التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٣

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٣

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0524-1
الصفحات: ٤٢٢

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨)) (١) (٢) (٣) (٤) [القصص : ٢٨ / ٧٦ ـ ٧٨].

كان قارون الثّري المترف ابن عم موسى عليه‌السلام ، وهو رجل من بني إسرائيل ، كان ممن آمن بموسى ، وحفظ التّوراة ، وكان من أقرأ الناس لها ، وكان عند موسى عليه‌السلام من عبّاد المؤمنين ، ثم لحقه الزهوّ والإعجاب ، فبغى على قومه بأنواع البغي ، من ذلك كفره بموسى واستخفافه به ، ومطالبته له بأن يجعل له شيئا من المكانة والنفوذ والمشاركة في شؤون السلطة على الناس ، وتجاوز الحدّ في بغيه ، حتى إنه حاول التشهير بموسى ، بامرأة مومس فاجرة ذات جمال ، تدّعي أمام الملأ من بني إسرائيل أن موسى يتعرض لها في نفسها ، ويكافئها على ذلك ، وتستنجد به ، فلما وقفت بين الملأ ، أحدث الله لها توبة ، وفضحت قارون في محاولاته تلك. وقد آتى الله قارون أموالا نقدية وعينية كثيرة ، يثقل بحمل مفاتيح خزائنها الجماعة أولو البأس والقوة ، فنصحه الناس بخمس مواعظ :

ـ قال له قومه الإسرائيليون : لا تبطر ولا تتبختر بمالك ، فإن الله يكره البطرين الأشرين. إنهم نهوه عن الفرح المطغي الذي هو انهماك وانحلال نفس ، وأشر وإعجاب ، مؤدّ به إلى المهالك.

ـ ثم وصّوه بأن يطلب بماله رضا الله وآخرته ، وإنفاق بعض المال في وجوه الخير

__________________

(١) ظلمهم.

(٢) لتثقل الجماعة الكثيرة.

(٣) لا تبطر بكثرة المال.

(٤) من الأمم.

٤١

وطاعة الله ، ونفع الأمة أو المجتمع ، والتقرّب إلى الله بأنواع القربات المحققة للثواب في الدار الآخرة ، لأن الدنيا لا تغني شيئا.

ـ ولم يقطعوه عن الدنيا ، فقالوا له : لا تترك حظّك من لذّات الدنيا المباحة ، من المآكل والمشارب ، والملابس والمساكن وغيرها ، لكن لا تضيّع عمرك في ألا تعمل عملا صالحا في دنياك ، إذ الآخرة إنما يعمل لها في الدنيا ، فنصيب الإنسان : عمره وعمله الصالح ، فينبغي ألا تهمله ، وطلب الحلال مشروع ، مع النظر إلى عاقبة الدنيا.

ـ وأحسن إلى الخلق كما أحسن الله إليك باللّين والمعاملة الحسنة وتحسين السمعة وحسن اللقاء ، وفي ذلك جمع بين خصلتي الإحسان : الإحسان الأدبي الرفيع ، والإحسان المادّي المقبول ، وهذا أمر بصلة المساكين وذوي الحاجة وإتقان الأعمال.

ـ ولا تقصد الإفساد في الأرض بالظلم والبغي والإساءة إلى الناس ، فإن الله تعالى يعاقب المفسدين ، ويحول بينهم وبين رحمته وعونه.

لكن قارون أبي سماع هذه المواعظ المتضمّنة اتّقاء الله في مال الله ، وأخذته العزة بالإثم ، فأعجب بنفسه ، وقال لناصحيه : أنا لا أحتاج لما تقولون ، فإن الله تعالى إنما أعطاني هذا المال ، لعلمه بأني أستحقّه ، ولمعرفتي وخبرتي ومهارتي بكيفية جمعه ، فأنا له أهل ، فأجابه الله تعالى بأنه : أو لم يدر في جملة ما عنده من الدراية والعلم أن الله تعالى قد دمّر من قبله من هو أكثر منه مالا ، وأشد قوة ، وأعظم مكانة ، وأشهر سلطانا ونفوذا ، ولا يسأل المجرمون عن كثرة خطاياهم وسيئاتهم حينما يعاقبهم ، لأنه تعالى عليم بكل المعلومات ، مطّلع على جميع الأقوال والأفعال ، فلا حاجة به إلى السؤال سؤال الاستفسار ، كقوله الله تعالى : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [البقرة : ٢ / ٢٨٣]. وسؤال الاستعتاب ، كما قال عزوجل : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦)) [المرسلات : ٧٧ / ٣٥ ـ ٣٦]. لكن لا مانع من سؤال الكافرين والمفرطين سؤال توبيخ

٤٢

وتقريع ، كما في قوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ١٥ / ٩٢ ـ ٩٣]. وقوله سبحانه : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤)) [الصّافّات : ٣٧ / ٢٤].

