الرسائل الأربع - ج ١

عدّة من الأفاضل

الرسائل الأربع - ج ١

المؤلف:

عدّة من الأفاضل


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٨

وباختصار : أنّ فعله سبحانه ـ مع كون قدرته عامة ـ ليس فوضوياً ومتحرّراً عن كل قيد وشرط ، وليس التحديد مفروضاً عليه سبحانه من ناحية العقل ، وإنّما هو واقعية وحقيقة كشف عنه العقل ، كما كشف عن القوانين السائدة على الطبيعة والكون. فتصور أنّ فعله سبحانه متحرّر عن كلّ قيد وحدّ ، لغاية حفظ شأن الله سبحانه ، وسعة قدرته أشبه بالمغالطة ، فإنّ حفظ شأنه سبحانه غير فرض تجرّد فعله عن كلّ قيد وشرط.

وبالتأمّل فيما ذكرنا يظهر ضعف سائر ما استدل به القائلون بنفي التحسين والتقبيح العقليين. ولا بأس بالإشارة إلى بعض أدلّتهم التي أقامها المتأخّرون عن أبي الحسن الأشعري من أتباع مذهبه ودعاة طريقه.

الدليل الثاني : لو كان التحسين والتقبيح ضرورياً لما وقع الاختلاف :

قالوا : لو كان العلم بحسن الإحسان وقبح العدوان ضرورياً لما وقع التفاوت بينه وبين العلم بأنّ الواحد نصف الاثنين ، لكن التالي باطل بالوجدان.

وأجاب عنه المحقّق الطوسي بقوله : «ويجوز التفاوت في العلوم لتفاوت التصوّر». (١)

توضيحه : أنّه قد تتفاوت العلوم الضرورية بسبب التفاوت في تصوّر أطرافها. وقد قرّر في صناعة المنطق أنّ للبديهيات مراتب : فالأوّليات أبده من المشاهدات بمراتب. والثانية أبده من التجربيات ، والثالثة أبده من الحدسيات ، والرابعة أبده من المتواترات ، والخامسة أبده من الفطريات. والضابطة في ذلك أنّ ما لا يتوقف التصديق به على واسطة سوى تصور الطرفين فهو أبده من غيره ، وذلك مثل الأوّليات ، وهكذا.

__________________

(١) كشف المراد : ١٨٦.

٤١

فلو صحّ ما ذكره الأشاعرة من الملازمة ، لزم أن لا تكون الحدسيات من اليقينيات.

وباختصار : أنّ العلوم اليقينية ، مع كثرتها ليست على نمط واحد ، بل لها مراتب ودرجات ، وهذا شيء يلمسه الإنسان إذا مارس علومه ويقينياته ، وعلى ذلك فلا مانع من أن يقع الاختلاف في بعض العلوم الضرورية لدوافع خاصة ، وهي في المقام تصور أنّ الحكم بالحسن والقبح تحديد لسلطنته سبحانه ، فلأجل ذلك رفضت الأشاعرة هذا العلم الضروري للحفاظ على عموم سلطته تعالى.

الدليل الثالث : لو كان الحسن والقبح عقليين لما تغيرا :

إنّ الحسن والقبح لو كانا عقليين لما اختلفا ، أي لما حسن القبيح ولما قبح الحسن ، والتالي باطل ، فإنّ الكذب قد يحسن والصدق قد يقبح ، وذلك فيما إذا تضمن الكذب إنقاذ نبيّ من الهلاك ، والصدق إهلاكه.

فلو كان الكذب قبيحاً لذاته لما كان واجباً ولا حسناً عند ما استفيدت به عصمة دم نبيّ عن ظالم يقصد قتله (١)

وأجاب عنه المحقّق الطوسي بقوله : «وارتكاب أقل القبيحين مع إمكان التخلص». (٢)

توضيحه : أنّ الكذب في هذه الصورة على قبحه إلّا أنّ ترك إنقاذ النبيّ أقبح من الكذب ، فيحكم العقل بارتكاب أقلّ القبيحين تخلصاً من ارتكاب الأقبح. على أنّه يمكن التخلّص عن الكذب بالتعريض (أي التورية).

وباختصار : أنّ تخليص النبي أرجح من حسن الصدق فيكون تركه أقبح من

__________________

(١) الآمدي : الأحكام : ١ / ١٢١.

(٢) كشف المراد : ١٨٧.

٤٢

الكذب فيرجح ارتكاب أدنى القبيحين وهو الكذب لاشتماله على المصلحة العظيمة ، على الصدق.

أضف إلى ذلك : أنّ الاستدلال مبنيّ على كون قبح الكذب وحسن الصدق ، كقبح الظلم وحسن العدل ، ذاتيين لا يتغيران. وأمّا على ما مرّ من أنّ الأفعال بالنسبة إلى الحسن والقبح على أقسام :

منها : ما يكون الفعل علّة تامة لأحدهما ، فلا يتغير حسنه ولا قبحه بعروض العوارض كحسن الإحسان وقبح الإساءة.

ومنها : ما يكون مقتضياً لأحدهما ، فهو موجب للحسن لو لم يعرض عليه عنوان آخر ، وهكذا في جانب القبح. وقد تقدّم أنّ حسن الصدق وقبح الكذب من هذا القبيل.

ومنها : ما لا يكون علّة ولا مقتضياً لأحدهما كالضرب ، وإنّما يوصف بأحدهما بطرو عنوان كالضرب جزاء أو إيذاء.

