجوع إلى أئمّة أهل البيت الذين جعلهم الله أعدال

__________________

(١) الكافي : ٢ / ١٨ كتاب الإيمان والكفر ، باب دعائم الإسلام ، الحديث ٥.

٨١

الكتاب وقرنائه ، أمثال ابن شبرمة وابن أبي ليلى ، والثوري وقتادة والأوزاعي ، وإليك بعض ما يدل على ذلك :

أ ـ قال أبو جعفر الباقر (عليه‌السلام) : «فليذهب الحسن البصري يميناً وشمالاً ، فو الله ما يوجد العلم إلّا هاهنا». (١)

ب ـ وقال أيضاً : «فليذهب الناس حيث شاءوا ، فو الله ليس الأمر إلّا من هاهنا». (٢)

ج ـ وقال أيضاً لسلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة : «شرّقا أو غرّبا فلا تجدان علماً صحيحاً إلّا شيئاً خرج من عندنا أهل البيت». (٣)

د ـ في حديث أبي بصير : «فليشرِّق الحكم وليغرِّب ، أما والله لا يصيب العلم إلّا من أهل بيت نزل عليهم جبرئيل». (٤)

وبذلك يعلم معنى قول أبي عبد الله (عليه‌السلام) في حديث : «امّا انّه شرّ عليكم أن تقولُوا بشيء ما لم تسمعوه عنه» (٥)

وأين هؤلاء من علماء الشيعة الذين لا يصدرون في الأُصول والفروع إلّا عن كلماتهم ، غير انّه إذا لم يجدوا شيئاً فيما روي عنهم ، وقضت عقولهم بشيء ببداهة ، أخذوا أخذ المتيقّن بيقينه ، والقاطع بقطعه.

والدليل على ذلك ، انّ صاحب الوافية خص المنع بالفروع واستثنى الأُصول ، مع أنّ إطلاق أكثر الروايات يقتضي المنع ولا يحفظ الإطلاق إلّا باختصاص الروايات على المعرضين عن أهل البيت بتاتاً. كما لا يخفى.

* * *

__________________

(١ ـ ٢ ـ ٣ ـ ٤ ـ ٥) الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ٧ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٧ ، ٢٠ ، ٢٢ ، ٢٣ و ٢٤.

٨٢

ثمرات مسألة التحسين والتقبيح :

إنّ لمسألة التحسين والتقبيح العقليين خصوصيات ، تحتلّ المسألة مع ملاحظتها ، مكانة خاصة ، فتارة تعد من المسائل الكلامية ، وأُخرى من المسائل الأُصولية ، وثالثة من مبادئ المسائل الأخلاقية.

فبما انّها تقع في طريق معرفة فعله سبحانه من حيث الجواز والامتناع ـ حسب حكمته البالغة ـ تعدّ مسألة كلامية ، وتترتّب عليها ثمرات.

وبما أنّها صغرى لقاعدة الملازمة بين حكمي العقل والشرع ، يعدّ البحث عن الموضوع من المبادئ الأحكامية التي يبحث فيها عن عوارض الأحكام الخمسة ، والبحث عن الملازمة من المسائل الأُصوليّة التي لها دور في استنباط كثير من الأحكام العملية.

وبما أنّ الاعتقاد بالحسن والقبح الذاتيين هو الدعامة الوحيدة للدعوة إلى محاسن الأخلاق أو الكفّ عن مساوئها. تعدّ من مبادئ مسائل علم الأخلاق ولو لا القول بالحسن والقبح الذاتيين لما صحّ البحث عن الفضائل والرذائل في نطاق وسيع. مع أنّ العالم الأخلاقي ربما يواجه إنساناً ضعيف العقيدة لا يصلحه إلّا التحليل النفسي والتذكار العقلي ، ولا يصلحه نقل القول عن الشرع والشريعة وهو فرع وجود اعتقاد رصين ، بحسن الأفعال وقبحها ، ولأجل ذلك يجب على العالم الأخلاقي أن يبحث عن الحسن والقبح بحثاً علمياً حتّى يتضح له انّ لهما جذوراً في الفطرة الإنسانيّة وانّهما لا تخضعان لأيّ عامل خارجي ، وإلّا تصبح الأخلاق عنده آداباً عرفية ، أو تأخذ لنفسها لون عادات قومية. وبالنتيجة تكون خاضعة للمواضعة والاعتبار ، تتغير بتغير الظروف والأجواء وتؤثر عليها أذواق الأقدام وثقافاتهم المختلفة.