ـ ٢ ـ

جزاء بغي قارون

استبدّ البغي والغرور بقارون الثّري المترف ، وسيطر الكبرياء والعجب والتّجبر على نفسه ، فأراد إظهار ما لديه من الثراء والقدرة على الملابس والمراكب وزينة الدنيا ومفاتنها ، فافتتن أهل الدنيا باستعراضه الفاخر وتمنّوا أن يكونوا مثله ، ولكنّ أهل العلم والمعرفة المتيقّظين لحقائق الدنيا ومظاهرها حذّروا من هذه الفتنة ، ووجّهوا إلى العمل الأخروي الباقي. وكانت العاقبة كما قدّروا ، فخسف الله بقارون الأرض ، ودمّر دوره وممتلكاته ، واستيقظ الناس على هذا المصير المشؤوم ، وأرشدتهم صحوة العقل والدين إلى أن زوال الدنيا سريع ، وأن خطر العقاب لكل عات متمرد قريب ، قال الله تعالى مبيّنا هذه الخاتمة لقارون :

(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) [القصص : ٢٨ / ٧٩ ـ ٨٢].

__________________

(١) في مظاهر غناه.

(٢) الويل : الهلاك أو العذاب.

(٣) لا يتلقى المثوبة.

(٤) أي بل إن ، وكلمة : وي للتعجب ، وكأن للتشبيه ، والمراد : ألم تر أن الله.

(٥) يضيق على من يشاء.

(٦) ألم تر أنه لا يفلح.

٤٣

لقد باهى قارون الناس ، فخرج على قومه في موكب بهي ، في زينة عظيمة وأبهة واضحة ، وتجمّل باهر ، في الملابس والمراكب ، هو وحاشيته ، بقصد التّعالي على قومه ، وإظهار التّرفّع والمهابة ، فاغتر الجهلة أهل الدنيا وزينتها به وبمظاهره ، وتمنّوا ما لديه وقالوا : يا ليت لنا من الثروات والأبهة ما لقارون ، لنتمتّع بها مثله ، فإنه ذو نصيب وافر من الدنيا.

وقال الفريق الآخر ، وهم أولو العلم والمعرفة بالله تعالى وبحق طاعته والإيمان به زاجرين الجهلة الذين تمنّوا حال قارون : ويلكم (وهذه كلمة زجر) ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ، يلقاه في الدار الآخرة ، وهو أفضل مما تتمنّون ، ويكون حال المؤمن العامل الذي ينتظر ثواب الله خيرا من حال صاحب الدنيا فقط ، ولكن لا يتلقّى هذا الثواب العظيم أو الجنة إلا الصابرون على طاعة الله ، الرّاضون بقضائه وقدره ، في كل ما قسم من المنافع والمضارّ ، المترفّعون عن محبة الدنيا المؤثرون لها.

وكان المتوقّع ما قاله هؤلاء العارفون بالله ، وكان العقاب السريع لقارون المتفاخر الباغي : هو الخسف به وبداره الأرض ، حيث ابتلعته الأرض ، وغاب فيها ، جزاء لبطره وعتوه ، فلم يغن عنه ماله ولا حاشيته ، ولم يجد من يدفع عنه نقمة الله ، ولم يكن منتصرا لنفسه ، ولا منصورا من غيره. والفئة : جماعة المناصرة والنجدة.

وبعد هذه الكارثة التي أطاحت بقارون وتبيّن حقيقة الأمر ، صار الذين يتمنّون أن يكونوا مثله يقولون : (وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) أي بل إن الله ، يوسع الرزق أو العطاء المادّي لمن يريد خلقه ، ويضيّقه على من يريد من عباده ، بحسب حكمته ومشيئته ، وليس المال المعطى دليلا على رضا الله ومحبته لصاحبه ، ولا منع المال برهانا على سخط الله وكراهيته لعبده ، فإن الله يعطي ويمنع ، ويضيّق ويوسّع ، ويخفض ويرفع ، وله الحكمة التامة والحجة البالغة ، جاء في الحديث المرفوع عن ابن

٤٤

مسعود فيما رواه أحمد والحاكم وغيرهما : «إن الله قسم بينكم أخلاقكم ، كما قسم أرزاقكم ، وإن الله يعطي المال من يحبّ ومن لا يحبّ ، ولا يعطي الإيمان إلا من يحبّ».

والمعنى : إن الذين فتنوا بقارون انتبهوا ، فتكلموا على قدر علمهم ، فقالوا : على جهة التعجب والتّندّم : إن الله يبسط الرزق ويضيّقه بحسب مراده.

ولو لا لطف الله بنا ، وإحسانه إلينا ، لخسف بنا الأرض ، كما خسف بقارون ، لأنا تمنّينا أن نكون مثله ، بل إن الله لا يحقق الفوز والنجاح للكافرين به ، المكذبين رسله ، المنكرين ثواب الله وعقابه في الآخرة ، مثل قارون ونحوه من عتاة الناس ، وطغاة المال ، ومردة العصاة من الإنس والجنّ.

العاقبة للمتّقين

العبرة في الأفعال والأعمال والتّصرفات كلها إنما هي في الغاية والهدف ، لأن تصرّفات العقلاء تهدف إلى تحقيق غاية ، وإنجاز مطلوب ، وهكذا الشأن بين الدنيا والآخرة ، الدنيا مزرعة الآخرة ، والآخرة هدف العاملين العاقلين ، فمن أحسن العمل في الدنيا ، لقي العاقبة الحسنة في الآخرة ، ومن أساء العمل في الدنيا ، وجد أمامه النتيجة الوخيمة والخسارة المحقّقة ، فلكلّ جزاء عمله حقّا وعدلا ، وثوابا مكافئا ، وعقابا مناسبا ، وتكون موازين الحساب واضحة ، والنهاية مؤكدة ومعروفة ، لذا كان القرآن الكريم خير واعظ ، وأخلص ناصح ، يبين الأشياء قبل وقوعها ، ويحدّد الأسباب والغايات المرجوة قبل حصولها ، قال الله تعالى مبيّنا ذلك :

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤)) [القصص : ٢٨ / ٨٣ ـ ٨٤].

