التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٣

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٣

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0524-1
الصفحات: ٤٢٢

بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨)) (١) (٢) (٣) [فصلت : ٤١ / ١٣ ـ ١٨].

هذه الآيات من أشد الإنذارات الإلهية لعبدة الأوثان في مكة حين نزول الوحي ، ومضمونها : فإن أعرضت قريش والعرب الذين دعوتهم أيها النبي إلى توحيد الله تعالى ، عن الإيمان برسالتك وعن هذه الآيات البيّنات ، فأعلمهم بأنك تحذرهم من إصابتهم بمثل العذاب الذي أصاب الأمم التي كذبت ، كما يكذّبون الآن ، وأنهم سيتعرضون لصواعق العقاب والهلاك ، كما حدث لعاد قوم هود ، وثمود قوم صالح.

وذلك حين أتتهم الرسل المتقدمون في الزمان وبعد اكتمال أعمارهم ، والذين بلّغوهم رسالات الله ، وأمروهم بعبادة ربهم وحده لا شريك له ، فكذبوهم وقالوا لرسلهم : لو شاء ربنا إرسال الرسل ، لأرسل إلينا ملائكة ، لا بشرا مثلنا ، فإنا بما أرسلتم به أيها الرسل جاحدون منكرون ، فلا نتبعكم. وقوله تعالى : (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) أي تقدموا في الزمان ، وقوله : (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) أي بعد اكتمال أعمارهم ، وتقدم وجودهم في الزمن.

ثم فصّل الله تعالى ما حل بقوم عاد وثمود ، فأما قوم عاد في الأحقاف في شمال حضرموت من اليمن ، فإنهم طلبوا وآثروا ساحة التكبر ووضعوا أنفسهم فيه بغير حق ، بل بالكفر والمعاصي ، واغتروا بأجسادهم والنعم عليهم ، وقالوا : لا أحد

__________________

(١) أي ريحا شديدة البرد أو شديدة الحر أو شديدة الصوت.

(٢) أي مشؤومات.

(٣) أي الهوان. وأما عذاب الخزي فهو عذاب الذل.

٤٠١

أقوى منا حتى يقهرنا ، فرد الله عليهم على سبيل التوبيخ : أولم يعلموا ، ويتفكروا أن خالقهم الذي أوجدهم هو أشد منهم قوة ، فإنه الموجد للشيء ، المذهب متى شاء ، وكانوا جاحدين آيات الله ، فعصوا الرسل ، وأنكروا معجزاتهم وأدلتهم القاطعة المعدّة للنظر والتأمل ، والمنزّلة من عند الله تعالى.

وعقابهم أن الله تعالى أرسل عليهم ريحا شديدة التأثير بصوتها ، وشديدة البرد والحر ، في بضعة أيام مشؤومات متتابعات ، لإذاقتهم عذاب الذل والهوان في الدنيا ، وعذاب الآخرة أشد إهانة وإذلالا من عذاب الدنيا ، وهم لا يجدون ناصرا ينصرهم ، ولا دافعا يدفع عنهم العذاب.

وأما قبيلة ثمود في شمال الحجاز نحو الشام إلى وادي القرى ، فبيّن الله لهم طريق الحق والهدى والنجاة ، فآثروا العمى ، أي اختاروا الكفر على الإيمان ، وآثروا العصيان على الطاعة ، وكذّبوا رسولهم ، وعقروا الناقة معجزة صالح عليه‌السلام ، فأصابهم العذاب الشديد المهلك المهين ، بسبب تكسبهم وجناية أيديهم : وهو التكذيب للرّسل ، وجحود رسالاتهم.

وأنقذ الله تعالى من العذاب صالحا عليه‌السلام ومن آمن معه برسالته ، وكانوا متّقين ربهم ، بأداء فرائضه ، وترك معاصيه ، لم يمسّهم سوء ، ولا نالهم من ذلك ضرر أو مكروه.

وهذا الإخبار عن مصائر الكافرين الجاحدين من عذاب الهوان والإذلال ، وعاقبة من آمن واتقى ونجا بإيمانه ، ليبين الله الفرق ، ويظهر الشيء ويتميز بضده.

ألم يكف هؤلاء المشركين إنذار الله تعالى بسوء العذاب ، ألم يفكروا بسوء المصير ، ويوازنوا بينه وبين مصير المؤمنين؟! ولكن القوم كانوا عمي البصيرة ، أخذتهم العزة بالإثم ، ولم يتفادوا العقاب الإلهي.

٤٠٢

تهديد الكفار بعذاب الآخرة

لم يقتصر القرآن الكريم على تهديد الكافرين والمشركين بعذاب الهوان والإذلال في الدنيا ، وإنما جاء التهديد فيه بعذاب القيامة الذي هو أشد وأنكى ، وأدوم وأبقى ، ووصف الله هؤلاء المهددين بأنهم أعداء الله ، أي الكفار المخالفون لأمره ، وذلك ليكون التهديد أتم في الزجر والتحذير ، وحمل المعادي على الصلاح والاستقامة ، والرشد والهداية ، ومن هدّد أو أنذر فقد أعذر ، ولم يبق مجال للوم والندم ، ومحاولة العدول عن الشر والضلال ، في يوم لا ينفع فيه الندم ، ولا يقبل فيه الإيمان والصلاح ، وهذا ما أبانته الآيات الشريفة :

(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) [فصلت : ٤١ / ١٩ ـ ٢٥].

