الرسائل الأربع - ج ١

عدّة من الأفاضل

الرسائل الأربع - ج ١

المؤلف:

عدّة من الأفاضل


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٨

في الأخبار المأثورة عن الأئمّة (عليهم‌السلام) فإنّ تلك التكاليف متصفة بالحسن والرجحان لما فيها من صون المكلّف عن مكايد الأعادي وإن تجرّد ما كلِّف به عن الحسن الابتدائي ، وطريانه بعد التكليف من حيث كونه امتثالاً وطاعة لا يقدح في ذلك ، لأنّ الكلام في الجهة المتفرع عليها التكليف لا في الجهة المتفرعة على التكليف. (١)

يلاحظ عليه : بنفس ما سبق ، فإنّ الكلام ليس في أنّ حسن التكليف مقصور على حسن المتعلّق حتى يصح النقض بالتكاليف الصادرة عن تقية ، بل الكلام في أنّه كل ما حسن الفعل ، حسن التكليف شرعاً لا أنّ كل ما حسُن التكليف ، حسُن الفعل حتى يعد المورد نقضاً عليه وبين المسألتين بون بعيد.

ج : أنّ كثيراً من علل الشرائع غير مطردة ، ومع ذلك يصح التكليف فيما يفقد تلك الحِكَم ، كالاعتداد ، المعلّل بعدم اختلاط المياه مع أنّه يجب مع القطع بعدم الاختلاط كالغائب عنها زوجها ، كتشريع غسل الجمعة لرفع رياح الآباط مع ثبوت استحبابه مع عدمها ، وكراهة الصلاة في الأودية لكونها مظنّة لمفاجأة السيل مع ثبوتها مع القطع بعدمها وقضية ذلك ، حسن التكليف مع عدم الحسن أو القبح في الفعل.

يلاحظ عليه : بنفس ما سبق في الدليلين السابقين فانّه خارج عن محط النزاع ، إذ لو صحّ ما ذكر فإنّما يتوجه إلى عكس القاعدة لا إلى نفسها ، أي لا يرد النقص على قولنا : «كل ما حكم به العقل ، حكم به الشرع ، بل يتوجّه النقص إلى عكسه أي كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل ، فالحكم الشرعي في المقام موجود دون الحكم العقلي ، والكلام في أصل القضية لا في عكسها ، وأمّا عدم حكمه بما حكم به الشرع ، فإنّما هو لأجل عدم إحاطته بما أحاط به الشرع وإلّا لحكم بمثله ، غاية الأمر أنَّ العقل لأجله القصور ، يكون ساكتاً في المقام ، أو معتقداً بصحته

__________________

(١) الفصول : ٣٣٩.

٦١

وصدوره من أهله ووقوعه في محله إجمالاً ـ كما سيوافيك ـ.

د : الأخبار الدالّة على عدم تعلّق بعض التكاليف بهذه الأُمّة رفعاً للكلفة كقوله : «لو لا أن أشقّ على أُمتي لأمرتهُمْ بالسِّواك» فالفعل الشاقّ قد يكون حسناً ، بل واجباً عقلياً ، لكن لا يحسن الإلزام به لما فيه من التضييق على المكلّف ، فالحسن موجود مع عدم الأمر.

وقرّره الشيخ الأعظم بوجه واضح وقال : لأنّ الفعل إمّا أن يكون حسنه في الواقع على وجه يقتضي الأمر بها إلزاماً أو لا ، فعلى الأوّل تنتفي الملازمة ، والثاني ينافي الامتنان ، فإنّ ترك الإلزام بما لا ملزم فيه لا يعدّ امتناناً. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الكلام فيما يستقل العقل بإدراكه ، من حسن الإحسان وقبح الظلم ، وما يرجع إليهما كالعمل بالميثاق وإعانة الضعيف ونقض الميثاق ، والخيانة بالأمانة ممّا يستقل العقل بحسن الفعل وقبحه ، وأمّا السواك ، فليس العقل يستقل بحسنه بما هو هو ، نعم دلّت التجاريب على دوره في صحة المزاج ، فيدخل في باب إحراز المصالح والمفاسد ، وعندئذ يدخل في باب العلم بالمصالح والمفاسد ، وقد عرفت انّه خارج عن محط البحث لعدم إحاطة العقل بمناطات الأحكام وعلل الإلزام ، غاية الأمر ، العلم بالمقتضي لا بالعلّة التامة لاحتمال وجود موانع عن تأثيره.

والحاصل : أنّه لو كان العقل يستقل بحسن السواك من صميم ذاته كحسن الإحسان كان عدم إلزام الشارع نقضاً للقاعدة ، ولكنّه ليس ممّا يستقل ، غاية الأمر وقف العقل على فائدة السواك ، كوقوفه على سائر المصالح المقتضية لا العلل التامّة ، وقد عرفت أنّه غير كاف في باب استكشاف الأحكام.

إلى هنا تبيّن انّ ما استدل به صاحب الفصول لا صلة لها بالبحث ، فهي بين

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٢٤١.

٦٢

ما يرجع إلى أنّ حسن التكليف لا يدل على حسن الفعل ، وبين ما يرجع إلى أنّ العلم بالمصالح والمقتضيات لا تصلح ، لأن يقع دليلاً على استنباط الأحكام ، وقد عرفت خروج المسألتين عن موضوع الكلام في المقام. وإليك الكلام في ما بقي

ه ـ : الصبي المراهق إذا كان كامل العقل ، لطيف القريحة تثبت فيه الأحكام العقلية في حقّه كغيره من الكاملين ، ومع ذلك لم يكلّفه الشارع بوجوب ولا تحريم لمصالح داعية إلى ترك تكليفه بهما من التوسعة عليه.