إنّ الآمدي ـ أحد المتكلّمين من الأشاعرة ـ نقل وجوهاً سبعة لإنكار التحسين والتقبيح العقليين ونحن نضنّ بالقلم والحبر والورق عن نقلها والردّ عليها ، ولأجل الوقوف على ضالتها نذكر واحداً منها :

لو كان الكذب قبيحاً لذاته ، للزم منه أنّه إذا قال : «إن بقيت ساعة كذبت» أن يكون الحسن منه في الساعة الأُخرى ، الصدق أو الكذب ، والأوّل ممتنع لما يلزمه من كذب الخبر الأوّل وهو قبيح ، فلم يبق غير الثاني وهو المطلوب. (١)

انظر إلى هؤلاء ، كيف يستدلّون على مسألة كلامية أو أُصولية أو أخلاقية بهذه الوجوه التافهة ، وهم بدل أن يرجعوا إلى فطرتهم وقضاء عقولهم ، صاروا يستدلون بهذه اللغز والأحاجي. ومع ذلك نقول : إنّ وظيفته في الساعة الأُخرى هو

__________________

(١) الاحكام : ١ / ١٢٠ ـ ١٢١.

٤٣

الصدق ، وهو ليس بقبيح واستلزامه كذب الخبر الأوّل ليس بقبيح ، لأنّ تعهده على الكذب كان قبيحاً ، وكان نقضه حسناً وهذا نظير ما إذا أخبر عن قتل الإنسان البريء في الساعة الثانية ، لكن الحسن منه ليس هو القتل ، بل تركه ، لأنّ فيه صيانة الدم المحترمة. والوجوه الباقية من هذه القبيل والآمدي وإن لم يقبلها ، لكن نقل هذه الحجج الواهية ، ليس من شئون الكاتب الواعي.

وأمّا ما استند هو عليه في ردّ الحسن العقلي فليس بأقصر من هذه الوجوه فلاحظ. (١)

* * *

إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة وهي أنّ هناك أفعالاً يستقل العقل بحسنها وقبحها ، ويقضي بهما من دون أن يستعين بالشرع ، ويرى حسنها وقبحها مطرداً في جميع الفاعلين ، من غير اختصاص بالخالق أو المخلوق. وقد ذكرنا ملاك قضائه وهو إمّا كون القضية من البديهيات أو كونها ملاءمة أو منافرة للشخصية العِلْوية المثالية التي خلق الإنسان عليها.

ثمّ إنّ القول بالتحسين والتقبيح العقليين إنّما يتم على القول بأنّ الإنسان فاعل مختار ، وأمّا على القول بأنّه مجبور في أفعاله ، فالبحث عنهما منفي بانتفاء موضوعه ، لأنّ شيئاً من أفعال المجبور لا يتصف بالحسن ولا بالقبح عقلاً. وبما أنّ الأشاعرة يصورون الإنسان فاعلاً مجبوراً ، فلازم مقالتهم نفي التحسين والتقبيح العقليين ، وقد اعترف الأشاعرة بذلك (٢)

* * *

__________________

(١) الاحكام : ١ / ١٢٣.

(٢) كشف المراد : ١٨٧.

٤٤

التحسين والتقبيح في الكتاب العزيز :

إنّ التدبّر في آيات الذكر الحكيم يعطي أنّه يسلّم استقلال العقل بالتحسين والتقبيح خارج إطار الوحي ثمّ يأمر بالحسن وينهى عن القبح.

١ ـ قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). (١)

٢ ـ (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ). (٢)

٣ ـ (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ). (٣)

٤ ـ (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ). (٤)

فهذه الآيات تعرب بوضوح عن أنّ هناك أُموراً توصف بالإحسان والفحشاء والمنكر والبغي والمعروف قبل تعلّق الأمر أو النهي بها ، وأنّ الإنسان يجد اتصاف الأفعال بأحدها ناشئاً من صميم ذاته ، كما يعرف سائر الموضوعات كالماء والتراب. وليس عرفان الإنسان بها موقوفاً على تعلّق الشرع وإنّما دور الشرع هو تأكيد إدراك العقل بالأمر بالحسن والنهي عن القبيح.

أضف إلى ذلك أنّه سبحانه يتّخذ وجدان الإنسان سنداً لقضائه فيما تستقل به عقليته :

٥ ـ يقول تعالى : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي

__________________

(١) سورة النحل / ٩٠.

(٢) سورة الأعراف / ٣٣.

(٣) سورة الأعراف / ١٥٧.

(٤) سورة الأعراف / ٢٨.

٤٥

الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ). (١)

٦ ـ ويقول سبحانه : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ* ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ). (٢)

٧ ـ ويقول سبحانه : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ). (٣)

فالتدبر في هذه الآيات لا يدع مجالاً لتشكيك المشكّكين في كون التحسين والتقبيح من الأُمور العقلية التي يدركها الإنسان بالحجة الباطنية من دون حاجة إلى حجة ظاهرية.

ولنكتف بهذا المقدار ـ قال الشيخ الأعظم ـ : إنّ إكثار الكلام فيها ربما يعدّ من العبث ، حيث إنّه لا يفيد غير ما هو المعلوم لنا منها بسلامة الوجدان مع أنّ لنا فيه غنى عن تجشّم البرهان. (٤)

واعلم أنّ البحث عن الحسن والقبح يعدّ من المبادئ الأحكامية التي يبحث فيها عن أحوال الأحكام الشرعية ، مثل البحث عن جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء بعنوانين ، فانّه ـ عند البعض ـ من المبادئ الأحكامية. وأمّا البحث عن المسألة الثانية أي وجود الملازمة بين حكم العقل بالحسن ، أو القبح والحكم الشرعي فهو من المسائل الأُصولية وإليك الكلام فيها :

__________________

(١) سورة ص / ٢٨.