فهذه الجهات الثلاثة أعطت لمسألة الحسن والقبح مكانة مرموقة يبحث عنها العلماء كلٌّ حسب اختصاصه ويطلب كل منها منشودته الضالة.

٨٣

إنّ القول بالأخلاق الثابتة (التي لا تضعضعها عواصف الحضارات وتغيّر الظروف) لا يتحقّق إلّا بدعم القول بالحسن والقبح الذاتيين.

إنّ خاتمية الشريعة الإسلامية الغرّاء تستدعي ثبات قوانينها ودساتيرها على مرّ الحقب والأعوام إلى يوم البعث مع أنّ الظروف والبيئات التي يعيش فيها الإنسان ليست على وتيرة واحدة وهي ما زالت في التغيّر والتبدّل ، وعندئذ يُطرح هناك سؤال وهو : كيف يمكن إدارة المجتمع المتغيّر ، بقوانين ثابتة مع أنّها أشبه بالجمع بين النقيضين؟!

إنّ طروء الحضارات وبزوغ نجم العلم والثقافة الإنسانيّة تستدعي لنفسها قوانين حسب معطياتها ، فكيف يصح التمسّك بأهداب الشريعة الثابتة لتدبير الأُمور المتكونة بعدها بكثير؟

هذا وذاك دعاني إلى تبيين ثمرات هذا البحث ليقف القارئ على مكانة تلك المسألة ولنذكر ثمراتها ضمن أُمور ثلاثة :

الف : الثمرات الكلامية للمسألة :

إذا كانت المسألة ، من المسائل الكلامية فلها ثمرات في هذا العلم نشير إليها :

١ ـ وجوب معرفة الله سبحانه :

إنّ مسألة لزوم معرفة المنعم التي تهدف إلى مسألة معرفة الله سبحانه. شغلت بال المتكلّمين قرونا وأجيالاً فالمنكرون للحسن والقبح زعموا انّ معرفته سبحانه بالشرع (١) ثمّ وقعوا في مشكلة الدور حيث إنّه لم يثبت وجوده سبحانه ولا الشرائع السماوية ، فكيف يمكن أن يثبت وجوب معرفته في ظلّ الشرع؟ وأمّا

__________________

(١) الأحكام : ١ / ١٢٦ ـ ١٢٧.

٨٤

المثبتون لهما فقد قالوا بوجوب المعرفة عقلاً لأجل استقلاله بحسنها ، أوّلاً وحثّه إليها ثانياً ، واحتمال الوقوع في الضرر في تركها ثالثاً ، كل ذلك يثبت كون المعرفة من الواجبات العقلية قبل ثبوت الشريعة.

٢ ـ تنزيه فعله سبحانه عن العبث :

قد تشاجر القوم في أفعاله سبحانه هل هي معلّلة بالأغراض أو لا؟ قالت الأشاعرة بخلوّها عن الغايات حذراً من استكماله سبحانه بغايات أفعاله وهو كمال مطلق وفوق الكمال.

وقالت العدلية باشتمالها على الغايات وإلّا لأصبح فعله عبثاً لغواً لا يليق بساحته. والغايات غايات للفعل لا للذات ، وترجع إلى العباد لا إلى الذات ، ومقتضى القول بقبح العبث تعيّن القول الثاني ، وقد عرفت دفع مشكلة الاستكمال.