يلاحظ عليه بوجوه :

١ ـ نلتزم بثبوت الأحكام الشرعية في حقه النابعة من الأحكام العقلية كحرمة الظلم ، ووجوب ردّ الأمانة ولو عصى وارتكب لم يكتب كما هو الحال في المكلّف بالنسبة إلى المعاصي الصغيرة إذا اجتنب الكبائر قال سبحانه : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ). (النساء / ٣١)

٢ ـ إنّ الكلام فيما إذا كان الحسن علّة تامّة للتكليف ولم يكن مقروناً بمانع أو مبتلى بمزاحم ، وليس المقام كذلك ، فإنّ المصلحة العامّة أوجبت أن يكون حدّ البلوغ هو السنّ الخاص ، فلا يكلّف ما لم يبلغ ذاك النصاب وإن صلح للتكليف لأجل توقّده ، وذلك لأنّ تعليق التكليف على الصلاحيات الفردية يوجب الفوضى في عالم التكليف ، ولأجل إيصاد هذا الباب ألغى الصلاحيات الفردية واكتفى بالسن في البنين والبنات وعلى ضوء ذلك لم يكن محيص ، عن عدم الاعتداد بالذكاء الشخصي وإن كان صالحاً للتكليف ولم يكن الحسن في المقام علّة تامّة للتكليف.

٣ ـ إنّ المقام ليس من فروع الحسن والقبح ، بل من قبيل إحراز المصالح للتكليف ، وقد قلنا إنّ العقل أقصر من أن يحيط بالمصالح في المفاسد ، ويصحّح من مصادر التشريع بهذا المعنى كما لا يخفى.

٦٣

وبهذه الأجوبة الثلاثة يسقط النقض عن الاعتبار.

و : أنّ العبادات الشرعية لو تجرّدت عن قصد الأمر لتجرّدت عن وصف الوجوب ، فتلك الأفعال لا تخلو إمّا أن تكون واجبات عقلية مطلقاً ، أو بشرط الأمر بها ووقوعها بقصد الامتثال وعلى التقديرين يثبت المقصود ، أمّا على الأوّل فلحكم العقل بوجوبها باعتبار عدم قصد الامتثال وعدم حكم الشارع بوجوبه ، وأمّا على الثاني فلانتفاء الحسن قبل التكليف وحصوله بعده ، فلم يتفرّع حسن التكليف على حسن الفعل.

يلاحظ عليه : أنّا نختار الشقّ الأوّل هو انّ الواجب عند العقل ذات الأفعال مجرّدة عن نيّة الأمر ، لكن العقل غير متفرد ، بل هو كذلك عند الشرع بناء على أنّ قصد الأمر ، لا يدخل تحت الأمر ، لأنّه من الانقسامات الطارئة بعد تعلّق الأمر ، وإن كان التحقيق خلافه. فالواجب عند العقل والشرع سيّان.

ولو قلنا بجواز أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر ، فالواجب عند الشرع والعقل هو الفعل المقترن إتيانه بقصد القربة ، لا الفعل المقترن بقصد القربة ، لعدم ترتّب الأثر إلّا عليه.

وبالجملة : لا فرق بين العقل والشرع في متعلّق الوجوب ، وإنّما الحكم دائر مدار إمكان أخذ قصد الأمر في متعلّقه ، فلو قيل بامتناع الأخذ فالواجب عند الجميع هو ذات الفعل ، وإن قيل بإمكان الأخذ ، فالواجب عند الشرع والعقل هو الفعل مع قصد القربة ، فالواجب عندهما أمر واحد.

ونختار الشق الثاني ، بأنّ الواجب واجبات عقلية بشرط الأمر بها وما رتّب عليه من أنّه يلزم أن لا يكون حسن التكليف متعلّقاً على حسن الفعل مدفوع بأنّه يكفي فيه كونه مقتضياً للمصلحة وإن لم يكن علّة تامّة.

والحاصل : أنّ هذه الوجوه التي اعتمد عليها صاحب الفصول ، لا صلة للأكثر ، بالمقام وأمّا ما له صلة به فليس شاهداً على مدّعاه.

٦٤

الاستدلال على الملازمة بالدليل النقلي :

إذا لم يكن ما قرّر من الدليل العقلي على الملازمة ، مقنعاً لصاحب الفصول لم يكن له نفي الملازمة حتى يستقصي الأدلّة في المقام مع أنّ في الكتاب والسنّة إلماعات إليها.

إنّ الظاهر من الآيات أنّ الفاظ المعروف والمنكر ، والطيبات والخبائث وما يعادلها كانت دارجة عندهم ومستعملة لديهم ، فكانوا يعرفونها بفطرتهم وبصرافة ذهنهم ، وانّ الغاية من بعث الرسول الأكرم هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتحريم الخبائث وتحليل الطيّبات ، فهذه الآيات تدل على الملازمة وإنّ المعروف عند العرف ، مطلوب عند الشرع والمنكر لديهم مبغوض عنده.

