التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٣

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٣

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0524-1
الصفحات: ٤٢٢

والنصر المحقق والمؤكد لأهل الإيمان ، سواء في الدنيا أو في الآخرة ، وصف الله تعالى لنا هذا اللون من الجدال الذي سيحدث بين أهل النار في الآيات الآتية :

(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥)) (١) (٢) (٣) (٤) [غافر : ٤٠ / ٤٧ ـ ٥٥].

المعنى : اذكر أيها النبي لقومك على سبيل العظة والعبرة وقت تخاصم وتجادل الكفار في النار ، ومنهم فرعون وقومه ، فيقول الأدنياء والأتباع للرؤساء والأشراف والكبراء : إنا كنا تابعين لكم ، وقد أطعناكم فيما دعوتمونا إليه في الدنيا من الكفر والضلال ، فهل أنتم تدفعون عنا جزءا من العذاب أو تتحملون عنا بعضه!

فأجابهم المستكبرون : إننا جميعا في جهنم ، وإن الأمر قد انجزم بحصول الكل منا ومنكم فيها ، وإن حكم الله تعالى قد نفذ واستمر بذلك ، فكيف نغني عنكم؟ فلو قدرنا على دفع شي من العذاب ، لدفعناه عن أنفسنا ، إن الله قضى قضاءه العادل المبرم بين العباد ، بأن فريقا في الجنة ، وفريقا في السعير.

__________________

(١) أي يتخاصمون ويتجادلون. والمحاجة : التحاور بالحجة والخصومة.

(٢) أي في القدر والمنزلة في الدنيا.

(٣) أي أشراف الكفار وكبراؤهم.

(٤) جمع شاهد.

٣٨١

ولما يئس الضعفاء من السادة ، طلبوا من خزنة جهنم تخفيف العذاب ، فقالوا لهم : ادعوا الله ربكم لعله أن يخفف عنا مقدار يوم من العذاب. وذلك لأنهم علموا أن الله تعالى لا يستجيب لهم ولا يسمع دعاءهم.

فرد خزنة جهنم عليهم على سبيل التوبيخ والإلزام بالحجة : أما جاءتكم الرسل في الدنيا بالحجج والأدلة القاطعة على توحيد الله تعالى ، والتحذير من سوء العاقبة؟! قالوا : بلى قد جاءتنا الرسل ، فكذبناهم ، ولم نؤمن بهم ، ولا بما جاؤوا به من الأدلة والمعجزات على صدقهم.

فقالت لهم الخزنة تهكما : إذا كان الأمر كما ذكرتم ، فادعوا أنتم لأنفسكم ، فنحن لا ندعو لمن كفر بالله ، وكذّب رسله ، بعد مجيئهم بالحجج القاطعة ، وليس دعاء الكافرين بالله ورسله إلا في ضياع وبطلان ، لا يقبل ولا يستجاب. والمراد : فادعوا أيها الكافرون الذين لا معنى لدعائكم ، وليس دعاؤنا إلا لأهل الحق والإيمان والطاعة.

ثم أخبر الله تعالى أن ينصر رسله عليهم‌السلام والمؤمنين في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، ويوم يقوم الشهود من الملائكة والنبيين وصالحي المؤمنين ، للشهادة بأن الرسل قد بلّغوا الرسالة ، وأدّوا الأمانة.

وقيام الشهود يكون حين تقوم القيامة ، حيث لا تنفع معذرة الظالمين المشركين ، ولا تقبل منهم فدية ، لأن عذرهم واه ، وشبهتهم زائفة ، وهم مطرودون مبعدون من رحمة الله ، ولهم شر ما في الآخرة : وهو النار والعذاب فيها.