٤٥

هذا إخبار من الله تعالى لنبيّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقانونه العام ، يراد به حضّ الناس على إحسان العمل وإتقانه ، والتحذير من سوء العمل وإفساده ، ولوم قارون ونظرائه الذين آثروا الدنيا على الآخرة ، فإن الآخرة ليست في حسابات قارون ، إنما هي لمن اتّصف بصفات معينة.

والمعنى : إن تلك الدار الخالدة العظيمة ، ونعيمها الأبدي المذلّل ، دون عناء ولا مشقة ، يجعلها الله سبحانه وتعالى للذين لا يستعلون على الناس ، ولا يتجبّرون عليهم ، ولا يريدون أي لون من ألوان الفساد ، والفساد يعمّ جميع وجوه الشّر ، ومنها أخذ المال بغير حقّ ، والعاقبة الحسنة : هي لأهل التقوى الملتزمين بأوامر الله ، المبتعدين عن نواهيه ومحظوراته.

يدلّ ذلك على أن التواضع لله والناس أمر محمود ، وأن العلو مذموم ، وأن فعل الصلاح خير ، وأن الفساد والإفساد شرّ ودمار.

وقانون الجزاء الإلهي على الأعمال واضح وقاطع ، إما في الدنيا وإما في الآخرة ، فمن جاء بالفعلة الحسنة ، فله خير منها ذاتا وقدرا وصفة ، ومن عمل صالحا فله خير من القدر الذي ينتظره موازيا لفعله ، لأن فضل الله كبير ، يضاعف الحسنات ، وينمّي الخيرات ، ويعطي الثواب الجزيل غير المتوقع بحسب أحوال الدنيا.

ومن جاء بالخصلة السيئة أو الفعلة الشنيعة ، المنكرة عقلا وشرعا وعادة ، فلا يجزى أصحاب الأعمال السيئة إلا مثلها قدرا ، دون زيادة أو ظلم ، فضلا من الله ورحمة ، ومحبة وعدلا ، وإبانة لجود الله وسخائه ، وسعة خزائنه. وهذا دليل على أن فعل السوء وباء وظلام ، وتدمير وضلال ، وأن السيئة لا يضاعف جزاؤها ، فضلا من الإله الغني ، ورحمة من الرّحيم الرّحمن.

هذا القانون الإلهي بمضاعفة الحسنات ، ومقابلة السيئات بمثلها دون زيادة ،

٤٦

يختلف عن قانون البشر ويسمو عنه ، فإن الإنسان يعطي إنسانا آخر جزاء مكافئا لعمله ، وقد ينقصه في الغالب بسببه ظلم الإنسان لأخيه ، أما عطاء الله تعالى فلا يحدّه حدود ، ولا يبخس منه شيء ، سواء كان العمل قليلا أو كثيرا بحسب تقدير الإنسان ، لأن ربّك هو الغني ذو الرّحمة ، وهو واسع المغفرة ، غافر الذنب ، وقابل التّوب ، لا يجاريه أحد في عطائه ، ولا يسبقه أحد في جوده وسخائه.

أفليس من واجب الإنسان إذن أن يرغب في العطاء الكثير الدائم ، فيعمل عملا صالحا يؤهّله لنيله؟ أو ليس من وعي الإنسان وإجراء حسابه أن ينفر ويحذر من سوء العمل الذي يعرّضه للخسران والضياع؟!

نعم وتكاليف نبويّة

النّبوة أو الرسالة مسئولية عظمي ، وتكليف ثقيل ، يقترن عادة بتخصيص النّبي أو الرّسول بخصائص متميزة ، وإمداد بنعم إلهية سامية ، لأن ما يتعرّض له النّبي الرّسول من صدود قومه عن دعوته ، وإعراضهم عن قبول رسالته يحتاج لصبر ومصابرة ، وجهاد ومقاومة ، لا يتحملها الإنسان العادي. وقد تشابهت ظروف الرسل في أثناء تبليغ دعوة الله إلى توحيده وعبادته وتنفيذ شرعه ، ولكن رحمة الله ورعايته تحمي الرسول. وتتطلب الرسالة أيضا الحزم والعزم في أداء التكاليف ، والتّفاني في القيام بها ، والتزام الدعوة إلى توحيد الله الحي الباقي الخالد ، الذي لا يفنى ، ويتفرد بالحكم والقضاء ، والمرجع والحساب يوم القيامة ، ويفنى غيره ثم يعيده الله للمساءلة ، قال الله تعالى مبيّنا أمورا تتعلق بنبوة نبيّنا :

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا

٤٧

تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨)) (١) [القصص : ٢٨ / ٨٥ ـ ٨٨].

الآية الأولى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ ..) نزلت بالجحفة حينما هاجر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة إلى المدينة ، أخرج ابن أبي حاتم عن الضّحاك قال : لما خرج النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة ، فبلغ الجحفة ، اشتاق إلى مكة ، فأنزل الله : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ). قال ابن عطية رحمه‌الله في تفسيره : فالآية ـ على هذا ـ معلمة بغيب قد ظهر للأمة ، ومؤنسة بفتح.

