التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٣

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٣

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0524-1
الصفحات: ٤٢٢

رزقها لضعفها ، ولا تستطيع جمعه وتحصيله ، الله ييسّر لها الرزق على ضعفها ، وييسّر لكم الرزق أيها الناس ، والله هو السّميع لأقوال عباده ، العليم بضمائرهم وأسرارهم. والمعنى : الله يرزقكم أنتم ، ففضّلوا طاعة الله على كل شيء.

نزلت هذه الآية : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ) كما روى ابن عباس : أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للمؤمنين بمكّة حين آذاهم المشركون : اخرجوا إلى المدينة وهاجروا ، ولا تجاوزوا الظلمة ، قالوا : ليس لنا بها دار ولا عقار ، ولا من يطعمنا ولا من يسقينا ، فنزلت الآية : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ ..) الآية.

إقرار المشركين بالخالق

مهما استبدّ العناد بأهل الشّرك والوثنية لا يجدون مناصا من الاعتراف بربوبية الله وكونه خالق الكون : سمائه وأرضه ، كواكبه وشمسه وقمره ، برّه وبحره ، وأنه منزل المطر من السماء لإحياء الأرض بعد موتها وجفافها ، وأنه الرازق المتصرّف بكل شيء ، فإذا كان هذا مستقرّا في عقيدتهم ، مترسّخا في أذهانهم ، فلم يبق إلا إكمال هذه العقيدة بالإقرار بوحدانية الله تعالى ، وأنه لا سواه الأحقّ بالعبادة ، والأولى بالتوجّه إليه في السّر والعلن ، لاستمداد الخير منه ، ودفع الشّر والضّرر به ، قال الله تعالى مبيّنا هذه الحال السائدة بين المشركين :

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣)) (١) (٢) [العنكبوت : ٢٩ / ٦١ ـ ٦٣].

__________________

(١) فكيف تصرفون عن عبادته؟

(٢) يضيفه على يشاء.

٨١

هذه الآيات إفحام للمشركين القائلين بتعدّد الآلهة ، وإقامة للحجة عليهم ، بأنهم إن سئلوا عن الأمور العظام التي هي دلائل القدرة ، لم يكن لهم إلّا التسليم لله تعالى.

فو الله يا محمد إن سألت المشركين بالله إلها آخر : من الذي أوجد أو خلق السماوات وما فيها من الشمس والقمر المسخّرين المذلّلين بأمر الله في مدار معين وبنظام دقيق ينشأ عنهما تعاقب الليل والنهار ، وما في السماوات أيضا من كواكب ونجوم ثوابت وشهب منقضة ، وما في الأرض من كنوز ومعادن وجبال وأنهار وبحار ومخلوقات أرضية متعدّدة ، وما تدلّ عليه من عظمة وقدرة إلهية ، لو سألتهم أيها الرسول عن ذلك ، لأجابوك بأن الموجد المبدع الخالق هو الله تعالى ، فكيف يصرفون عن توحيد الله تعالى وإخلاص العبادة له؟! فإن المعترف بأن الله هو الخالق ، ينبغي أن يعترف بوحدانية هذا الإله الذي لا يشاركه في خلقه وتدبيره أحد ، والمعنى المراد : أن المقرّ بتوحيد الرّبوبية لله ، يجب عليه الإقرار بتوحيد الألوهية ، فلا إله غيره ، سواء من الأصنام والأوثان ، أو من الملائكة ، أو الكواكب أو غيرها.

والدليل الآخر بعد الاعتراف لله بالخلق والتدبير : هو أن الله تعالى من أجل دوام المخلوقات ، تكفّل برزقها ، ويسّره لها ، لكن بحكمة إلهية معينة هي لمصلحة المخلوق ، فالله يوسع الرزق لمن يشاء من عباده امتحانا واختبارا له ، ويضيق الرزق على من يريد ابتلاء ومحنة ، على وفق مقتضى الحكمة وبحسب المصلحة المستقرة ، لأن الله تامّ العلم بكل شيء ، من المفاسد والمصالح ، فيمنح ويمنع ويوسع ويقتر ، بما يراه الأصلح للعباد ، كما جاء في آية أخرى : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧)) [الشّورى : ٤٢ / ٢٧].

واستمرارا لمدد الرزق ، وتقريرا لحقيقة ثابتة يعترف بها المشركون : أنك أيها الرسول لو سألتهم أيضا عمن ينزل المطر من السماء أو السحاب ، فيحيي به الأرض

٨٢

الجدبة بعد جفافها ويبسها ، فتصبح متحرّكة نضرة بالنبات الأخضر ، لأجابوك بأن الله تعالى هو الفاعل لذلك ، فإذا قالوا هذا ، فقل لهم أيها النّبيّ : الحمد لله على قيام الحجة عليكم ، وأن الله مصدر النّعم كلها ، ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعقلون هذا التناقض الحاصل منهم ، فتراهم يقولون بأن الله هو الخالق الرّازق ، ثم يقولون بوجود إله آخر معه ، فيخالف فعلهم قولهم ، وإقرارهم ، ويعبدون مع الله تعالى وثنا أو حجرا أو معدنا لا يتمتع بحقائق الألوهية ، ولا ينفعهم شيئا ، ولا يضرّهم إن تركوا عبادته. إن هذا لون من ألوان الحماقة والخرافة والطيش والبدائية القائمة.