ثم أخبر الله تعالى عن إرسال الرسل ، فليس محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده مرسلا ، وليس هو ببدع من الرسل ، فلقد أرسل الله موسى عليه‌السلام بالتوراة والنبوة ، تأنيسا لمحمد عليه‌السلام ، وتذكيرا بما كانت العرب تعرفه من أمر موسى عليه‌السلام. وكانت

٣٨٢

التوراة هادية لقوم موسى بالشرائع والأحكام ، وأورث الله بني إسرائيل التوراة ، فهو إمام ونبراس لهم ، وهداية وإرشاد ، وتذكير لأهل العقول السديدة بما فيها من أحكام ، فكأن بعضهم يرث التوراة عن بعض.

وإذا كان النصر مقررا في النهاية للرسل وأتباعهم ، فاصبر أيها الرسول محمد على أذى المشركين ، كما صبر الذين من قبلك من المرسلين ، فإن عاقبة الصبر خير ، ووعد الله بالنصر حق ثابت لا يخلفه أبدا ، ودوام على الاستغفار لذنبك ، من ترك الأولى والأفضل ، أو أن المراد أمته ، أي إنه إذا أمر هو بالاستغفار فغيره أولى ، وستكون عاقبة أمرك كعاقبة أمر موسى ، ونزّه الله تعالى عن كل شريك ونقص ، مقترنا تسبيحك بحمد الله وشكره ، على الدوام ، في أوائل النهار وأواخره.

أسباب المجادلة في آيات الله وتفنيدها

يلجأ بعض المتشككين إلى الجدل في آيات الله ، بقصد التشكيك ومحاولة الدفاع عن الباطل ، بغير حجة مقبولة ، ولا برهان سليم ، وقد يكون الجدل حول إنكار البعث والقيامة ، كشأن الماديين الملحدين ، ويتعامى هؤلاء جميعا عن حقائق الأشياء وأسباب وجودها ، وعن الأدلة الكونية الدالة على ضرورة الإيمان بوجود الله وقدرته وحكمته ، وقد ذكر الله تعالى في الآيات الآتية عشرة أدلة على وجوده ووحدانيته وقدرته ، لإثبات وجود القيامة ، منها : خلق السماوات والأرض ، فلا يوجد شيء بالصدفة بدون موجد ، ومنها تعاقب الليل والنهار ، وجعل الأرض قرارا والسماء بناء ، وخلق الإنسان في أحسن صورة ، ورزقه من الطيبات ، واتصاف الله تعالى بالحياة الأبدية الذاتية والوحدانية ، وهذا ما تضمنته الآيات الآتية بمناسبة الأمر بعبادة الله وطاعته :

٣٨٣

(إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥)) (١) (٢) (٣) [غافر : ٤٠ / ٥٦ ـ ٦٥].

أخبر الله تعالى عن أولئك المشركين الكفرة الذين يجادلون في آيات الله بغير حجة ولا برهان ، وهم يريدون بذلك طمسها ، أنهم ليسوا على شيء فلا حجة لهم ولا سلطان أو برهان مقبولا لهم ، ليس في صدورهم وضمائرهم إلا التكبر والتعاظم عن قبول الحق ، وحسد النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما آتاه الله من الفضل والنبوة ، ولا يستطيعون بلوغ آمالهم بسبب ذلك الكبر ، ولا محققي إرادتهم في أن تكون لهم الرياسة والنبوة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستعذ بالله أيها النبي والتجأ إليه في كل أمورك ، من كل

__________________

(١) أي إن في نفوس قريش كبرا وأنفة على النبي حسدا منهم على فضل الله عليه ، وليسوا ببالغي آمالهم وإرادتهم فيه.

(٢) صاغرين أذلاء.

(٣) أي تصرفون.

٣٨٤

مستعاذ منه ، ومن شرورهم ، لأن الله يسمع أقوالك وأقوال مخالفيك ، وهو بصير بمقاصدهم ونياتهم ، ومجاز كل واحد بما استوجبه.