يخبر الله تعالى نبيّه ويبشّره بأن الذي أنزل عليك القرآن وأثبته ، وألزمك بالعمل به وأدائه للناس ، لرادّك إلى بلدك الحبيب : مكة ، فاتحا منتصرا ، بعد خروجك منها مهاجرا مطاردا ، وكان فتح مكة هو الفتح الأعظم الذي حطّمت به الأصنام ، وأزيلت به معالم الكفر والوثنية. ووعد الله صادق ، ومنجز ، وقد تحقّق الوعد كما هو معروف في السّيرة النّبوية ، في السّنة الثامنة من الهجرة. والمعاد : الموضع الذي يعاد إليه ، وقد اشتهر به يوم القيامة ، لأنه معاد للكل.

وقوله تعالى : (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى ..) آية متاركة للكفار وتوبيخ ، فقل أيها النّبي لمن كذّبك من قومك المشركين : الله هو العالم البصير بالمهتدي ، مني ومنكم ، وعالم بمن هو غارق في الضلال ، ومطّلع على من جاء بالهدى ، وهو الآتي بالقرآن الكريم ، وبما يستحقه من الثواب في المعاد ، والإعزاز بالإعادة إلى مكة المكرمة.

ثم ذكّر الله نبيّه بنعمته العظيمة عليه وهي النّبوة ، فلم تكن أيها النّبي تتوقّع إنزال

__________________

(١) معينا لمن كفر.

٤٨

الوحي الإلهي والقرآن المبين إليك ، إلا برحمة من الله وفضل ، لنفع جميع العباد ، وبناء عليه تكون مكلفا بخمسة أمور ، مع خبر سادس بعدها :

١ ـ لا تكن عونا للكافرين بأي حال ، ولكن فارقهم وخالفهم ، وكن عونا للمسلمين ، والمراد : اشتد يا محمد في تبليغك ، ولا تلن ، ولا تفشل (تجبن) ، فتكون معونة الكافرين يراد بها : بالفتور عنهم.

٢ ـ ولا يمنعنك شيء عن اتباع آيات الله المنزلة إليك ، بأقوالهم وكذبهم وأذاهم ، ولا تلتفت إليه ، وامض لشأنك ، فإن الله مؤيدك وناصرك ، ومظهر دينك على جميع الأديان.

٣ ـ وادع إلى عبادة ربّك وحده لا شريك له ، وبلّغ دينه ، وأعلن رسالته دون تردد ولا خوف ولا تمهّل. وسبب هذه الآية : ما كانت قريش تدعو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تعظيم أوثانهم.

٤ ـ واحذر أن تكون من فئة المشركين الذين أشركوا بربّهم ، فجعلوا له شريكا ونظيرا ، فتكون من الهالكين. وهذا نهي عما هم بسبيله ، بدئ به النّبي باعتباره القائد والقدوة لأمّته.

٥ ـ ولا تعبد مع الله إلها آخر ، ولا تدع في أي عمل مع الله غيره ، لأن العبادة لا تستحق إلا لله ، ولا فائدة من دعاء غيره.

٦ ـ وكل من في الوجود فان أو هالك إلا ذات الله ، المعبّر عنها بوجهه ، فإن الله هو الباقي وحده بعد فناء خلقه ، وله مهمة فصل القضاء وإنفاذه في الدنيا والآخرة ، وإليه مصير جميع الخلائق. وهذا إخبار بالحشر والعودة من القبور ، لإيقاع الجزاء على الأعمال ، إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ.

٤٩

تفسير سورة العنكبوت

اختبار الناس

لا تستغني الحياة عن الامتحان والاختبار ، ليعرف المحسن من المسيء ، والعامل والمقصر أو غير العامل ، والمستقيم والفاجر ، وهكذا حياة البشر أمام الله عزوجل ، لا بدّ لهم من الاختبار ، ليتميز المؤمنون الصادقون والكاذبون ، ويعرف المجاهدون والمتقاعسون ، فيجازى المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته. وهذا ما افتتحت به أوائل سورة العنكبوت المكّية :

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧)) (١) (٢) (٣) [العنكبوت : ٢٩ / ١ ـ ٧].

مطلع السورة بالحروف الأبجدية المقطعة لتنبيه المخاطب لما يأتي بعدها ، وإظهار إعجاز القرآن المتكون من هذه الحروف ، ومع ذلك لا يستطيع العرب الإتيان بمثله ، تحدّيا لهم.

__________________

(١) أي لا يختبرون بالشدائد والأحداث.

(٢) أن يعجزونا.

(٣) الوقت المعين للبعث والجزاء.

٥٠

والمعنى : أظن الناس بعد إيجادهم أنهم متروكون بغير اختبار بمجرد قولهم : آمنّا بالله ورسله ، وهم لا يمتحنون بالتكاليف الشرعية كالجهاد في سبيل الله ، والهجرة من مكة إلى المدينة ، وأداء الفرائض البدنية كالصلاة ، والمالية كالزكاة ، والتعرّض للمصائب في الأنفس والأموال ، ومجاهدة أهواء النفس والشيطان ، بالامتناع عن المعاصي والموبقات؟! وهذا استفهام إنكاري ، معناه أن الله تعالى لا بد من أن يبتلي عباده المؤمنين ، للتحقق من مدى صدق إيمانهم وقوة يقينهم. قال مجاهد وغيره : نزلت هذه الآية مؤنسة ومعلمة أن هذه السيرة هي سيرة الله تبارك وتعالى في عباده ، اختبارا للمؤمنين وقتئذ ـ وفي كل وقت ـ ليعلم الله الصادق ويرى ثواب الله تعالى له ، ويعلم الكاذب ويرى عقابه إياه. وهذه الآية وإن نزلت لهذا السبب ، فهي بمعناها باقية في أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، موجود حكمها بقية الدهر.