٣ ـ لزوم تكليف العباد :

إذا كانت ساحته سبحانه نزيهة عن العبث لكونه قبيحاً ، فلازمه إيصال كل موجود إلى غايته وكماله الممكن حسب حكمته البالغة غير أنّ الموجود الفاقد للشعور ، أو الاختيار يصل إلى الغاية التي خلقت لأجلها ، تكويناً وأمّا الإنسان فالغاية المتوخاة من خلقته رهن أعمال خاصة اختيارية لا تتحقّق إلّا بإرشاده سبحانه وتكليفه ليريه طريق السعادة والشقاء ، ويرشده إلى ما يمدّه في طريق الكمال ويزجره عمّا ينافيه.

٤ ـ لزوم بعث الأنبياء :

إذا كانت الغاية المتوخاة من خلق الإنسان لا تحقّق إلّا في ظلّ التكليف ، يلزم بعث الأنبياء لبيان تكاليف العباد ، فالهداية التشريعية التي هي عبارة أُخرى

٨٥

عن التكليف لا ينالها العباد إلّا عن طريق بعث إنسان فوقهم مماثل لهم في الخلقة ، وفوقهم في الخُلْق ، وإلّا فلا تتحقّق الغاية المتوخاة عن غير هذا الطريق.

٥ ـ لزوم تجهيز الأنبياء بالدلائل والمعاجز :

إنّ بداهة العقل تحكم بعدم جواز الخضوع لادّعاء مدّع إلّا بعد ثبوته بالدليل والبرهان ، فمقتضى الحكمة الإلهية تجهيز الأنبياء بالدلائل حتى تتحقّق الغاية المتوخاة من بعثهم ولولاها لأصبح بعثهم سدى وعملاً بلا غاية وهو قبيح.

٦ ـ لزوم النظر في برهان مدّعي النبوة :

إذا كان مقتضى الحكمة الإلهية دعوة الأنبياء بالبرهان ، فيلزم على العباد عقلاً النظر في برهان مدّعي النبوة لاستقلال العقل بذلك أوّلاً ودفعاً للضرر المحتمل ثانياً.

وأمّا من عزل العقل عن الحكم في ذلك المجال فليس له أن يثبت لزوم النظر إلّا عن طريق الشرع وهو بعد غير ثابت. فتأتي مشكلة الدور.

٧ ـ العلم بصدق دعوى المتحدّي بالمعجزة :

إذا اقترنت دعوة مدّعي النبوة بالمعاجز والبيّنات ، وتحدّى بدليل ، جميع الناس ـ فعند ذاك ـ يحكم العقل بصدقه ، لأنّه من القبيح إعطاء البيّنة المغرية إلى يد الكاذب. وإليه ينظر قوله سبحانه : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) (الحاقة / ٤٤ ـ ٤٧) فالمجهّز بالمعاجز التي تؤثّر في نفوس الناس لا يكذب ، ولو كذب وتقوّل به ـ على فرض المحال ـ لقضى سبحانه على حياته فالآية واردة في حقّ أُولئك الأنبياء لا في حقّ كل مدّع للنبوة ولو لم يكن مجهزاً بالمعاجز والكرامات.

٨٦

٨ ـ قبح التكليف بما لا يطاق :

إذا كانت القدرة من شرائط التكليف والعقل يقبح تكليف غير القادر فيصبح قبح التكليف بما لا يطاق أمراً ضرورياً ، وقد خالفت الأشاعرة في هذه المسألة فجوّزوها اغتراراً بظواهر بعض الآيات البدوية. مثل قوله سبحانه مخاطباً الملائكة : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (البقرة / ٣١) غافلين عن أنّ الغاية منه هو إظهار عجز الملائكة لا الامتثال.

٩ ـ الانسان مخيّر لا مسيّر :

إذا كان التكليف فرع القدرة وهي رهن كون المكلّف قادراً على الفعل والترك ، فتصبح مسألة الاختيار من الضروريات ، وهي انّ الإنسان المكلّف مخيّر بين الفعل والترك لا مسيّر. وليس مدفوعاً إلى جانب واحد من الفعل والترك ، وقد خالفت الجبرية في هذه المسألة مع العدلية.