(٢) سورة القلم / ٣٥ ـ ٣٦.

(٣) سورة الرحمن / ٦٠.

(٤) مطارح الأنظار ، رسالة «الأدلة العقلية» : ٢٣٥.

٤٦

المسألة الثانية :

ثبوت الملازمة بين

حكم العقل وحكم الشرع

قد عرفت فيما سبق أنّ هنا مسائل ثلاث ، وقد مضى البحث عن الأُولى وهي بمنزلة الصغرى للمسألة الثانية ، أعني : وجود الملازمة بين حكمي العقل والشرع ، بمعنى انّه إذا ثبت حكم العقل بحسن شيء أو قبحه هل يلزم عقلاً أن يحكم الشرع على طبقه أو لا؟ فالمعتزلة على الملازمة ، فهو عندهم طريق إلى العلم بالحكم الشرعي. دون غيرهم وأمّا أصحابنا فالأخباريون على إنكار الملازمة ، والأُصوليون على ثبوتها ، إلّا صاحب الفصول فقد أنكرها. وقبل الخوض في المقصود ، لا بدّ من التنبيه على أمر مهم له دور في القضاء الصحيح في المسألة وهو :

إنّ محل النزاع غير مُنقَّح في كلمات القوم ، ويظهر من الردود على نفي الملازمة بين حكمي العقل والنقل انّه حصل الخلط فيما عقد له هذا البحث.

٤٧

فنقول : إنّ هنا مسألتين :

الأُولى : إذا استقل العقل بالتحسين والتقبيح ، ومدح المحسن وذم المسيء ، فهل يستقل بأنّ الأمر كذلك عند الشارع ، فهو أيضاً باعث إلى الإحسان ، وزاجر عن الظلم ، ويمدح المحسن ويذم المسيء ، ويثيب الأوّل ، ويعاقب الثاني أو لا؟ وعلى ذلك فالبحث في كلا الطرفين (العقل والشرع) مركز ، على إدراك العقل حسن الفعل وقبحه. لا على إدراكه مصلحة في الفعل أو مفسدة فيه ، شخصية كانت أو نوعية.

الثانية : إذا استقل العقل بوجود المصلحة في الفعل أو المفسدة فيه ، ولزوم حيازة الأُولى ، والاجتناب عن الثانية ، فهل يكشف ذلك عن كونه واجباً أو حراماً عند الشرع أو لا ، بحيث يكون العلم بالمصالح والمفاسد ، من مصادر التشريع الإسلامي ، أو لا؟

أقول : هذه مسألة مسألة ثانية لا صلة لها بالأُولى لما عرفت من أنّ موضوع البحث في الأوّل هو حسن الأفعال وقبحها ، مع قطع النظر عن كونها حاملة لمصلحة أو مفسدة ، وهذا بخلاف الثانية فالموضوع فيه كون الفعل ذا مصلحة ومفسدة ، وربما لا يكون اشتماله على المصلحة أو المفسدة بديهياً ، ولا يثبت إلّا بإقامة البرهان أو بالاستقراء أو بالبحث والنقاش وعلى كلّ تقدير فإنّها خارجة عن محط البحث ، وأشبه ببحوث أهل السنّة ، ومبانيهم ، فأنّ العقل عندنا أقصر من أن يحيط بمصالح الأُمور ومفاسدها ومزاحماتها وموانعها حتى يصبح من مصادر التشريع بهذا المعنى.

وممّن صرّح بذلك ، الشيخ المحقّق الاصفهاني في تعليقته على الكفاية وتلميذه المظفر وإليك نقل كلامهما.

قال المحقّق الاصفهاني : «أمّا استتباع حكم العقل النظري للحكم الشرعي المولوي فمجمل القول فيه انّ مصالح الأحكام الشرعية المولوية التي هي ملاكات

٤٨

تلك الأحكام ومناطاتها ، لا تندرج تحت ضابط ، ولا تجب أن تكون هي بعينها المصالح العمومية المبني عليها حفظ النظام وإبقاء النوع ، وعليه فلا سبيل للعقل بما هو إليها ، نعم لو اتّفق إدراك مصلحة حاصلة لبعض الأحكام بحيث كانت في نظر العقل تامة الاقتضاء فهل يحكم الفعل بحكم الشارع على طبقها أملا ...»؟ (١)

وقال الشيخ المظفر ، بعد تقرير البحث بنفس تقريرة أُستاذه : «... وعلى هذا فلا سبيل للعقل بما هو عقل إلى إدراك جميع ملاكات الأحكام الشرعية ، فإذا أدرك العقل المصلحة في شيء أو المفسدة في آخر ، ولم يكن إدراكه مستنداً إلى المصلحة أو المفسدة العامّتين اللتين يساوي في إدراكهما جميع العقلاء ، فانّه ـ أعني العقل ـ لا سبيل له إلى الحكم بأنّ هذا المدرك ، يجب أن يحكم به الشارع على طبق حكم العقل أو يحتمل انّ هناك ما هو مناط لحكم الشارع ، غير ما أدرك العقل أو انّ هناك مانعاً يمنع من حكم الشارع على طبق ما أدركه العقل ، وإن كان ما أدرك مقتضياً لحكم الشارع.