ثم وبخ الله تعالى هؤلاء الكفار المتكبرين على ضلالهم ، وذكّرهم بعظمته وقدرته ، بأدلة كثيرة ، منها أن خلق السماوات والأرض وما فيهما أكبر بكثير من خلق الناس ، بدءا وإعادة ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون بعظيم قدرة الله ، ولا يتأملون بهذه الحجة الدامغة الدالة على قدرة الله تعالى.

ومثل المجادل بالباطل في مواجهة المحق والمتفكر والمتعظ كمثل الأعمى والبصير ، ولا يتساوى الاثنان ، فلا يتساوى المجادل بالباطل أو الكافر الذي لا يتأمل بآيات الله الكونية ، ولا المجادل بالحق أو المؤمن الذي يتفكر في آيات الله ويتعظ بها. وكذلك لا يستوي المحسن بالإيمان والذي يعمل الصالحات من أداء الفرائض والطاعات ، والمسيء بالكفر والعاصي الذي يغفل دور الآيات ويتنكر للطاعات ، فما أقل ما يتذكر كثير من الناس ويتعظ بهذه الأمثال!

ثم أخبر الله تعالى عن وقوع القيامة حتما ، فإن يوم القيامة آت لا ريب في مجيئه ووقوعه ، فآمنوا أيها الناس به إيمانا قاطعا ، لا شك فيه ، ولكن مع الأسف أكثر الناس لا يؤمنون ولا يصدقون بالآخرة.

وطريق النجاة في الآخرة واضح وهو طاعة الله وعبادته ، وقال الله : من دعاه أجابه ، فالدعاء مخ العبادة ، وإن الذين يتكبرون ويتعاظمون عن دعاء الله وعبادته وحده ، سيدخلون حتما جهنم صاغرين أذلاء.

ومن أدلة قدرة الله على البعث وغيره : أنه سبحانه أوجد تعاقب الليل والنهار وجعل الليل للسكن والهدوء والراحة ، وجعل النهار مضيئا منوّرا لإبصار الحوائج ، وطلب المعايش ، ومزاولة الصناعة والتجارة والزراعة وغيرها من الحرف والمهارات

٣٨٥

والخبرات ، وإن الله تعالى بهذه النعمة وغيرها هو المتفضل على الناس ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون النعم.

والله وحده هو الرب المتصرف في كل شيء المدبر لكل أمر ، خالق الأشياء كلها ، لا إله ولا معبود في الوجود غيره ، فكيف تصرفون أيها المشركون عن عبادته؟! ومثل هذا الانصراف عن عبادة الله ، يصرف الجاحدون بآيات الله ، المنكرون توحيده.

والله هو الذي جعل الأرض محل استقرار وثبات ، والسماء مبنية بناء محكما لا خلل فيه ، ولا يتهدم ولا يتصدع ، وخلق الناس في أحسن صورة ، وأجمل نظام وتقويم ، ورزقهم من طيبات الرزق ولذائذه ، ذلكم المتصف بهذه الصفات الجليلة : هو الله رب العالمين من الإنس والجن ، المنزه عن جميع النقائص. والله هو الحي الباقي الدائم الذي لا إله غيره ، فاعبدوه مخلصين له الطاعة والعبادة ، موحدين له ، صاحب الحمد ، المستحق للشكر والثناء ، رب العالمين من الملائكة والإنس والجن.

النهي عن عبادة غير الله

حاول المشركون الوثنيون في مكة استمالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمنهاجهم ، وتخفيف حملاته على دين الآباء والأجداد ، والتوصل إلى أوساط الحلول.

فقال الوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة ـ فيما رواه جويبر عن ابن عباس ـ : يا محمد ، ارجع عما تقول بدين آبائك ، فأنزل الله تعالى : (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) الآية.

قررت هذه الآية الكريمة النهي الشديد عن عبادة الأصنام والأوثان ، وبيّنت الآيات الآتية بعدها سبب النهي : وهو البينات التي جاءت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ربه ، من دلائل الآفاق والأنفس ، قال الله تعالى واصفا ذلك :

٣٨٦

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨)) (١) [غافر : ٤٠ / ٦٦ ـ ٦٨].