المعنى : واذكر أيها النبي لقريش حال جمع الكفار الأعداء : وهم المخالفون لأمره ، وسوقهم بعنف في يوم القيامة إلى النار ، فهم يوزعون ، أي يكفّ ويحبس أولهم على

__________________

(١) أي يحجز أولهم ليأتي آخرهم ثم يدفعون ويوزّعون على أنواع النار.

(٢) أهلككم.

(٣) مأوى ومقام.

(٤) أي إن يطلب منهم الاسترضاء ، فليس مقبولا عتابهم.

(٥) هيأنا لهم شياطين الإنس والجن.

٤٠٣

آخرهم ، أي يحجز أولهم حتى يجتمع عليهم آخرهم ، ثم يدفعون إلى أنواع النار. وكلمة (يوم يحشر) منصوب بفعل مضمر ، تقديره : واذكر يوم.

حتى إذا ما وصلوا إلى النار ووقفوا عليها ، يسألون عما فعلوا سؤال توبيخ ، فإذا أنكروا شهدت عليهم جوارحهم من السمع والبصر والجلد ، بما ارتكبوا من ألوان الشرك والمعاصي ، وبما عملوا في الدنيا من سوء الأعمال ، وهذا وصف حال من أحوالهم في بعض أوقات القيامة ، وذلك عند وصولهم إلى جهنم ، فإن الله تعالى سيطلب منهم الإقرار عند ذلك على أنفسهم ، ويسألون سؤال توبيخ عن كفرهم ، فينكرون ذلك ، ويظنون السؤال سؤال استفهام واستخبار ، فينطق الله جوارحهم بالشهادة عليهم ، فروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما أخرجه ابن جرير عن عقبة ـ «إن أول ما ينطق عن الإنسان فخذه اليسرى ، ثم تنطق الجوارح ، فيقول الكافر : تبا لك أيتها الأعضاء ، فعنك كنت أدافع».

فيتعجب الناس من نطق جوارحهم ، فيقولون على جهة اللوم لجلودهم حين شهدوا عليهم : (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) فقالوا : أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء من مخلوقاته ، فإنه كما أنطق الألسن في الدنيا ، فكذلك أنطق بقية الأعضاء في الآخرة ، علما بأن الله أيها البشر خلقكم في المرة الأولى ، وهو قادر على إعادتكم وإرجاعكم إليه ، فإليه وحده المصير بعد الموت.

ثم تقول الملائكة بأمر الله سبحانه : لم تكونوا تتصاونون وتحجزون أنفسكم عن المعاصي والكفر ، خوف أن يشهد عليكم ، أو لأجل أن يشهد ، من قبل سمعكم وأبصاركم وجلودكم ، ولكنكم ظننتم ظنا خطأ أن الله تعالى حال عصيانكم ، لا يعلم كثيرا مما تعلمون من المعاصي ، فتجرأتم على فعلها. وسبب نزول هذه الآية : هو ما رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن ابن

٤٠٤

مسعود قال : كنت مستترا بأستار الكعبة ، فجاء ثلاثة نفر ... فتكلموا بكلام ، واختلفوا هل يسمع الله كلامهم ، فأنزل الله عزوجل : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ) الآية.

ثم خاطب الله نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما معناه : فإن يصبر أعداء الله ، لم ينفعهم الصبر ، وإن لم يصبروا ، فهم في النار في الحالين ، وإن يطلب منهم العتبى ، وتسويغ أعمالهم ، وإبداء أعذارهم ، فليسوا ممن يقبل عذرهم ، لأنهم فارقوا الدنيا التي هي دار التكليف والطاعة والعمل.

ثم أبان الله سبب بقائهم في الكفر بعد إدمانهم عليه : وهو أن الله سلّط وهيأ لهم شياطين الجن والإنس وهم القرناء ، فحسّنوا لهم أعمالهم في الماضي والمستقبل ، وزيّنوا لهم أحوال الدنيا التي بين أيديهم وهي كل ما تقدمهم في الزمن ، وأمور الآخرة التي هي خلفهم ، وهي معتقدات السوء وكل ما يأتي بعدهم من أمر القيامة والبعث ، ونحو ذلك مما يقال فيه : «إنه خلف الإنسان» والمراد أمامه. وثبت عليهم العذاب في جملة أمم كافرة مضت قبلهم ، مع جملة من الجن والإنس فعلوا كفعلهم ، فوجب لهم العذاب نفسه ، وكانوا جميعا متساوين في الخسارة والدمار بسبب تكذيبهم وسوء أفعالهم.

جزاء أهل الكفر

أو التشويش عند سماع القرآن وجزاؤه

تعددت مواقف المشركين المكيين من معاداة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصد الناس عن دعوته ، وبخاصة عند سماع القرآن الكريم.

فاتفقوا على التشويش الشديد عند سماع آيات القرآن لصرف الناس عنه ، فقال

٤٠٥

بعض قريش كأبي جهل وغيره ، خشية استمالة القلوب بالقرآن : متى قرأ محمد فلنغطّ نحن بالمكاء (١) والصفير والصياح وإنشاد الشّعر والأرجاز ، حتى يخفى صوته ، ولا يقع الاستماع منه ، وهذا الفعل منهم هو اللّغو ، فنزلت الآيات الآتية :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩)) (٢) (٣) [فصلت : ٤١ / ٢٦ ـ ٢٩].

