الرسائل الأربع - ج ١

عدّة من الأفاضل

الرسائل الأربع - ج ١

المؤلف:

عدّة من الأفاضل


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٨

٤ ـ لا ملاك خارجي في القضاء بأحد الوصفين ، وإنّما الملاك هو اشتمال الفعل على خصوصية ، جعلته واضح الحكم عند العقل بيّن الوصف والحكم.

٢ ـ ملائمة القضايا للفطرة ومنافرتها معها :

إنّ هنا طريقاً آخر ، لإدراك العقل تحسين الأفعال وتقبيحها ، وهو عرض القضايا للفطرة ، التي خلق الإنسان عليها ، وهو خير قاض ومُدرك ، وهي تجد البعض ملائماً لها والبعض الآخر منافراً ، تمدح فاعل البعض ، وتذم فاعل البعض الآخر. وتعبِّر عن الأوّل بالفعل الحسن ، وعن الآخر بالفعل القبيح.

إنّ لوجود الإنسان بعدين مختلفين ، أو جانبين متفاوتين ففي البعد الداني ، هو حيوان فاتك ، لا يعرف سوى البطن والتعدّي على الحقوق ، والأموال وتدمير الحدود والمقررات والترؤس والأنانية ولا يعترف بحقوق أحد ، ولا بحسن فعل ولا قبحه سوى ما يؤمِّن أغراضه المادية وشهواته الحيوانية وقواها الجامحة.

وفي الوقت نفسه له جانب ملكوتي ، رفيع عن الشهوة والغضب ، والغرائز الماديّة ، والميول الحيوانية ، بعيد عن الأنانية والترؤس ، ينظر إلى القضايا من أُفق عال ، دونه غرائزه وميوله الجامحة ، فيجد أُموراً ملائمةً يميل إليه وأُموراً منافرةً ، يتحاشى عنها ، فيقوم بمدح فاعل الأُولى وذم فاعل الثانية. وعلى هذا يكون الانطباق وعدمه والتلائم ، وخلافها ، آية التحسين والتقبيح.

وعلى هذا فالملاك في العقل العملي عبارة عن درك مطابقة القضية وملاءمتها للجانب المثالي من الإنسان غير الجانب الحيواني أو منافرتها له. فالإنسان بما هو ذو فطرة مثالية ، متميز عن الحيوانات ، يجد بعض القضايا ملائمة لذلك الجانب العالي أو منافية له. فيصف الملائم بالحسن ، ولزوم العمل ، والمنافي بالقبح ولزوم الاجتناب.

٢١

وإن شئت عبر عنه بالوجدان غير المتأثر من الأُمور اللاشعورية ، فهو يحسّ الملائمة لبعض الأفعال والمنافرة للبعض الآخر.

وممّن يظهر منه هذا الملاك ، المحقّق الخراساني في رسالة خاصة له في الملازمة بين العقل والشرع التي أدرجها في ضمن فوائد أُصولية له قال : إنّه لا مجال لإنكار اختلاف الأفعال بحسب خصوصيات وجودها سعة وضيقاً وخيراً وشراً الموجب لاختلافها بحسب المنافرة والملائمة للقوة العاقلة ، ومع ذا لا يبقى مجال لإنكار الحسن والقبح عقلاً إذ لا نعني بهما إلّا كون الشيء في نفسه ملائماً للعقل فيعجبه أو منافراً فيغربه (كذا) (١) وبالضرورة إنّما يوجبان صحّة المدح والقدح في الفاعل إذا كان مختاراً بما هو فاعل. (٢)

وبما أنّه ربما يتوهم أنّه إذا كان الملاك هو الملائمة والمنافرة للفطرة ، يكون حكم العقل في مجال التحسين والتقبيح منحصراً بأفعال الإنسان ولا يعدو غيره مع انّ الهدف من عقد ذاك البحث هو التعرّف على أفعاله سبحانه ، ولدفع هذا التوهم عقدنا البحث التالي.

سعة دائرة حكم العقل :

إنّ إدراك العقل حسن الأفعال أو قبحها على كلا التقريرين (كون الحكم بهما في بعض الأفعال أمراً بديهياً وفي البعض الآخر منتهياً إليه ، أو كون الميزان الملائمة للجانب العالي من الإنسانية والمنافرة) لا يختص لشخصه أو لصنف خاص أو لكلّ من يطلق عليه الإنسان ، بل يدرك حسن صدوره أو قبحه لكلّ موجود عاقل مختار سواء وقع تحت عنوان الإنسان أو لا ، وذلك لأنّ المقوّم لقضائه

__________________

(١) ولعل الصحيح فيستغربه.

(٢) الفوائد الأُصولية المطبوعة في ذيل تعليقته على الفرائد ص ٣٣٩.

٢٢

بأحد الوصفين نفس القضية بما هي هي من غير خصوصية للمدرِك. فهو يدرك أنّ العدل حسن عند الجميع ومن الجميع ، والظلم قبيح كذلك ، ولا يختص حكمه بأحدهما بزمان دون زمان ، ولا جيل دون جيل.

ثمّ إنّ المخالف في المقام بعض الأشاعرة كالرازي وغيره فإنّهم اعترفوا ـ خلافاً لأسلافهم وإمامهم الشيخ أبي الحسن الأشعري ـ بالتحسين والتقبيح العقليين لكنّهم فصَّلوا وقالوا : إنّ تحسين العقل وتقبيحه معتبر بالنسبة إلى العباد وأمّا بالنسبة إلى الله تعالى فهو باطل.

أمّا الأوّل : فقد استدل عليه بوجوه ، أوضحها ما أفاده الرازي : انّ العقلاء قبل علمهم بالشرائع والنبوّات مطبقين على حسن مدح المحسن ، وحسن ذم المسيء ، فانّ من أحسن إلى محتاج فانّ ذلك المحتاج يجد من صريح عقله حسن مدحه وذكره بالخير ، ولو أساء رجل إليه فانّه يجد من صريح عقله حسن ذمِّه وهذا الحكم حاصل سواء كان ذلك الإنسان مؤمناً يُصدِّق بالأنبياء أو لم يكن كذلك فعلمنا أنّ الحسن والقبح مقرر في عقولهم.