قال سبحانه في حقّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) (الأعراف / ١٥٧) وقال عزّ من قائل : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل / ٩٠)

وقال لقمان لابنه وهو يعظه : (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ). (لقمان / ١٧)

وقد روي عن أبي جعفر انّه سأله رجل عن طول الجلوس في بيت الخلاء ... فقال : «دع القبيح لأهله فإنّ لكلّ شيء أهلاً».

إنّ الإمام أمير المؤمنين (عليه‌السلام) يصف الأنبياء بأنّهم مذكّرون لما تقضي به فطرة الإنسان ويقول : «فبعث فيهم رسله ، وواتر إليهم أنبيائه ، ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكّروهم منسيّ نعمته ، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن

٦٥

العقول». (١)

وكم للإمام وأولاده من كلمات ناصعة دالّة على أنّ كثيراً من تعاليم الشرائع شرحاً لما كتبه سبحانه بقلم قضائه على صحيفة وجود الإنسان وفطرته ، وقد طوينا الكلام عن نقلها وقد أشبعنا الكلام في منشوراتنا التفسيرية. (٢)

وما ذكره صاحب الفصول في خلال كلامه من احتمال خلو الواقعة عن الحكم رأساً ، فهو لا يوافق ما تضافر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجة الوداع من قوله : «ألا ما من شيء يقرّبكم إلى الجنة ويبعّدكم عن النار إلّا وقد أمر الله بقائه ، ألا ما من شيء يقرّبكم إلى النار ويبعّدكم عن الجنّة إلّا وقد نهاكم عنه». (٣)

٦ ـ كلام للمحقّق الخراساني :

إنّ المحقّق الخراساني وافق صاحب الفصول في نظريته ونفي الملازمة بين الحكمين وقدّم لتحقيق مرامه أمرين ، والمهم هو الأمر الثاني الذي نأتي بخلاصته.

«إنّ مجرّد حسن فعل أو قبحه عقلاً ، لا يوجب إرادة العقلاء إيّاه ، بحيث يبعثون إليه عبيدهم أو يزجرونهم عنه ، كما يُحسِّنون أو يُقبِّحون عليه لو اتفق صدوره من أحد ، بل لا بدّ في حصولهما من دواع وأغراض أُخر ، فربما يكون لهم داع إلى صدور الحسن من العبد ، وربما لا يكون.

والحاصل ، أنّ مجرد حسن فعل لا يكون داعياً لإرادته من الغير ، وبدونه لا يكاد أن تتعلق لصدوره منه إرادة ، وتشهد به مراجعة الوجدان حيث لا تجد من أنفسنا حصول الإرادة بمجرّد ملاحظة حسن فعل الإنسان ، فربما لا نريد الاحسان

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ١.

(٢) لاحظ «مفاهيم القرآن الجزء الأوّل : ص ٣٥.

(٣) البحار : ٧٠ / ٩٦ ح ٣.

٦٦

من الغير (كما إذا كان عدواً) إلى حدّ ، بل نكرهه وإن كان مستحقاً للتحسين لو فعله.

ويشهد على هذا أنّه كثير ما يختار العقلاء فعل القبيح وترك الحسن ، والسرّ هو أنّ الداعي الذي هو سبب الإرادة ، يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص وغلبة الشهوات والتفاوت في الملكات وملاحظة نظام الكائنات.

فإن قلت : هذا في العقلاء وأمّا الخالق تعالى شأنه ، لأجل أنّ الإرادة والكراهة فيه تعالى ليس إلّا علمه بمصلحة الفعل ومفسدته ولا حسن ولا قبح إلّا بالمصلحة والمفسدة.

قلت : إنّ علمه تعالى ليس بحسب المصداق إرادة تشريعية موجبة لبعث العباد نحوَ المراد ، وذلك لإمكان اجتماع علمه بها مع ما يمنع عقلاً عن البعث والزجر كما في صورة مزاحمة ما فيه المصلحة الملزِمة ، بما كان أهم منه لقبح البعث حينئذ إلى غير الأهم ، وكذا البعث إليهما ، أو لعدم الاستعداد بعدُ في العباد لقرب عهدهم من الإسلام بحيث يوجب بعثُهم وحملُهم على جميع الأحكام ، النفرةَ عن الإسلام ، أو لسبب لا نعرفه كما في الصبيّ الذي نطعت (١) قريحته وحسن زكاه ، ضرورة انّ أفعاله ذات مصلحة ومفسدة مع أنّه من المعلوم بالضرورة انّه لا يتعلّق بها زجر وبعث شرعاً حقيقة.

ثمّ استنتج ممّا ذكره :

١ ـ جواز خلوّ الواقعة عن الحكم الشرعي كما في الصبيّ والمجنون مطلقاً وكافة الناس في صدر الإسلام في الجملة لما عرفت من أنّ حسن شيء وقبحه لا يكون داعياً إلى فعله وتركه كما يريده أو يكرهه ، وما لم يكونا بمجردهما داعيين لم تكن ملازمة بينهما وبين التحريم والإيجاب بمعنى الكراهة والإرادة اللتين هما روح الخطاب ويكونان منشأين لانتزاع البعث والزجر أو التحريم والوجوب.

__________________

(١) تحذَّقت.