أحوال الدنيا والكافرين فيها

الإنسان فيما يتعلق بقضايا الدين والدنيا قد يكون قصير النظر ، لا ينظر إلى ما وراء هذا العالم ، وتقلّبات الدنيا سريعة وشؤونها لاهية ، حتى إذا ما وقع في المحنة الخانقة ، تراه يبذل كل ألوان الرجاء والإستغاثة ، لاستنقاذ نفسه ، وما تعرّض له من مخاوف الغرق أو الإعصار أو الزلزال ، ولا يقدّر المشرك المقيم في مكة نعمة الأمن الكبرى في البلد الحرام الآمن ، مع أن البلاد المجاورة وغيرها لا أمان فيها ولا اطمئنان. إن الكافر بالله هو الظالم الحقيقي لنفسه ، ولا ظلم أشدّ طغيانا من افتراء الكذب على الله أو تكذيبه بالحقّ الثابت الساطع. أما المؤمن المجاهد نفسه وهواه ، فإن الله يوفّقه للخير وسبيل النجاة ، ويؤيّده ويؤازره لإحسانه العمل ، واستقامته في الحياة ، قال الله تعالى مبيّنا أحوال الدنيا والناس فيها.

(وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا (١)

__________________

(١) الحياة الدائمة الخالدة.

٨٣

يَعْلَمُونَ (٦٤) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩)) (١) (٢) (٣) (٤) [العنكبوت : ٢٩ / ٦٤ ـ ٦٩].

وصف الله تعالى واقع الدنيا في هذه الآية بأنها لهو ولعب ، أي ما كان منها لغير وجه الله تعالى ، فإن ما كان لله تعالى فهو من الآخرة ، ذلك أن كل ما كان من أمور الدنيا الزائدة على الضروري الذي به قوام العيش والحياة ، والتّقوي على الطاعات ، فإنما هو لهو يتلهّى به ، ولعب يتسلّى به. وأما الآخرة فهي الحيوان ، أي دار الحياة الباقية الخالدة. وهذا الوصف مفيد القوم الذين يعلمون الحقائق ، ويدركون المصائر ، ومن علم بذلك آثر الباقي على الفاني. والفرق بين اللهو واللعب : أن اللعب إقبال على الباطل ، واللهو : إعراض عن الحق. ثم وصف الله المشركين في وقت المحنة :

فإنهم إذا ركبوا في السفينة مثلا ، وتعرّضوا لخطر الغرق ، دعوا الله وحده ناسين كل صنم وغيره ، مخلصين النّية والرغبة إلى الله تعالى ، صادقين في توجّههم ، فإذا أمنوا ونجوا من الخطر أو الهلاك ، عادوا لشركهم ، ونادوا أصنامهم وأوثانهم ، كافرين بنعمة النجاة. فقوله تعالى : (إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) معناه يرجعون إلى ذكر أصنامهم وتعظيمها.

إنهم في بقائهم على الشّرك يؤول أمرهم إلى الكفر بما آتاهم الله من نعم ، والتمتع بعبادة الأصنام ، فتكون لام (لِيَكْفُرُوا) و (وَلِيَتَمَتَّعُوا) لام العاقبة أو الصيرورة ، أو

__________________

(١) العبادة والطاعة.

(٢) اللام في : ليكفروا ، وليتمتعوا : لام التعليل ، والمعنى يشركون ليكونوا كافرين ، متمتعين بعبادة الأصنام ، أو أنها لام الصيرورة.

(٣) يؤخذون قتلا أو أسرا.

(٤) مكان الإقامة.

٨٤

إنها لام (كي) للتعليل على سبيل التهديد ، أي يشركون ليبقوا كافرين ، منعمين بالوثنية ، مثل قوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ).

ثم عدّد الله تعالى على كفرة قريش نعمته ، ومنها أمانهم في مكة البلد الآمن الحرام ، من غير تعرّض لقتل ونهب وسلب ، فجدير بهم شكر هذه النعمة ، مع أن الناس كانوا يتخطّفون من كل مكان حولهم ، ثم قرّرهم الله على حالهم على جهة التوبيخ ، وهي إيمانهم بالباطل وهو الأوثان ، وكفرهم بالله ونعمته ، إنه تقرير لواقع ووصف له ، لا على سبيل الرّضا به ، وإنما التّنديد به.

ثم إنهم أظلم الناس ، وقد أعلمهم الله أنه لا أحد أظلم منهم ، وفي ذلك وعيد شديد ، فهم أحقّ الناس بالعقاب ، إذ لا أحد أشد عقوبة ممن كذّب على الله بالشّرك ، ولزم تكذيب كتابه ورسوله ، أليس لهم مقر عقاب؟! أليست جهنم هي مثوى ومأوى جميع الكافرين؟! إن هذا التهديد والوعيد بهذه الألفاظ الموجزة الجامعة للمعاني الكثيرة لا نظير له في عالم التحذير والإنذار ، والفحوى بيان عاقبة المشركين الكافرين.