ولأجل هذا نقول : إنّه ليس كل ما حكم به الشرع يجب أن يحكم به العقل وإلى هذا يشير إمامنا الصادق (عليه‌السلام) : «إنّ دين الله لا يصاب بالعقل» ، ولأجل هذا نحن لا نعتبر القياس والاستحسان من الأدلّة الشرعية على الأحكام». (٢)

وبما ذكرنا يتبيّن لك انّ بعض ما رُدَّ به على القاعدة فهو خارج عن حريم النزاع وإنّما هو راجع إلى المسألة الثانية التي هي خارجة عن محط البحث ولننقل كلام النافين والمثبتين

حتى يتجلّى الحقّ بأجلى مظاهره :

١ ـ كلام الزركشي وهو من النافين :

ذهب الزركشي إلى أنّ الحسن والقبح ذاتيان ، والوجوب والحرمة شرعيان

__________________

(١) نهاية الدراية : ٢ / ١٣٠.

(٢) اصول الفقه : ١ / ٢٣٩ ـ ٢٤٠.

٤٩

وانّه لا ملازمة بينهما. والمعتزلة لا ينكرون انّ الله تعالى هو الشارع للأحكام ، وإنّما يقولون : إنّ العقل يدرك انّ الله تعالى شرّع أحكام الأفعال بحسب ما يظهر من مصالحها ومفاسدها فهو طريق عندهم إلى العلم بالحكم الشرعي ، والحكم الشرعي تابع لهما لا عينهما ، فما كان حسناً ، جوّزه الشارع وما كان قبيحاً منعه فصار عند المعتزلة حكمان ، أحدهما عقلي والآخر شرعي تابع له.

ثمّ نقل قولاً آخر وأسماه قولاً متوسطاً وهو انّه قبحها ثابت بالعقل ، والعقاب يتوقف على الشرع وهو الذي ذكره أسعد بن علي الزنجاني وأبو الخطاب من الحنابلة وذكره الحنفية ونقلوه عن أبي حنيفة نصّاً وهو المنصور ـ ثمّ قال : ـ إنّ هاهنا أمرين : الأوّل : إدراك العقل حسن الأشياء وقبحها ، الثاني : انّ ذلك كاف في الثواب والعقاب وإن لم يرد في الشرع ، ولا تلازم بين الأمرين ، بدليل (ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ) أي بقبيح فعلهم (وَأَهْلُها غافِلُونَ) (الأنعام / ١٣١) ومثله : (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي من القبائح (فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً ...) (القصص / ٤٧). (١)

يلاحظ عليه : أوّلاً إنّ البحث مركز على ما لو استقل العقل بحسن الأفعال أو قبحها فهو يلازم ذلك ـ عند العقل ـ حكمه بالحسن والقبح أيضاً أولا ، وعليه فما نقله عن المعتزلة من أنّ العلم بالمصالح والمفاسد طريق إلى الحكم الشرعي ، كأنّه خارج عن محيط النزاع.

وبعبارة أُخرى ليس النزاع فيما إذا وقف العقل على مصالح الأحكام ومفاسدها وملاكاتها وانّه هل يلازم ذلك ـ عند العقل ـ حكم الشارع أيضاً على وفقها أو لا؟ بل النزاع فيما إذا استقل بحسن فعل أو قبحه ، وانّه هل يلازم حكم الشارع بهما أيضاً أو لا ، وبين الموضوعين بون بعيد ، والقول بالملازمة في الجهة الثانية لا يلازم القول في الأُولى لما تقرر في محلّه من انّه لا سبيل للعقل بما هو عقل

__________________

(١) تشنيف المسامع بجمع الجوامع : ١ / ١٣٣ ـ ١٣٩ كما في التعليق على الوافية : ١٧٥ ـ ١٧٧.

٥٠

إلى إدراك جميع ملاكات الأحكام الشرعية (١) ، إذ يحتمل أن يكون المناط لحكم الشرع غير ما أدركه العقل ، أو انّ هناك مانعاً يمنع من حكم الشارع على وفق ما أدركه العقل وإن كان ما أدركه مقتضياً لحكم الشرع. وقد عرفت حق القول قبل نقل كلام الزركشي كل ذلك يصيد الفقيه من حصول القطع بالمناط الذي هو السبب التام للحكم الشرعي.

وثانياً : أنّ طرف الملازمة بعد حكم العقل بالحسن والقبح ، هو حكم الشارع بهما. لا الثواب والعقاب ، كما هو لائح من كلامه ونقضه وابرامه ، نعم بعد ثبوت الملازمة وثبوت حكم الشرع بهما ، يترتب عليه العقاب أو الثواب لمخالفة حكمه أو موافقته.

وثالثاً : لا دلالة لما استدل به من الآيات على كونهما متوقّفين على خطاب صادر من الشارع ولا يكفي الحكم الاستكشافي ، وذلك لأنّ الآية الأُولى النافية للعقاب إلّا بعد بيان الشارع ناظرة إلى الغافلين من الناس بشهادة قوله : (وَأَهْلُها غافِلُونَ) ، ولا صلة لها بمن هو واقف على مراد الشارع عن طريق العقل فلا تنفي الآية صحّة العقاب لغير الغافلين ، العارفين بكون الفعل قبيحاً عند العقل وغير مرضيّ لدى الشرع.

ورابعاً : أنّ المراد من قوله : (بِظُلْمٍ) هو الشرك بدليل قوله سبحانه : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان / ١٣) وقوله سبحانه : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأنعام / ٨٢) وليس الشرك من القبائح التي يقف عليه الإنسان بصرافة ذهنهم وإنّما يدرك قبحه ، الأفذاذ من الناس ، وغير المتأثّرين بطريق الآباء والأجداد ، وإلّا فربما يتجلّى ذلك الأمر القبيح عند المشركين أمراً حسناً ، وقد كانوا يستدلون على حسن أفعالهم بأنّهم يعبدون الأوثان ، لأجل التقرّب إلى الله سبحانه. وعلى ذلك فإناطة العقاب في

__________________

(١) إلّا المصالح والمفاسد العامّتين اللتين يتساوى في إدراكهما جميع العقلاء كما في كلام شيخنا المظفر.