٦٧

٢ ـ وبذلك يظهر عدم ترتّب الثواب والعقاب ، فانّهما مترتّبان على الإرادة والكراهة وهما غير ثابتين بمجرّد حسن الفعل الكراهة ، فما أفاده شيخنا العلّامة ردّاً على السيد الصدر من أنّ الثواب والعقاب ليس دائرين مدار الخطاب ، بل مدار الإرادة والكراهة وإن كان في غاية الجودة ، لكن عرفت أنّ مجرّد حسن الفعل أو قبحه لا يستلزمان الإرادة والكراهة ، وذلك لأنّه ليس كل حسن ، موافقاً للغرض وكل قبيح مخالفاً له ، وبدونهما لا يكاد أن يكون الشيء مراداً ومكروهاً ولا كل موافق للغرض ، مراداً فعلاً كما في صورة تزاحم الواجب بالأهم.

وقد عرفت ممّا ذكر موارد انفكاك حكم العقل بالحسن والقبح عن حكم الشرع وذلك :

إمّا لعدم قابلية المحل للطلب المولوي كالإطاعة والعصيان.

وإمّا لوجود المانع كما في صور المزاحمة بالأهم.

وإمّا لوجود علّة غير معلوم كما في فعل الصبي المميز وكثير من أفعال الأنام في صدر الإسلام. (١)

يلاحظ عليه :

أمّا أوّلاً : فلأنّ ما أفاده من أنّ الإنسان ربما يحسن الشيء ولا يريده ، كما لا يريد الإحسان من عدوه وربّما يُقبّح الشيء ولا يكره ، كما في الظلم على العدو ، إنّما يتم في الأفراد الغارقة في الأغراض الشخصية والمصالح المادية ، وأمّا الإنسان المنسلخ عنها ، فالايمان فيه يدعو إلى العمل ولا ينفك عنه.

فالقوّة العاقلة التي هي رئيس القوى إذا كانت معجبة للشيء أو مشمئزّة عنه ، تطلب فعل الأوّل وترك الثاني وإنّما ينفك الإيمان عن العمل ، إذا كانت القوّة العاقلة ، محكومة بالدواعي النفسانية والأغراض المادية ، وهي خارجة عن البحث.

__________________

(١) الفوائد الأُصولية : ٣٤١ ـ ٣٤٣.

٦٨

وعلى الجملة إذا أدرك العقل المجرّد عن الرواسب انّ الاحسان ، حسن ، وإنّ فعله كمال له فيطلبه ، وانّ الظلم قبيح وارتكابه نقص له ، فيزجر عنه أو يشمئز عنه.

وبعبارة أُخرى : إذا أدرك انّ الفعل كمال ، أو هو نقص له ، فكيف يتوقف عن الأمر بتحصيله مع أنّ الميل إلى الكمال ، أمر فطري جُبِّل عليه الإنسان ، ولأجل ذلك لا ينفك ذاك العلم عن الطلب والزجر ، ما دام زمام القضاء بيد القوّة العاقلة.

وثانياً : أنّ الكلام فيما إذا كان الحسن والقبح علّة تامة ، للمدح والذم ، أو الطلب والزجر ، لا مقتضياً متوقفاً على العلم بعدم الابتلاء بمصلحة أهم ، أو بمفسدة أشدّ من ترك مصلحة الحسن ، أو غير ذلك فانّ المخالفة في هذه الموارد ، لا تعدّ نقضاً للقاعدة حتى في مورد الصبي المراهق ، العارف بالحرام والحلال ، الصالح للتكليف ، لما مرّ من انّ حفظ التحديد المضروب على نوع تختلف أفراده إدراكاً وتعقّلاً ، قوّة وضعفاً ، يستلزم عدم الإيجاب عليه ، حفظاً للمصلحة العامة. وإيجابه عليه بالخصوص يوجب العسر في تشخيص الموضوع ، بخلاف ما إذا علّق التكليف على البلوغ المحدّد المشخص بعلائم ثلاثة خصوصاً السنّ.

وبالجملة كل مورد ، يحتمل عدم كون الحسن والقبح علّة تامة للطلب والزجر وكونه مبتلى بمزاحم ومانع ، أو ما أشبهه فلا يحكم بالملازمة أبداً ، وما ذكر من الموارد فهي من مصاديق ذلك.

بقي الكلام فيما أورد من النقض في باب الإطاعة والعصيان ، فالعقل يحكم بوجوب الأوّل وحرمة الثاني دون الشرع ولو حكم فإنّما يحكم إرشادياً ، فتخيّل من ذلك انفكاك حكم العقل عن الشرع.

ولكن القول بالملازمة فيما إذا أمكن الحكم المولوي للشارع كما في موارد العدل والظلم والصدق والكذب ، وأمّا الإطاعة والعصيان ، فلأنّه لا يجوز أن يتعلّق بهما حكم مولوي من الشارع لاستلزامه أن لا ينتهي حكم الشارع إلى حدّ ، بيانه :

انّه إذا كشف العقل ، تعلّق أمر مولوي من الشارع بالطاعة والنهي عن

٦٩

العصيان ، فلهذا الحكم المنكشف أيضاً ، طاعة وعصيان ، يستقل العقل فيهما بما استقل به سابقاً ، ولو قلنا بالملازمة يكشف عن تعلّق أمر مولوي بهما أيضاً فيلزم أن لا ينتهي الأمر المكشوف إلى حدّ ، ولأجل ذلك للعقل في هذا المورد ، حكم دون الشرع ومثله لا يعدّ نقضاً للقاعدة كما لا يخفى لأنّها فيما إذا أمكن التعلّق.