أما عاقبة المؤمنين : فهي الظفر بجنان الخلد والرضوان ، فالذين جاهدوا أنفسهم وأطاعوا ربّهم ، ونصروا دين الله وكتابه ورسوله ، وقاتلوا المعتدين المكذبين بالحق ، إنهم هم الذين هداهم الله ووفّقهم إلى طريق الجنة ، وسبيل السعادة والخير ، في الدنيا والآخرة ، والله دائما مع المحسنين أعمالهم بالنصرة والتأييد ، والحفظ والرعاية.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا) أي من أجل إرضائنا وعلى هدي قرآننا. إن هذه المقارنة بين أحوال العصاة والكافرين ، وأحوال الأتقياء والطائعين ، تبيّن تباين الحالين ، وفرق المصيرين ، إنه فرق شاسع ، ووضع متباين ، أهل الشّرك والكفر في نيران تتلظّى بهم ، وأهل الإيمان والطاعة في جنان ونعم يتمتعون بها وينعمون في ظلالها ، فما أنعم حال السعداء ، وما أشقى حال الأشقياء؟!

٨٥

تفسير سورة الرّوم

تحقيق الغيب المخبر به عن الروم

من وجوه إعجاز القرآن الكريم : الإخبار عن المغيبات سلفا في المستقبل ، ووقوع الأشياء كما أخبر تماما ، ومن هذه الأخبار الغيبية : هزيمة الروم أمام الفرس ، ثم انتصار الروم على الفرس ، وذلك في حدود بضع سنوات من ثلاث إلى عشر ، كما أخبر القرآن ، فبعد نزول سورة الروم سنة (٦٢٢ م) ببضع سنين في سنة (٦٢٧ م) أحرز هرقل عظيم الروم أول نصر حاسم للروم على الفرس ، في نينوى ، على نهر دجلة ، وانسحب الفرس لذلك من حصارهم القسطنطينية ، ولقي كسرى أبرويز مصرعه سنة (٦٢٨ م) على يد ولده : شيرويه ، وهذا ما أرّخه القرآن قبل وقوعه في الآيات الآتية في مطلع سورة الرّوم المكّية :

(الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧)) (١) (٢) (٣) (٤) [الرّوم : ٣٠ / ١ ـ ٧].

__________________

(١) قهرت فارس الروم.

(٢) أقربها إلى فارس.

(٣) كونهم مغلوبين.

(٤) البضع : ما بين الثلاث إلى التّسع أو العشر من السنين.

٨٦

سبب النزول : ما أخرجه التّرمذي عن أبي سعيد الخدري قال : لما كان يوم بدر ، ظهرت الروم على فارس ، فأعجب ذلك المؤمنين ، فنزلت (الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢)). وقد كان الفرس هم الغالبين للرومان في بدء الأمر ، على مشارف الشام مما يلي بلاد العرب ، ففرح بذلك مشركو العرب إذ قالوا : إن الفرس لا كتاب لهم مثلنا ، والرّومان لهم كتاب مثلكم ، لأنهم نصارى ، ولننتصرن عليكم كما انتصر الفرس. وتراهن أبو بكر مع المشركين على انتصار الروم ، في مدة بسيطة ، فقال له النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : زد في الرّهان ومدّ الأجل ، ففعل ، فانتصر الروم في أثناء الأجل ، بعد خمس سنوات ، كما تقدّم ، وأخذ أبو بكر الجعل وتصدّق به.

والمعنى : الم : هذه حروف مقطعة للتنبيه على ما يأتي بعدها ، ولتحدّي العرب بمجاراة القرآن ومعارضته ، مع أنهم فصحاء العرب ، وكلامهم مكوّن من هذه الحروف التي تتركّب بها الكلمة العربيّة أو الكلام العربي الذي ينطقون به.

لقد غلبت الفرس الرّوم في أقرب أرض الرّوم إلى بلاد العرب ، في أعلى مشارف بلاد الشام ، في الجزيرة : وهو موضع بين العراق والشام ، فسرّ المشركون الكفرة ، وأدنى الأرض : أقرب الأرض ، فإن كانت الوقعة بأذرعات بحسب قول عكرمة فهي من أدنى الأرض بالنسبة إلى مكّة ، وإن كانت الوقعة بالجزيرة بحسب قول مجاهد ، فهي أدنى الأرض بالنسبة إلى أرض كسرى الفرس. فبشّر الله تعالى عباده المؤمنين بأن الروم سيغلبون في بضع سنين ، والبضع : من الثلاث إلى التّسع من السنوات ، وذلك من تاريخ الموقعة الأولى. وهذا إخبار عن أمر غيبي في المستقبل ، أيّده الواقع ، ولله الأمر كله من قبل الغلبة ومن بعدها ، فيحقق الله الغلبة لفئة على أخرى ، ثم يحدث العكس ، بأمر الله وإرادته وقدره وقدرته ، خلافا للموازين العسكرية البشرية ، فقد يتغلب الضعيف أو القليل على القوي والكثير ، بإذن الله ومراده ، كما قال سبحانه :

٨٧

(كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة : ٢ / ٢٤٩]. وقوله تعالى : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) إخبار بانفراد الله بالقدرة.

ويوم ينتصر الرّوم النّصارى على الفرس الوثنيين ، يفرح المؤمنون بنصر الله أهل الدين والإيمان ، على من لا دين له ولا كتاب من السماء.

ينصر الله من يريد على الأعداء ، لأنه الفعّال لما يريد ، والحكيم في إرادته ، والقويّ الذي لا يغلب ، المنتقم من أعدائه ، الرّحيم بعباده المؤمنين.

