التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٣

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٣

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0524-1
الصفحات: ٤٢٢

ثم توعّد إبراهيم عليه‌السلام كل كافر ، فإن كل الذين كفروا بدلائل وحدانية الله وقدرته وما أرسل به رسله ، وكفروا بالمعاد ، أولئك لا نصيب لهم من رحمة الله ، بسبب كفرهم ، ولهم عذاب مؤلم شديد.

موقف قوم إبراهيم من دعوته

لا ينتظر بعد تقديم إبراهيم الخليل مختلف الأدلّة على أصول دعوته من توحيد الله ، وإرسال الرّسل ، وبعث العباد أن نجد جوابا مقنعا لدى القوم الذين استبدّوا واستكبروا ، وبغوا وعاندوا ، واعتمدوا على التهديد والوعيد ، ولكن الله تعالى نجى إبراهيم من النار ، فأعاد الكرة عليهم بتوبيخهم على سوء الاعتقاد وعبادة الأصنام ، وتفرّق الصّف وتشتّت الأحوال يوم القيامة. ولما نجى إبراهيم من النار ، آمن به ابن أخيه لوط عليه‌السلام ، وأنعم الله على إبراهيم بإسحاق ويعقوب ، وبجعل النّبوة والكتب المنزلة في ذرّيّته ، وإيتاء أجره في الدنيا والآخرة ، قال الله تعالى مبيّنا هذه المفاجئات.

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧)) (١) (٢) [العنكبوت : ٢٩ / ٢٤ ـ ٢٧].

__________________

(١) للتّواد بينكم.

(٢) مكان إيوائكم النّار.

٦١

أخبر الله تعالى عن قوم إبراهيم أنه لما بيّن لهم الحجج ، وأوضح أمر الدين ، لم يجدوا جوابا مقنعا ، فلجئوا إلى المغالبة واستخدام القوة والبطش ، وتآمروا على قتله وتحريقه بالنار ، وأنفذوا أمر التّحريق ، فأنجاه الله تعالى من نارهم ، وجعلها عليه بردا وسلاما ، إن في ذلك الإنجاء لإبراهيم من النار لدلالة على وجود الله الحاضر ، وقدرته النافذة ، لقوم يصدّقون بالله إذا ظهرت لهم الأدلة والبراهين.

واستأنف إبراهيم عليه‌السلام دعوته لتوحيد الله وهجر عبادة الأصنام ، حتى بعد إلقائه في النار ، فقال لقومه موبّخا ومقرّعا : إنما اتّخذتم هذه الأصنام لتجتمعوا على عبادتها ، وتقيموا تجمّعا وديّا فيما بينكم في دار الدنيا ، كاتّفاق أهل الأهواء على الباطل والضلال ، ثم يقع التنازع والتّباعد بينكم في الآخرة ، فتنقلب صداقة الدنيا إلى عداوة وتباغض ، فيتبرأ القادة من الأتباع ، ويلعن الأتباع القادة ، ثم يكون مصير الفريقين إلى النار ، ولن يجدوا في الآخرة ناصرا ينصرهم ، ولا منقذا ينقذهم من عذاب الله تعالى ، فالكل يستوون في استحقاق العقاب ، لأن توادّ الكافرين كان مجافيا للحق والخير والتقوى ، قال الله تعالى : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزّخرف : ٤٣ / ٦٧].

هذا مع العلم بأن الوثن : ما اتّخذ من جصّ أو حجر ، والصّنم : ما كان من معدن.

وفي الزاوية الأخرى في مواجهة الكفر ، نجد أملا لا ينقطع ، ونورا لا يخبو ، فقد آمن بدعوة إبراهيم ابن أخيه لوط عليهما‌السلام ، وهاجر هو ولوط ، إلى بلاد الشام من أرض بابل ، وقال إبراهيم عليه‌السلام : إني مهاجر من دياركم ، متّجه إلى جهة أمرني بها ربّي ، فهاجر من سواد العراق إلى حرّان ، ثم اتّجه إلى ديار الشام ، فأقام إبراهيم في فلسطين في بلدة الخليل ، ونزل لوط بلدة سدوم.

وسبب هذه الهجرة : أن الله سينتقم من عبدة الأوثان ، فهو القوي الغالب القاهر

٦٢

في ملكه ، الذي يمنع أصفياءه من الأعداء ، وينصرهم عليهم ، الحكيم في تدبير شؤون خلقه ، فلا يأمر إلا بما فيه الصلاح والرشاد والخير. وهاتان الصفتان البليغتان (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تقتضيان استحقاق التوكّل على الله.

ومكافاة لإبراهيم على جهاده في تبليغ دعوته ، وإبطال الوثنية ، أنعم الله عليه بعد ترك قومه الوثنيين بنعم ثلاث :

الأولى ـ أن الله تعالى وهب إبراهيم في حال الكبر إسحاق بعد إسماعيل الذّبيح ، وكذا يعقوب بن إسحاق نافلة وفضلا ، فقد بشّر الله إبراهيم بإسحاق ، ثم بشّر بيعقوب من بعده ، كما جاء في آية أخرى : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) [الأنبياء : ٢١ / ٧٢].