ولمّا كان القول بخلق الأعمال موجباً للجبر أضافت الأشاعرة على خلق الأعمال مقولة الكسب حتى يردّوا عن أنفسهم إشكال الجبر ، وقالوا : إنّ الله خالق لأفعال البشر والإنسان كاسباً وقد عرّفنا مدى صحته في أبحاثنا الكلامية. (١)

١٠ ـ الله عادل لا يجور :

من أبرز نتائج القول بالتحسين والتقبيح العقليين كونه سبحانه عادلاً بين العباد لا يحيف ولا يجور حسب حكمته البالغة ، فلا يعاملهم بالظلم.

هذه ثمرات عشر من الثمرات الكلامية المترتّبة على المسألة وليست الثمرة منحصرة بما ذكرنا إذ هناك نتائج كلامية غير ذلك لم نذكرها روماً للاختصار.

__________________

(١) راجع كتاب «بحوث في الملل والنحل» : ٢ / ١٢٥ ـ ١٥٦.

٨٧

ب ـ الثمرات الأُصولية للمسألة :

قد عرفت أنّ للمسألة بعداً كلاميّاً وبعداً أُصولياً وقد تعرفت على نتائجها الكلامية فلنذكر نتائجها الأُصوليّة :

١ ـ قبح العقاب بلا بيان :

إنّ هذه النتيجة ـ مع كونها قابلة للاندراج بين النتائج الكلامية ـ ثمرة أُصولية ، وقد بنى الأُصوليون عليها مسألة البراءة عن التكليف عند الشكّ فيها قائلاً إنّ العقاب بلا بيان قبيح ، فلو كان المشكوك واجباً أو محرّماً كان عليه البيان إمّا بالعنوان الأوّلي أو الثانويّ ، وإذ لم يرد حكمه بأي عنوان ، نستكشف كون الوظيفة هي البراءة.

٢ ـ الاشتغال عند الشكّ في المكلّف به :

إنّ العقل وإن كان حاكماً بقبح العقاب بلا بيان ، لكنّه مستقل بحسنه فيما إذا علم التكليف وتردّد المكلّف به بين شيئين أو أشياء قائلاً بأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية وهي لا تحصل إلّا بالاتيان بالجميع عند تردد الواجب ، أو ترك الجميع عند تردد الحرام بينها ، وعلى ذلك فالبراءة والاشتغال اللّذان يعدّان أبرز المسائل الأُصولية من نتائج تلك المسألة.

نعم القول بالحسن والقبح لا يكفي إلّا إذا ضم إليها مسألة الملازمة. بأن يستكشف العقل من حكمه بالبراءة أو الاشتغال في الموردين انّه كذلك عند الله سبحانه وتعالى. وبذلك تصبح مسألة الملازمة عنصراً مؤثراً في استنتاج البراءة والاشتغال ، ولعلّ خفاء مدخلية قانون الملازمة في الاستنتاج على بعض ، جعل البراءة والاشتغال من نتائج القول بالحسن والقبح. مع أنّهما من نتائج كلا الأمرين.

٨٨

٣ ـ الإتيان بالمأمور به مسقط للأمر :

إنّ الاتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي أو الثانوي أو الظاهري مجز عن الاتيان به ثانياً لاستقلال العقل بقبح بقاء الأمر مع الاتيان بالمأمور به بأجزائه وشرائطه ولو لا القول بالحسن والقبح والملازمة بين حكمي العقل والشرع ، لما استكشفنا كونه مجزياً عند الشارع.

٤ ـ وجوب مقدمة الواجب على القول به

٥ ـ الأمر بالشيء موجب لحرمة ضده

٦ ـ جواز اجتماع الأمر والنهي وعدم جوازه إذا كان هناك عنوانان ، ومرجع النزاع لدى المشهور إلى الصغرى وانّه هل هو من مصاديق الاجتماع أو لا ، وأمّا حكمه أي الكبرى فمعلوم لأجل قبح التكليف بغير المقدور.

٧ ـ الاحتجاج بالقيد في باب المفاهيم وانّه لو لا مدخليته لكان الاتيان به لغواً.