ذلك وعد حقّ من الله تعالى ، وخبر صدق واقع ، والله لا يخلف الميعاد ، ولا بدّ من وقوعه ، لأن في سنّة الله تعالى أن ينصر أقرب الفريقين المتقاتلين إلى الحق ، إلّا أن يكون ذلك محنة وابتلاء لفئة بفئة ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون بحكم الله وأفعاله القائمة على العدل والحكمة ، لجهلهم بالسّنن الجارية في الكون ، كما قال الله تعالى : (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) [الأحزاب : ٣٣ / ٣٨](سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) [الأحزاب : ٣٣ / ٦٢].

وعلم الناس ، وبخاصة الكفرة الذين لا يعلمون أمر الله وصدق وعده : علم ظاهري بأحوال الدنيا وعلومها المادّية ، كتدبير : شؤون المعيشة ، واكتساب الأموال من مصادر الثروة المتعددة ، من زراعة أو صناعة أو تجارة ، أو مهنة حرة أو خدمة ونحوها. وهم مشغولون بعلومهم هذه ، لا ينظرون إلى المستقبل ، وهم في غفلة تامة أو شبه تامة عن شؤون الآخرة ، وما فيها من خوالد الأشياء ، ودوام المصير.

هذا الخبر الغيبي له مغزاه وهدفه في تاريخ الدعوة الإسلامية ، فلقد ترجّى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظهور دينه وانتشار دعوته ، وامتداد تطبيق شريعة الله عزوجل التي أرسله الله بها ، وتغلّبه على الأمم والشعوب التي تدين بدين غير سماوي ، وتبدّد آمال كفار مكّة بأن يرمي الله نبيّه بملك يستأصل وجوده ، ويريحهم منه ، ولكن خسر هنالك المبطلون.

٨٨

فريضة التّفكّر في مخلوقات الله تعالى

لقد أحال القرآن الكريم في إثبات عقيدة الإيمان بوجود الله ووحدانيته على مشاهد حسّيّة ملموسة ، وهي المخلوقات السماوية والأرضية ، فهي ترشد إلى الموجد الخالق ، بسبب بدء تكوينها وانتهائها بعد أجل محدد في علم الله تعالى ، كما أحال إلى التأمّل في مصارع الأقوام الغابرين الذين كانوا أشدّ قوة وأكثر أموالا وأولادا ، لكنهم حينما أعرضوا عن آيات الله البيّنة ، أهلكهم الله في الدنيا ودمّرهم ، لا بظلم من أحد ، وإنما بسبب ظلمهم أنفسهم ، ثم كانت عاقبتهم أسوأ العقوبة ، وهي جهنم بسبب التكذيب بآيات الله تعالى والاستهزاء بها. هذا ما وصفه القرآن المجيد في إيراد الأدلة والبراهين الحسّية على وجود الله وتوحيده شريطة التأمّل والتفكّر فيها ، قال الله تعالى :

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠)) (١) (٢) [الرّوم : ٣٠ / ٣٠ / ٨ ـ ١٠].

هذه حملة مركزة لإعمال المشركين وغيرهم أفكارهم وعقولهم ، للتوصّل في نتيجة التفكير والنظر والتأمّل ، لإثبات وجود الله وتوحيده ، أفلا يتفكرون في أنفسهم أو ذواتهم أن ما أوجده الله تعالى من مخلوقات في السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما ، لم يوجده إلّا بالحقّ الثابت ، الملازم للحكمة ، ولأجل محدد ، لا بد من

__________________

(١) حرثوها بالفلاحة.

(٢) العقوبة الشديدة.

٨٩

الانتهاء إليه ، وهو قيام القيامة ، فإذا حلّ الأجل ، تبدّلت معالم الأرض والسماء ، ولكن أكثر الناس ، وبخاصة الكفار ، هم جاحدون لقاء الله تعالى ، منكرون وجود البعث والحساب ، لأنهم لم يتفكروا في ذواتهم وحواسّهم ، ليستدلّوا بذلك على الخالق المبدع.

المراد من هذه الآية : وصف الكافرين المشركين بالغفلة والإعراض عن أمر الآخرة ، ثم توبيخهم على أنهم قد فكّروا تفكيرا مغلوطا أو خطأ ، فلم ينفعهم الفكر والنظر ، لأنه لم يكن على سداد وصواب.

وقوله تعالى : (إِلَّا بِالْحَقِ) يراد به بسبب المنافع التي هي حق وواجب ، تدلّ على وجود الله وعبادته وحده على الدوام ، والإعتبار بمنافع الأرزاق وغيرها. ثم أخبر الله تعالى عن كفر أكثر الناس بالبعث والنشور المعبّر عنه بلقاء الله تبارك وتعالى ، لأن لقاء الله تعالى هو أعظم الأمور ، وفيه النجاة أو الهلاك.

ثم وبّخ الله تعالى المشركين توبيخا آخر ، وهو أنهم ساروا ونظروا في عواقب الأمم المتقدمة ، ولكن ذلك لم ينفعهم ، حتى لم يعملوا بحسب العبرة وخوف العاقبة.

إن هؤلاء الجاحدين عطلوا ثمرة النظر والفكر ، أفلم يتنقلوا في الأرض ، فينظروا بعقولهم وأفهامهم ، ويتأمّلوا بأخبار الماضين ، كانوا أشد قوة من أهل مكة ونحوهم ، وكانوا أكثر تحضّرا وتمدّنا ، حيث حرثوا الأرض وزرعوها ، وغرسوا فيها الأشجار ، أكثر مما فعله المكّيون ، وسائر العرب عند نزول الوحي ، وجاءتهم الآيات الدّالة على وجود الله وتوحيده ، فأعرضوا عنها ، فأهلكهم الله بذنوبهم وكفرهم وتكذيبهم رسلهم ، الذين أرسلهم الله تعالى إليهم ، فلم يكن عقابهم جورا ولا ظلما ، ولكن كانوا هم الظالمين أنفسهم ، بسبب تكذيبهم بآيات الله تعالى.