والنعمة الثانية ـ هي جعل النبوة وكتب التوراة والزبور والإنجيل والقرآن ، في ذرّية إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، فكانت الأنبياء كلهم بعد إبراهيم من ذرّيّته ، ولم يوجد بعده نبي إلا من سلالته ، وكان إنزال الكتب السماوية على هؤلاء الأنبياء الذين هم من ذرّية إبراهيم ، وهم : موسى وعيسى وداود ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم.

والنعمة الثالثة ـ إيتاء إبراهيم عليه‌السلام أجره في حياته الدنيوية بحيث أدرك ذلك وسرّ به ، والأجر الذي آتاه الله تعالى : هو السّلامة من النار ، ومن الملك الجائر ، والعمل الصالح ، والثناء الحسن ، وأن كل أمة تحبّه وتتولاه ، قال عكرمة : أهل الملل كلها تدعيه وتقول : هو منّا.

ثم أخبر الله عنه : أنه في الآخرة في عداد الصالحين الذين نالوا رضوان الله تعالى ، وفازوا برحمته وكرامته العليا. فإن إبراهيم عليه‌السلام يحشر في الآخرة في زمرة الكاملين في الصلاح ، الذين لهم الدرجات العليا ، والمكانة الرفيعة الأسمى ، وكان بهذا قد جمع الله له بين سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.

٦٣

قصة لوط عليه‌السلام

اتّجه لوط عليه‌السلام بعد إيمانه وهجرته مع إبراهيم من العراق إلى بلدة سدوم في غور الأردن ، بأمر الله إياه ، من أجل دعوة أهلها إلى توحيد الله ، وترك الفواحش ، ومحاربة الفساد ، وقطع الطريق على المارّة ، وإتيان المنكر ، وكان في دعوته جريئا قويا ، مجاهرا صامدا ، لا يفتأ يحذّر وينذر ، ويوجّه ويصلح ، ولكن القوم الفاسقين غلب عليهم حبّ الفاحشة والمنكر ، فلم يستجيبوا لدعوته ، وقاوموه وحاولوا طرده ، وإبعاده من ديارهم ، علما بأن لوطا عليه‌السلام ليس من هؤلاء القوم ، قال الله تعالى واصفا دعوة لوط عليه‌السلام :

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) [العنكبوت : ٢٩ / ٢٨ ـ ٣٥].

المعنى : واذكر أيها النّبي لوطا وقصّته مع قومه ، حين أرسله الله إلى أهل قرية

__________________

(١) مقرّ الاجتماع.

(٢) اعتراه الغمّ بمجيئهم خوفا عليهم.

(٣) ضعف عن تدبير خلاصهم.

(٤) الباقين في العذاب.

(٥) عذابا شديدا.

٦٤

(سدوم) فأنكر عليهم فعلهم ، وقال لهم محذّرا ومنذرا : أتأتون الفاحشة ، ما سبقكم بها أحد قبلكم من الناس؟ والفاحشة : إتيان الرجال في الأدبار ، وهي معصية ابتدعها قوم لوط.

ثم أكّد لوط الإنكار على جميع أفعالهم القبيحة وهي :

ـ كيف تأتون الذكران بشهوة من دون النساء؟ فهذا شذوذ في الطبع ودمار لكم.

ـ ولم تقطعون الطريق على المارّة ، وتتعرّضون لهم بالقتل وأخذ المال والإكراه على الفاحشة؟

ـ ولماذا ترتكبون في ناديكم أو مجلسكم العام والخاص ما لا يليق بكم من الأقوال والأفعال ، من صبغ الأصابع بالحناء ، والصفير ، وخذف الحصا ، ولعب الحمام ، والتّضارط ، ونبذ الحياء في كل أموركم.

فلما صارحهم لوط ونبّههم على ترك هذه القبائح ، رجعوا إلى التكذيب واللجاج والعناد ، وقالوا : عجّل علينا العذاب الذي توعدنا به إن كنت صادقا فيما تهددنا به ، فإن ذلك لا يكون ، ولا تقدر عليه ، وهم لم يقولوا هذا إلّا وهم مصمّمون على اعتقاد كذبه.

فقال لوط داعيا على هؤلاء القوم المفسدين مستنصرا بربّه : يا ربّ ، انصرني على هؤلاء القوم المفسدين في الأرض ، بابتداع الفاحشة. ولم يصدر منه هذا الدعاء إلا بعد يأسه من صلاحهم ، فبعث الله عليهم ملائكة لعذابهم.

ولما جاءت الملائكة رسل العذاب ، مرّوا على إبراهيم عليه‌السلام في هيئة أضياف ، فبشّروه بولد صالح من امرأته (سارّة) وهو إسحاق ومن ورائه يعقوب ، أي حفيده ، ثم أخبروه بأنهم أرسلوا لهلاك قوم لوط عليه‌السلام ، لأنهم قوم ظلموا

٦٥

أنفسهم بكفرهم وتكذيبهم رسولهم ، وتماديهم في الضلال والفساد. ولفظ البشرى في هذه الآية تتضمن أمر إسحاق ، ونصرة لوط عليهما‌السلام.

فلما أخبروا إبراهيم بإهلاك قرى قوم لوط على ظلمهم ، أشفق إبراهيم عليه‌السلام على لوط عليه‌السلام ، فسأل عن مصير لوط وهو رسول ، وغير ظالم ، فقالت الملائكة الرسل : نحن أعلم منك بمن في البلد من المؤمنين والكافرين ، وإنا لننجي لوطا وأهله ، وأتباعه المؤمنين به من الهلاك إلّا امرأته ، فهي من الهالكين الباقين في العذاب.