٥١

هذا المورد ، بإرسال الرسل لا يكون دليلاً على إناطة سائر القبائح الواضحة به ، وبالجملة الإناطة في مورد خاص لا يكون دليلاً على الإناطة في مورد عام.

وبذلك يظهر الجواب عن الاستدلال بالآية الثانية ، لأنّها نزلت في حقّ قريش بشهادة قوله قبل هذه الآية : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (القصص / ٢٦) والقدر المتيقّن من قوله : (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) ، هو الشرك السائد على الجاهلية ، الذي ربما يخفى قبحه على سواد الناس ، فقد علّق العقاب به على إرسال الرسل ، لا كلّ قبيح واضح ، ولأجل ذلك كانوا يُسألون يوم القيامة عن وأد البنات ، قال سبحانه : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (التكوير ٣ ـ ٤).

٢ ـ كلام صاحب الوافية وهو من النافين للملازمة :

ثمّ إنّ صاحب الوافية ممّن قال بالتحسين والتقبيح العقليين ، ولكنّه لم يلتزم بالملازمة وقال : «والحقّ ثبوت الحسن والقبح العقليين ، ولكن في إثبات الحكم الشرعي ـ كالوجوب والحرمة ـ بهما نظر وتأمل ، لأنّ قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١) (الإسراء / ١٥) ظاهر في أنّ العقاب لا يكون إلّا بعد بعثة الرسول فلا وجوب ولا تحريم إلّا وهو مستفاد من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأيضاً انّ العقل يحكم بانّه يبعد من الله توكيل بعض أحكامه إلى مجرّد إدراك العقول مع شدة اختلافها في الإدراكات من غير انضباطة بنص أو شرع ، فانّه يوجب الاختلاف والنزاع ، مع أنّ رفعه من إحدى الفوائد لإرسال الرسل ونصب الأوصياء (عليهم‌السلام). (٢)

__________________

(١) سيوافيك الاستدلال بهذه أيضاً على نفي الملازمة بشكل آخر في آخر المبحث.

(٢) الوافية : ١٧٣ ـ ١٧٤.

٥٢

يلاحظ عليه : أنّ بعث الرسول ، كناية عن البيان الواصل وحصول اليقين أو إقامة الحجة عليه ، ولأجل ذلك لو بعث الرسول ، ولم يصل البيان إلى العبد ، لما كان مسوِّغاً للعقاب وعلى ذلك لو حصل له اليقين بالصغرى ، أي التحسين والتقبيح العقليين وحصل اليقين بالكبرى : إنّ الشارع أيضاً حسّن ما حسّنه العقل وقبّح ما قبّحه ، يكون ممّن وصل إليه البيان ولأجله عُدَّ العقل ، في رواية هشام عن الكاظم (عليه‌السلام) رسولاً من باطن ، قال : «يا هشام إنّ لله على الناس حجتين : حجة ظاهرة ، وحجة باطنة ، أمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة ، وأمّا الباطنة فالعقول». (١)

أضف إلى ذلك أنّ ما ذكره في ذيل كلامه ، دليل على خروجه عن محطِّ البحث إذ ليس الكلام في الاعتماد على الإدراكات العقلية في إدراكات المصالح والمفاسد حتى يرد عليه قوله : «بأنّه يبعد من الله توكيل بعض أحكامه إلى مجرّد إدراك العقول مع شدّة اختلافها في الإدراكات من غير انضباطة بنص أو شرع فإنّه يوجب الاختلاف» وذلك لأنّ مسألة التحسين والتقبيح من الأُمور البديهية التي لا يختلف فيهما العقول غير المتأثرة عن الشبهات ، ولا صلة لها بما ذكر».

٣ ـ كلام الصدر في نفي كون المكشوف حكماً :

يرى السيد الصدر ، صحّة الملازمة ولكن يقول : انّ المكشوف عن طريق الملازمة لا يسمّى حكماً شرعياً ولا يترتّب عليه الثواب والعقاب قال : «إنّا إذا أدركنا العلّة التامة للحكم العقلي بوجوب شيء أو حرمته مثلاً ، يصح أن يحكم عليه بأنّ الشارع حكم أيضاً بمثل الحكم العقلي عليه ، ولكن لمّا فرضنا عدم بلوغ التكليف إلينا لا يترتّب عليه الثواب ، وإن كان يترتّب على نفس الفعل شيء من قرب وبعد ، فلا يكون واجباً أو حراماً شرعياً ـ إلى أن قال : ـ وبالجملة وجود

__________________

(١) الكافي : ١ / ١٦.

٥٣

الإضافة التي يُعبّر عنها بالخطاب معتبر في تحقّق حقيقة الحكم وليس مجرّد التصديق من الشارع بأنّ شيئاً خاصاً ممّا يحسن فعله أو تركه ، وكذا إرادته من المكلّف أن يفعل أو يترك أو رضاه من فعل ومقته لآخر ، حكماً شرعياً من دون أن يصير المكلّف مخاطباً بالفعل بأن يصل إليهم قول النبي : أن صلِّ وصُم ، وكذا إخبار الشرع بأنّ هذا الشيء واجب أو حرام أو طلبه (١) قبل بلوغ الخطاب ، ليس حكماً فعلياً ، وبما انّ الثواب والعقاب مترتّبان على التكليف الخطابي والقاعدة لا تثبت الخطاب حتى يترتّبا عليه.