المعنى : قال بعض الكفار لبعضهم : لا تستمعوا لهذا القرآن عند تلاوته ، ولا تتأثروا أو تنقادوا له ، وعارضوه بالكلام اللغو الساقط الذي لا معنى له ، من إنشاد الأشعار ورفع الأصوات والتصفيق والتصفير ، والتخليط بالخرافات والأساطير ، حتى تغلبوا القارئ على قراءته ، وتطمسوا أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتميتوا ذكره وتصرفوا القلوب عنه.

فهددهم الله تعالى بأنه ليجازين في الدنيا في بدر وغيرها جميع الكفار بعذاب شديد ، ومنهم كفار قريش ، الذين يحاولون صد الناس عن سماع القرآن ، ثم يجازينّهم في الآخرة جزاء أقبح أعمالهم التي عملوها في الدنيا ، وهو الشرك. وهذه آية وعيد لقريش والعذاب الشديد : هو عذاب الدنيا في بدر وغيرها والجزاء بأسوأ أعمالهم : هو عذاب الآخرة.

ثم ذكر الله تعالى صفة ذلك العذاب بأن ذلك الجزاء لأقبح أعمال الكفار وهو دخول النار ، هو جزاء أعداء الله الذين كذبوا رسله ، واستكبروا عن عبادته ، فهم

__________________

(١) المكاء : الصفير ، والخبر أخرجه ابن جرير عن مجاهد.

(٢) ائتوا باللغو عند قراءته ، وهو ما لا معنى فيه من سقط القول.

(٣) أي الأذلين المهانين.

٤٠٦

أهل النار ، وهي دار الإقامة المستمرة التي لا انقطاع لها ، ويجزون ذلك الجزاء بسبب جحودهم كون القرآن من عند الله تعالى. إنهم سيرون عظيم ما حلّ بهم وسوء منقلبهم ، وحين يرون العذاب ، يطلبون الانتقام ممن أضلوهم وأبعدوهم عن الطريق القويم.

فقال الكفار طالبين من الله تعالى : ربّنا أرنا من أضلنا من فريقي الجن والإنس ، الذين كانوا يزينون لنا الكفر والمعاصي ، لندوسهم بأقدامنا أو أرجلنا ، ليكون الفريقان من الأذلين المهانين ، في الدرك الأسفل من النار. والطلب لكلا نوعي المضلين ، سواء الذين أضلوا الناس ، وأدى بهم الكفر إلى الخلود في النار ، أو الذين أوقعوا الناس في المعاصي الكبائر. وكل كافر يطلب إبليس ، وكل مرتكب كبيرة يطلبه أيضا ويطلب أعوانه من الإنس. وقولهم : (نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا) يراد به : في أسفل طبقة في النار ، وهي أشد عذابا ، وهي درك المنافقين.

إن من يحذّره القرآن بهذا التحذير الذي يملأ النفس رعبا وهلعا ، وكان عنده قليل من عقل أو وعي أو تأمل ، يبادر إلى البحث عن طريق الإنقاذ ، كحال من يتعرض لخطر مشاهد في الدنيا من حريق ، أو غرق ، أو هدم ، أو زلزال أو بركان ، إن كل إنسان يبحث عن طريق النجاة ، خوفا من الخطر ، وهذا في الدنيا ، فكيف بأهوال العذاب الخالد (الدائم) في نيران الجحيم يوم القيامة.

إن الإنسانية التي تريد النجاة الدائمة والحفاظ على وجودها لا يمكنها تحقيق آمالها ، وتجنب آلامها ومخاطر المستقبل ، إلا بالإصغاء التام لنداءات القرآن العظيم وتوجيهاته ومواعظه السديدة وإرشاداته البليغة ، وحين يستجيب الإنسان لهذا النداء الإلهي تصبح الحياة جنة في الدنيا ، ويتخلص الجميع من الآلام وألوان الشقاء والعذاب الذي يتعرضون له ، فهل من واع أو مدرك لهذا؟!

٤٠٧

جزاء أهل الاستقامة

الاستقامة على منهاج الحق والخير وطاعة الله تعالى. دليل على توافر العقل والوعي. والرجولة والشجاعة والعزة والكرامة ، والانحراف عن ذلك المنهاج أمارة واضحة على الجهالة وقلة الوعي وضعف الإدراك ، والجبن والمهانة ، والانصياع للذّات والأهواء والشهوات ، فما استقام أحد إلا نجا وأفلح ، وكان متماسك الشخصية ، قوي العزيمة والإرادة ، وما ضل أحد إلا هلك ودمّر نفسه ، وكان خائر العزيمة ، ضعيف الإرادة. لذا كان الدين سبيلا لخير الإنسان ، وإبعاده عن الشرور والآثام ، فجاء القرآن الكريم يحضّ على الاستقامة ، ويعد بالجزاء الأحسن في هذه الآيات الآتية :

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢)) [فصلت : ٤١ / ٣٠ ـ ٣٢].

قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وذلك أن المشركين قالوا : ربنا الله ، والملائكة بناته ، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله ، فلم يستقيموا ، وقال أبو بكر : ربنا الله وحده لا شريك له ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبده ورسوله ، فاستقام. وأخرج الترمذي والنسائي والبزار وغيرهم عن أنس بن مالك : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) قال : «قد قال الناس ، ثم كفر أكثرهم ، فمن مات عليها ، فهو ممن استقام».

هذه الآية واردة إذن في أحوال المؤمنين المستقيمين ونهايتهم ، بعد بيان أحوال المشركين ونهايتهم ، ليتبين الفرق بين المؤمن والكافر ، وبين الطيب والخبيث ، وهي وعد للمؤمنين ، بعد آيات وعيد المشركين.

٤٠٨

فالذين أقروا بربوبية الله تعالى وتوحيده ، وأنه الإله الواحد الذي لا شريك له ، وواظبوا على مقتضى التوحيد ، واستقاموا وثبتوا على أمر الله تعالى ، فأطاعوه وتجنبوا معاصيه ، حتى ماتوا ، تنزل عليهم الملائكة تبشرهم بالنجاة في أماكن ثلاثة : عند الموت ، وفي القبر ، وعند البعث ، وتزيل مخاوفهم من أمور الآخرة ، وتذهب عنهم الحزن عما فاتهم من أمور الدنيا من خيرات الأهل والأموال والأولاد ، وتبشرهم بجنان الخلد التي وعدوا بها في الدنيا ، على ألسنة الرسل ، فإنهم واصلون إليها ، خالدون في نعيمها ، وأول درجات الاستقامة : أمن الخلود في النار بالنطق بالشهادتين ، أخرج الإمام أحمد وأبو داود والحاكم عن معاذ رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كان آخر كلامه : لا إله إلا الله دخل الجنة».

وطريق الاستقامة : أداء الطاعات ، واجتناب المعاصي ، تلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية وهو على المنبر ، ثم قال : استقاموا ـ والله ـ لله تعالى بطاعته ، ولم يروغوا روغان الثعالب. وقال سفيان بن عبد الله الثقفي ـ فيما رواه أحمد ومسلم والبخاري في تاريخه وغيرهم ـ : قلت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أخبرني بأمر أعتصم به ، فقال : قل : ربي الله ، ثم استقم ، قلت : ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلسان نفسه ، وقال : هذا. أي اللسان ، فهو أخوف شيء على الإنسان ، يورده المخاطر والمزالق ، ويردي به إلى النار.

وتقول الملائكة للمؤمنين : نحن المتولون لحفظكم ومعونتكم في أمور الدنيا والآخرة ، نؤنسكم من وحشة القبور ، وعند نفخة الصور ، ونؤمّنكم يوم البعث والنشور ، ونجاوز بكم الصراط المستقيم ، الذي هو جسر دقيق بين الجنة والنار ، ونوصلكم إلى جنات النعيم. قال السدي : معنى الآية : نحن ـ أي الملائكة ـ حفظتكم في الدنيا ، وأولياؤكم في الآخرة.

٤٠٩

وأما ألوان نعيم الجنة : فهو ما أخبرت به الملائكة بقولهم : ولكم في الجنة من جميع ما تختارونه ، من صنوف اللذات ، وأنواع الطيبات ، ومهما طلبتم وجدتم ، وكل ما تتمنون حصلتم عليه ، ومعنى قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) أي لكم في الجنة ما تطلبون. وكل ذلك حال كونه معدّا لكم ، ضيافة وعطاء وإنعاما ، من رب غفور لذنوبكم ، رحيم شامل الرحمة بأحوالكم ، حيث غفر وستر ، ورحم ولطف.

ومعنى قوله تعالى : (نُزُلاً) : أنزلناه نزلا ، فهو منصوب على المصدر. أي إن الله تعالى أعد هذا النعيم وأنزله إنزالا على أهل الجنان ، فهو جزاء على طاعتهم واستقامتهم. وإعداد هذه النزل دليل على تحقيق السعادة لهم ، كما جاء في آية أخرى : (هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) (٥٦) [الواقعة : ٥٦ / ٥٦]. أي يوم الجزاء.

فضل الدعوة إلى الله تعالى

تبليغ الدعوة إلى توحيد الله وطاعته : واجب في الإسلام ، والإرشاد إلى الخير والسلامة والأمان : منهاج أهل الحق ، المحبين للإنسانية ، السالكين مع غيرهم ما يحبونه لأنفسهم ، فإن أهل الإيمان يصلحون أنفسهم أولا ، ثم يحاولون إصلاح غيرهم ، وتكون مرتبة تربية النفس وإعدادها معروفة من قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) ثم تأتي مرتبة دعوة الآخرين إلى الهدى والخير ، ويؤخذ ذلك من هذه الآيات الآتية :

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا

٤١٠

يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦)) (١) [فصلت : ٤١ / ٣٣ ـ ٣٦].

أوضح ابن عباس سبب نزول هذه الآية ، فقال : هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، دعا إلى الإسلام ، وعمل صالحا فيما بينه وبين ربه ، وجعل الإسلام نحلة. وقال أيضا : هم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمؤذنون هم أيضا داخلون في هذه الآية. لأنهم يدعون إلى الله وأداء الصلاة ، ولكن ليست الآية نازلة في المؤذنين ، خلافا لما روي عن عائشة وعكرمة ومجاهد وقيس بن أبي حازم ، لأن سورة (فصلت) مكية بلا خلاف ، ولم يكن بمكة أذان ، وإنما شرع الأذان بالمدينة ، لكن الأذان من الدعوة إلى الله تعالى.