فالاستلزامات العقلية من ثمرات القول بالتحسين والتقبيح العقليين والقول بالملازمة بين حكمين فيستنتج منهما وجوب المقدمة شرعاً وحرمة الضد أو عدم وجوبه شرعاً أو كون الصلاة في الدار المغصوبة محكوماً بحكمين أو محكوماً بأحدهما ، وانّ للشرط والوصف والغاية مدخلية في الحكم الوارد في الشريعة ولو لا المدخلية كان الاتيان بها لغواً. فيكون الحكم مرتفعاً بارتفاع القيد.

وفي الختام ننقل كلام المحقّق السيد عليّ القزويني في تعليقته على القوانين قال معلّقاً على قول المحقّق القمّي : «ومنها ما يحكم به بواسطة خطاب الشرع كالمفاهيم والاستلزامات» : أي بملاحظته كحكمه بوجوب المقدّمة بملاحظة الخطاب بذي المقدّمة ، وبحرمة الضد بملاحظة الخطاب بالمأمور به المضيّق ، وبالانتفاء عند الانتفاء بملاحظة الخطاب المعلّق على شرط أو وصف أو غيرهما ،

٨٩

لئلّا يلغوا التعليق وذكر القيد ، ويسمى الاستلزامات العقلية ، لحكم العقل باستلزام إيجاب الشيء ، وجوب مقدماته ، واستلزام الأمر بالشيء لحرمة ضده ، واستلزام الوجود عند الوجود ، الانتفاء عند الانتفاء ، فالمفاهيم أيضاً مندرجة في الاستلزامات. (١)

ونحن وإن لم نصافق القوم في بعض هذه المسائل ولم نقل بوجوب المقدمة أو حرمة الضد ولكن الاستدلال مبني على الأصلين.

ج ـ النتائج الأخلاقية :

إنّ أبرز النتائج لمسألة الحسن والقبح في علم الأخلاق هي كونها دعامة وحيدة لاستنتاج الفضائل والمسائل الخلقية ولو لا القول بهما لما قام لعلم الأخلاق عمود ، ولا اخضرّ له عود ، إذ لو لم يكن الحسن والقبح ذاتياً لبعض الأفعال ، بل متغيّراً حسب تغيّر الأجواء والأوضاع لأصبحت الأخلاق أمراً نسبياً مختلفاً حسب اختلاف البيئات ، ولأجل ذلك يُصبح الحسن في زمان قبيحاً في زمان آخر وبالعكس ونتيجة ذلك سيادة الفوضي على علم الأخلاق.

إنّ في الغرب أُناساً ينكرون أُصول الفضائل والمساوئ ولا يرون للأخلاق شأناً سوى كونها عادات وتقاليد ، وأعرافاً للأُمّة وهؤلاء يكنّون نيتهم من هذا الإنكار فما هي إلّا إرادة التحرّر من المُثُل والقوانين الأخلاقية ، فلأجل ذلك عادوا ينكرون ثبات الأخلاق ودوام المثل. والعالم الباحث عن الحسن والقبح إذا انتهى إلى أنّ هناك أفعالاً يجدها الإنسان من صميم ذاته أنّها حسنة مطلقاً أو قبيحة كذلك فلا يتسنّى لطالب الفوضى ، الصمود امام ذلك القضاء والوجدان الفطري.

__________________

(١) قوانين الأُصول : ٢ / ٢ ، قسم التعليقة.

٩٠

نعم هناك تقاليد وأعراف قومية ما زالت متغيرة بتغير الأوضاع ولا صلة لها بالأخلاق. فإنّ مظاهر الاحترام والتكريم تختلف بين الأقوام فالمثول أمام الكبير بلا قلنسوة تكريم ومعها إهانة ، على عكس ما يتصوّره أقوام أُخر وفي الوقت نفسه لا صلة لهما بالأخلاق وإنّما يجسدان أصلاً أخلاقياً وهو تكريم الكبير. وهذا أصل ثابت. وإنّما التغيير في مُظهره وممثله. وقس على ذلك كل ما يتصوّر كونه أخلاقاً متغيرة.