وأمّا إثباتهما في حقّ الله تعالى فمحال واستدل بوجوه نذكر بعضها :

الأوّل : إنّ الذي عقلناه من معنى الحسن ما يكون نفعاً ، أو مؤدّياً إليه والذي عقلناه من معنى القبح ما يكون ضرراً أو مؤدياً إليه ، والرغبة في المنفعة ، والرهبة عن المضرة ، إنّما يعقل حصولهما في حقّ من يصحّ عليه النفع والضرر ، ولما كان ذلك في حقّ الله محالاً ، كان القول بثبوت الحسن والقبح في حقّ الله محالاً. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الدليل مبنيّ على كون الملاك في التحسين والتقبيح هو كون الفعل نافعاً أو مؤدِّياً إليه أو ضرراً أو مؤدِّياً إليه والله سبحانه أرفع من هذا الملاك. لكنّك عرفت أنّ تفسير التحسين والتقبيح العقليين بهذا المعنى ساقط جداً ، غير

__________________

(١) الرازي : المطالب العالية : ٣ / ٢٩٠.

٢٣

مطروح للالهي في معرفة ما يجوز له سبحانه أو لا يجوز عليه ، ولا للعالم الاخلاقي في تبيين المُثلِ العليا للإنسان في المجتمع الصغير ، ولا للسائس الواعي في إدارة المجتمع الكبير إذ عندئذ تصير الأخلاق والسياسة ، مفاهيم مادية ، لا يعرّج إليه الإنسان الموضوعي. والعجب أنّه ينقل عن المعتزلة انّهم صرّحوا بأنّ كون الشيء حسناً أو قبيحاً ، أمر مغاير لكونه منشأ للمنفعة والمضرة ، ومع ذلك يصرّ في آخر كلامه بأنّه لا يعقل من الحسن والقبح إلّا المنفعة والمضرة.

الثاني : لو صحّ القبح العقلي وعمّ حكم العقل له سبحانه ، يلزم أن لا يُنعم الله على أحد من عباده لأنّ النعمة إنّما تكون نعمة إذا كانت رافعة للحاجة ، وإيجاد الحاجة في الإنسان ضرر ومضرة وهو قبيح ، فإيصال النعمة إليه لا يمكن إلّا إذا كان مسبوقاً بإيصال ضرر يساويه ، ومن كان الأمر كذلك ، صارت هذه النعمة الحاصلة دافعة لذلك الضرر السالف فتصير هذه الواقعة كمن يجرح إنساناً ثمّ يعالج جراحته ، أو يسرق ديناراً من إنسان ، ثمّ يعطيه ديناراً. (١)

يلاحظ عليه بوجهين :

١ ـ أنّ حاجة الممكن ذاتي له غير مجعول ، وإنّما المجعول وجوده والله سبحانه أوجد الممكن المحتاج بالذات ، لا أنّه أُعطى الحاجة له ، وليس الممكن إلّا مسلوب الضرورة من جانبي الوجود والعدم ، واندفاعه به إلى أحد الطرفين يحتاج إلى علّة ، غير أنّ عدم العلّة كاف في كونه معدوماً ، وما هذا شأنه ، تشكِّل الحاجة ذاته وحاقّه وحقيقته ، فبطل قوله : «إنّ إيصال النعمة إليه لا يمكن إلّا إذا كان مسبوقاً بإيصال ضرر يساويه» وإذا كان المقصود من الضرر هو الحاجة فليس هي واصلة إليه من العلّة ، بل هي واقعية الممكن ولبّه ، وجد أم لم يوجد.

كما بطل قوله : «فتصير هذه الواقعة كمن يجرح إنساناً ثمّ يعالجه» فإن أراد

__________________

(١) المطالب العالية : ٣ / ٢٩١.

٢٤

من الجراحة الأُولى ، حاجته ، فليست واصلاً من جانب معطي الوجود ومفيض النعم الظاهرة والباطنة ، بل هو مجروح بالذات ، كما بطل قوله : «يغصب من إنسان ديناراً ثمّ يعطيه ديناراً» إذا لم يكن الممكن واجداً لشيء حتّى يؤخذ منه شيء ويصح التشبيه.

٢ ـ أنّ حاجة الإنسان في حياته وإن كانت أمراً غير منكر وكل من الشهوة والغضب آيتا الحاجة لكنّه في ظلّ تينك القوتين ـ عند التعديل ـ يصل إلى قمة الكمال. ولو لا الشهوة ، لانقطع نسله ، ولو لا الشهوة لوقع فريسة للوحوش الضواري ، وهكذا سائر الحوائج المادية والروحية فالحاجة وإن تعد نقصاً ، لكنّها سلّم الترقّي إلى سماء الكمال.

ثمّ إنّه أطال الكلام في إثبات ما يرميه وانا أضنّ بالحبر والورق في أن أُسوّد الصحائف بنقل كلامه فلا نطيل الكلام في نقد هذه الحجة أزيد من هذا.

الثالث : لو كان عقلنا معتبراً في حقّ الله لوجب أن يقبح من الله أن يأمر عباده بمعرفته وطاعته ، لأنّ تحصيل معرفة الله عمل شاق على العبد ولا يحصل منه نفع للشاكر ولا للمشكور وما كان كذلك كان الأمر به قبيحاً بمقتضى تحسين العقل وتقبيحه. (١)

يلاحظ أوّلاً : كيف تكون معرفة الله أمراً شاقاً والحال انّه سبحانه يعدّه أمراً سهلاً ويقول : (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (إبراهيم / ١٠).