وهناك عقاب أشدّ من عقابهم الدنيوي ، فلقد كان مصير المسيئين أسوأ مصير ، وعقابهم أسوأ عقاب ، وهو الخلود في نيران جهنّم ، بسبب تكذيبهم بآيات الله تعالى

٩٠

ودلائله الدّالة على وجوده ووحدانيته ، وبسبب استهزائهم وسخريتهم منها. فقوله تعالى : (أَساؤُا السُّواى) أي كان عاقبة الذين كفروا هي النار ، والتكذيب بآيات الله تعالى لا مجرد الاستهزاء بها ، فلذلك عدّد الله تعالى عليهم الفعلين.

إن تعطيل ثمار التفكير الصحيح منشؤه الخلود إلى الكفر والضلال ، لأن من أصمّ سمعه ، وأعمى بصره ، بسبب ملازمته منهج الكفر وتقليد الآباء والأجداد ، يصعب عليه ترك ما ألف وهجر ما اعتاد.

وإن إهمال الإعتبار بأحداث الماضين ، الذين تعرّضوا لعذاب الاستئصال ، مع شدّتهم وقوتهم في السّلم والإعمار ، والحرب والدّمار ، يعدّ نكسة شديدة في تاريخ الفكر الإنساني.

والعاقل من اتّعظ ، والمفكّر من اعتبر ، وفائدة العظة والعبرة تكمن في سلوك أهل البصيرة وأصحاب الرأي الحرّ المنعتق من رواسب التقليد ، ومحاكاة الآخرين من غير حجة ولا برهان.

إثبات المعاد ومخاوفه

الإيمان باليوم الآخر من أصول الإعتقاد في الإسلام ، بل هو ضرورة لازمة لإنصاف الخلائق ، وإحقاق الحقّ ، وإبطال الباطل ، لذا أخبر الله تعالى إخبارا عامّا مطلقا لجميع العالم بالحشر والبعث من القبور ، وأكّد سبحانه على أنه هو الذي يبدأ الخلق ويوجده ، ثم يحييه ويعيده إليه ، وفي ذلك اليوم يفرح المؤمنون بما أعدّه الله لهم من جنّات النعيم ، وييأس الكافرون والمجرمون من انقطاع حجّتهم ، وإصابتهم بالإحباط وفقد الأمل بالنّجاة ، ولا مفرّ من هذا المصير ، ولا أمل في الإنقاذ ، وإنما الناس حينئذ فريقان : فريق في الجنة ، وفريق في السعير.

٩١

قال الله تعالى مبيّنا أحوال القيامة والناس فيها : (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦)) (١) (٢) (٣) [الرّوم : ٣٠ / ٣٠ / ١١ ـ ١٦].

هذه حقيقة العالم في البدء والنهاية ، فالله هو المبدئ وهو المعيد ، فكما هو قادر على بدء الخلق وإنشائه ، هو قادر على إعادته ، وإرجاعه ، فجميع المخلوقات يعودون إلى الله يوم القيامة ، ويبعثون من القبور.

وفي يوم القيامة : ييأس المجرمون من الاهتداء إلى الحجة النافعة لهم ، بسبب شدة الأهوال ، وعقم الوصول إلى المسوّغات المقبولة ، والأعذار المرضية.

ولن يجد المشركون لهم شفعاء من الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله ، وكانوا بشركائهم وآلهتهم المزعومة جاحدين ، متبرئين منهم ، فإنهم لن يسعفوهم في وقت الحاجة إليهم ، كما جاء في آية أخرى : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧)) [البقرة : ٢ / ١٦٦ ـ ١٦٧]. وهذا كله دليل الإفلاس والخسران.

ثم أخبر الله تعالى عن انقسام أهل المحشر قسمين :

ويوم تقوم القيامة يتفرق الناس فرقة لا اجتماع بعدها ، فيؤخذ أهل الإيمان والسعادة إلى الجنان ، ويؤخذ أهل الكفر والشقاوة إلى النيران ، إنهم يتفرقون في المنازل والأحكام والجزاء.

__________________

(١) أي ييأس المجرمون من الاهتداء إلى الحجة الناجعة.

(٢) يسرّون.

(٣) باقون فيه على الدوام.

٩٢

فأما المؤمنون المصدّقون بالله ورسوله واليوم الآخر ، والعاملون العمل الصالح الذي يرضي الله ، والمجتنبون كل ما نهى الله عنه ، فهم أهل السرور والحبور ، والبهجة والمتعة ، إنهم يتمتعون بأكمل أوصاف النعيم ، ويتقلّبون في أعطاف النعمة والمسرّة ، كما قال الله تعالى في آية أخرى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السّجدة : ٣٢ / ١٧]. وقوله تعالى : (فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) أي في جنّة ينعّمون ويسرّون. والروضة : أحسن ما يعلم من بقاع الأرض ، وهي حيث يكثر النّبت الأخضر.