٧ ـ كلام للمحقّق الاصفهاني :

إنّ الشيخ المحقّق الاصفهاني ممّن أصفق على التحسين والتقبيح العقليين على ما تقدّم ، ولكنّه ممّن لم يقبل الملازمة بين حكمي العقل والشرع في ذلك المجال وقال ما هذا حاصله : إنّ التكليف لا يمكن أن يكون داعياً على كل تقدير ، ولكل مكلّف عموماً إلّا بلحاظ ما يترتّب على موافقته من الثواب ، وعلى مخالفته من العقاب ، وحيث إنّ المفروض انّ العدل يوجب استحقاقَ المدح (١) ، والظلم يوجب استحقاق الذم (٢) عند العقلاء ومنهم الشارع ، فهو كاف في الدعوة من قبل الشارع بما هو عاقل ، ولا مجال لجعل الداعي بعد ثبوت الداعي من قبله ، فإنّ اختلاف حيثية العاقلية وحيثية الشارعية لا يرفع محذور ثبوت داعيين متماثلين مستقلّين في الدعوة بالاضافة إلى فعل واحد ، لأنّ الواحد لا يعقل صدوره من علّتين مستقلتين في الدعوة ـ إلى أن قال ـ :

نعم لو قلنا بأنّ ما تطابقت عليه آراء العقلاء نفس استحقاق المدح أو الذم دون استحقاق الثواب والعقاب أمكن أن يقال : إنّه لا يدعو على كل تقدير ولكلّ مكلّف ، لإمكان عدم المبالاة بالمدح والذم فلا بدّ من البعث والزجر المترتّب عليهما الثواب والعقاب ، فحينئذ يبقى للمولوية مجال.

__________________

(١ ـ ٢) يريد من المدح والذمّ المعنى الأعم الشامل للثواب والعقاب لا مجرّد المدح والذم غير الشامل للثواب والعقاب ، ويدل على ما ذكرنا ، ذيل كلامه وإلّا فلا يتم الاستدلال.

٧٠

إلّا أنّ المدح والذم اللذين يترتب عليهما حفظ النظام عند العقلاء ما يعم الثواب ، والعقاب ، أعني : المجازاة بالخير والمجازاة بالشر ـ إلى أن قال : ـ اتضح من جميع ما ذكرنا انّ ما يستقل العقل بحسنه أو قبحه ، وإن لم يمكن الحكم من الشارع على خلافه ، لكنّه لا يعقل أن يحكم مولوياً على وفاقه أيضاً ، بل يحكم بحسنه أو قبحه على حدّ سائر العقلاء.

ثمّ إنّه (قدس‌سره) عطف على العدل والظلم ، الصدق والكذب ، فحكم بأنّ الحكم المولوي بالإضافة إلى الصدق والكذب بذاته ـ أي لو خلّيا وطبعهما أو بعنوان معلوم الحسن والقبح عند العقلاء كذلك ، لأنّ الصدق والكذب من حيث نفسهما عدل في القول ، وجور فيه وقد عرفت حال العدل والجور وكذا الصدق المعنون بعنوان إهلاك المؤمن ، ظلم عليه ، والكذب المنجي له إحسان إليه فحالهما حال العدل والظلم. (١)

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّه قد مرّ في الأمر الخامس من مقدّمات البحث انّ للملازمة تفسيرات ثلاثة ، أعني : به كلّ ما حكم به العقل ، حكم بمثله الشرع أو يحكم بعينه الشرع ، أو هو عين حكم الشرع وقد مرّ الفرق بين الأقوال فلو صحّ ما ذكره فإنّما يتوجه على التفسيرين الأوّلين دون الثالث إذ عليه انّ هناك إدراكاً واحداً ، وحكماً وحاكماً فارداً. وهذا أيضاً أحد الأقوال فتثبت الملازمة إجمالاً.

وثانياً : أنّ للعقل في ما يرجع إليه من القضايا إدراكاً أوّلاً ، وحكماً ثانياً ولا يغني الأوّل من الثاني ، وقد ورثنا هذه النظرية من سيدنا الأُستاذ (قدس‌سره) حيث كان يقول : إنّ للعقل وراء الإدراك في مجال الأحكام العملية ، حكماً. وعلى ضوء ذلك فالمدرَك وإن كان عاماً ، لا يعرف لشموله حدّاً ، فهو أدرك ما يدركه كل موجود حيّ مختار ، من غير فرق بين الخالق والمخلوق ، ولكن حكمه لا يعدو نفسه ، إذ حكم الحاكم لا يتجاوز عن دائرة نفسه ، بمعنى انّ الحكم حكمه ، لا حكم

__________________

(١) نهاية الدراية : ٢ / ١٢٩ ـ ١٣٠.

٧١

غيره سواء كان إنساناً أو غيره ، ومثله لا يكون مغنياً عن حكم الله سبحانه إلّا إذا كان اتخذ العقل لنفسه موقف الكاشفية عن حكم سائر العقلاء وخالقهم ، وعندئذ يصلح للدلالة إلى حكم الشرع ، والدلالة إلى حكمه فرع وجوده ، فما لم يكن هناك حكم من الحيّ المختار الواجب ، لما كان للدلالة وجه وللكاشفية معنى. وعليه لا يغني حكم العقل عن حكم الشرع ، فيكون الملاك باقياً لحكمه.