والآية تعم بلفظها كل من دعا قديما وحديثا إلى الله تعالى وإلى طاعته ، من الأنبياء عليهم‌السلام ، ومن المؤمنين. والمعنى : لا أحد أحسن ممن هذه حاله. إن أحسن الناس حالا : هم الدعاة إلى توحيد الله تعالى وطاعته وعبادته ، وإلى العمل الصالح : وهو أداء ما فرض الله على الإنسان واجتناب ما حرمه ، والذين يتخذون الإسلام دينا ومنهجا ومذهبا ، ويعمل كل واحد مع إخوته المسلمين على كل ما يشد أواصر الأخوة والتعاون والتناصر معهم.

ومن المعلوم بداهة أنه لا تساوي بين الفعلة الحسنة التي يرضى الله بها ويثيب عليها ، وبين الفعلة السيئة التي يكرهها الله ويعاقب عليها. والمداراة : من الحسنة ، والغلطة : من السيئة ، فادفع أيها الداعية المخلص من أساء إليك بالإحسان إليه ، بواسطة الكلام الطيب ومقابلة الإساءة بالإحسان ، والذنب بالعفو ، والغضب بالصبر والحلم ، وادفع أمورك وما يعرض لك مع الناس ، ومخالطتك لهم بالفعلة أو بالسيرة التي هي أحسن الفعلات والسير ، ومنها : بذل أو إفشاء السّلام ، وحسن

__________________

(١) أي يصرفنك عن الخصلة الفاضلة ، صارف فاستعذ بالله من وساوس الشيطان.

٤١١

الأدب ، وكظم الغيظ ، والسماحة في القضاء ، والاقتضاء ، وغير ذلك. وهذه آية جمعت مكارم الأخلاق ، وأنواع الحلم. قال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا فعل المؤمن هذه الفضائل ، عصمه الله تعالى من الشيطان ، وخضع له عدوه ، ولا شك أن السّلام : هو مبدأ الدفع بالتي هي أحسن. فإذا كان بينك وبين غيرك عداوة ، فقابلت الإساءة بالإحسان ، صار العدو كالصديق.

وما يتقبل هذه الوصية أو الموعظة ويعمل بها ، ويروّض نفسه على هذه الخصلة :

وهي دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا على كظم الغيظ ، واحتمال المكروه ، والصبر شاق على النفوس ، والصبر على الطاعات وعن الشهوات جامع لخصال الخير كلها. وكذلك لا يتقبل هذه الوصية إلا ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة ، وذو حظ في الثواب والخير ، والآية مدح للصابرين ووعد لهم بالجنة.

وطريق التغلب على أهواء النفس ونزواتها هو الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم ، فإن وسوس إليك الشيطان ، وحاول صرفك عن الدفع بالتي هي أحسن ، وزيّن لك أن تقابل السيئة بمثلها ، فاستعذ بالله من شره ، والتجئ إلى الله لكفّه عنك ورد كيده ، فالله هو السميع لاستعاذتك منه ، والتجائك إليه ، العليم بوساوس الشيطان ، وبما يعزم عليه الإنسان.

وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قام إلى الصلاة يقول ـ فيما رواه أحمد والترمذي ـ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، من همزه ونفخه ونفثه». ولما انتصر أبو بكر لنفسه من رجل شتمه ، قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المجلس وقال لأبي بكر : «إنه أي (حين سكوتك) كان يرد عنك ملك ، فلما قربت تنتصر ، ذهب الملك ، وجاء الشيطان ، فما كنت لأجالسه».

٤١٢

بعض الآيات الكونية الدالة على قدرة الله

تكرر إيراد الآيات الكونية الدالة على وحدانية الله وقدرته وعظمة خلقه ، في آيات متنوعة من القرآن الكريم ، لإقناع المشركين بعقيدة الحق والتوحيد والعدل الإلهي ، ويمكن لكل إنسان واع إدراك هذه الظواهر الحسية ، والاقتناع بدلالاتها وما تومئ إليه ، فلا يبقى بعدئذ عذر لأحد في إنكار وجود الله تعالى وتوحيده ، وقدرته التي لا تضارع ، ولا يرقى لمثيلها إنسان. وهذا ما وجهت إليه الآيات الشريفة :

(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)) (١) (٢) [فصلت : ٤١ / ٣٧ ـ ٣٩].

تضمنت الآيات الكريمة دلائل أربعة فلكية : وهي الليل والنهار والشمس والقمر ، وآية أرضية : وهي إنبات النباتات بالأمطار والأنهار ، لإثبات قدرة الله تعالى على إبداع الأشياء وخلقها ، وعلى إحياء الموتى مرة أخرى ، في عالم الآخرة والبعث.

إن من آيات الله تعالى ودلائل قدرته وعظمته : إيجاد الليل والنهار ، وتعاقبهما ، وخلق الشمس المضيئة والقمر المنير ، ففي ذلك خير للإنسان ونفعه ، وتمكينه من الحياة البشرية بنحو مريح ومفيد ، وبما أن الشمس والقمر مخلوقان خاضعان لسلطان الله وتسخيره ، فإياكم أيها البشر من السجود للشمس والقمر وعبادتهما ، لأنهما مخلوقان لله ، وكل مخلوق عاجز عن فعل شيء ، والأولى عبادة الخالق جل جلاله ، إن

__________________

(١) أي لا يملون عبادته.