وأما أهل الكفر والجحود بوجود الله وتوحيده ، المكذّبون رسله وآياته ، المنكرون وقوع المعاد أو البعث بعد الموت ، فهم خالدون مخلّدون في عذاب الله في النار ، لا يغيبون عن الله أبدا ، ولا يفترون عنه مطلقا ، كما جاء في آية أخرى : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) [الحجّ : ٢٢ / ٢٢].

إن يوم القيامة يوم الانقطاع بين عالم الدنيا وعالم الآخرة ، وهو يوم الانفصال التامّ بين أهل الإيمان وأصحاب الكفر ، إنه يوم لا رجعة فيه إلى الدنيا ، ولا أمل بلقاء واقع بين المؤمنين والكفار. إن أهل الإيمان المتميزين بصالح الأعمال : وهو الائتمار بأمر الله ، واجتناب نواهيه ، يتنعّمون في رياض الجنة ، وينظرون إلى وجه الله الكريم ، وأما أهل الشّقاوة والكفر والجحود ، المكذّبون بآيات الله البيّنة ، والمنكرون لوجود القيامة ، فهم في العذاب جاثمون محضرون ، أي مدخلون إلى النار ، لا يغيبون عن العذاب ، ولا يخفف عنهم شيء من عذاب جهنم.

إن هذا الانقسام إلى فريقين في عالم الآخرة ، لهو واضح التأثير ، فالعاقل المدرك لمصيره ، المقدر لمخاطر مستقبله ، يبادر إلى الإيمان ، ويعمل لما بعد الدنيا ، مما ينجيه بين يدي الله ، بإيمان صحيح ، وعمل صالح خالص من الشوائب ، متمحض لله تعالى.

٩٣

أوقات الأذكار والعبادة

تحقيقا للصّلة الدائمة بالله تعالى ، وإدامة لرقابة الله عزوجل في السّر والعلن ، وضع الحقّ تعالى نظاما متكرّرا منضبطا للتسبيح والتحميد والعبادة ، وحضّ على الصلاة في أوقات معينة ، وأزمان متكررة ، وما أبدع وما أجمل نظام الإسلام بالتذكير بالعبادة عن طريق الأذان الشرعي ، الذي هو دعوة دائمة للإيمان والإسلام ، بإعلان الشهادتين ، والحثّ على أداء الصلاة وتحقيق الفلاح ، وإدراك مغزى العبادة ، والإيقان بعظمة الله ، وأنه أكبر شيء في هذا الوجود. واستحضار عظمة الله ، وإحاطة علمه وقدرته ، فهو مبعث الهيبة والوقار ، والمبادرة إلى الامتثال ، والاستقامة وتحقيق المنال ، قال الله تعالى آمرا بالعبادة ، حاضّا على الصلاة في أوقات معينة ، لأن الإيمان تنزيه بالجنان ، وتوحيد باللسان ، وعمل صالح يشمل جميع الأركان :

(فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩)) (١) [الرّوم : ٣٠ / ١٧ ـ ١٩].

الدنيا مملوءة بالأشياء المختلفة ، والمتناقضات والأضداد ، تحقيقا لتكامل الكون ، وإدراك الفروق والتفاوت بين المخلوقات ، فنجد الكفر مقابلا للإيمان ، والشقاء موازيا للسعادة ، والقبح في مواجهة الجمال ، والرذيلة تنافس الفضيلة ، والنقمة أمام النعمة ، والعذاب قرين الرحمة ، وكل واجهة من هذه الواجهات تأكيد لحرّية الإنسان ، وتقرير لممارسة حقّه في الإرادة والإختيار ، فهو الذي يقبل على ما فيه الوصول إلى رحمة الله ورضوانه ، وهو الذي يزجّ بنفسه في موجبات العذاب والعقاب.

__________________

(١) تدخلون في وقت الظهيرة.

٩٤

إن هذه الآيات تحدّد أوقات التسبيح والتحميد والتكبير وغيرها من الأذكار ، وتعيّن أوقات الصلاة ، والمؤمن يحرص على هذه الأوقات لأداء واجبه وإبراء ذمّته ، فيسبح الله ، أي ينزهه عن جميع صفات النقصان ، ويثبّت له كل صفات الكمال ، في جميع أوقات الليل والنهار ، يسبح الله بأمره حين ابتداء المساء أو الليل ، وحين طلوع الفجر أو النهار ، ويحمد الله تعالى جميع من في السماوات والأرض ، من ملائكة وجنّ وإنس ، وجماد ونبات ، وحيوان ، ويسبح الإنسان الله وينزهه أيضا في وقت العشي أو العشاء ، وهو شدة الظلام ، وفي وسط النهار وقت الظهيرة.

قال ابن عباس وقتادة وبعض الفقهاء : في هذه الآية تنبيه على أربع صلوات : المغرب ، والصبح ، والعصر ، والظهر. والعشاء الآخرة في رواية أخرى. والواقع أن الآية تشمل أوقات الصلاة الخمسة ، لأنّ العشي وقت العشاء ، والمغرب وقت الإمساء ، والصبح وقت الإصباح ، والظهر والعصر من بعد تحوّل الشمس إلى جهة الغرب.

والمعنى : نزّهوا الله تعالى عن صفات النقصان ، وصفوه بصفات المجد والكمال ، في جميع هذه الأوقات المتعاقبة ، من طلوع الفجر إلى غسق الليل ، لأن أفضل الأعمال وأحبّها إلى الله أدومها وأبقاها.