وعلى ذلك فلمسألة الحسن والقبح دور واضح في إثبات الأخلاق الثابتة ورد ما يكن بعض رجال العيث والفساد من أنّه لا أصل ثابت في عالم الأخلاق.

وبذلك تقدر على حلّ مشكلة الخاتمية وسيادة أُصولها الثابتة في جميع الحضارات والظروف ، فانّ الثابت عبارة عن الأُصول الفطرية التي لها جذور في طبيعة الإنسان وخلقته ، وبما أنّ خلقة الإنسان متساوية في جميع الظروف غير متغيرة بتغيّرها ، تصبح الأُصول المبنية على الفطرة الإنسانية أُصولاً ثابتة قائمة مرّ الحقب والأعوام. فقوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) لامع في جميع الأدوار وذلك لأنّ العدل والإحسان يوافقان طبيعة الإنسان وتطلبهما في كل زمان.

نعم هناك ألوان لإجراء الأُصول الثابتة ، وطرق مختلفة للوصول إليها فهي لم تنزل متغيرة حسب تغير الحضارات ، فالتغيير في القشر لا يضرّ بثبات اللب. وإليك بيانه :

إنّ للإنسان ـ مع قطع النظر عمّا يحيط به من شروط العيش المختلفة ـ روحيات وغرائز خاصّة تلازمه ، ولا تنفك عنه ، إذ هي في الحقيقة مشخّصات تكوينية له ، بها يتميز عن سائر الحيوانات وتلازم وجوده في كل عصر ولا تنفك عنه

٩١

بمرور الزمان.

فهاتيك الغرائز الثابتة والروحيات الخالدة ، لا تستغني عن قانون ينظم اتجاهاتها ، وتشريع ينظِّمها ، وحكم يصونها عن الإفراط والتفريط ، فإذا كان القانون مطابقاً لمقتضى فطرته وصالحاً لتعديلها ومقتضياً لصلاحها ومقاوماً لفسادها ، لزم خلوده بخلودها ، وثبوته بثبوتها.

والسائل قد قصر النظر على ما يحيط به من شروط العيش المختلفة المتبدّلة ، وذهل عن أنّ للإنسان خلقاً وروحيات وغرائز ، قد فطر عليها ، لا تنفك عنه ما دام إنساناً ، وكلّ واحد منها يقتضي حكماً يناسبه ولا يباينه بل يلائمه ، ويدوم بدوامه ويثبت بثبوته عبر الأجيال والقرون.

ودونك نماذج من هذه الأُمور ليتبين لك بأنّ التطور لا يعم جميع نواحي الحياة ، وأنّ الثابت منها يقتضي حكماً ثابتاً لا متطوراً :

١ ـ إنّ الإنسان بما هو موجود اجتماعي ، يحتاج لحفظ حياته وبقاء نسله إلى العيش الاجتماعي والحياة العائلية ، وهذان الأمران من أُسس حياة الإنسان ، لا تفتأ تقوم عليهما في جملة ما تقوم عليه منذ بدء حياته.

وعلى هذا ، فإذا كان التشريع الموضوع لتنظيم المجتمع مبنياً على العدالة ، حافظاً لحقوق أفراده ، خالياً عن الظلم والجور والتعسّف ، وبعبارة أُخرى موضوعاً على ملاكات واقعية ، ضامناً لمصلحة الاجتماع وصائناً له من الفساد والانهيار ، لزم بقاؤه ودوامه ، ما دام مرتكزاً على العدل والانصاف.

٢ ـ إنّ التفاوت بين الرجل والمرأة أمر طبيعي محسوس ، فهما موجودان مختلفان اختلافاً عضوياً وروحياً على رغم كل الدعايات السخيفة الكاذبة ، التي تريد إزالة كل تفاوت بينهما ، ولأجل ذلك ، اختلفت أحكام كل منهما عن الآخر ، اختلافاً يقتضيه طبع كل منها ، فإذا كان التشريع مطابقاً لفطرتهما ومسايراً

٩٢

لطبعهما ، ظلّ ثابتاً لا يتغير بمرور الزمان ، لثبات الموضوع ، المقتضي ثبات محموله ، حسب الاصطلاح المنطقي.