ثالثاً : أنّ حكم العقل والعقلاء في مجال التحسين والتقبيح لا يتجاوز عن الإعجاب والمدح والذم في حدّ اللسان والبيان وأمّا الإثابة والعقوبة فهو خارج عن إطار حياتهم ، وإنّما هما من شئون المولوية والعبودية فالمولى هو الذي يعاقب أو يثيب استحقاقاً أو تفضّلاً ، أو استحقاقاً في العقوبة وتفضّلاً في المثوبة على الخلاف في كيفيتهما.

وعلى ذلك فالحقّ ما ذكره أخيراً من أنّ كثيراً من الناس لا يبعثهم المدح والذم إلى الإتيان بالواجب وترك المحرّم ، بخلاف ما إذا ترتّب عليهما الثواب والعقاب وعندئذ تمسّ الحاجة إلى البعث والزجر الناشئين من الإرادة والكراهة ، مباشرياً ، أو بواسطة كشف العقل.

وإن شئت قلت : إنّ موقف العقل في إدراكه وحكمه ، موقف المدرك الناصح المرشد ، وليس هناك من المولوية والعبودية أثر ، فلا يترتّب لهذا الحكم أثر شرعي سوى ما يدركه نفس الإنسان من المدح والذم وهذا بخلاف الحكم الصادر من الشارع ، فانّه يصدر ممّن له المولويّة ، وقد أصدر الأمر بما له هذه الخصوصية.

ورابعاً : كيف يمكن عطف الصدق والكذب على العدل والظلم ، والقول بأنّه لا يتعلّق بهما الأمر والنهي ، مع كون السنّة بل الكتاب مشحونين بتعلّق البعث والزجر بهما. ونحن في غنى عن ذكر النماذج فضلاً عن البسط في الكلام.

٧٢

٨ ـ كلام للشيخ المظفر :

إنّ الشيخ المظفر (قدس‌سره) لم يتجاوز عمّا ذكره أُستاذه الجليل المحقّق الاصفهاني وقد قرّر ما نقلناه عنه وقال في تقرير الملازمة : أنّ العقل إذا حكم بحسن شيء أو قبحه ـ أي انّه إذا تطابقت آراء العقلاء جميعاً بما هم عقلاء ، على حسن شيء لما فيه من حفظ النظام وبقاء النوع أو على قبحه لما فيه من الاخلال بذلك ـ فإنّ الحكم هذا يكون بادئ رأي الجميع فلا بدّ أن يحكم الشارع بحكمهم ، لأنّه منهم بل رئيسهم فهو بما هو عاقل ، ـ بل خالق العقل ـ كسائر العقلاء لا بدّ أن يحكم بما يحكمون ولو فرضنا انّه لم يشاركهم في حكمهم لما كان ذلك الحكم بادي رأي الجميع وهذا خلاف الفرض.

ـ إلى أن قال : ـ لو ورد من الشارع أمر في مورد حكم العقل ، فهل هو أمر مولويّ أي أمر منه بما هو مولى ، أو أنّه أمر إرشادي أي أمر لأجل الارشاد إلى ما حكم به العقل ، والحقّ أنّه للإرشاد ، حيث يفرض انّ حكم العقل هذا كاف لدعوة المكلّف إلى الفعل الحسن فلا حاجة إلى جعل الداعي من قبل المولى ثانياً ، بل يكون عبثاً ولغواً ، بل هو مستحيل ، لأنّه يكون من باب تحصيل الحاصل.

ثمّ نبّه بما أفاده أُستاذه في آخر كلامه من أنّه لو كان ما تطابقت عليه آراء العقلاء هو استحقاق المدح والذم فقط على وجه لا يلزم منه استحقاق الثواب والعقاب من قبل المولى فيمكن ألّا يكون نفس إدراك استحقاق المدح والذم كافياً لدعوة كلّ أحد إلى العقل إلّا الأفذاذ من الناس فلا يستغني أكثر الناس عن الأمر من المولى المترتّب على موافقته الثواب ، وعلى مخالفته العقاب في مقام الدعوة إلى الفعل. (١)

يلاحظ عليه : بمثل ما سبق في تحليل كلام أُستاذه ، لكن نضيف عليه في

__________________

(١) أُصول الفقه : ١ / ٢٣٧ ـ ٢٣٨.

٧٣

المقام انّ تفسير التحسين والتقبيح العقليين بما جاء في كلامه ، لا يمكن المساعدة معه ، لما ذكرنا انّ ملاكهما ليس تطابق العقلاء عليه أوّلاًً ، ولا كونهما ، مشتملين على المصالح والمفاسد العامة ، ثانياً. وقد عرفت أنّ نطاق البحث أوسع ممّا ذكره وأنّ الغاية القصوى من البحث معرفة أفعال الباري وما يجوز له وما لا يجوز عليه ، وكون العدل مبقياً للنظام والجور هادماً له ، يرجع إلى نظام الحكم بين الإنسان وأين هو من فعله سبحانه الخارج عن تلك الدائرة.

حصيلة البحث :

قد بان ممّا نقلنا من كلمات الأعلام وما ذكرنا حوله من المناقشات ، انّ أصل التحسين والتقبيح من البديهيات العقلية في مجال الإدراكات العقل العملي ، وأمّا كون الفعل كذلك عند الله ، فهو أوضح من أن يخفى ، لأنّ العقل يدرك قضية عامة وانّه كذلك لدى كل موجود حيّ مختار ، وأمّا الملازمة بين الحكمين ، فلأنّ الموضوع لدى العقل للحكم ، هو نفس الموضوع عند الله سبحانه ، فكان الحسن والقبح ، والمدح والذم ، والبعث والزجر من لوازم الفعل عنده فلا وجه لتفكيك اللازم عن الملزوم في موطن دون موطن.