ولما جاءت الملائكة إلى لوط عليه‌السلام على صورة بشر حسان الوجوه ، اغتم بأمرهم ، وخاف عليهم من فساد قومه ، وضاق ذرعا بهم ، أي قصرت طاقته أو قدرته ، حفاظا عليهم وحياء منهم ، فقالوا له مطمئنين : لا تخف علينا ، ولا تحزن بما نفعله بقومك الأخباث ، وإنا منجّوك وأتباعك المؤمنين من العذاب إلّا امرأتك ، فهي من الباقين في العذاب. وصفة هذا العذاب : أننا سننزل على أهل بلاد سدوم عذابا شديدا من السماء ، بسبب فسقهم وعصيانهم ، وكان العذاب زلزالا خسف بهم الأرض ، وقلب ديارهم عاليها سافلها.

ولقد تركنا من البلدة بعض آثار منازلهم الخربة أو بعض أخبارهم آية : علامة ظاهرة واضحة ، وعبرة لقوم يتدبرون الأمور بعقولهم الرشيدة ، ويتبصرون بمصائر المجرمين الذين كذبوا رسولهم.

قصص أقوام مدين وعاد وثمود وفرعون

استبدّ الانحراف والفساد بأقوام سابقين ، فانحرفوا عن عبادة الله تعالى وأنكروا الآخرة ، وعاثوا في الأرض فسادا ، وكذبوا رسلهم ، وهم قبائل مدين وعاد وثمود ، وأشخاص قارون وفرعون وهامان وأتباعهم ، فاستحقوا بمقتضى قانون العدالة

٦٦

وتطهير الأرض من مفاسدهم ألوانا تتناسب مع جرائمهم ، إما بالرّجفة أي الزّلزلة ، وإما بالرّيح الحاصب ، وإما بالصيحة : الصرخة الشديدة المدمرة ، وإما بالخسف أو التدمير ، وإما بالإغراق ، وغير ذلك ، مما استحقوه بسبب ظلمهم وتجاوز الحدّ بالبغي والعناد ، وهذا ما دوّنه القرآن الكريم عبرة لقريش وأمثالهم ، فقال الله تعالى :

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) (٧) [العنكبوت : ٢٩ / ٣٦ ـ ٤٠].

هذه لمحة سريعة من صواعق أو عناقيد الغضب الإلهي على أقوام عتاة ، بلغوا الذروة في الكفر والفساد والظلم ، فجوزوا بأشد العقاب. وهم قبيلة مدين شمال خليج العقبة ، وأصحاب الأيكة غيرهم ، أرسل الله إليهم النّبي شعيبا عليه‌السلام ، فأمرهم بعبادة الله تعالى ، والإيمان بالبعث واليوم الآخر ، والخوف من بأس الله وعذابه ، ونهاهم عن الفساد في الأرض وعن إنقاص الكيل والميزان ، فقابلوه بالهزء والتكذيب ، والإصرار على الكفر والعصيان ، فأهلكهم الله بالرّجفة : وهي الزّلزلة العظيمة ، فأصبحوا جثثا هامدة ، ودمّر الله ديارهم. وهذا نحو من الخسف.

__________________

(١) لا تفسدوا إفسادا شديدا.

(٢) الزلزلة الشديدة بالصيحة.

(٣) ميتين بلا حركة.

(٤) طالبين التّبصر والتّعقل والتّدبر.

(٥) فائتين عذاب الله.

(٦) ريحا شديدة ترميهم بالحصباء.

(٧) صوت مهلك من السماء.

٦٧

واذكر أيها النّبي عادا وثمود ، أما قبيلة عاد فكانوا يسكنون الأحقاف قرب حضرموت في بلاد اليمن ، أرسل الله إليهم هودا عليه‌السلام ، فنصحهم وأنذرهم ، فلم يصدّقوه وآذوه ، فأرسل الله عليهم ريحا صرصرا ، دمّرت ديارهم وأبادتهم.

وأما قبيلة ثمود : فكانوا يسكنون في الحجر قريبا من وادي القرى ، بين الحجاز والشام ، وما تزال مدائنهم ظاهرة إلى اليوم ، أرسل الله إليهم النّبي صالحا عليه‌السلام ، فدعاهم مثل هود عليه‌السلام إلى عبادة الله وحده ، فلم يستجيبوا ، وزيّن لهم الشيطان أعمالا سيئة ، فكفروا بالله تعالى ، واجترحوا السيئات ، ومنعوا الناس عن الدّين الحقّ والطريق القويم ، وكانوا أهل عقل وبصيرة ، لكنهم لم يؤمنوا بربّهم ، ولم ينتفعوا بطاقات فكرهم وقلوبهم ، فعاقبهم الله ، وأهلكهم بالطاغية أو الصيحة الشديدة ، وبادوا ، وبقيت آثار ديارهم عبرة لكل مارّ عليها.