وقال في آخر كلامه : إنّ غاية ما يمكن أن يدركه العقل هو بعض الجهات المحسِّنة والمقبِّحة ويجوز أن يكون هنا جهة أُخرى في الواقع لم يحصلها فيمكن أن تكون معارضة ولا يكون الحكم كما أدركه. (٢)

وأشكل عليه الشيخ الأعظم بوجوه نذكر المهمّ منهما :

الأوّل : انّ للحكم الشرعي إطلاقات :

١ ـ قد يطلق ويراد به الخطاب الفعلي التنجيزي الصادر منه تعالى أو أحد أُمنائه وإليه ينظر تعريفهم له بأنّه خطاب الله المتعلّق بأفعال المكلّفين.

٢ ـ قد يطلق ويراد به الخطابات الشأنية التي صدرت عن الشارع ، وإن لم يعلم بها المكلّف لعدم وصولها إليه من ممانعة مانع داخلي أو خارجي ، فهي مخزونة عند أهلها ، وهي التي يقول بثبوتها المخطِّئة وبعدمها المصوّبة ، ويشارك الأوّل في مجرّد الجعل ويمايزه من حيث عدم الفعلية.

٣ ـ قد يطلق ويراد به الإرادة الجازمة والكراهة الثابتة في الواقع ، متعلّقة بالمراد في الأُولى ، وبالمكروه في الثانية على وجه يصير المُظهِر لهما ، عند إرادة

__________________

(١) عطف على قوله : وكذا إرادته من المكلّف أي وكذا طلبه ....

(٢) مطارح الأنظار : رسالة في الأدلة العقلية : ٢٣٦.

٥٤

إظهارهما ، هو الأمر اللفظي والنهي كذلك ، فالإرادة هذه في الحقيقة ، روح الطلب ولبُّه بل هي عينه ، بحيث لو أراد الشارع جعل حكم فلا بدّ من أن يكون مطابقاً له.

إذا عرفت ذلك فنقول :

الف : إن أراد القائل انّ حكم العقل بوجوب شيء وإدراكه العلّة التامة المقتضية للوجوب ، لا يلازم صدور الخطاب على وجه يصدق انّه حكم تنجيزي صادر من الشارع فمسلّم.

ب : وإن أراد من الحكم ، الحكم الشأني ، وانّ حكم العقل لا يلازم ذلك ، فهو أيضاً مسلّم.

ج : وإن أراد من الحكم ، بمعنى طلبه وإرادته وانّه لا ملازمة بين حكم العقل بحسن شيء أو قبحه ، وبين إرادته وكراهته فهو محجوج بقطع العقل الخارج عن شوائب الوهم بخلافه ، فانّ العقل إذا أدرك حسن الشيء على وجه به يستحق فاعله الثواب وجزاء الخير ، فقد أدرك من كل عاقل حكيم شاعر ، فكيف بمن هو خالقهم؟ وكذلك إذا أدرك قبح الشيء ، والملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع بهذا المعنى ممّا لا يقبل الإنكار فكأنّها نار في منار.

وأمّا الثواب والعقاب ، فالحكم بالمعنى الثالث هو مدارهما ، ألا ترى انّه لو علم العبد بعدم إرادة المولى قتل ولده ، أو أراد إكرامه فقتله ، أو أكرمه فيعد عندهم عاصياً ومطيعاً من دون أن تدانيه شبهة وليس لصدور اللفظ المعبر عنه بالخطاب مدخلية في ذلك.

بل يمكن إثبات الحكم بالمعنى الأوّل بضمّ مقدّمة خارجية (١) وهو قولهم

__________________

(١) وربما يستدل على الملازمة بين الارادة والكراهة ، والخطاب التنجيزي بقاعدة اللطف وهي غير تامّة في المقام.

٥٥

بعدم جواز خلو الواقعة عن الأحكام كما تدل عليه جملة من الأخبار.

والحاصل : أنّ القول بعدم ترتّب الثواب والعقاب إلّا على الأمر والنهي اللفظيين ، فهو منقوض بالإجماع والضرورة والسيرة.

الثاني : انّ ما أفاده من أنّ الجهات المدركة في المستقلّات العقلية ليست علّة تامّة ممّا لا يصغى إليه بعد موافقة الوجدان بأنّ الجهة المدركة من الإحسان والظلم ، حسب وجداننا هي العلّة التامّة. (١)

٤ ـ كلام للمحقّق القمّي وهو من المثبتين :

إنّ المحقّق القمّي فصّل الكلام في إثبات الملازمة وبيّنها بأتم البيان وردّ في خلال استدلاله ، على الأخباريين الذين قالوا : «إنّ الثواب والعقاب فرع الموافقة والمخالفة وبما انّهما لا يتحقّقان إلّا بخطاب الشارع الوارد في الكتاب والسنّة وحيث لا أمر ونهي فيهما فلا طاعة فلا ثواب ، ولا عصيان ولا عقاب». وبما انّ كلامه يتضمن بيان دليل المثبتين ننقله بطوله. قال :

تبيّن عندنا معاشر الإمامية وفاقاً لأكثر العقلاء من أرباب الديانات وغيرهم من الحكماء والبراهمة والملاحدة وغيرهم بالأدلة القاطعة ، والبراهين الساطعة ، بل بالضرورة الوجدانيّة ، التي لا تعارضها شبهة وريبة أنّ العقل يُدرِك الحسن والقبح ، بمعنى انّ بعض الأفعال بحيث يستحق فاعله من حيث هو فاعله ، المدحَ وبعضها بحيث يستحق فاعله كذلك الذم ، (٢) وإن لم يظهر من الشرع خطاب فيه ويظهر عنده هذا الحسن والقبح في الموادّ المختلفة على مراتبهما المرتّبة فيها بحسب نفس الأمر. فقد يدرك في شيء حسناً لا يرضى بتركه ، ويحكم بلزوم الإتيان به وفي

__________________

(١) مطارح الأنظار ، رسالة في الأدلّة العقلية : ٢٣٦ ـ ٢٣٧.