وسببها الخاص إيناس المؤمنين الأولين الذين تعرّضوا لإيذاء كفار قريش وتعذيبهم على الإسلام ، فكانوا يتضايقون بذلك. لكنهم في هذا مطالبون بالصبر كمن أوذي ممن قبلهم.

وهذا ما أبانته الآية الآتية ، فتالله لقد امتحنا واختبرنا المؤمنين السابقين ، بل والأنبياء المتقدمين بألوان الأذى والشدة والضّرر ، ليعلم الله علم ظهور وانكشاف ، بأن يظهر الله علمه فيهم ، ويوجد ما علمه أزلا ، لا علما يسبقه جهل ، لأن الله عالم بكل شيء في الماضي والحاضر والمستقبل ، ليعلم الذين وجد منهم الصدق ، والقائمين على الكذب. والتعبير بقوله : (الَّذِينَ صَدَقُوا) في حقّ المؤمنين ، وبقوله : (وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) في حقّ الكافرين ، للدلالة في هؤلاء الكفرة على الثبات والدوام. بل أظن الذين يقترفون المعاصي أن يسبقوا عقاب الله تعالى ثم يفوتونه ، ويعجزونه؟! بئس الحكم حكمهم ، بأن يعصوا ويخالفوا أمر الله ، ثم يفلتون من العقاب ، إنه حكم خطأ ، يناقض مقتضى العقل والشرع والعدل.

٥١

فمن كان قد آمن ، وتوقع الثواب والخير في الآخرة ، وعمل الصالحات ، فإن الله سيحقق له رجاءه ، ويوفيه كاملا غير منقوص ، لأن الأجل الذي حدده الله للبعث والمعاد آت لا ريب فيه ، والله سميع الدعاء وأقوال العباد ، عليم بصير بكل الكائنات ، يعلم بكل ما قدموا ، ويجازي كل واحد بما عمل ، فمن كان على الحق فليوقن بأنه آت ، وليزدد بصيرة.

ومن جاهد نفسه وهواه ، فقام بالأوامر ، واجتنب النواهي ، فإن ثمرة جهاده عائدة له ، ونفع عمله راجع لنفسه لا لغيره. وهذا إعلام بأن كل أحد مجازي بفعله الحسن ، وأن نفع الطاعة للإنسان ذاته لا لله تعالى ، لأن الله غني عن جميع العالمين من إنس وجنّ ، لا تنفعه طاعة ، ولا تضّره معصية.

ثم أخبر الله تعالى عن ثواب المؤمنين المجاهدين الذين هم في أعلى رتبة ، وهو أحسن الجزاء : يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا ، ويجزيهم أجرهم بأحسن ما عملوا ، فيقبل القليل من الحسنات ، ويثيب على الحسنة بعشرة أمثالها. والسيئة : الكفر وما اشتمل عليه ، وكذلك معاصي المؤمنين مع الأعمال الصالحة واجتناب الكبائر. وقوله تعالى : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) معناه على حذف مضاف تقديره : ثواب أحسن الذي كانوا يعملون. ويدخل في ذلك ثواب الحسن ، بإخراج كلمة (أحسن) عن بابها من التفضيل ، فليس المراد بها هنا كونها أفعل تفضيل ، وإنما المراد أنهم يجزون ثواب الأحسن والحسن. فيكون الجزاء على حسن الأعمال ، وأن الحسنة تمحو السيئة.

وصايا أهل الإيمان

في مجال الاختبار والامتحان يوصي الله تعالى المؤمنين بالإحسان إلى الوالدين ، ويبشّرهم بالجنة إن هم أطاعوا ، وصبروا على الأذى والفتنة ، وفي الامتحان يتبين

٥٢

للناس مدى صمود المؤمنين ، وزعزعة قلوب المنافقين. ويظهر من بيان الله تعالى إحباط عروض الكافرين بتحمّل خطايا المؤمنين إن اتّبعوا سبيلهم في دينهم المعوج ، وإنذارهم بتحمّل المسؤولية الثقيلة عن أعمالهم الشنيعة وسوء اعتقاداتهم الباطلة ، وافتراءاتهم المضلّلة ، قال الله تعالى موضحا هذه الوصايا :

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) [العنكبوت : ٢٩ / ٨ ـ ١٣].

هذه طائفة من وصايا أهل الإيمان ، تشتمل على نواح ثلاث :

الأولى ـ الإحسان إلى الوالدين : فلقد أمرنا الإنسان بالإحسان إلى والديه ، ببرهما قولا وعملا ، لأنهما سبب وجوده ، إلا في محاولة الحمل على الشّرك ، فإن جاهداك على أن تشرك أيها الولد بالله ما لا علم لك به ، ولا وجود بالفعل ، فلا تطعهما في ذلك ، لأنه كما صحّ في الحديث الذي أخرجه أحمد والحاكم : «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». وذلك لأن سبب المخالفة في المعصية رجوعكم جميعا إلى الله يوم

__________________

(١) أمرناه.