وأهلك الله تعالى قارون بالخسف وتدمير دياره ، وفرعون وهامان وزيره بالإغراق في البحر الأحمر ، وقد أرسل الله لهم موسى عليه‌السلام ، فدعاهم إلى توحيد الله عزوجل وترك عبادة الأوثان ، وأتاهم بالآيات الواضحات والمعجزات الظاهرة كالعصا التي تنقلب حيّة عظيمة ، واليد التي يدخلها في فتحة قميصه ، فتصير ذات إشعاع كالشمس أو القمر ، فاستكبروا عن الطاعة لله وعبادته ، ولم يكونوا مفلتين من العذاب والأخذ ، ولا قادرين على الهرب من العقاب ، بل أدركهم أمر الله تعالى وبطشه ، وصاروا عبرة للمعتبر ، وعظة لكل ناظر.

إن هؤلاء الأقوام جوزوا بما يناسبهم من ألوان العذاب ، وكانت عقوباتهم إما بالريح العاصفة كقوم عاد التي دمرتهم ، وإما بالصيحة أو الرّجفة كقوم ثمود وقوم لوط ، وإما بالخسف كقارون الطاغية ، وإما بالإغراق في البحر كفرعون المتألّه الجبّار ، ووزيره هامان الماكر ، كل عقوبة تطابق ألوان الظلم الصادرة من أصحابها ،

٦٨

وما كان لله العادل عدلا مطلقا أن يظلمهم أبدا فيما فعل بهم ، ولكنه سبحانه أهلكهم بذنوبهم ، وبظلمهم أنفسهم ، بكفرهم بربّهم وإنكار وجوده أو نسبة الشركاء له ، أو ادّعاء الألوهية.

إن هذا الجزاء والدّمار عبرة وعظة لأهل مكة وأمثالهم ، ممن ولجوا في العصيان والكفر والشّرك ، وتكذيب الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي للتاريخ مثل مثير ، وتذكير للمعتبرين.

حال عبدة الأصنام

عجيب أمر عباد الأصنام ، وغريب ما تفكر به عقولهم ، ولا أجد مسوغا لهم في عبادتهم الأصنام إلّا محض التقليد الأعمى ، فإنهم يبنون في فراغ ، ويعملون في الهواء بدون ثبات ، لذا شبّه القرآن حالهم في عبادتهم الأصنام وبنائهم جميع أمورهم على ذلك ، بالعنكبوت التي تبني وتجتهد ، فإن بناءها ضعيف ، يتبدّد متى مسّته أدنى هامّة (وهي المخوف من الأحناش) أو دهمته نملة ، وكذلك أمر هؤلاء وسعيهم مضمحل ، لا قوة له ولا معتمد ، وكرّر القرآن الكريم في مناسبات مختلفة أن هذه العبادة من الوثنيين لا تنفعهم شيئا ، وإذا تركوها لا يصيبهم ضرر ، فكيف يليق بهم ترك عبادة الله القادر ، والتوجه نحو هذه الأحجار والأوثان؟! وتكون فائدة ضرب الأمثال في القرآن ، لتقريب الأشياء إلى العقول والأفهام ، كما ذكر الحقّ سبحانه في هذه الآيات الشريفة ، قال الله تعالى :

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ (١)

__________________

(١) حشرة معروفة تصنع بيتها بشبكة واهية.

٦٩

دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣)) [العنكبوت : ٢٩ / ٤١ ـ ٤٣].

المعنى : إن فعل المشركين أو صفتهم في تأليه الأصنام وعبادتها من دون الله ، أملا في نصرتهم ونفعهم ، ودفع الضّر عنهم ، كصفة العنكبوت في ضعفها ، تتخذ لنفسها بيتا لحمايتها من الأذى ، ولكنه لا يفيدها شيئا ، فإنه سرعان ما يتبدّد بالريح أو بالحشرات المداهمة. فكذلك هؤلاء المشركون لا تفيدهم الأصنام شيئا ، ولا تدفع عنهم شرّا ، وتضيع جهودهم لوضعها في غير موضعها ، فهم في عملهم في غاية الضعف ، مثل بيوت العناكب التي هي أضعف شيء وأوهاه ، يخرّب بأدنى شيء ولا أثر له ، فكذلك أعمالهم لا أثر لها ، فلو كانوا يعلمون أدنى علم أن عبادة الأصنام لا تنفع ، ما فعلوا ذلك ، ولأقلعوا عما يعملون ، لكنهم في الواقع جهلة أغبياء ، لا يعلمون أن هذا مثلهم ، وأن حالهم ونسبتهم للحق كهذه الحالة.

ثم توالى تأكيد الله تعالى انعدام فائدة تلك المعبودات ، فذكر أن الله سبحانه يعلم أن الذي يعبده الوثنيون من الأصنام أو غيرها من الجنّ والإنس والكواكب ليس بشيء ولا فائدة فيه ، وإنما المعبود بحق : هو الله القوي الغالب القاهر ، الكبير المنتقم من الكفرة ، المشركين مع عبادته إلها آخر ، الحكيم في صنعه وتدبير خلقه ، يعلم ما هم عليه من الأعمال ، وسيجزيهم وصفهم ، فإنه سبحانه يعلم حالهم ، وأنه لا قدر لعملهم ، ولا قدر لما يعبدونه.