٣ ـ الروابط العائلية ، كرابطة الولد بالوالدين والأخ بأخيه ، هي روابط طبيعية ، لوجود الوحدة الروحية ، والوحدة النسبية بينهم ، فالأحكام المتفرقة المنسقة ، لهذه الروابط من التوارث ولزوم التكريم ، ثابتة لا تتغير بتغير الزمان.

٤ ـ التشريع الإسلامي حريص جدّاً على صيانة الأخلاق وحفظها من الضياع والانحلال ، وممّا لا شكّ فيه ، أنّ الخمر والميسر والاباحة الجنسية ضربة قاضية على الأخلاق ، وقد عالج الإسلام تلك الناحية من حياة الإنسان بتحريمها ، وإجراء الحدود على مقترفيها ، فالأحكام المتعلقة بها ، من الأحكام الثابتة مدى الدهور والأجيال ، لأنّ ضررها ثابت لا يتغير بتغير الزمان ، فالخمر يزيل العقل والميسر ينبت العداوة في المجتمع والإباحية الجنسية تفسد النسل والحرث دائماً ما دامت السماوات والأرض ، فتتبعها أحكامها في الثبات والدوام.

هذا وأمثاله من الموضوعات الثابتة في حياة الإنسان الاجتماعي قد حدّدها ونظّمها الإسلام بقوانين ثابتة تطابق فطرته وتكفل للمجتمع تنسيق الروابط الاجتماعية والاقتصادية على أحسن نسق وحفظ حقوق الأفراد وتنظيم الروابط العائلية.

وحصيلة البحث : أنّ تطور الحياة الاجتماعية في بعض نواحيها لا يوجب أن يتغير النظام السائد على غرار الفطرة ، ولا أن تتغيّر الأحكام الموضوعة على طبق ملاكات واقعية ، من مصالح ومفاسد كامنة في موضوعاتها ، فلو تغير لون الحياة في وسائل الركوب ، ومعدات التكتيك الحربي و... مثلاً ، فإنّ ذلك لا يقتضي أن

٩٣

تنسخ حرمة الظلم ووجوب العدل ولزوم أداء الأمانات ودفع الغرامات والوفاء بالعهود والايمان و....

فإذا كان التشريع على غرار الفطرة الإنسانية ، وكان النظام السائد حافظاً لحقوق المجتمع وموضوعاً على ملاكات في نفس الأمر ، تلازم الموضوع في جميع الأجيال ، فذلك التشريع والنظام يحتل مكان التشريع الدائم.

تمّ التبييض وتجديد النظر في المشهد المقدّس في جوار الحضرة

العلوية الرضوية ـ على مشرّفها آلاف التحية والثناء ـ صباح يوم

الجمعة ثاني عشر شهر صفر المظفر من شهور عام ١٤١٥ ه‍ ـ ق

كتبه بيمناه الداثرة أقل الخليقة جعفر السبحاني ابن الفقيه التقيّ الحاج

الشيخ محمّد حسين الخياباني التبريزي ـ عاملهما الله بلطفه الخفي ـ

٩٤

فهرس الرسالة الأولى

«قاعدة الملازمة بين حكمي العقل والشرع»

مقدمة المؤلف.................................................................... ٥

الأمر الأول : في تعريف الدليل العقلي.............................................. ٥

الأمر الثاني : في انقسام الدليل العقلي إلى مستقل وغير مستقل......................... ٦

الأمر الثالث : في تقسيم الدليل العقلي بنحو آخر.................................... ٧

الأمر الرابع : في تعدد المسألتين.................................................... ٧

الأمر الخامس : ما هو المراد من قولهم : كل ما حكم به العقل ، حكم به الشرع؟......... ٨

الأمر السادس : في أن القاعدة تستعمل في موردين................................... ٩