(٢) برّا بهما وإحسانا.

(٣) ما يصيبه من أذاهم.

(٤) أوزاركم.

(٥) خطاياهم.

(٦) يختلقونه من الأباطيل.

٥٣

القيامة ، فيخبركم ربّكم بما عملتم ، ويجازيكم على أعمالكم ، المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته. وهذا وعيد في طاعة الوالدين ، وهو في معنى الكفر.

نزلت هذه الآية كما روي عن قتادة في سعد بن أبي وقاص ، حين هاجر ، فحلفت أمه ألا تستظلّ بظلّ حتى يرجع إليها ، ويكفر بمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فلجّ (١) هو في هجرته ، ونزلت الآية.

ثم كرّر الله تعالى التمثيل أو الشبيه بحالة المؤمنين ليحرّك النفوس إلى نيل المراتب العالية ، فالذين آمنوا وعملوا صالح الأعمال ، لنجعلنهم في نهاية الصلاح وأبعد غاياته ونحشرنهم مع أرفع الصالحين ، وثمرة الصلاح تتحقق بعدئذ ، وجزاؤه الجنة. وقوله سبحانه : (لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) أي في زمرة الأنبياء ، على سبيل المبالغة.

الناحية الثانية ـ افتضاح شأن المنافقين : فمن الناس فريق ، هم قوم من المكذبين المنافقين ، الذين يتظاهرون بألسنتهم بالإيمان بالله ، والتصديق بوجوده ، ووحدانيته ، دون أن يثبت الإيمان في قلوبهم ، بدليل أنهم إذا أصيبوا بأذى المشركين من أجل إيمانهم ، اعتقدوا بأن هذا من نقمة الله عليهم ، فارتدوا عن الإسلام ، وصرفهم العذاب عن الإيمان ، وإذا تحقق نصر قريب من الله للمؤمنين بالفتح والغلبة والغنيمة قالوا : إنا كنا معكم ردءا وإخوانا لكم في الدين ، أو ليس الله بأعلم بما في قلوب العالمين ، وما تنطوي عليه من النفاق؟!

وليختبرن الله الناس في السّر والعلن ، ليتميز المؤمنون ، ويعرف المنافقون ، لأن المحنة محكّ الإيمان ، فإن صبر المؤمن كان صادقا ، وإن جزع وتبرم ، كان كاذبا منافقا.

نزلت آية : (وَمِنَ النَّاسِ) في المنافقين الذين كفروا لما أوذوا ، قال مجاهد : نزلت في أناس كانوا يؤمنون بألسنتهم ، فإذا أصابهم بلاء من الله ومصيبة في أنفسهم افتتنوا.

__________________

(١) أي لازم ما عزم عليه من الهجرة ، وأبى أن ينصرف عنه.

٥٤

الناحية الثالثة ـ محاولات الكافرين فتنة المسلمين عن دينهم : قال كفار قريش لمن آمن منهم واتّبع هدى القرآن : ارجعوا عن دينكم إلى ديننا ، واتّبعوا طريقنا ومنهجنا في التدين ، ونحن نتحمّل عنكم آثامكم إن كانت ، ووجد حساب عليها ، والواقع أنهم لا يتحمّلون شيئا من ذنوبهم ، وإنهم لكاذبون فيما قالوا ، لأنه لن يتحمّل أحد وزر أحد في ذلك العالم ، وعاقبة هذا القول : أن دعاة الكفر والإضلال يتحمّلون يوم القيامة أوزار أنفسهم ، وأوزار غيرهم الذين أضلّوهم من الناس ، وسوف يسألون سؤال توبيخ وتقريع عما كانوا يكذبون على أنفسهم وعلى غيرهم ، وعلى ما يختلقون من الافتراء والبهتان في الدنيا. وقوله تعالى : (وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) يريد : ما يلحقهم من أعوانهم وأتباعهم ، لتسببهم في إضلالهم.

قال مجاهد : إن الآية نزلت في كفار قريش الذين قالوا لمن آمن منهم : لا نبعث نحن ولا أنتم ، فاتّبعونا ، فإن كان عليكم إثم فعلينا. روي أن قائل هذه المقالة الوليد ابن المغيرة. وقيل : بل كانت شائعة من كفار قريش.

إن هذه الوصايا واردة بصفة التحذير من عقوق الوالدين فيما هو حقّ وبرّ ، وخير وطاعة ، والتحذير من أعمال المنافقين فاقدي الإيمان الثابت ، حينما أوذوا كفروا ، ومن محاولات الكفار ثني المؤمنين عن إيمانهم وردهم إلى دائرة الشّرك والوثنية.

رسالة نوح عليه‌السلام

تكرّر إيراد قصة نوح عليه‌السلام مع قومه في مناسبات مختلفة ، وسور قرآنية متعددة ، بعضها مطوّل مفصّل ، وبعضها كما هنا موجز مختصر ، وأتبعت هذه القصة في سورة العنكبوت بقصص أنبياء آخرين : وهم إبراهيم ، ولوط ، وهود ، وشعيب ، وصالح ، لبيان عاقبة المكذبين رسلهم ، وإيناس النّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يلقاه من تعنّت

٥٥

قومه ، وفتنتهم المؤمنين وغير ذلك ، وتثبيته على أذى الكفرة ، وفي ذلك عبرة ووعيد لكفار قريش بتشبيه أمرهم بأمر قوم نوح ، ولتأكيد ما جاء في مطلع السورة من جعل الابتلاء سنة الحياة.