ثم ذكر الله تعالى الفائدة الملموسة من ضرب الأمثال والأشباه ، وهي أن الأمثال القرآنية والتشبيهات الحسّية التي يعقدها ويصوّرها الله تعالى ، إنما هي لتقريب الأشياء لأفهام الناس ، وتوضيح ما التبس عليهم ، ولكن لا يعقلها ويتدبّر معناها ، ويدرك المراد منها إلّا أهل العلم والمعرفة ، الذين يتجرّدون من العصبية والتقليد ،

٧٠

ويتأمّلون في مدلولات الأشياء. فإن قرين الشيء وشبيهه يوضح الأمر ، ويجلي الحقيقة. قال جابر ، قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (إِلَّا الْعالِمُونَ) : «العاقل : من عقل عن الله تعالى ، وعمل بطاعته ، وانتهى عن معصيته».

ومما يؤسف حقّا أن ينزل مستوى الفكر الإنساني لهذه الدرجة من الدّنو ، فإن عبادة الأصنام مجرد أسطورة أو خرافة ، ومحض وهم وخطأ. ومما يزيد في الأسف أنه ما تزال هذه العبادة قائمة في زمننا في بعض البلاد الإفريقية كجنوب السودان وغيره ، فإن هؤلاء البدائيين ، قد يذهبون لنيل أعلى الشهادات العلمية من أوربا وأمريكا ، ثم إذا عادوا لبلادهم ، عادوا لتعظيم الأحجار والأصنام ، وكأن العقل العلمي غير العقل الديني ، وأن العلوم العصرية الحديثة لا تفيدهم شيئا في الإقلاع عن عادات وسطهم الديني ، وبيئتهم الحياتية القائمة ، كما حدثني بعض الأفارقة.

عظمة الخلق الإلهي والبيان التشريعي

إن أدنى تأمّل في هذا الكون الرّحب ، من السماء والأرض والمخلوقات العجيبة فيهما ، يرشد الإنسان الحائر إلى العقيدة الحقّة والإيمان الصائب ، وإلى العبادة الصحيحة في أسلوبها وجوهرها وغايتها ، وتزداد العقيدة تأصّلا وتألّقا وثباتا بتلاوة القرآن العظيم الدّال على أن رسل الله الكرام أقاموا الأدلة الكافية على الإيمان بالله تعالى ، وعلى توحيده ، ووجوب عبادته ، وإن أعرض بعض أقوامهم عن دعواتهم ، ولم يقلعوا عن عاداتهم الذميمة. وسبيل عقد الصلة بالله تعالى ، وإدراك لذّة مناجاته ، وحلاوة مناداته : إنما هو بأداء الصلاة التي تنهى صاحبها إن أدّاها بحق عن كل ألوان الفحشاء والمنكر ، الذي ينكره الشّرع والعقل ، ومن ذكر ربّه ذكره الله بإفاضة الهدى ونور العلم عليه. وهذا ما أبانته الآيات الكريمة الآتية ، قال الله تعالى :

٧١

(خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥)) [العنكبوت : ٢٩ / ٤٤ ـ ٤٥].

الأسلوب القرآني الرائع يعتمد على ضرب الأمثال والتشبيهات بالأمور الحسّية المشاهدة ، كما يعتمد على المقارنة أو الموازنة بين الأشياء ليظهر الحقّ ، ويبطل الباطل ، وتستقر المعلومات والمعارف في الذهن الإنساني ، ومن هذه التشبيهات البليغة كما تقدم : تشبيه عبادة الأصنام ببناء بيوت العناكب ، ومن هذه المقارنات اللطيفة : بيان كون خلق السماوات والأرض وما فيهما من كمال وجمال وعظمة ، مما يرشد الذهن أو العقل إلى صغر قدر الأوثان وحقارتها ، وصغر كل معبود من دون الله تعالى.

لقد أبدع الله السماوات والأرض بالحق ، أي بالواجب النّيّر الثابت ، لا للعبث واللعب ، بل ليدلّ على قدرته العظيمة وسلطانه الشامل ، ويثبّت شرائعه ، ويضع الدلائل لأهلها ، ويعمّ المنافع. إن في هذا الخلق والإبداع لدلالة واضحة على أن الله تعالى هو المتفرّد بالخلق والتدبير والألوهية ، وعلى وجوب التوجّه بالعبادة إليه وحده لا شريك له ، وعلى ضرورة إعزاز الإنسان وتكريمه ، لئلا يعبد مثله أو من دونه ، أو ما لا يفيده شيئا.

ولكن لا ينتفع بهذه الأدلة والبراهين ، ولا يدرك أسرار الخلق والإبداع الإلهي إلا المؤمنون المصدّقون بالله ورسوله ، لأنهم يستدلّون بآثار الخلق على وجود الخالق المؤثر فيها ، وأنه يستحيل على غير الإله المعبود بحقّ أن يكون له إسهام فيها ، أو تطلّع إلى ادّعاء شيء من خصائصها وميزاتها الباهرة ، فذلك ما لا يستطيعه.

وإذا كان الإله هو خالق السماوات والأرض فإنه تجب العبادة له ، وحده ،

٧٢

خالصة نقية من أي شائبة ، لذا أمر الله تعالى رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكل مؤمن بأمرين مهمّين يحقّقان العبودية لله ، ويوجّهان إلى صحة العبادة ، وضرورة الخضوع لأمر الله ، وهذان الأمران المهمّان :

أولهما ـ تلاوة القرآن الكريم وحي الله عزوجل لنبيّه وأمّته ، فإن القرآن إمام ونور ، وهدى ورحمة ، وشفاء لما في الصدور ، ونجاة لمن اتّبعه ، وحصن لمن اعتصم به ، وعلاج للمحن والأزمات ، وتعليم لشؤون الحياة كلها.