وثانياً : أنّ المشكور وإن كان لا ينتفع بشكر العباد إلّا أنّ الشاكر ينتفع به وأقلّ ما ينتفع ، وهو انّ الشكر يزيد النعمة قال سبحانه : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ). (إبراهيم / ٧).

ثمّ إنّ الرازي لما وقف على بعض ما ذكر قال : لا معنى للمنفعة إلّا اللذة

__________________

(١) المطالب العالية : ٣ / ٢٩١.

٢٥

والسرور أو دفع الألم والغم والله سبحانه قادر على تحصيل هذه الأُمور من غير واسطة هذه التكاليف.

يلاحظ عليه : أنّ عموم قدرته وإن كان لا ينكر لكن تعلّقت مشيئته الحكمة على التفريق بين الفيض العام فهو يصل إلى كلّ ما يدبّ وإن كان كافراً وجاحداً ، والفيض الخاص الذي لا يفيض إلّا على الخلّص من عباده (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (محمّد / ١٧) فحكمته تصدّه عن سيادة الفيوض في إيصال النعم ، فيعم العارف والجاحد ، ولو عمّ بعض نعمه كل إنسان مؤمن وكافر ، لمصلحة هو أعرف بها ، لكن قسماً من نعمه رهن استحقاق المورد ولياقته ، وكلّما ازدادت معرفة العبد بمولاه ، ازداد استحقاقاً والفيوض تنزل حسب صلاحيات الأفراد ، ومقدار القابليات والاستعدادات.

ولعمر القارئ أنّ الرازي أعرف بضعف ما ذكره ووهن ما نسجه إلّا أنّ الدفاع عن المنهج الذي تربى عليه ، دفعه إلى نحت هذه الحجج الواهية.

ثمّ إنّ الرازي فتح باباً آخر (الفصل التاسع من فصول كتابه) ذكر فيه خمس عشرة حجة على ردّ تحسين العقل وتقبيحه في أفعاله وأحكامه سبحانه والدلائل كلّها من سنخ ما تلوناه عليك ، فهو قد اتخذ عويصات المعارف ومشاكلها ذريعة على إنكار التحسين والتقبيح ، مع أنّ عدم عرفان المصلحة في موارد ، لا يكون دليلاً على إنكارهما.

مثلاً ذكر في الحجة الأُولى أنّ تكليف من علم أنّه يكفر قبيح عقلاً. وأتى في إثبات مرامه بأمثلة كثيرة مع أنّه سبحانه كلّفه فدلّ على أنّ ما يدركه العقل من المحاسن والقبائح يختص بالإنسان ولا يعمّه سبحانه (١).

يلاحظ عليه : أنّ الواجب على الرازي ومن هو على شاكلته ، أمام هذه العويصات ، هو السكوت والتفويض إلى الله ، لا جعلها ذريعة إلى إنكار أبده

__________________

(١) المطالب العالية : ٣ / ٣٠٥.

٢٦

البديهيات ، وأوضح الواضحات الذي أطبق عليه عقل العقلاء ، وما تمسك به الرازي في إبطال تسرية أحكام العقل إلى ساحته سبحانه ، ليس إلّا أُموراً غامضة ربما لا يتوفّق الإنسان على حلّ عقدها ، لكن ليس له أن يجعل عدم التوفّق ذريعة لإنكار الواضحات.

على أنّه لو تأمّل الرأي أو رفع إلى مشايخ العلوم العقلية ، لأحلّوا عقدته وقالوا :

إنّه ليس هنا إرادات جزئية مختلفة متعلّقة بآحاد المكلّفين ، بأن تكون هنا إرادات حسب تعدّد المكلّفين حتى يقال كيف يمكن تعلّق إرادة جديّة بإيمان من نعلم أنّه لا يؤمن ، بل إرادة وبعث واحداً إلى عنوان المكلّف وهو بوحدته ، وعموم متعلّقه حجة على الكلّ من غير فرق بين المؤمن والكافر ، والمستعد والجاحد وهذا يكفي في حسن العقاب ، وإن علم أنّه لا يؤمن.

نعم البعث الجزئي لا ينقدح في لوح النفس إذا علم أنّه لا يؤمن أبداً ، ولكن لغاية إتمام الحجة يتعلّق بعث واحد متعلّق بالعنوان العام مصحّح للعقوبة ، فالرازي خلط بين الخطابات القانونية ، والخطابات الشخصيّة (١).

على أنّ هنا جواباً آخر يصحّح توجه الخطاب الشخصي إلى من علم من حاله أنّه يعصي ويطغي قال سبحانه : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى). (طه / ٤٣ ـ ٤٤)

ه لصحمو : أنّ مرجع التكليف هنا إلى إتمام الحجة كما قال سبحانه : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ). (النساء / ١٦٥) (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ). (الأنعام / ١٤٩)

__________________

(١) ومن أراد أن يقف على الفرق بين الخطابين فعليه الرجوع إلى بحوثنا في أُصول الفقه.

٢٧

هل التحسين والتقبيح العقليان من المشهورات؟

قد تعرفت على أنّ كل مورد حكم فيه العقل بالتحسين والتقبيح ، فإنّما يحكم به بدافع من ضميره ، وحافز من صميمه ، وأنّ هذا الحكم عنده من الأحكام البديهية في مجال العقل العملي ، حسب البيان الأوّل ، وأنّه يجد الفعل ملائماً أو منافراً للجانب الفوقاني من وجوده حسب البيان الثاني وعلى ذلك فهو لا يعتمد في قضائه على أيّ أمر خارج عن ذاته ، بحيث لو تبدل ذلك الأمر الخارج لاختلّ قضاؤه.