(٢) إشارة إلى ما هو الملاك في وصف الأفعال بالحسن والقبح وهو نفس مختار المحقّق اللاهيجي ـ قدس‌سرهما ـ الذي أقمنا برهانه.

٥٦

بعضها قبحاً يحكم بلزوم تركه ، وقد يجوِّز الترك في بعضها والفعل في بعضها هكذا ، فكذلك من الواضح انّه يدرك انّ بعض هذه الأفعال ممّا لا يرضى الله بتركه ويريده من عباده ، بعنوان اللزوم ، وبعضها ممّا لا يرضى بفعله ويريد تركه بعنوان اللزوم ، وانّها ممّا يستحق بها عن الله المجازاة إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرّ ، ولازم ذلك انّه تعالى طلب منّا الفعل والترك بلسان العقل.

فكما انّ الرسول الظاهر يُبيّن أحكام الله ومأموراته ومنهيّاته ، فكذلك العقل يبيِّن بعضها ، فمن حكم عقله بوجود المبدئ الحكيم القادر ، العدل الصانع العالم ، يحكم بانّه يجازي العبد القويّ بسبب ظلمه على العبد الضعيف ، بالعقاب ، وكذلك الودعيّ الذي ائتمنه عبد من عباده لا سيما إذا كان ذلك العبد محتاجاً غاية الاحتياج ، بسبب ترك ردها إليه ، ويجازي العبد القويَّ الرفيع ، برأفته على العبد الضعيف العاجز المحتاج ، بالثواب فلو لم يكن نهانا عن الظلم وأمرنا برد الوديعة ، ولم يكن الظلم وترك الرد مخالفة له ، لما حكم العقل بمؤاخذة الله وعقابه ، فانّ القبح الذاتي يكفي فيه محض استحقاق الذم ، فيثبت من ذلك انّ الظلم حرام شرعاً وردّ الوديعة واجب شرعاً.

وما توهم بعض المتأخّرين تبعاً لبعض العامة من «انّ حكم العقل هو محض استحقاق المدح والذم لا ترتب الثواب والعقاب أيضاً الذي هو لازم حكم الشرع ، فلم يدل الحكم العقلي على الحكم الشرعي» ، فهو مبني على الغفلة عن مراد القوم من الحكم العقلي ، وحسبان انّ حكم العقل إنّما هو الذي ذكروه في مبحث ادراك العقل للحسن والقبح قبالاً للأشاعرة المنكرين لذلك ، وقد عرفت أنّ العقل يحكم بأزيد من ذلك أيضاً.

مع أنّ المستفاد من الأخبار الواردة في العقل والجهل أيضاً هو ذلك وانّه ممّا يثاب ويعاقب وأنّه ممّا يكتسب به الجنان وغير ذلك.

مع أنّه يمكن أن يقال ـ بعد ما ثبت انّ لكل أمر من الأُمور حكماً من الله

٥٧

تعالى بالضرورة والأخبار ، وثبت من الأخبار أنّها موجودة عند المعصومين وإن لم يصل إلينا كلّها ـ أنّ كل ما يُدرك العقل قبحه فلا بدّ أن يكون من جملة ما نهى الله تعالى عنه ، وما يدرك حسنه لا بدّ أن يكون ممّا أمر به ، فإذا استقل العقل بإدراك الحسن والقبح بلا تأمّل في توفيقه على شرط أو زمان أو مكان أو مع تقييده بشيء من المذكورات ، فيحكم بأنّ الشرع أيضاً حكم به كذلك ، لأنّه تعالى لا يأمر بالقبح ولا ينهى عن الحسن ، بل أنّه يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر.

وقد يقال (١) إنّ الثواب والعقاب إنّما يترتّبان على الإطاعة والمخالفة لا غير والإطاعة والمخالفة لا تتحقّق إلّا بموافقة الأوامر والنواهي من الكتاب والسنّة ومخالفتهما وحيث لا أمر ولا نهي ولا خطاب فلا إطاعة فلا ثواب ولا عقاب.

وفيه أنّ انحصار الإطاعة والمخالفة في موافقة الخطاب اللفظي ومخالفته دعوى بلا دليل ، بل هما موافقة طلب الشارع ومخالفته وإن كان ذلك الطلب بلسان العقل ، ونظير ذلك أنّ الله تعالى إذا كلّف نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بواسطة إلهام من دون نزول وحي من جبرئيل (عليه‌السلام) وإتيان كلام ، وامتثله فيقال : إنّه أطاع الله جزماً فانّ العقل فينا نظير الإلهام فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والقول (٢) «بأنّ القدر الثابت من الأدلّة انّ ما يجوز اتباعه وتجب متابعته هو ما حصل القطع به أو الظن من قول المعصوم أو فعله أو تقريره دون غيره ، فالكلام في هذا الدليل العقلي مثل الكلام في جواز العمل بالرؤيا إذا رأى أحداً من المعصومين (عليهم‌السلام) وحكم بحكم ولا دليل على جواز العمل بهذا الحكم ، فهو كلام ظاهري» ، إذ من يدّعي حكم العقل بوجوب ردِّ الوديعة وحرمة الظلم ، يدّعي القطع بأنّ الله تعالى خاطبه بذلك بلسان العقل ، فكيف يجوز العمل بالظن بخطاب الله تعالى وتكليفه ، ولا يجوز العمل مع اليقين به؟ فإن كان ولا بدّ من

__________________

(١) ردّ على كلام السيد الصدر وقد مرّ.