والأمر الثاني ـ إقامة الصلاة بأدائها تامة الأركان والشرائط ، وإدامتها في قلب خاشع ، وعقل متدبر ، ولسان ذاكر ، وإشراقة نفس ، واستحضار عظمة المعبود ، وللصلاة فوائد شخصية واجتماعية كثيرة ، فهي تنهى عن ارتكاب الفواحش والمنكرات ، وفيها ذكر الله المهيمن على كل شيء في السّرّ والعلن ، وإدامة الذّكر وترطيب اللسان به يشعر المصلي بكمال عظمة الله ، وذكر الله أكبر من كل شيء في هذا العالم على الإطلاق ، فالله هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر ، وجزء الذكر الذي في الصلاة : إنما هو الذي ينهى بالفعل ، لأن الانتهاء لا يكون إلّا من ذاكر لله مراقب له ، وثواب هذا الذكر : أن يذكر الله تعالى عبده المصلي ، كما جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه : «من ذكرني في نفسه ، ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ، ذكرته في ملأ خير منهم».

والذكر النافع : إنما هو مع العلم بالله تعالى ، وإقبال القلب وتفرّغه إلّا من الله تعالى. وذكر الله تعالى للعبد : هو إفاضة الهدى ونور العلم عليه. والله عليم بما تصنعون من خير أو شرّ ، يعلم بكل قول وفعل ، وذلك نوع من التّوعّد على ترك الصلاة وذكر الله ، وحثّ على مراقبة الله على الدوام.

٧٣

مجادلة أهل الكتاب

إن تحقيق الأغراض أو الأهداف المنشودة يتطلب حكمة معينة ومهارة فائقة ، وذكاء وحصافة ، وتخطيطا ودراسة ، وإن دعوة غير المسلمين للإسلام ومحاولة إدخالهم في دين الله ، من أدقّ الأشياء وأعسرها ، لأن توارث العصبيات والأحقاد القديمة ، يحجب غالبا رؤية الحقيقة الناصعة ، ولأن دوام العقيدة أو غرسها ، يتطلب قناعة راسخة ، وبرهانا واضحا ينسجم مع العقل والمنطق ، ومقتضى العلم والمعرفة ، لذا كان توجيه القرآن الكريم في شأن جدال أهل الكتاب يتفق مع هذه المسلّمات ، ويأمر باستعمال الكلمة الحسنى ، والخصلة الخلقية التي هي أحسن ، قال الله تعالى مبيّنا منهاجه في الدعوة إلى الإسلام :

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩)) [العنكبوت : ٢٩ / ٤٦ ـ ٤٩].

هذه هي طريقة إرشاد الكتابيين إلى الإسلام ، تلتزم أصول المنهج التالي :

أولا ـ الجدال بالتي هي أحسن : ينهانا القرآن الكريم أن نجادل أهل الكتاب (اليهود والنصارى) إلّا بالطريقة الحسنة ، وبالأسلوب الأحسن ، فإنهم قوم يؤمنون بوجود الله واليوم الآخر ، ويصدّقون بما أنزل على موسى وعيسى عليهما‌السلام من الكتب السماوية ، فكانوا أولى الناس بالالتقاء على هدي الإسلام الذي ضمّ الأديان كلها ، والإيمان بخاتم الأنبياء.

٧٤

لكن الذين ظلموا أنفسهم ، وعادوا للحقّ ، وتركوا سبيل الحجة الواضحة ، ولم يستعملوا منطق العقل المجرد البعيد عن العصبية والهوى ، فإنهم ميئوس من إرشادهم وإصلاحهم ، وهم من بقي على كفره منهم.

ثانيا ـ الإيمان بأصول الأديان : يأمرنا القرآن المجيد أيضا أن نعلن إيماننا برسالة الإسلام الشاملة التي تعني الخضوع لله تعالى ، وبأن الإله إله الجميع ، إلهنا وإلهكم واحد ، لا شريك له ، وإيماننا بما أنزل إلينا من القرآن ، وإليكم من التوراة والإنجيل في أصلهما المنزّلين ، ونحن عابدون خاضعون لله ، مطيعون أوامره ، مجتنبين نواهيه.

ثالثا ـ إنزال الكتب على الجميع : مثل إنزال الله الكتب على من قبلك من الرسل أيها الرسول النّبي ، إنزال القرآن إليك ، فالذين جاءهم الكتاب السابق من اليهود والنصارى إذا نظروا وتأمّلوا بحق يؤمنون بالقرآن الكريم ، ومنهم من آمن به بالفعل ، كعبد الله بن سلام اليهودي الأصل ، وسلمان الفارسي المتنصر المعروف بسلمان الخير ، ونحوهما ، وما يكذّب بآيات الله ويجحد بمضمونها إلّا الذين أوغلوا في قيعان الكفر وركنوا إليه.