الأمر السابع : في أن إنكار الملازمة يحتمل وجوها................................... ١٠

٩٥

المسألة الأولى

هل التحسين والتقبيح عقليان أو شرعيان؟

إطلاقات الحسن والقبح......................................................... ١٣

التحسين والتقبيح العقليان من البديهيات في مجال العقل العملي....................... ١٧

١ ـ لزوم انتهاء المجهولات إلى المعلوم بالذات في العقل النظري والعملي.............. ١٧

٢ ـ ملائمة القضايا للفطرة ومنافرتها معها........................................ ٢١

سعة دائرة حكم العقل.......................................................... ٢٢

هل التحسين والتقبيح العقليان من المشهورات؟..................................... ٢٨

تحليل مقال الشيخ الرئيس.................................................. ٢٩

نظرية المحقق اللاهيجي..................................................... ٣٢

كلام المحقق الاصفهاني.................................................... ٣٤

أدلة القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين........................................... ٣٦

أدلة المنكرين للتحسين والتقبيح العقليين........................................... ٣٩

الدليل الأول : الله مالك كل شيء يفعل في ملكه ما يشاء........................ ٣٩

الدليل الثاني : لو كان التحسين والتقبيح ضروريا لما وقع الاختلاف................. ٤١

الدليل الثالث : لو كان الحسن والقبح عقليين لما تغيرا............................ ٤٢

التحسين والتقبيح في الكتاب العزيز............................................... ٤٥

٩٦

المسألة الثانية

ثبوت الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع

١ ـ كلام الزركشي وهو من النافين............................................. ٤٧

٢ ـ كلام صاحب الوافية وهو من النافين للملازمة................................ ٥٢

٣ ـ كلام الصدر في نفي كون المكشوف حكما شرعيا............................ ٥٣

٤ ـ كلام للمحقق القمي وهو من المثبتين....................................... ٥٦

٥ ـ كلام لصاحب الفصول وهو من الناقين..................................... ٥٩

الاستدلال على الملازمة بالدليل النقلى....................................... ٦٥

٦ ـ كلام للمحقق الخراساني................................................... ٦٦

٧ ـ كلام للمحقق الاصفهاني.................................................. ٧٠

٨ ـ كلام للشيخ المظفر....................................................... ٧٣

حصيلة البحث................................................................. ٧٤

اكمال........................................................................ ٧٥

الكلام في عكس القاعدة........................................................ ٧٧

المسألة الثالثة

في إطاعة الحكم الشرعي المستكشف بالعقل وعصيانه

ثمرات مسألة التحسين والتقبيح................................................... ٨٣

٩٧

ألف : الثمرات الكلامية للمسألة............................................. ٨٤

١ ـ وجوب معرفة الله سبحانه............................................... ٨٤

٢ ـ تنزيه فعله سبحانه عن العبث........................................... ٨٥

٣ ـ لزوم تكليف العباد..................................................... ٨٥

٤ ـ لزوم بعث الأنبياء..................................................... ٨٥

٥ ـ لزوم تجهيز الأنبياء بالدلائل والمعاجز..................................... ٨٦

٦ ـ لزوم النظر في برهان مدعي النبوة........................................ ٨٦

٧ ـ العلم بصدق دعوى المتحدي بالمعجزة.................................... ٨٦

٨ ـ قبح التكليف بما لا يطاق............................................... ٨٧

٩ ـ الإنسان مخبر لا مسير.................................................. ٨٧

١٠ ـ الله عادل لا يجور.................................................... ٨٧

ب ـ الثمرات الأصولية للمسألة................................................ ٨٨

١ ـ قبح العقاب بلا بيان................................................... ٨٨

٢ ـ الاشتغال عند الشك في المكلف به...................................... ٨٨

٣ ـ الإتيان بالمأمور به مسقط للأمر......................................... ٨٩

ج ـ النتائج الأخلاقية........................................................ ٩٠

حصيلة البحث................................................................. ٩٣

فهرس محتويات الرسالة.......................................................... ٩٥

٩٨