(٢) ردّ على مقالة الأخباريين.

٥٨

المناقشة فليكتف في منع حصول هذا القطع من جهة العقل وأنّه لا يمكن ذلك ، وأنت خبير بأنّ دعوى ذلك بعيد عن السداد ، ولا يرد هذا على من ادّعى ذلك (حصول القطع) إذ لم يدل دليل على امتناعه إن لم يسلَّم البرهان ، على وقوعه فإذا ادّعاه مدّع فكيف نكذِّبه؟ نعم لا نمنع تفاوت الأفهام في ذلك وندرة المواضع التي يستقل العقل بإدراك الحكم ، وذلك لا يوجب نفي الحكم رأساً ولا يرد نقضاً على من جزم بذلك ، فإنّ كل مجتهد مكلّف بمؤدّى فهمه قطعياً كان أو ظنيّاً ومعذور في خطئه. (١)

٥ ـ كلام لصاحب الفصول وهو من النافين :

إنّ صاحب الفصول حرّر محل النزاع أوّلاً وقال : «نزاعهم في المقام يرجع إلى مقامين :

الأوّل : إذا أدرك العقل جهات الفعل من حسن وقبح فحكم بوجوبه أو حرمته أو غير ذلك فهل يكشف ذلك عن حكمه الشرعيّ ويستلزم أن يكون قد حكم الشارع أيضاً على حسبه ومقتضاه من وجوب أو حرمة أو غير ذلك ، أو لا يستلزم ذلك ، ثمّ إنّ عدم الاستلزام يتصوّر على وجهين :

١ ـ أن يُجوَّز حكم الشارع على خلافه ، وعلى هذا تُنفى الملازمة من الجانبين ، فلا يستلزم حكم العقل حكم الشرع ولا حكم الشرع حكم العقل.

٢ ـ أن يُجوَّز أن لا يكون للشارع فيما حكم العقل فيه بوجوب أو حرمة مثلاً ، حكم أصلاً لا موافقاً ولا مخالفاً. ذلك بأن تخلو الواقعة عن الحكم رأساً ، وعلى هذا تُنفى الملازمة من جانب واحد ، وأمّا الجانب الآخر فتجوز الملازمة.

__________________

(١) القوانين المحكمة : ٢ : / ٢ ـ ٤. شكر الله مساعيه وقد أغنانا بيانه عن إعادة المقال وإقامة البرهان على المختار وفي كلامه إشارة إلى ما هو المختار عندنا في إدراك الحسن والقبح وقد أوعزنا إليه أيضاً في التعليقة.

٥٩

الثاني : إنّ عقولنا إذا أدركت الحكم الشرعي وجزمت به فهل يجوز لنا اتّباعها ويثبت بذلك الحكم في حقّنا أو لا؟.

أمّا المقام الأوّل فالحقّ أنّه لا ملازمة عقلاً بين حسن الفعل وقبحه وبين وقوع التكليف على حسبه ومقتضاه ، ويدل على ذلك أُمور :

الف : حسن التكليف الابتلائي فانّ الضرورة قاضية بحسن أمر المولى عبده بما لا يستحق فاعله من حيث إنّه فاعله ، المدح في نظره ، استخباراً لأمر العبد وإظهاراً لحاله عند غيره ، ولو كان حسن التكليف مقصوراً على حسن الفعل لما حسن ذلك. ثمّ نقل اعتراضات ثلاثة عن بعض المعاصرين ونقدها على وجه استغرق النقد ورقة واحدة كبيرة (١) ونحن نركز على أصل الاستدلال ونقول :

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره خارج عن محل النزاع إذ ليس البحث في أنّ حسن التكليف مقصور على حسن الفعل حتى ينازع بأنّ الأوامر الاختيارية خالية عن حسن الفعل ، بل النزاع في أنّ حسن الفعل يلازم التكليف أو لا ، وبين الأمرين بون بعيد ، فلا تُعدّ الأوامر الامتحانية نقضاً للقاعدة وإنّما تُعدّ نقضاً لو كانت القاعدة «حسن التكليف يستلزم حسن الفعل» مع أنّها غير ذلك. وإنّما هي : حسن الفعل يستتبع التكليف أو لا.

وإن شئت قلت : اختلفت العدلية القائلة بلزوم تبعية التكاليف للمصالح والمفاسد ، في لزوم كون المتعلّق مشتملاً عليهما ، أو كفاية كون التكليف مشتملاً على المصلحة فالمحقّقون من الأُصوليين على الثاني ، وما ذكر صاحب الفصول من الأمثلة إنّما تصلح أن يكون ردّاً على القول الأوّل القائل بلزوم اشتمال المتعلّق عليهما ، بأنّه يكفي كون التكليف ذا مصلحة ، وأين هذا من المقام من وجود الملازمة بين إدراك الحسن ووجوبه شرعاً.

ب : التكاليف التي ترد مورد التقية إذا لم يكن في نفس العمل تقية ، وإرادة

__________________

(١) الفصول : ٣٣٧ ـ ٣٣٨.

٦٠