وإن شئت قلت : إنّ العقل يدرك أنّ هذا الفعل حسن أو قبيح ، وانّه مستحق للمدح أو الذم وانّه يجب أن يفعل أو لا يفعل ، فإذا كان المدرَك بهذه السعة ، فلا يصح التفكيك بين الخالق والمخلوق ، والتفكيك أشبه بأن تكون زوايا المثلث مساوية لزاويتين قائمتين عند الإنسان دون الله ، فالجميع من الحسن والقبح والمدح والذم ، والبعث والزجر ، من لوازم نفس الشيء بما هو هو ، يترتب الجميع عليه عند من حضره بمفهومه.

* * *

٧٤

اكمال :

قد تقدّم عند مناقشة نظرية الفاضل التوني إنّ نفاة الملازمة استدلوا بقوله سبحانه : (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الاسراء / ١٥) ببيان انّ الآية حاكية عن نفي العقاب ، الملازم لنفي الحكم الشرعي ، مع ثبوت الحسن والقبح من بعض الموارد.

وبعبارة أُخرى أنّ إطلاق الآية يحكي عن عدم التعذيب ، الملازم لنفي الحكم الشرعي مطلقاً ، من غير فرق بين الفروع والأُصول ، ومن غير فرق بين ما يُدرك العقل حسنَ الفعل أو قبحه ، وعدم ادراكه ، فيلزم نفي الحكم الشرعي مع وجود الحكم العقلي.

أقول : إنّ الآية شغلت بال المفسّرين فقد ذكروا في المقام وجوهاً لا يسع المقام لذكرها.

وذهب العلّامة الطباطبائي انّ الآية بشهادة ما قبلها وما بعدها (١) ناظرة إلى العذاب الدنيوي بعقوبة الاستئصال ، وهذا هو الموقوف على بعث الرسول ، لا العذاب الأُخروي ، ولا العذاب الدنيوي ـ بغير صورة الاستئصال ـ وأمّا هما ففيه التفصيل ، فإنّ الأُصول التي يستقل العقل بإدراكها كالتوحيد والنبوة والمعاد ، فإنّما نلحقها آثار قبولها وتبعات ردِّها ، من غير توقّف على نبوة أو رسالة ، وبالجملة أُصول الدين وهي التي يستقل العقل ببيانها تستتبع المؤاخذة الإلهية على ردّها. بمجرّد قيام الحجة القاطعة العقلية من غير توقف على بيان النبي والرسول.

وأمّا الفروع فتستقرّ المؤاخذة الأُخروية على الفروع بالبيان النبوي ولا تتم

__________________

(١) لاحظ الآية ١٦ و ١٧ من نفس السورة.

٧٥

الحجة فيها لمجرّد حكم العقل. (١)

يلاحظ عليه : أنّه إذا كان العذاب الدنيوي ولو كان بصورة الاستئصال ، متوقفاً على بعث الرسل ، كان العذاب الأُخروي أَولى بأن يكون متوقفاً عليه وعند ذلك ، يعود الإشكال ، فيما يستقل به العقل من الأُصول ، فهو يحكم بلزوم الاعتناق ، والثواب ، والعقاب ، مع أنّ الشرع يجعله متوقفاً على بعث الرسل.

والأَولى أن يقال : إنّ الآية بمنطوقها ومفهومها الأولوي ، ناظرة إلى ما لا يستقل العقل من الأُصول والفروع التي لو لا بعث الرسل لما وقف عليها جمهور الناس إلّا الأفذاذ منهم ، فالتعذيب في مثلها يتوقف على بيان سماوي ، دون ما يقف عليه الناس بفطرتهم وعقولهم النيّرة ، فالمخالفة والعصيان فيها يستتبع العقاب وإن لم يكن بيان من الله سبحانه. فلاحظ وقد أطنب الشيخ الأعظم في رسالته في تبيين مفاد الآية ، وما ذكرناه أولى بالتصديق. والله العالم.

إنّ قصّة ابني آدم دليل واضح على أنّ الأُصول التي يستقل العقل بحسنها أو قبحها يعاقب ويثاب عليها وإن لم يدعمها الشرع ـ لأجل عدم وجود الشريعة ـ فإنّ آدم وإن كان نبيّاً ولكن لم تكن له شريعة ، وكان المفروض على أبناء آدم يوم ذلك رعاية الأُصول التي يستقل العقل بحكمها والله سبحانه يصف قاتل هابيل بأنّه كان من الخاسرين قال : (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ). (المائدة / ٣٠)

* * *

__________________

(١) الميزان : ١٣ / ٦٠.