وهذه آيات توجز بيان مهمة نوح عليه‌السلام أطول الأنبياء عمرا ، وأول رسول للبشرية ، وأبي البشر الثاني بعد آدم عليه‌السلام ، قال الله تعالى :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥)) [العنكبوت : ٢٩ / ١٤ ـ ١٥].

إن إيراد قصص الأنبياء السابقين على هذا النحو من التأكيد والتشديد ، ذو مغزى عميق ودلالة واضحة ، فمغزاه العبرة والعظة ، ودلالته الإنذار والتحذير لكفار قريش وأمثالهم ، حين كذبوا رسولهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنهم سيتعرّضون لعقاب مماثل لمن تقدّمهم من الأقوام الغابرة الذين كذّبوا رسلهم ، فجاءهم عذاب الاستئصال. وتظهر صورة هذا التأكيد في العرض والبيان بقسم من الله تعالى على ما جاء في قصّة كل نبي.

وهنا يقول الله تعالى ما معناه : وتالله لقد أرسلنا نوحا عليه‌السلام إلى قومه الكافرين العصاة ، عبدة الأصنام ، فبقي فيهم يدعوهم إلى توحيد الله ألف سنة إلا خمسين عاما ، فلم يؤمن بدعوته إلا قليل من الناس كما قال تعالى : (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) [هود : ١١ / ٤٠] ، وكذبوه وآذوه ، وأفحشوا له القول ، فصبر نوح عليه‌السلام على أذاهم ، ومضى زمان طويل ، وهو يدعوهم إلى أن يتركوا عبادة الأصنام ، ويؤمنوا بالله الواحد الأحد ، وبيوم القيامة والحساب ، فلم يفلح ، ولم يستجيبوا لدعوته ، وأمعنوا في الإعراض والاستكبار ، كما جاء في آية أخرى : (قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) [نوح : ٧١ / ٢١].

٥٦

ولما يئس نوح عليه‌السلام من إيمان قومه ، دعا عليهم بوحي من الله تعالى ، فقال : (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦)) [نوح : ٧١ / ٢٦]. فألهمه الله صنع سفينة ليركبها مع المؤمنين ، وترك الكفار في العذاب.

وجاء الأمر الإلهي بالإغراق بعد هذه المدة الطويلة من الصبر والإنذار ، فأخذهم الطوفان ، وهم ظالمون أنفسهم بالكفر ، وأنجى الله نوحا ومن آمن معه في الفلك المشحون ، التي مخرت عباب البحر ، حتى استقرّت على جبل الجودي ، وغرق الكفار جميعا بطوفان الماء ، وجعل الله سفينة نوح آية وعبرة للعالمين ، كما جاء في آية أخرى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢)) [الحاقّة : ٦٩ / ١١ ـ ١٢].

وضمير الفعل : (وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) يعود على السفينة المذكورة. وأما الغرق ففي رأي فرقة مقصور على قوم نوح ، وقال الجمهور : إنما غرقت المعمورة كلها ، أي العالم القديم ، والرأي الثاني هو الراجح بسبب إعراض الناس كلهم عنه ، أي عن دعوة نوح. فليتّعظ كفار قريش وأمثالهم بهذه العقوبة الشديدة التي يمكن أن تصيبهم ، إذا ظلّوا رافضين لدعوة النّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مكذّبين له ، مفترين على دعوته وعلى القرآن وعلى المؤمنين ، فإن العاقل من اتّعظ بغيره.

إن قصة السفينة عبرة وعلامة على قدرة الله تعالى في شدة بطشه ، وعقابه عتاة أهل الضلال والتمرد والعصيان ، كما أنها نعمة خارقة ، في وقت لم يعرف الناس ركوب البحر ولا وجود السّفن عابرة المياه ، فقد نجى الله تعالى نوحا ومن آمن معه ، حفاظا على النوع البشري من الانقراض العددي والنوعي ، حيث تناسل الناس من ذرّية هؤلاء المؤمنين ، وبدأت حياة جديدة تظهر فيها مآس وألوان أخرى من الفسوق والعصيان ، والكفر والطغيان ، فتجدد العقاب في أمم أخرى بعد إرسال رسل آخرين

٥٧

لهم ، دعوا بدعوة نوح عليه‌السلام إلى الإيمان بالله الواحد الأحد ، وبيوم القيامة والحشر والحساب ، ويظل الصراع قائما بين الإيمان والكفر إلى أن يشاء الله تعالى تبديل الأحوال.

دعوة إبراهيم الخليل عليه‌السلام

من أعظم قصص القرآن الكريم : قصة نوح وإبراهيم عليهما‌السلام ، أما نوح عليه‌السلام فهو أبو البشر الثاني الذي دعا إلى عبادة الله وحده ، فكذّبه قومه ، فأغرقهم الله بالطوفان ، وأما إبراهيم عليه‌السلام : فهو أبو الأنبياء ، وإمام الحنفاء ، الذي دعا أيضا كنوح إلى توحيد الله عزوجل ، وهجر عبادة الأصنام ، وشكر الله المنعم ، وبيان قدرته على بدء الخلق وإعادته ، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. وهذا ما أبانته الآيات الآتية في قول الله سبحانه :

(وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ (١) (٢) (٣)

__________________

(١) أي تقولون كذبا ، في تسمية الأصنام آلهة ، وادّعاء شفاعتها عند الله ، وأنها شركاء لله ، والإفك أشدّ الكذب.