(٢) انتفخت وعلت بالنبات أو الزرع.

٤١٣

كنتم تريدون عبادة الله ، فعبادة الله وحده : هي الواجبة والصحيحة والنافعة ، وعبادة من دونه من المخلوقات الكونية : هي باطلة كل البطلان ، ولا تفيد شيئا. وهذا ردّ على الصابئة عبدة الكواكب ، وعلى عبدة الشمس الذين يزعمون أنهم يريدون من السجود للشمس والقمر السجود لله تعالى. ويلاحظ أن ذكر الليل والنهار يتضمن ما فيهما من طول وقصر ، وتداخل واستواء وتفاوت ، وذكر القمر والشمس يتضمن ما فيهما من عجائب وحكمة ونفع؟ فإن تكبر هؤلاء المشركون عبدة الكواكب عن امتثال أوامر الله تعالى وتوجيه رسوله ، وأبو إلا البقاء على شركهم ، فلا يهمنك أمرهم أيها الرسول ، فإن الذين يعبدون الله بحق كثيرون ، فمنهم الملائكة الأشراف ذوو المكانة عند الله ، لا المكان أو الموضع ، الذين يواظبون على عبادة الله ، وتنزيهه في كل وقت ، ليلا ونهارا ، وهم لا يملّون من عبادة الله سبحانه ، ولا ينقطعون عن متابعة العبادة ، وكلمة (عِنْدَ رَبِّكَ) ليست ظرف مكان ، وإنما هي بيان المنزلة والقربة.

إن هذه الآية تتضمن وعيد المشركين وحقارة أمرهم ، وأن الله تعالى غير محتاج إلى عبادتهم ، فأولى بهم إعادة النظر في صرف جهودهم في شيء لا طائل معه ولا نفع ، وإنما هو سبب عذاب وغضب وسخط من الله تعالى.

ثم ذكر الله تعالى دلائل أخرى من الأرض وما فيها من أسرار على وجوده وقدرته ووحدانيته ، ومن هذه الدلائل : أنك أيها الناظر ترى الأرض هامدة جامدة ، لا نبات فيها ولا حياة ، فإذا أنزل الله عليها المطر ، تحركت بالنبات ، وانتفخت وعلت ، وأخرجت مختلف ألوان الزروع والحبوب والثمار ، وفيها مع ذلك خزائن الثروة المعدنية ، النفطية السائلة ، والجامدة من معادن الذهب والفضة والحديد والنحاس والفوسفات وغيرها.

إن الذي أحيا هذه الأرض الجدبة بالنبات والزرع ، قادر على أن يحيي الأموات ،

٤١٤

أي إن الذي ينبغي أن يقاس على هذه الآية في مجال إيجاد الأحياء النباتية ، إنما هو إحياء الموتى ، فإن الله هو الرب القدير الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. والشيء في اللغة : هو الموجود. وهذا دليل حسي مشاهد ، نبّه عليه القرآن الكريم للتوصل إلى الإيمان بقدرة الله على البعث والإحياء بعد الإماتة ، والركود في القبور ، وإن الذي يجب الانتباه له : هو قدرة الله تعالى الخالق ، في ابتداء الخلق ، وإعادته وانتهائه ، وفي كل وقت وحال.

وبعد هذا البيان الإلهي لا يبقى عذر لأحد في خطأ الاعتقاد ، وعبادة غير الله سبحانه ، والتماس الخير والنفع من غير الله القادر ، أو منع الضرر والشر من عبيد الله ومخلوقاته. ألا إنها عظة وذكرى لمن كان له قلب وعقل ووعي ، وألقى السمع وتنبه ، وهو شهيد ، أي صرف سمعه إلى هذه الأنباء الواعظة وانتبه في سماعها.

الميل والإعراض عن القرآن

عجيب أمر الإنسان ، يرى الحق ويشاهده ، ويلمس فائدة الاستقامة وجدواها ، وطريق النجاة والسلامة ، ومع ذلك يعرض عنه ، ويميل إلى غيره من ألوان الباطل والانحراف ، متأثرا بأهوائه وشهواته ، مؤثرا نفعا عاجلا في ظنه ، ولكنه في الواقع هو عين الهلاك والضياع. وما مثله إلا كمثل المريض الأحمق ، ينصحه الطبيب بتناول دواء معين ، فيتركه ويهمله ، إلى أن يلقى حتفه ونهايته ، وهكذا بعض الناس يلحدون في القرآن ، أي يميلون عنه وعن توجيهاته ، وهو الحق الأبلج ، والصواب الأسدّ ، ويتجهون إلى غيره ، وهو الباطل اللجلج ، والخطأ البين. وهذا ما أبانته الآيات الآتية :

٤١٥

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣)) (١) (٢) [فصلت : ٤١ / ٤٠ ـ ٤٣].

هذا تهديد لأولئك الضالين الذي يهجرون القرآن العظيم ، أي يتركون الحق إلى غيره ، ويميلون عن الاستقامة على منهج آيات القرآن بالطعن فيها وتحريفها ، وتأويلها تأويلا باطلا ، لاغين عند سماعها ، إنهم لا يخفون على الله ، وإنما يعلم بهم وسيجازيهم أشد الجزاء.