جاءت هذه الآيات الشريفة بعد بيان صفات الله تعالى ، بأنه الحي القيوم ، وذلك يقتضي فساد حال الأصنام ، وأنها موات جماد هامدة ، ليس فيها شيء من صفات الله تعالى ، التي منها صدور الأمر من لدنه ، وإيجاد الأشياء ، وتدبير الأمر كله ، وعلمه بالكل ، مما يدل دلالة قاطعة على أنه حي لا إله إلا هو.

أمر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد هذا : أن يصدع بأنه نهي عن عبادة الأصنام التي عبدها الكفار من دون الله سبحانه وتعالى ، وأمر بعدها بالإسلام الذي هو الإيمان والأعمال.

قل أيها الرسول لمشركي قومك المكيين : إن الله تعالى ينهاني عن عبادة أحد من غير الله تعالى من الأصنام والأنداد والأوثان ، حين جاءتني الأدلة القاطعة من آي القرآن والبراهين العقلية الدالة على التوحيد ، وأمرت بالإسلام لله والانقياد لأوامره ، وإخلاص الدين له ، وإعلان الإيمان وأداء الأعمال المفروضة ، والاستسلام لرب العالمين من إنس وجن ، والخضوع له بالطاعة ، والرضا بما أمر ونهى.

ثم ذكر الله تعالى أربعة أدلة من دلائل الآفاق والأنفس تدل على وحدانية الله وهي :

__________________

(١) أنقاد لله تعالى.

٣٨٧

أولا ـ إن الله تعالى خلق أبا الإنسانية الأول آدم عليه‌السلام من التراب ، وجعل ذريته أيضا من تراب ، لأن كل مخلوق من المني ناشئ من الدم ، والدم من الغذاء ، والغذاء من النبات ، والنبات من الماء والتراب ، فكان كل إنسان متكونا من التراب ، ثم تكاثر النوع الإنساني بما هو معروف من النطفة المنوية ، ثم من العلقة (قطعة الدم المتماسكة) ثم من المضغة (قطعة اللحم المتجمدة) ثم ينفخ فيها الروح ، ويتم ولادة الأطفال ، ثم يبلغ الولد مرحلة النضج واكتمال العقل والقوة : وهي بلوغ الأشدّ ، ثم الصيرورة إلى مرحلة الشيخوخة والهرم ، وقد يتوفى الله بعض الناس قبل مرحلة الشيخوخة ، إما في الكهولة أو الشباب أو الطفولة ، وكل هذه المراحل ليتوصل كل إنسان إلى أجله المحدود المقدّر له : وهو وقت الموت ، ثم وقت القيامة ، ولعلكم أيها الناس تفكرون في هذه المراحل ، وتدركون ما تتطلبه كل مرحلة من عناية إلهية.

وقوله تعالى بعد سرد مراحل أو أطوار الخلق الإنساني : (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى) يراد به : هذه الأصناف كلها مخلوقة ميسرة من الله ، ليبلغ كل واحد منها أجلا مسمى لا يتعداه ولا يتخطاه ، وليكون معتبرا متعظا ، ولعلكم أيها البشر تعقلون الحقائق إذا نظرتم في هذا ، وتدبرتم حكمة الله فيه ، ففي هذا الانتقال والتدرج أو التطور في الخلق دلالة على وجود الله تعالى.

ثانيا ـ أي الدليل الثاني ـ أن الله هو القادر على الإحياء والإماتة ، فالله وحده هو الذي يحيي المخلوقات ويميتها ، وهو المتفرد بذلك ، فإذا قضى وقدر أمرا يريد إنفاذه وإيجاده ، وإخراج المخلوق من العدم ، فإنما يقول له (كُنْ) فيكون ويوجد ، من غير توقف على شيء آخر ، ولا معاناة ولا كلفة ، أي إن كل مخلوق يوجد بإرادة الله وحده ، مما يدل على وجوده سبحانه.