ومما يستدعي تسبيح الله وتنزيهه : ثبوت قدرته الخارقة ، فالله هو القادر على الإحياء والإماتة ، يخرج الإنسان الحي وغيره من التراب الميت ، ثم من النطفة ، ويخرج النطفة من الإنسان ، والبيضة من الطائر ، وكلمة (الحي والميت) في هذه الآية ، تستعمل حقيقة ومجازا ، أما الحقيقة : فهي المني يخرج منه الإنسان ، والبيضة يخرج منها الطائر ، وهذه بعينها تخرج من حي ، ونحو ذلك. وأما المجاز : فهي إخراج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن ، وإخراج النبات الأخضر من الأرض ، وإخراج الطعم من النبات.

٩٥

والله تعالى يحيي الأرض بالمطر ، فيخرج النبات من الحبّ ، والحبّ من النبات ، ومثل ذلك الإخراج تخرجون من القبور أحياء بعد أن كنتم أمواتا ، وذلك على الله يسير. أي إنه تعالى بعد إيراده الأمثلة الواضحة ببعث الأجساد عقلا ، أبان أنه كذلك خروجنا من القبور.

هذه الأمثلة الحسّية والمقارنات توضّح للناس طريق الإيمان ، وكيفية ارتباط الحياة الدنيوية بالحياة الأخروية ، وما أكثر هذه الأمثلة في القرآن الكريم ، ومنها : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [الحجّ : ٢٢ / ٥].

بعض أدلة القدرة الإلهية والوحدانية

لقد ذكر الله تعالى مجموعة من البراهين الساطعة العظيمة الدّالة على قدرته الباهرة وعظمته وتوحيده ، وهي تشمل بدء خلق الإنسان من تراب ، وخلق الأزواج من جنس الأزواج ، وإيجاد رباط مودة ورحمة بين الزوجين ، وخلق السماوات والأرض ، واختلاف الألسنة والألوان ، والنوم بالليل والنهار ، وطلب الرزق من فضل الله ، وإراءة البرق ، وقصف الرّعد ، وإنزال المطر من السماء ، وقيام السماء والأرض بأمره وتدبيره ، والاستجابة لأمره بالإعادة أحياء ، وملكه جميع من في السماوات والأرض ، والتذكير ببدء الله الخلق ، ثم إعادتهم أحياء من القبور. وهذا ما أوردته الآيات الكريمة التالية :

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ (١)

__________________

(١) تتصرّفون في أحوالكم وأسفاركم.

٩٦

خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧)) (١) (٢) (٣) [الرّوم : ٣٠ / ٢٠ ـ ٢٧].

الآية الأولى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) نزلت فيما أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : تعجّب الكفار من إحياء الله الموتى ، فنزلت : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ..).

والمعنى : من آيات الله تعالى الدّالّة على عظمته وتمام قدرته على الخلق والإعدام ، أن الله تعالى خلقكم أيها البشر في الأصل والبدء من تراب ، وجعل مصدر غذائكم من لحوم الحيوان والنبات من التراب ، ثم بعد إنشائكم ووجودكم لإعمار الأرض وتقدّمها تتوزّعون فيها لأغراض شتى ، من بناء المدائن والحصون ، وزراعة الأرض والحقول ، والانتقال في الأسفار لكسب المعايش وتحصيل الأرزاق ، وجمع الأموال.

وللحفاظ على النوع الإنساني ، جعل الله تعالى من العلامات الدّالة على قدرته ورحمته وهيمنته : خلق النّساء من جنس الرجال ، وإيجاد ووشائج وصلات وثيقة بين الرجل والمرأة ، قائمة على المودّة (أي المحبة) والرحمة (أي الشفقة) ليتعاون الجنسان على

__________________

(١) لتميلوا إليها وتألفوها.

(٢) مطيعون منقادون له.

(٣) الوصف الأعلى في المكان.

٩٧

تحمّل أعباء الحياة ، وترابط أفراد الأسرة ، إن في ذلك الخلق والإيجاد وتكوين جسور المودة والألفة بين الأزواج ، للسكن والاستقرار والهدوء ، إن في ذلك لآيات أو علامات لقوم يتفكرون ويتأمّلون في هذا.

ومن آيات الله أيضا الدّالة على قدرته وعظمته : خلق السماوات والأرض من غير أعمدة ولا قواعد ، واختلاف الألسنة واللغات والألوان ، إن في ذلك المذكور لآيات دالّة على قدرة الله التامّة لقوم ذوي علم وبصر ومعرفة ترشدهم إلى الحق.

ومن آيات الله الدّالة على قدرته العجيبة : منامكم في الليل والنهار ، وطلبكم الفضل والرزق من الله ، إن في ذلك المذكور لدلالة لقوم يسمعون سماع تدبّر واتّعاظ. ومن آيات الله الدّالة أيضا على تمام القدرة وثبوت الوحدانية إراءتكم البرق خوفا للمسافر من الصواعق المحرقة ، وطمعا فيما تحبّون من المطر المحتاج إليه للإنسان والحيوان والنبات ، إن في ذلك المذكور لدلالات واضحات لقوم يدركون هذا بعقولهم وأفكارهم.