وهذا ولكن الظاهر من شيخ المشائيين وتبعه جل من تأخّر عنه ، أنّ التحسين والتقبيح من المشهورات التي اتّفقت عليها آراء العقلاء وتسمى الآراء المحمودة ، قال الشيخ الرئيس : «فأمّا المشهورات من هذه الجملة فمنها هذه الأوّليات ونحوها ممّا يجب قبولها لا من حيث هي واجب قبولها ، بل من حيث عموم الاعتراف بها ومنها الآراء المسماة المحمودة ، وربما خصّصناها باسم المشهورة إذ لا عمدة لها إلّا الشهرة وهي آراء لو خلّي الإنسان وعقله المجرّد ووهمه وحسَّه ، ولم يؤدَّب لقبول قضاياها ، والاعتراف بها لم يقض بها الإنسان طاعةً لعقله ، أو وهمه ، أو حسه ، مثل حكمنا أنّ سلب مال الانسان قبيح ، وأنّ الكذب قبيح لا ينبغي أن يقدِم عليه ، ومن هذا الجنس ما يسبق إلى وهم كثير من الناس ـ وان صرف عنه الشرع ـ من قبح ذبح الحيوان اتّباعاً لما في الغريزة من الرقّة لمن تكون غريزته كذلك ، وهم أكثر الناس وليس شيء من هذا ما يوجبه العقل الساذج ... وانّه لو خلق دفعة تام العقل ولم يسمع أدباً ولم يُطِع انفعالاً نفسانياً أو خلقيّاً ، لم يقض في أمثال هذه القضايا.

ثمّ إنّ الشيخ قسم المشهورات إلى الأقسام التالية : (١)

__________________

(١) أصل التقسيم مأخوذ من الشيخ ، والأمثلة مأخوذة من كلام صاحب المحاكمات لقطب الدين الرازي ، فلاحظ ولا يخفى أنّ بعض الأمثلة خارجة عن إطار الحكمة العملية.

٢٨

١ ـ إمّا من الواجب قبولها :

وفسّره المحقّق الطوسي بقوله : «إنّ المعتبر في الواجب قبولها ، كونها مطابقة لما عليه الوجود فالمعتبر في المشهورات كون الآراء عليها مطابقة».

٢ ـ وإمّا من التأديبيّات الصلاحية كقولنا : العدل حسن والظلم قبيح.

٣ ـ وما يطابق عليها الشرائع كقولنا : الطاعة واجبة.

٤ ـ وإمّا خلقيات كقولنا : كشف العورة قبيح.

٥ ـ وإمّا انفعاليات كقولنا : مراعاة الضعفاء محمودة.

٦ ـ وإمّا استقرائيات كقولنا : تكرار الفعل مملّ أو دفع الخصم واجب.

٧ ـ وأيضاً انّ المشهورات إمّا مشهورات على الإطلاق وإمّا بحسب صناعة كقولنا : التسلسل محال.

٨ ـ أو أرباب ملّة كقوله : الإله واحد ، والربا حرام.

بل أمكنه أن يجهله ويتوقف فيه وليس كذلك حال قضائه بأنّ الكل أعظم من الجزء. (١)

تحليل مقال الشيخ الرئيس :

يلاحظ عليه أوّلاً :

أنّ القياس إمّا برهاني وإمّا جدلي وإمّا خطابي ، وإمّا شعري وإمّا سفسطي.

والقياس البرهاني يتألف من اليقينيات التي أُصولها ستة : ١ ـ الأوّليات ٢ ـ المشاهدات ٣ ـ التجريبيات ٤ ـ الحدسيات ٥ ـ المتواترات ٦ ـ الفطريات.

والقياس الجدلي يتألف من مقبولات الخصم أو المسلّمات بين العقلاء

__________________

(١) شرح الإشارات والتنبيهات : ١ / ٢١٩ ـ ٢٢٠ ، قسم المنطق.

٢٩

المعبر عنها بالمشهورات.

وعندئذ نقول : إذا لم يكن حكم العقل بالتحسين والتقبيح من الأحكام العقلية اليقينية الداخلة في إحدى الأُصول الستة (الأوّليات في مجال العقل العملي) ، وكانت من المشهورات التي لا مدرك له إلّا الشهرة التي لو خلِّي الإنسان وعقله المجرّد ووهمه وحسّه ، ولم يؤدَّب بقبول قضاياها لم يقض لها ، لزم أن يكون التحسين والتقبيح عقلائيّاً (لا عقلياً) تطابق عليه العقلاء من دون استناد إلى برهان ودليل ، وهو خلاف ما يدّعيه القائلون بهما.

وثانياً : أنّ لازم ذلك عدم صحّة الاحتجاج بهما في المسائل الكلامية والأُصولية مطلقاً ، لأنّ الاحتجاج فرع كون القضية أمراً برهانياً ، غير محدّد بحدّ ، ولا محصور بإطار ، نافذاً في حقّ العباد وخالقهم ، وإذا لم يكن كذلك وكان أمراً مقرراً بين العقلاء فكيف يمكن الاحتجاج به على الله سبحانه ، لأنّ الاحتجاج فرع كونه مقبولاً لدى المحتج عليه وهو فرع كونه برهانياً عاماً ، لا يعرف لنفوذه حدّاً وهذا يشبه الاحتجاج بمسلمات قوم ، على قوم آخر وبقوانين بلد ، على أهالي بلد آخر ، لا يعترفون بقوانينه.

وبعبارة ثانية : أنّ صحّة الاحتجاج فرع وحدة المنطق بين الطرفين ، وهو فرع كونه أمراً قطعيّاً إمّا برهانياً ، أو ضرورياً عند الطرفين وإذا لم يكن كذلك بل اتفق عليه أحد الطرفين بلا برهان ، فلا يصلح به الاحتجاج على من لم يتفق عليه الآخر.