٧٦

الكلام في عكس القاعدة :

إذا كانت القاعدة هي الملازمة بين حكمي العقل والشرع بمعنى انّه إذا حكم العقل بحكم ، حكم به الشرع أيضاً ، يكون عكسها هو الملازمة بين حكمي الشرع والعقل وانّه إذا حكم الشرع بحكم ، حكم به العقل أيضاً. فنقول : إنّ في عكس القاعدة احتمالين :

الأوّل : انّ كل ما حكم به الشرع حكم به العقل بمعنى انّه صدر من أهله ووقع في محلّه وإن لم يقف على مناط الحكم وملاكه. وهذا المعنى أصفق عليه كل وصف الله سبحانه بالعدل والحكمة وانّ أفعاله نزيهة عن البعث واللغو ، وإنّ الترجيح بلا مرجح باطل ويدل عليه العقل ، مضافاً إلى النقل قال سبحانه : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (ص / ٢٧) وقال : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ). (المؤمنون / ١١٥)

الثاني : انّ كلّما حكم به الشرع ، حكم به العقل على طبقه حكماً انشائياً فعليّاً وهذا يحتمل وجهين :

١ ـ أن يحكم به بالفعل سواء وقف على جهات الفعل أو لا.

٢ ـ أن يحكم به مشروطاً بأنّه لو وقف على جهات الفعل لحكم به.

أمّا الأوّل فباطل بضرورة الوجدان. وكيف يصحّ له الحكم مع عدم العلم بجهات الفعل.

وأمّا الثاني : فهو لازم المعنى الأوّل الذي اتّفقت على صحّته العدلية على وجه الإطلاق إذ لو وصفناه بالحكمة وبراءة عمله عن اللغو والعبث والترجيح بلا مرجّح ، يلزم التطابق بين الحكمين بشرط أن يقف العقل على مناطه وملاكه.

٧٧

بل يستفاد من بعض الآيات انّ كلّ ما أمر به النبي داخل في القسط وما نهى عنه داخل في الإثم والفحشاء والبغي والشرك ، والأكثر لو لا الجميع ممّا يستقل العقل على قبحه. فكيف لا تكون هناك ملازمة بينهما بعد الوقوف على الملاك ، قال سبحانه : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (الأعراف / ٢٩) وقال سبحانه : (إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ). (الأعراف / ٣٣)

* * *

٧٨

المسألة الثالثة :

في إطاعة الحكم الشرعي

المستكشف بالعقل وعصيانه

لقد تبيّن ممّا سبق انّ العقل يُدرك حسنَ بعضِ الأفعال وقبحه ويمدَح الفاعلَ أو يذُمُّ ، ويحكم بالإتيان أو تركه كما يدرك انّ الفعل بوصفه وحكمه ، كذلك عند الشارع وأنّه أيضاً يمدح الفاعل أو يذمّه ، يطلب الفعل أو يزجره عنه.

وعندئذ يقع الكلام في أنّ الحكم الشرعي المستكشَف بالعقل ، هل له وجوب الطاعة وحرمة المخالفة أو لا ، بل يخصّان بالحكم الشرعي الوارد في الكتاب والسنّة.

الأُصوليون من أصحابنا على الأوّل ، والأخباريون منهم على الثاني. والحقّ هو الأوّل ويظهر بالنظر إلى أمرين :

١ ـ شريعة الإسلام بما أنّها خاتمة الشرائع ، وقد أغنت الإنسان عن كل

٧٩

تشريع سواها ، أعطت لكلّ واقعة حكمها ، سواء كان لها وجود في عصر الرسول الأكرم أو لا ، ويؤيد ذلك ، ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطبة حجة الوداع قال : «معاشر الناس ما من شيء يقرّبكم إلى الجنة ويباعدكم عن النار إلّا أمرتكم به ، وما من شيء يقرّبكم إلى النار ، ويباعدكم عن الجنّة إلّا وقد نهيتكم عنه». (١) وعلى ضوء ذلك فنحن نقطع بأنّ للشارع فيها حكماً شرعياً قطعاً.

٢ ـ إذا حصل القطع من طريق القول بالملازمة بأنّ حكم الشارع في هذه الواقعة ، هو ذا ، فلا وجه في التوقف في لزوم إطاعته وحرمة عصيانه ، مع العلم بأنّ القطع في مورد العلم بالأحكام ، طريقي محض ، وليس موضوعاً للحكم حتّى يلاحظ لسان دليله ، وانّه هل اخذ ، على وجه الإطلاق أو على وجه خاص.

ومع هذين الأمرين لا يشك العقل في لزوم إطاعته وحرمة عصيانه.

نعم المختار عند الأخباريين عدم حجية الحكم المستكشف عن طريق العقل. وانّه لا اعتبار بالعلم الحاصل من غير الكتاب والسنّة وقد استندوا في ذلك إلى روايات نذكر بعضها :

١ ـ استدل الفاضل التوني بما رواه حمزة بن الطيار عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : قال لي : اكتب ، فأملى علي : إنّ من قولنا إنّ الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرّفهم ، ثمّ أرسل إليهم رسولاً ، وأنزل عليهم الكتاب فأمر فيه ونهى ، أمر فيه بالصلاة والصيام (٢) ولم يذكر الفاضل كيفية الاستدلال ، غير انّ الشيخ الأعظم ناب عنه في البيان وقال : وجه الدلالة انّ قوله : «ارسل» عطف على الموصول لعدم الاعتداد بالارسال لولاه لتمام الحجة بدونه فيدل على أنّ الله لا يحتج بالعقل وحده وهو المطلوب. (٣)

__________________

(١) البحار : ٧٠ / ٩٦ ح ٣.

(٢) الكافي : ١ / ١٦٤ ، كتاب التوحيد ، باب حجج الله على خلقه ، الحديث ٤.

(٣) مطارح الأنظار : ٢٤٧ ولا يخفى ما في العبارة من الخفاء لأنّ لفعل عطف على الصلة لا على الموصول.

٨٠