ومن آياته تعالى الدّالة على قدرته : قيام السماء بلا عمد والأرض بلا قواعد ، بأمر الله وتدبيره ، ثم إذا دعاكم الداعي للخروج من القبور أحياء ، خرجتم من غير انتظار. ولله جميع من في السماوات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصرّفا ، وهم جميعا خاضعون لله ، خاشعون لعظمته وهيبته.

والله تعالى هو الذي بدأ الخلق من غير مثال أو أصل سابق له ، ثم يميته ويعيده كما بدأه ، وذلك أيسر وأسهل عليه ، بحسب منطق البشر ، فإن الإعادة أهون من الابتداء في تقديرنا ، أما بالنسبة لله تعالى ، فهما سواء ، لا فرق بين البدء والبعث ، لأن الله قادر على كل شيء.

ولله تعالى الصفة العليا الكاملة في جميع السماوات والأرضين ، وهو القوي في ملكه الذي لا يعجزه شيء ، الحكيم في صنعه وتدبيره ، وأمره ونهيه.

٩٨

فساد اعتقاد المشركين بالأصنام

شيئان اثنان هما أخطر شيء على النفس الإنسانية وهما الهوى والجهل ، وكلاهما يؤديان للإسراف في القول والعمل ، والضلال في التّصرفات وسوء السلوك ، ويكون الإنسان في النهاية هو الضحية ، لأنه لم يتدارك تقصيره ، ولم يفعل شيئا لتبديد جهله ، ولم يروّض نفسه على التّرفع عن أهوائه ، وظلّ أسير التقليد الأعمى ، وفريسة الموروثات والأساطير الخرافية. هذا هو شأن عبدة الأصنام ، إنهم بدائيون جهلة وثنيون ، يسيرون في فلك الأهواء والشهوات ، ويسدّون على أنفسهم باب العلم والتّبصر ، ومحاولة تصحيح التصوّر والاعتقاد الفاسد ، وقد عمل القرآن الكريم على تبصيرهم وتوعيتهم ، وتحذيرهم ، وإنقاذهم من وهدة الضلال ، كما تصوّر هذه الآيات :

(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩)) [الرّوم : ٣٠ / ٢٨ ـ ٢٩].

أخرج الطبراني عن ابن عباس قال ـ في بيان سبب نزول الآيتين ـ : كان يلبّي أهل الشّرك : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ، فأنزل الله : (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ).

أبان الله تعالى في الآيتين الكريمتين أمر الأصنام ، وأوضح فساد معتقد من يشركها بالله تعالى ، بضرب هذا المثل الحسّي الواقعي ، ومعناه : جعل الله لكم مثلا أيها المشركون تشهدونه من أنفسكم ، وهو : هل ترضون أن يكون لكم شركاء في أموالكم ، من عبيدكم يساوونكم في التصرّف فيها ، تخافون أن يقاسموكم الأموال؟ إذا كنتم لا ترضون ذلك لأنفسكم ، فكيف تجعلون لله شركاء من عبيده ومخلوقاته؟!

٩٩

وبعبارة أخرى : إنكم أيها الناس إذا كان لكم عبيد تملكونهم ، فإنهم لا تشركونهم في أموالكم ولا في أموركم ، وليس من شأنكم السماح لهم في إرث أموالكم أو مقاسمتهم إياها في حياتكم ، فإذا كان هذا فيكم في علاقتكم بعبيدكم ، فكيف تقولون : إن من عبيد الله وملكه شركاء في سلطانه وألوهيته ، وتثبتون لربّكم ما لا يليق عندكم بأتباعكم؟ إن مثل هذا التفصيل والبيان لإلزام الحجة ، نفصّل الآيات ونوضّحها لقوم يفكّرون في عقولهم تفكيرا سويّا ، ويتأمّلون فيما يقال لهم من الأدلّة والبراهين المنطقية.

والواقع أنكم أيها المشركون لا تفكّرون تفكيرا صحيحا ، وإنما تسيرون مع الأهواء والأساطير ، ليس لكم حجة فيما فعلتم من جعل الأصنام شركاء مع الله تعالى ، بل اتّبعتم أهواءكم جهالة وشهوة ، وقصدا لتحقيق مصالح دنيوية ، وسرتم في عبادة الأوثان ، من غير عقل ولا وعي ، ولا هدى ولا بصيرة.

وحيث بقيتم مصرّين على الشّرك ، ولم تفكّروا في ترك عبادة ما لا يضرّ ولا ينفع ، فإنكم تستحقّون التوبيخ والتهديد بالعقاب ، ولا أمل في هدايتكم إذا تركتم هداية الله لكم ، ومن الذي يرشدكم إلى الحق ، ويهديكم إلى الخير والسداد وصحة الاعتقاد ، إذا أمعنتم في الضلال ، واخترتم الكفر على الإيمان؟ وزادكم الله ضلالا على ضلالكم الذي اخترتموه منهاجا لكم ، واعتمدتم على أنفسكم ، فإنكم تستحقون العذاب ، ولا يكون لكم حينئذ ناصر ينصركم من بأس الله وعذابه ، لأن الله أعذر حين أنذركم. وعدله يقتضي التسوية بين أهل الضّلال ، كالتسوية بين أهل الإيمان ، والتفرقة بين الفريقين.

إن هذه الآية المبدوءة بكلمة (بَلِ اتَّبَعَ) هو إضراب عما يتضمّنه معنى الآية الأولى ، كأن الله يقول : لا حجة ولا معذرة لعبدة الأصنام في نسبتهم الشريك لله ،

١٠٠