نرى أنّ الأُصولي يحتج بقبح العقاب بلا بيان على الله سبحانه ، ويقول لو كان العمل الفلاني حراماً عند الشارع كان عليه البيان ، لأنّ العقاب على ارتكاب الحرام من دون بيان ظلم وهو قبيح على الله سبحانه ، والاحتجاج إنّما يصحّ إذا كان قبح عقاب الظلم أمراً معترفاً عليه من جانب الشارع ، وإذا لم يكن كذلك وإنّما اعترف به العقلاء وأخذوها أمراً مسلّماً بلا بينة ولا برهان ، فلا يكون نافذاً في حقّه سبحانه الذي لم يعترف به ، بخلاف ما إذا كان أمراً برهانياً أو ضرورياً يقينياً ،

٣٠

لا يعرف لحجيته ، حداً ، ويكون مقبولاً معترفاً به عند خالق العباد ، والعباد.

والحاصل : أنّ هذه النظرية التي ابتدعها الشيخ الرئيس وتبعه المحقّق الطوسي ، في شرحه على الإشارات وقطب الرازي في محاكماته يهدم أساس الحسن والقبح العقليين ، ويدمّر كل ما بنى عليه من الأُصول والقواعد في الكلام وأُصول الفقه.

ثمّ إنّ الشيخ الرئيس قد أكّد على ما ذكره في الإشارات ، في بعض كتبه ، وصار ذلك أُسوة للمتأخّرين عنه فترى أنّ المحقّق الطوسي في شرح الإشارات ، وقطب الدين الرازي ، في محاكماته ، والمحقّق الاصفهاني في تعليقته على الكفاية وتلميذه المظفر اقتفوا أثره وتلقوه كلاماً قيّماً لا يقبل الخدشة ، ولنذكر كلامهم حتى يقف القارئ على أنّ الخطأ تسرَّب من كلام الشيخ إلى كتبهم ولحسن ظنّهم به تلقوه حقيقة واضحة.

ولنذكر كلامه في النجاة :

قال : أمّا الذائعات فهي مقدمات وآراء مشهورة محمودة أوجب التصديق بها إمّا شهادة الكل مثل «إنّ العدل جميل» وإمّا شهادة الأكثر وإمّا شهادة العلماء أو شهادة أكثرهم أو الأفاضل منهم فيما لا يخالف فيه الجمهور. وليست الذائعات من جهة ما هي هي ، ممّا يقع التصديق بها من الفطرة ، فإنّ ما كان من الذائعات ليس بأوّليّ عقلي فانّها غير فطرية ، ولكنّها متقررة عند الأنفس ، لأنّ العادة تستمر عليها منذ الصبا ، وبما دعا إليها محبة التسالم والإصلاح المضطر إليهما الإنسان ، أو شيء من الأخلاق الإنسانية مثل الحياء والاستئناس أو سنن قديمة بقيت ولم تنسخ ، أو الاستقراء الكثير.

وإذا أردت أن تعرف الفرق بين الذائع والفطري فاعرض قولك : «العدل جميل» و «الكذب قبيح» على الفطرة التي عرّفنا حالها قبل هذا الفصل ، وتكلّف الشك فيهما ، تجد الشك متأتياً فيهما وغير متأت في «أنّ الكل أعظم من الجزء وهو

٣١

حقّ أولى». (١)

ثمّ إنّ الشيخ قد فسّر الفطرة في مقام آخر وقال : «أن يتوهم الإنسان نفسه ، حصل في الدنيا ، دفعة وهو بالغ عاقل ، لكنّه لم يسمع رأياً ، ولم يعتقد مذهباً ، ولم يعاشر أُمّة ، ولم يعرف سياسة ، لكنّه شاهد المحسوسات ، وأخذ منها الخيالات ، ثمّ يعرض منها ، على ذهنه شيئاً ، ويتشكّك فيه. فإن أمكنه الشك فالفطرة لا تشهد به. وإن لم يمكنه الشك ، فهو ما توجبه الفطرة». (٢)

يلاحظ على كلام الشيخ :

أنّه لو صحّ تفسير الفطرة بما ذكره لأصبح حسن الإحسان وقبح الظلم أو حسن جزاء الإحسان بالإحسان ، وقبح جزاء الإحسان بالسوء» ، من الفطريات التي لا يشك فيه أحد. فإنّ الإنسان مهما كان بسيطاً لا تتجلّى القضيتان عنده سواسية ولو سوّى بينهما ، يكون ذلك دليلاً على عدم كونه إنساناً سوياً وليس قضاؤه لقبح الأوّل وحسن الثاني لأجل كونه متألّماً من الظلم أو مسروراً من العدل ، بل يقضي بهما مع غضّ النظر عن صلتهما بحياته.

نظرية المحقّق اللاهيجي :

ثمّ إنّ أوّل من نفض الغبار عن وجه الحقيقة هو العلّامة المحقّق الشيخ عبد الرزاق اللاهيجي (ت ١٠٧٢ ه‍ ـ) في رسالته المسماة ب ـ «سرمايه ايمان» فانّه ذهب إلى ما حقّقناه وأقمنا برهانه وقال ما هذا تعريبه :

«الحق أنّ حسن العدل والصدق ، وقبح الظلم والكذب أمر ضروري والعقل في المقام غني عن حكم الشارع.

__________________

(١) النجاة : ٦٣ ، قسم المنطق.

(٢) الجوهر النضيد : ١٩٨ ، ٦٢.

٣٢

فإن قلت : إنّ الحكماء جعلوا حسن العدل وقبح الظلم من المقبولات التي هي من مواد القياس الجدلي ، واتّفاقهم عليهما لأجل كونه الأوّل محصلاً للمصالح النوعية والثاني مستلزماً لمفاسدها ومع ذلك كيف يمكن أن يعدّا من القضايا البديهية أو الضرورية التي من شعب اليقينيات.