وهل أدرك هؤلاء هذا المصير ، وهل غفلوا عن الفرق الشاسع بين المؤمن المستقر الآمن في الدنيا والآخرة ، وبين الكافر الجبار المتكبر في الدنيا ، والذي يلقى به في الآخرة في دركات النار؟ فالمؤمن يدخل الجنة ، ويطمئن لما فيها من خيرات ، والكافر يزجّ به في نيران جهنم ، فيبقى في عذابها على الدوام ، لا يقول عاقل بالتسوية بين الحالين أو الفريقين. ثم أكد الله التهديد والوعيد بقوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) أي اعملوا أيها الضالون المكذبون ما شئتم من الأعمال ، فإن الله عالم بكم ، وبصير بأعمالكم ، ومجازيكم بحسب ما قدمتم من أعمال ، خيرها وشرها ، وقوله تعالى : (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) معناه : فنحن بالمرصاد لهم وسنعذبهم ، وقوله تعالى : (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) دليل الوعيد والتهديد.

قال مقاتل : نزلت هذه في أبي جهل ، وفي عثمان بن عفان رضي الله عنه. وقيل :

__________________

(١) أي يميلون عن الحق والاستقامة.

(٢) أي القرآن.

٤١٦

في عمار بن ياسر رضي الله عنه. قال بشير بن فتح فيما أخرجه ابن المنذر : نزلت هذه الآية في أبي جهل وعمار بن ياسر.

والمفاضلة بين الإلقاء في النار والأمن يوم القيامة في كلمة (خير) ، وإن كانا لا يشتركان في صفة الخير ، إنما هي بسبب كون الكلام تقريرا نهائيا بسوء مصير الكافرين ، لا مجرد خبر وحكاية. وذلك مثل آية : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) (٢٤) [الفرقان : ٢٥ / ٢٤]. لأن المقرّر قد يقرر خصمه على قسمين : أحدهما بيّن الفساد ، حتى يرى جوابه ، فإذا اختار طريق الفساد ، بان جهله وغباؤه.

وتابع القرآن التهديد وتأكيد الجزاء ، بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ) أي إن الذين كفروا بالقرآن الكريم ذي الذكر العالي والشرف الرفيع ، لما جاءهم ، نجازيهم على كفرهم ، والحال أن القرآن متصف بصفات ثلاث : أولها : أنه كتاب عزيز عن المعارضة أو الطعن ، منيع عن كل عيب من أي بشر ، وثانيهما أنه لا يتمكن أحد من إبطاله وتحريفه ، وليس لأحد أن يبطله من جميع جوانبه ، لا في اللفظ ولا في المعنى ، ولا في الحكم والأسلوب ، ولا في الغرض أو القصة ، فلا يكذبه كتاب سابق قبله ، ولا فكر أو نظر لاحق بعده ، محفوظ من النقص والزيادة ، كما في آية أخرى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٩) [الحجر : ١٥ / ٩].

وثالث الصفات : أنه تنزيل من إله حكيم في قوله وفعله ، محمود في جميع أوامره ونواهيه ، مشكور على نعمه وأفضاله ، فكيف يأتيه الباطل بأي صورة أو باب؟! ثم أبان الله لرسوله وحدة الرسالات ، وأنها تهدف إلى التوحيد الخالص ، وإثبات الآخرة ، وتقرير مبدأ الثواب والعقاب ، مبينا أن ما يقال لك أيها الرسول من هؤلاء الكفار المشركين من وصفك بالسحر والجنون والكذب ، وما ينالك من مكروه ، ما هو إلا كأقوال الجاحدين لأنبيائهم ورسلهم ، الذين تقدموك ، فإن أقوامهم كانوا يقولون

٤١٧

لهم مثلما يقول لك هؤلاء ، من الأقوال الجارحة المؤلمة ، فامض لأمر الله تعالى ، ولا يهمك شأنهم ، وربك بالمرصاد ، فهو غفار ستّار لمن تاب إليه وآمن به إيمانا صحيحا ، ومعاقب بعقاب مؤلم شديد لمن استمر على كفره ، ومات على ضلاله كافرا لم يتب. قال ابن عطية : وفي هذه الكلمات الموجزات جمّاع الزجر والنهي والموعظة ، وإليها يرجع كل نظر.

القرآن العربي شفاء وهدى

أكد الله تعالى على أن القرآن الكريم كله عربي اللسان ، فصيح البيان ، ليس مختلطا بين العربية والأعجمية ، ليؤدي مهمته على أكمل وجه ، فهو هداية للحيارى ، وشفاء لما في الصدور ، مما قد يكون فيها من وساوس وشبهات وضلالات ، وليس محلا للخلاف أو الاختلاف ، وهكذا شأن جميع الكتب السماوية ، فهذا كتاب موسى ـ التوراة نزل وحدة متناسقة ، ومع ذلك وقع الاختلاف فيه وفي القرآن ، من قبل المكذبين بهما وهم اليهود وغير المؤمنين ، ولكن وبال التكذيب على أصحابه ، والإنسان ولي نفسه ، فمن آمن وعمل صالح الأعمال حقق الفوز والنجاة لنفسه ، ومن أساء الاعتقاد والعمل ، أتى بالضرر على نفسه ، وليس الله تعالى بظلام لأحد ، وهذا ما أبانته الآيات القرآنية الآتية :

(وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ (١) (٢)

__________________

(١) أي ثقل في السمع وصمم عن الحقيقة مانع من السمع ، وهذا مجاز ، فإنهم بتركهم فهم القرآن كانوا كالطرشان.