رابعا ـ أمّية النّبي : ولم تكن أيها النّبي قبل النّبوة تقرأ شيئا من الكتب ، ولا تعرف الكتابة ولا القراءة ، ولا تستطيع أن تخطّ سطرا من الكتاب بيمينك ، فأنت خالي الذهن ، لم تتشرب بشيء سابق ، ولو كنت قارئا وكاتبا ، لشكّ المشركون الجهلة فيما نزّل إليك ، وادّعوا أنه مأخوذ من كتب سابقة ، وإذ لم تكن كاتبا ولا قارئا ولا سبيل لك إلى التّعلم ، فلا وجه لارتياب كل من عاداك ، فأهل الباطل هم المتمسكون بالضلالات الموروثة ، والانحرافات الشائعة.

خامسا ـ القرآن منزل من عند الله تعالى : بل إن هذا القرآن آيات واضحات الدلالة على الحقّ ، وذلك أمر مستقر في قلوب العلماء من أهل الكتاب وغيرهم ،

٧٥

ولكن ما ينكر وما يكذب بآيات الله النّيّرة ويبخسها حقّها ، ويردّها إلّا أهل الظلم ، وهم المعتدون المكابرون المعاندون ، الذين يعلمون الحقّ ويحيدون عنه ، كما جاء في آية أخرى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ١٠ / ٩٦ ـ ٩٧]. إن أصول الجدل العلمي الصحيحة ، تميّز بها القرآن الكريم ، ولم تكن آياته وإرشاداته إلّا منارة للحق ، وسبيلا قويما لمعرفة الإيمان الحقّ ، واتّباع رسالة الحقّ.

المطالب التعجيزية للمشركين وأشياعهم

آثر المشركون في صدر الدعوة الإسلامية وحين نزول الوحي الإلهي أن يظلّوا على شركهم وعنادهم ، فلم يصغوا لنداء المنطق ، ولم يستجيبوا بإمعان لدعوة الحق ورسالة الإنقاذ ، وآزرهم في هذا الموقف بعض اليهود الذين كانوا يعلّمون قريشا هذه الحجة وهي : لم يأتكم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمثل ما جاء به موسى من العصا وغيرها ، فطالبوا بمعجزات مادّية محسوسة ، ولم يكتفوا بإنزال القرآن الكريم المعجزة الأبدية الخالدة ، وزادوا في غيّهم ، فاستعجلوا العذاب الذي أوعدهم به القرآن والنّبي عليه الصّلاة والسّلام ، ولم يدروا أن العذاب الأكبر في نار جهنم سيحيط بهم إحاطة تامّة ، قال الله تعالى واصفا هذا الموقف الوثني ومن يؤيّده :

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢)

٧٦

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥)) (١) (٢) [العنكبوت : ٢٩ / ٥٠ ـ ٥٥].

قالت قريش وبعض اليهود تعنّتا وتعجيزا : هلا أنزل على محمد آية حسّية مادّية ، كآيات الأنبياء المتقدّمين ، مثل ناقة صالح ، وعصا موسى ، ومائدة عيسى عليهم‌السلام ، لإثبات صدقه وأنه رسول الله؟!

فأجابهم القرآن الكريم في قوله تعالى آمرا نبيّه عليه الصّلاة والسّلام أن يعلمهم أن هذا الأمر بيد الله تعالى ، لا يستنزله الاقتراح والتّمنّي ، وأن النّبي بعث نذيرا ، ولم يؤمر بغير ذلك ، فليقفوا عند حدود الأدب والطاقة.

أو ليس يكفيهم دليلا على صدق نبوّتك يا محمد إنزال القرآن المجيد عليك ، والذي هو أعظم الآيات ، وهو المعجز للجنّ والإنس ، ويتلى عليهم آناء الليل وأطراف النهار ، وفيه أخبار الماضين ، وعظة اللاحقين ، وإنذار الآتين في المستقبل ، وفي ذلك الكتاب من الرحمة والذكرى الكافية للمؤمنين.

حكى الطبري وغيره : أن هذه الآية : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ ..) نزلت بسبب قوم من المؤمنين أتوا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتب ، قد كتبوا فيها بعض ما يقول اليهود الذين أخبروهم بشيء من التوراة ، فأنكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ، قال : «كفى بهذا ضلالة ، قوم رغبوا عما أتاهم به نبيّهم ، إلى ما أتى به غيره». ونزلت الآية بسببه. قال ابن عطية : والتأويل الأول أجرى مع نسق الآيات ، أي إنهم طلبوا آية بحسب مزاجهم ، فأجابهم الله بأن القرآن أعظم الآيات.

__________________

(١) فجأة.

(٢) يحيط بهم.

٧٧

ثم أمر الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاستناد إلى أمر الله تعالى ، وأن يجعله حسبه أو كفايته شاهدا وحاكما بينه وبينهم ، بعلمه وتحصيله جميع أمورهم.

إنه تعالى لا تخفى عليه خافية ، يعلم جميع ما هو كائن ويكون في السماوات والأرض ، ويعلم الذين آمنوا بالباطل : وهو عبادة الأوثان والأصنام من دون الله ، وجحدوا بوجود الله أو توحيده ، مع توافر الأدلة على الإيمان به ، أولئك لا غيرهم هم الخاسرون في صفقتهم ، حيث اشتروا الكفر بالإيمان ، وسيجازيهم الله تعالى في القيامة على ما فعلوا.

ثم أخبر الله تعالى عن لون آخر من جهل المشركين وحماقتهم ، وهم كفار قريش الذين يتعجلون نزول العذاب بهم ، على جهة التعجيز والتكذيب ، وهو العذاب الذي توعدهم به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولولا كون العذاب محددا بوقت معلوم ، لأتاهم من حيث لا يشعرون ، ولسوف يأتيهم فجأة ، وهم لا يحسّون بمجيئه ، بل يكونون في غفلة عنه.