قلت : ضرورية القضيتين وغناء العقل في مقام إصدار الحكم عن التأمّل والتروّي بمرحلة يعدّ إنكاره مكابرة ، وتعليل الحسن والقبح بوجود المصالح والمفاسد العامة ، لا ينافي كونهما من الأحكام الضرورية البديهية الغنيّة عن التعليل ، وذلك لأنّه لا مانع من أن تعد قضية من اليقينيات باعتبار ، ومن المقبولات العامة باعتبار آخر ، ويكون من مبادئ البرهان من جهة ، ومبادئ الجدل من جهة أُخرى ، حتّى أنّ كونهما مقبولين للغاية ليس لاستلزامهما المصلحة أو المفسدة بل لقضاء الفطرة بهما مع قطع النظر عن المصالح والمفاسد وربما لا يعرفون المصالح والمفاسد». (١)

وممّن وقف على حقيقة الحال ، هو الحكيم السبزواري في شرح الأسماء الحسنى فقال : إنّ الحقّ هو عقلية الحسن والقبح للعلم الضروري باستحقاق المدح على العدل والإحسان ، والذم على الظلم والعدوان وهذا العلم حاصل للكل ، وإن لم يتديّن بدين ، ولهذا يحكم به منكروا الشرائع أيضاً كالبراهمة.

وأيضاً انّ العلم بحسن ما حسّنه الشارع ، أو قبح ما قبّحه يتوقف على أنّ الكذب قبيح لا يصدر عنه وذلك إمّا بالعقل والتقدير انّه معزول وبالشرع فيدور.

ثمّ قال : وقد يستشكل دعوى الضرورة في القضية القائلة بأنّ العدل حسن والظلم قبيح بأنّ الحكماء جعلوهما من المقبولات العامة التي هي مادة الجدل فجعلهما من الضروريات التي هي مادة البرهان غير مسموع ثمّ أجاب وقال : إنّ ضرورية هذه الأحكام ، بمرتبة لا تقبل الإنكار بل الحكم ببداهتها أيضاً بديهي ـ

__________________

(١) سرمايه ايمان : ٦٠ ـ ٦٢ بتلخيص.

٣٣

إلى أن قال : ـ إنّ القضية الواحدة يمكن أن تدخل في اليقينيات والمقبولات من جهتين فيمكن اعتبارها في البرهان والجدل باعتبارين. (١)

ولم نقف على كلام لغيرهما يدعم كون التحسين والتقبيح أمراً بديهياً ، ويرفض كونهما من المشهورات المحضة.

كلام المحقّق الاصفهاني :

إنّ المحقّق الاصفهاني تأثّر بكلام الشيخ الرئيس فقد بسط الكلام في تشييد مقاصده وقال : إنّ وصف الفعل بالحسن والقبح يكون لأجل أحد أمرين :

١ ـ إذا أساء إنسان إلى غيره فانّه بمقتضى ورود ما ينافره عليه وتألّمه منه ، ينقدح في نفسه الداعي إلى الانتقام منه والتشفّي من الغيظ الحاصل لسببه ، بذمّه وعقوبته فالسببية للذم هنا واقعية وسلسلة العلل والمعلولات مترتبة واقعاً.

٢ ـ فيما إذا كان الغرض من الحكم بالمدح والذم حفظ النظام وبقاء النوع بلحاظ اشتمال العدل والإحسان على المصلحة العامة ، والظلم والعدوان على المفسدة العامة فتلك المصلحة العامة تدعو إلى الحكم بمدح فاعل ما يشتمل عليها ، وتلك المفسدة تدعو إلى الحكم بذمّ فاعل ما يشتمل عليها فيكون هذا التحسين والتقبيح من العقلاء موجباً لانحفاظ النظام ورادعاً عن الاخلال به.

ما يناسب الحكم العقلائي الذي تصح نسبته إلى الشارع بما هو رئيس العقلاء هو القسم الثاني دون الأوّل الذي لا يناسب الشارع بل لا يناسب العقلاء بما هم عقلاء وهو الذي يصح التعبير عنه بالتأديبيات الصلاحية. (٢)

يلاحظ عليه : أنّ حصر ملاك التحسين والتقبيح العقليين بالأمرين غير تام

__________________

(١) شرح الأسماء الحسنى : ١٠٧ ـ ١٠٨.

(٢) نهاية الدراية : ٢ / ١٢٥.

٣٤

بل هناك ملاكان آخران أوضحنا حالهما فيما مضى :

أوّلهما : كون الحكم من الأحكام الواضحة للعقل العملي.

وثانيهما : أنّه إذا كان الفعل ملائماً للفطرة والجانب المثالي منه أو منافراً ، من غير نظر إلى كونه محصلاً للغرض الشخصي كالتشفّي والانتقام ، أو المصلحة النوعية كبقاء النظام وعدمه ، فيوصف بالحسن أو القبح بمجرّد التوجه إلى الموضوع. فلاحظ ما مرّ.

والذي يدل على ذلك : أنّ الموضوع لا يختص بفعل الإنسان حتى يدور أمره بين كونه محصلاً للغرض الشخصي أو النوعي ، بل يعم فعله سبحانه الرفيع من هذه الغايات والواقع في قمة الوجود ، مثلاً يوصف تأديبه الطفل في الآخرة بكونه قبيحاً ، وليس هناك عن الانتقام ولا الاخلال بالنظام حديث ولا خبر.

والذي أوقعه فيما أوقعه ، هو اقتفاؤه أثر الشيخ الرئيس ، وجعله مسألة الحسن والقبح من المشهورات التي لا واقع له إلّا اعتراف العامة ولم يجد وجهاً لاعتراف العامة بهما ، سوى كون العدل من أسباب بقاء النظام الإنساني والعدل من منافياته.

ولا محيص للمتكلّم الإسلامي ولا الفقيه الأُصولي ، في تصحيح ما بنى على ذلك الأصل من الأحكام والأُصول من سلوك ما سلكناه وإلّا ينهدم كل ما بنى.