(٢) أي معمى ، وهذا أيضا مجاز ، فإنهم لما لم يفهموا القرآن ، لتعاميهم عن آياته ، جعلوا كالعميان.

٤١٨

مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦)) (١) [فصلت : ٤١ / ٤٤ ـ ٤٦].

هذه الآية الكريمة نزلت بسبب تخليط قريش في أقوالهم ، من أجل الحروف المعرّبة في القرآن من كلام العجم ، كالسّجين والإستبرق ونحوه ، فقال الله عزوجل : ولو جعلنا هذا القرآن أعجميا (أي كلاما لا يبين ولا يفهم ولا يفهم ولا يفصح) لقالوا واعترضوا : لولا بيّنت آياته بلغتنا حتى نفهمها.

وهذا غير صحيح ، فهل يصح أن يكون هذا القرآن العربي بعضه عربيا ، وبعضه أعجميا؟ هذا لا يحسن ، وإنما المقصود الدلالة على أن مشركي قريش قوم متعنتون ، محاربون للقرآن ، بأي لغة أو صفة كان عليها. والواقع أن جميع ما في القرآن عربي ، إذا أرادوا الفهم والإفادة منه ، ولو نزل بلغة أعجمية لأنكروا ذلك ، وغاية القرآن : أن تقول أيها الرسول لقومك المشركين : إنه هداية من الظلمات إلى النور لقلب من آمن به ، وشفاء لما في الصدور من الشكوك والرّيب ، كما جاء في آية أخرى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء : ١٧ / ٨٢].

وبعبارة أخرى : أمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم : إن هذا القرآن هدى وشفاء للمؤمنين المبصرين للحقائق ، وإنه عمى على الذين لا يصدقون بالله ورسوله ، ولا يقلّبون أنظارهم في مصنوعات الخالق ، أي إنه معمّى عليهم ، فعلى أعينهم غشاوة ، وفي آذانهم صمم أو ثقل في السمع ، وعلى قلوبهم أقفال ، وهذا من قبيل المجاز المراد به أنهم لا يفهمون ما في القرآن ، كالعميان والطرشان ، ولا يهتدون إلى ما فيه من البيان ولا يبصرون ما اشتمل عليه من البراهين والمواعظ ، لتعطيلهم سبل المعرفة والإدراك.

ثم أكد الله تعالى على عدم استعدادهم لفهم القرآن ، فإن حالهم كحال من ينادى

__________________

(١) شديد الريبة أو الشك ، موقع في الاضطراب.

٤١٩

من مسافة بعيدة ، يسمع صوت من يناديه منها ، ولا يفهم ما يقال له. وهذا أيضا استعارة ، لقلة فهمهم ، حيث شبّههم بالرجل ، ينادى من مكان بعيد ، يسمع منه الصوت ، ولا تفهم تفاصيله ولا معانيه.

وهذا شأن مستمر بين الأمم المكذبة ، فلا تستغرب أيها الرسول موقف قومك ، فتلك عادة قديمة للأمم مع الرسل ، فإنهم يختلفون في الكتب المنزلة عليهم ، كما حدث من بني إسرائيل ، فلقد أرسل الله موسى عليه‌السلام وآتاه التوراة ، فاختلفوا في كتابهم بين مصدّق ومكذّب ، وشأنك أيها الرسول مع قريش ، كشأن موسى مع بني إسرائيل ، حين جاءهم بالتوراة ، ولقد أخّر الله العذاب على الفريقين ، ولولا الكلمة السابقة (وهي أن الله حتّم تأخير عذابهم إلى يوم القيامة) لقضي بينهم ، أي لعجّل لهم العذاب ، كما فعل بالأمم المكذبة السابقة ، وسبب الهلاك قائم فيهم ، فإن كفار قريش لفي شك من القرآن ، موقع في الريبة والقلق ، ولم يكن تكذيبهم للقرآن ناجما عن تبصر وتأمل ، بل كانوا شاكّين فيه وفيما قالوا ، غير متحققين لشيء كانوا فيه.

وقانون الجزاء الإلهي واضح ، فمن عمل صالح الأعمال بأداء الفرائض واجتناب المعاصي ، فإنما ينفع نفسه ، ويجازى بخير عمله ، ومن أساء فعصى الله تعالى ، فإنما يرجع وبال ذلك عليه ، ويعاقب بسوء عمله ، والجزاء للفريقين قائم على أساس من الحق والعدل المطلق ، فلا ينقص المحسن شيئا من ثوابه ، ولا يعاقب أحد إلا بذنبه أو معصيته.

العلم بالساعة وطبيعة الإنسان

هناك أمر خطير جدا ، مرتقب لا شك فيه : وهو يوم القيامة ، ولكن حكمة الله تعالى اقتضت تجهيله ، فلا يعلم به أحد من المخلوقات ، واختص الله تعالى وحده بعلم الساعة ، كما اختص بالعلم بالأحداث المستقبلة ، ليظل الإنسان رقيبا على نفسه ،

٤٢٠