إنهم يتعجلون العذاب ، والعذاب الأكبر واقع بهم حتما ، وهو عذاب جهنم الذي يحيط بهم وبأمثالهم من كل جانب ، وهذا توعّد بعذاب الآخرة.

وصفة تعميم العذاب : أنه يحيط بهم من كل جانب ، ويغطّيهم من كل جهة من جهاتهم ، ويقول الله تعالى على سبيل التوبيخ والتقريع : ذوقوا جزاء ما كنتم تعملون في الدنيا من الكفر والمعاصي. ويشبّه العذاب بالذوق تهكّما وتبكيتا ، كما في قوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدّخان : ٤٤ / ٤٩].

الهجرة عند تعطيل الشعائر

يريد الله تعالى أن يستمرّ تدفّق ذكره ومناجاته وعبادته وإعلان توحيده والالتزام بشريعة القرآن الكريم والنّبي العدنان ، في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة ، ليتصل

٧٨

نداء الحق ، وتستمر الصّلة الإلهية قوية بالبشر ، يؤدي كل جيل ما عليه من واجبات الطاعة والاستقامة ، وأداء الأعمال الصالحة التي تؤدي إلى مرضاة الله عزوجل ، والاستقرار في دار المجد والسلام والخلود وهي دار الجنة. وهذا كله تفضّل من الله تعالى بتوجيه البشر لما فيه خيرهم ، وترك ما فيه شرّهم وضررهم ، وهذا ما رسمته لنا الآيات بالمبادرة بالهجرة من ديار الكفر إذا تعذّر على المسلم إقامة شعائر دينه ، إلى ديار الإسلام ، قال الله تعالى :

(يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠)) (١) (٢) (٣) [العنكبوت : ٢٩ / ٥٦ ـ ٦٠].

الآية الأولى : (يا عِبادِيَ) نزلت في ضعفاء مسلمي مكة ، كانوا في ضيق من إظهار الإسلام بها.

وهي تحرّض المؤمنين الذين كانوا بمكة على الهجرة ، فأخبرهم الله تعالى بسعة أرضه ، وأن البقاء في أرض فيها أذى الكفار ليس بصواب ، بل الصواب أن تلتمس عبادة الله تعالى في أرضه. فيا أيها العباد المصدّقون بالله ورسوله ، إن أرض الله واسعة غير ضيّقة ، يمكنكم الإقامة في أي موضع منها ، فإذا تعذّرت عليكم إقامة شعائر الدين ، بسبب أذى الكفار ، فهاجروا إلى مكان آخر ، تتوافر لكم فيه الحرية والطمأنينة في إقامة شعائر الله ، وما عليكم إلّا متابعة عبادة الله وحده دون غيره ،

__________________

(١) لننزلنّهم.

(٢) منازل رفيعة.

(٣) كثير من الدّوابّ.

٧٩

وقوله تعالى : (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) إياي : منصوب بفعل مقدر يدلّ عليه الظاهر ، تقديره : فإياي اعبدوا فاعبدون ، على الاهتمام أيضا في التقدير.

ولا خوف من الهجرة والانتقال في البلاد ، فإن الموت كائن لا محالة لكل نفس ، في كل مكان ، ثم إلى الله المرجع والمآب ، أي إن المكروه لا بد من وقوعه ، في داخل الوطن أو خارجه. وهذه الآية (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ..) تحقير لأمر الدنيا ومخاوفها ، من أجل أن بعض المؤمنين تخوّف في حال خروجه من وطنه أن يموت أو يجوع ونحو هذا ، فحقّر الله تعالى شأن الدنيا ، والمراد : أنتم لا محالة ميتون ، ومحشورون إلى الله تبارك وتعالى ، فالبدار إلى طاعة الله تعالى والهجرة إليه أولى بالامتثال.

ثم وعد الله المؤمنين العاملين بسكنى الجنة ، تحريضا منه تعالى ، وذكر الجزاء الذي ينالونه ، فالذين صدقوا بالله ورسوله ، وعملوا صالح الأعمال بالتزام أوامر الله واجتناب نواهيه ، لينزلنّهم الله منازل عالية في جنات ، تجري الأنهار من تحت أشجارها ، على اختلاف أصنافها من ماء وخمر غير مسكرة ، وعسل مصفى ، ولبن ، ماكثين فيها أبدا على الدوام ، جزاء لهم على أعمالهم الطيّبة ، نعم هذا الجزاء جزاء العاملين المخلصين.

ثم وصف الله تعالى العاملين بالصبر على أداء الطاعات وعن الشهوات ، والتوكّل على الله وتفويض الأمور إليه في جميع أحوالهم الدنيوية والأخروية ، والصبر والتوكّل يجمعان الخير كله.

والذي يعين على الهجرة ويحرّض عليها ضمان الله أرزاق العباد ، لأن بعض المؤمنين فكّر في الفقر والجوع الذي يلحقه في الهجرة ، فأبان الله تعالى أن الرزق مكفول بيد الله لكل مخلوق ، فكم من دابّة (كل ما يدبّ على الأرض) لا تطيق حمل

٨٠