ثمّ إنّ شيخنا المظفر تبع ما ذكره المحقق الاصفهاني بحماس وقال : «وتسمّى هذه الأحكام العقلية العامة ، الآراء المحمودة ، والتأديبات الصلاحية وهي من قسم من القضايا المشهورات التي هي قسم برأسها ، في مقابل القضايا الضروريات فهذه القضايا غير معدودة من قسم الضروريات ـ إلى أن قال : ـ ومن هنا يتضح أنّ العدلية إذا قالوا بالحسن والقبح العقليين ، يريدون أنّ الحسن والقبح من الآراء المحمودة والقضايا المشهورة ، المعدودة من التأديبات الصلاحية وهي التي تطابقت عليها رأي العقلاء بما هم عقلاء.

٣٥

والقضايا المشهورة ليس لها واقع وراء تطابق الآراء أي إنّ واقعها ذلك ... الخ. (١)

وبعد الإحاطة بما ذكرناه تقدر على القضاء بين الكلمات.

* * *

أدلّة القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين :

قد تعرفت على محلّ النزاع وكما تعرفت على ملاك التحسين والتقبيح ، وقلنا : إنّ القائل بهما في غنى عن إقامة البرهان لكونهما من الأحكام الضرورية في الحكمة العملية ، ومع ذلك يناسب أن نشير إلى أدلّة القوم من المثبت والنافي فنقول :

استدل المثبت بوجوه :

الأوّل : ما أشار إليه المحقّق الطوسي بقوله : «ولانتفائهما مطلقاً لو ثبتا شرعاً» (٢) أي أنّا لو قلنا بأنّ الحسن والقبح يثبتان من طريق الشرع ، يلزم من ذلك ، عدم ثبوتهما بالشرع أيضاً.

توضيحه : أنّ الحسن والقبح لو كانا بحكم العقل ، بحيث كان العقل مستقلاً في إدراك حسن الصدق وقبح الكذب ، فلا اشكال في أنّ ما أمر به الشارع يكون حسناً وما نهى عنه يكون قبيحاً ، لحكم العقل بأنّ الكذب قبيح والشارع لا يرتكب القبيح ، ولا يتصور في حقّه ارتكابه.

وأمّا لو لم يستقل العقل بذلك ، فلو أمر الشارع بشيء أو نهى عنه أو أخبر بحسن الصدق وقبح الكذب فلا يحسن لنا الجزم بكونه صادقاً في كلامه حتى

__________________

(١) أُصول الفقه : ١ / ٣٣٥.

(٢) كشف المراد : ١٨٦.

٣٦

نعتقد بمضمونه لاحتمال عدم صدق الشارع في أمره أو اخباره فإنّ الكذب حسب الفرض لم يثبت قبحه بعد ، حتى لو قال الشارع بأنّه لا يكذب لم يحصل لنا اليقين بصدقه حتى في هذا الإخبار. فيلزم على قول الأشعريّ أن لا يتمكن الانسان من الحكم بحسن شيء لا عقلاً ولا شرعاً.

وإن شئت قلت : لو لم يستقل العقل بحسن بعض الأفعال وقبح بعضها الآخر ، كالصدق والكذب ، وأخبرنا الله سبحانه عن طريق أنبيائه بأنّ الفعل الفلاني حسن أو قبيح لم نجزم بصدق كلامه لتجويز الكذب عليه.

الثاني : ما أشار إليه المحقّق الطوسي أيضاً بقوله : «ولجاز التعاكس» (١) أي في الحسن والقبح.

توضيحه : أنّ الشارع على القول بشرعية الحسن والقبح ، يجوز له أن يُحَسِّن أو يقبِّح ما حسَّنه العقل أو قبَّحه. وعلى هذا يلزم جواز تقبيح الإحسان وتحسين الإساءة وهو باطل بالضرورة. فإنّ وجدان كلّ إنسان يقضي بأنّه لا يصحّ أن يذم المحسن أو يمدح المسيء. قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) : «ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء» (٢) والإمام يهدف بكلمته هذه إلى إيقاظ وجدان عامله ، ولا يقولها بما أنّها كلام جديد غفل عنه عامله.

الثالث : لو كان الحسن والقبح شرعيين لما حكم بهما البراهمة والملاحدة الذين ينكرون الشرائع ، ويحكمون بذلك مستندين إلى العقل. وهؤلاء المادّيون والملحدون المنتشرون في شرق الأرض وغربها يرفضون الشرائع والدين من أساسه ولكن يعترفون بحسن أفعال وقبح بعضها الآخر.

ولأجل ذلك يغرّون شعوب العالم بطرح مفاهيم خداعة ، بدعاياتهم الخبيثة ،

__________________

(١) كشف المراد : ١٨٦.

(٢) نهج البلاغة : قسم الرسائل برقم ٥٣.

٣٧

نظير دعم الصلح والسلام ، وحفظ حقوق البشر ، والعناية بالاسرى والسجناء ، ونبذ التمييز العنصري ، إلى غير ذلك ممّا يستحسنه الذوق الإنساني والعقل البشري في جميع الأوساط ، يطرحون تلك القضايا ليصلوا من خلالها إلى أهدافهم ومصالحهم الشخصية. ولو لا كون هذه المفاهيم مقبولة عند عامة البشر لما استخدمها دعاة المادية والإلحاد في العالم.

والحاصل : أنّ هناك أفعالاً لا يشك أحد في حسنها سواء ورد حسنها في الشرع أم لم يرد. كما أنّ هناك أفعالاً قبيحة عند الكل ، سواء ورد قبحها في الشرع أم لا. ولأجل ذلك لو خيّر العاقل (الذي لم يسمع بالشرائع ، ولا علم شيئاً من الأحكام ، بل نشأ في البوادي ، خالي الذهن من العقائد كلّها) بين أن يَصدق ويُعطى ديناراً ، أو يَكذب ويُعطى ديناراً ، ولا ضرر عليه فيهما فانّه يرجح الصدق على الكذب. ولو لا قضاء الفطرة بحسن الصدق وقبح الكذب لما فرّق بينهما ، ولما اختار الصدق دائماً.