(٢) تردّون وترجعون.

(٣) فائتين من عذابه بالهرب.

٥٨

اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣)) [العنكبوت : ٢٩ / ٦٩ / ١٦ ـ ٢٣].

المعنى : واذكر أيها النّبي إبراهيم ودعوته ، وهي كقصة نوح أيضا تمثيل وتشبيه لقريش ، فلقد كان النمرود وأهل مدينته عبدة أصنام ، فدعاهم إبراهيم عليه‌السلام إلى توحيد الله تعالى وعبادته وتقواه ، ثم نبّههم إلى ما هم عليه من الضّلال ، فإن توحيد الله وترك الأصنام خير لكم في الدنيا والآخرة ، إن كنتم من أهل الوعي والإدراك والعلم ، تميزون به بين الخير والشّر.

وهذان دليلان على التوحيد :

الأول ـ إن ما تعبدون من غير الله من الأصنام ، ما هي إلا أوثان ، وأشياء مصنوعة من الأحجار ، فلا تضرّ ولا تنفع ، وإنما اختلقتم لها أسماء ، فسمّيتموها آلهة ، وادّعيتم أن لها شفاعة لكم عند ربّكم ، وإنما هي مخلوقة أمثالكم ، فأنتم تختلقون الكذب بوصفها آلهة.

والدليل الثاني ـ إن تلك الأوثان التي تعبدونها من غير الله ، لا تستطيع أن تجلب لكم رزقا ، فكيف تعبدونها؟ فاطلبوا الرزق من عند الله تعالى ، لا من عند غيره من الأوثان ونحوها ، واعبدوه وحده ، واشكروا له على ما أنعم به عليكم من الفضل والإنعام ، فإنما إليه مرجعكم يوم القيامة ، ليحاسبكم على أعمالكم.

ودليل صدق رسالة إبراهيم عليه‌السلام في مخاطبة قومه : وإن تكذّبوني في رسالتي ، فلا تضروني أبدا ، فقد كذبت الرسل أمم سابقة ، وقد بلغكم ما حلّ بهم ، من العذاب والانتقام ، ولا يكلّف الرسول إلا بتبليغ ما أمره الله تعالى به من الرسالة ، تبليغا واضحا كاملا ، فاحرصوا على إسعاد أنفسكم بالإيمان بالله تعالى.

وأما دليل الأصل الثالث في عقيدة الإيمان : وهو البعث والمعاد ، فهو أن تنظروا

٥٩

كيف بدأ الله خلق الأشياء والجمادات والإنسان ، بعد أن لم تكن ، وزوّد الإنسان بمفاتيح المعرفة والعلم ، من السمع والبصر والفؤاد. والذي بدأ إيجاد الخلق على هذا النحو قادر على إعادته ، وهو أسهل عليه ، وأيسر بحسب تصوراتنا ، أما بالنسبة لله تعالى فالبدء والإعادة سواء ، وقد خاطبنا الله بما نعقل ونتصور ، حين قال : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الرّوم : ٣٠ / ٢٧].

وعلى صعيد الواقع المشاهد ، سيروا أيها المنكرون للبعث في الأرض ، فانظروا كيف بدأ الله خلق السماوات وما فيها من الكواكب الثوابت النّيرات ، وكيف أوجد الأراضي وما فيها من الجبال الراسيات ، ثم الله يعيدكم أحياء مرة أخرى ، فإن من قدر على الخلق أول مرة ، قادر على الإعادة وإنشاء النشأة الأخرى يوم القيامة ، وإن الله قادر تامّ القدرة على كل شيء ، ومنه البدء والإعادة.

والذي يكون بعد البعث والإعادة ، إنما هو الحساب والجزاء ، فإن الله يعذب من يشاء من الكفار والعصاة ، ويرحم من يشاء ، من المؤمنين فضلا منه ورحمة ، يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، وإلى الله مصيركم ومردّكم يوم القيامة بعد الموت ، مهما طالت المدة ، فيحاسب كل إنسان على ما قدّم وأخّر ، وحسابه قائم على الحقّ والعدل والإنصاف ، لأنه المالك لكل شيء ، فيسوي بين مخلوقاته.

ولستم أنتم أيها الجاحدون الكافرون ، بمعجزي الله عن ملاحقتكم وتقديمكم للجزاء ، سواء في الأرض والسماء ، فإن الله لا يعجزه شيء ، ولا يقدر أحد على الإفلات من قبضته ، فقبضته السماوات والأرض وما بينهما ، وهو القاهر فوق عباده ، وليس لكم من غير الله ولي (نصير) يلي أموركم ويحفظكم ويرعاكم ، ولا معين وناصر ينصركم ، ويمنعكم من عذابه إن عذّبكم ، فهل بعدئذ تظنّون أنكم بكفركم وعبادتكم غير الله من الأصنام ناجون وسالمون من الجزاء؟!

٦٠