وهذا يعرب عن أنّ العقل له قدرة الحكم والقضاء في أُمور ترجع إلى الفرد والمجتمع ، فيحكم بحسن إطاعة وليِّه المنعم وقبح مخالفته ، وانّ المحسن والمسيء ليسا بمنزلة سواء ، ونحو ذلك.

الرابع : لو كان الحسن والقبح باعتبار السمع ، لما قبح من الله تعالى شيء. ولو كان كذلك لما قبح منه إظهار المعجزات على أيدى الكاذبين. وتجويز ذلك يسدّ باب معرفة الأنبياء ، فانّ أيّ نبيّ أتى بالمعجزة عقيب الادّعاء ، لا يمكن تصديقه مع تجويز إظهار المعجزة على يد الكاذب في دعواه.

وهذه النتيجة الباطلة من أهمّ وأبرز ما يترتب على إنكار القاعدة. وبذلك سدّوا باب معرفة النبوة.

* * *

٣٨

أدلّة المنكرين للتحسين والتقبيح العقليين :

استدلت الأشاعرة على نفي التحسين والتقبيح العقليين بوجوه نأتي بها :

الدليل الأوّل : الله مالك كل شيء يفعل في ملكه ما يشاء :

توضيحه : أنّه المالك ، القاهر ، الذي ليس بمملوك ، ولا فوقه مبيح ، ولا آمر ، ولا زاجر ، ولا حاظر ، ولا من رسم له الرسوم ، وحدّ له الحدود. فإذا كان هذا هكذا ، لم يقبح منه شيء ، إذ كان الشيء إنّما يقبح منّا ، لأنّا تجاوزنا ما حدَّ ورسم لنا ، وأتينا ما لم نملك إتيانه. فلما لم يكن البارى مملوكاً ولا تحت أمر ، لم يقبح منه شيء. فإن قال : فإنّما يقبح الكذب لأنّه قبّحه. قيل له : أجل ولو حسّنه لكان حسناً ، ولو أمر به لم يكن عليه اعتراض.

فإن قالوا : فجوزوا عليه أن يكذب ، كما جوزتم أن يأمر بالكذب.

قيل لهم : ليس كلّ ما جاز أن يأمر به ، جاز أن يوصف به. (١)

يلاحظ عليه : أمّا أوّلاً : فانّنا نسأل الشيخ الأشعري عن أنّه سبحانه إذا أولِمَ طفله في الآخرة وعذّبه بألوان التعذيب مع كون الطفل بريئاً لم يصدر منه ذنب ، ورأى الأشعرى ذلك بأُم عينه في الآخرة ، هل يرى ذلك عين العدل ، ونفس الحسن؟! أو أنّه يجد ذلك الفعل ، من وجدانه ، أمراً منكراً؟

ومثله ما لو فعل بالأشعري نفس ما فعل بطفله مع كونه مؤمناً ، فهل يرضى بذلك في أعماق روحه ، ويراه نفس العدل غير متجاوز عنه ، بحجة أنّ الله سبحانه مالك الملك يفعل في ملكه ما يشاء؟ أو أنّه يقضي بخلاف ذلك؟

وأمّا ثانياً : فلا شكّ أنّه سبحانه مالك الملك والملكوت يقدر على كل أمر

__________________

(١) الأشعري : اللمع : ص ١١٧.

٣٩

ممكن ـ كما عرفت ـ من غير فرق بين الحسن والقبيح ، فعموم قدرته لكل ممكن ممّا لا شبهة فيه ، ولكن حكم العقل بأنّ الفعل الفلاني قبيح لا يصدر عن الحكيم ، ليس تحديداً لملكه وقدرته. وهذا هو المهم في حلّ عقدة الأشاعرة الذين يزعمون أنّ قضاء العقل وحكمه في أفعاله سبحانه نوع تدخّل في شئون ربّ العالمين ، ولكن الواقع ليس ذلك.

توضيحه : أنّ العقل بفضل التجربة ، أو بفضل البراهين العقلية ، يكشف عن القوانين السائدة على الطبيعة ، كما يكشف عن القوانين الرياضية ، فلو قال العقل : إنّ كل زوج ينقسم إلى متساويين ، فهل يحتمل أنّ العقل بذلك فرض حكمه على الطبيعة ، أو يقال : إنّ الطبيعة كانت تحمل ذلك القانون والعقل كشفه وبيّنه؟ فإذا كان هذا هو الفرق بين فرض الحكم وكشفه في عالم الطبيعة ، فليكن هو الفارق بين إدراكه حسن الفعل وقبحه وأنّ أيّ فعل يصدر منه أو لا يصدر منه ، وبين فرضه الحكم على الله سبحانه فرضاً يحدد سعة قدرته وإرادته وفعله. فليس العقل هنا حاكماً وفارضاً على الله سبحانه ، بل هو ـ بالنظر إلى الله تعالى وصفاته التي منها الكمال والغنى ـ يكشف عن أنّ الموصوف بمثل هذه الصفات وخاصة الحكمة ، لا يصدر منه القبيح ، ولا الإخلال بما هو حسن.

وبعبارة أُخرى : أنّ العقل يكشف عن أنّ المتصف بكل كمال ، والغنيّ عن كل شيء ، يمتنع أن يصدر منه الفعل القبيح ، لتحقّق الصارف عنه ، وعدم الداعي إليه ، وهذا الامتناع ليس امتناعاً ذاتياً حتى لا يقدر على الخلاف ، ولا ينافي كونه تعالى قادراً عليه بالذات ، ولا ينافي اختياره في فعل الحسن وترك القبيح ، فإنّ كلاً من الفعل والترك بالاختيار ، وهذا معنى ما ذهبت إليه العدلية من أنّه يمتنع عليه القبائح. ولا يهدف به إلى تحديد فعله من جانب العقل ، بل الله بحكم أنّه حكيم ، التزم وكتب على نفسه أن لا يخلّ بالحسن ولا يفعل القبيح. وليس دور العقل هنا إلّا دور الكشف والتبيين بالنظر إلى صفاته وحكمته.

٤٠