٣٨٨

فقوله تعالى : (فَإِذا قَضى أَمْراً) يراد به إنفاذ الإيجاد وإظهار المخلوق ، وإيجاد الموجودات هو بالقدرة الإلهية ، واقتران الأمر بالقدرة : هو عظمة في الملك ، وإظهار للقدرة ، وتخضيع للمخلوقات. وبه يتبين أن إيجاد المخلوق يعتمد على أمرين : الأمر الالهي بالإيجاد ، وتلبّس القدرة الالهية بإيجاده وإظهاره ، لا قبل ذلك ، ففي حال العدم لا يظهر الشيء إذ لا يوجد الأمر ، ولا شي بعد الإيجاد ، لأن ما هو كائن ، لا يقال له : كن.

جزاء المجادلين بالباطل

الحياة الإنسانية إما أن تزدان وتسمو بمواقف الحق والجرأة والإيمان ، وإما أن تهبط وتنحدر بمواقف الباطل والكفر والخذلان ، والناس بين هذين الموقفين في مرصد التاريخ ، فإن كانوا من أصحاب الموقف الأول ، خلّد التاريخ ذكرهم ، وكانوا أسوة الأجيال ، وإن كانوا من أصحاب الموقف الثاني طواهم التاريخ ، ولم يذكروا إلا للعبرة والشماتة ، وهكذا كان المعارضون لدعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورسالته عبرة للتاريخ ، فإنهم جادلوا بالباطل في شأن الرسالة النبوية والكتاب الذي جاء به ، وكذبوا بهما ، فاستحقوا ويلات العذاب ، كما تصف هذه الآيات الشريفة :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ (١) (٢) (٣)

__________________

(١) أي يبعدون عن الإيمان بربهم.

(٢) أي القيود الموضوعة في الأعناق.

(٣) أي يجرون بعنف بالسلاسل إلى النار ويحرقون فيها

٣٨٩

تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨)) (١) [غافر : ٤٠ / ٦٩ ـ ٧٨].

هذا موقف المعاندين أهل الباطل ، فانظر إلى هؤلاء المجادلين في آيات الله الواضحة والدالة على الإيمان ، والإقرار بالوحدانية والبعث ، كيف يصرفون عنها ويتركون الهدى إلى الضلال؟

إنهم هم الذين كذّبوا بالقرآن ، وبرسالات الرسل الداعية إلى التوحيد ، وإخلاص العبادة لله ، والشرائع الصالحة لحياة الإنسان ، فسوف يعلمون مصائرهم الوخيمة وعواقب السوء المترتبة على مواقفهم.

إنهم سوف يعلمون حين تجعل القيود في أعناقهم ، ويسحبون بالسلاسل في الحميم : وهو الماء المتناهي في الحرارة ، فيحرقون ظاهرا وباطنا.

ثم يقال لهم من الملائكة توبيخا وتقريعا : أين الأصنام والشركاء التي كنتم تعبدونها من دون الله؟ قالوا مجيبين : لقد غابوا عنا وذهبوا فلم ينفعونا ، بل في الواقع تبينا أننا لم نكن نعبد شيئا له قيمة وجدوى أو نفع ، ومثل ذلك الضلال ، يضل الله الكافرين على ممر الزمان ، حيث أوصلتهم إلى النار ، بضلالهم وتركهم سادرين في هذا الضلال ، وعلى هذا اللون من الاختلاط وبيان فساد الذهن والنظر ، وهذا

__________________

(١) أي تبطرون وتتكبرون ، فالمرح : فرح بعدوان ..

٣٩٠

الترتيب ، بكشف الحقائق ومصادقة الواقع ، واضطراب الأقوال ، واللجوء إلى الكذب ، فيقولون : بل لم نكن نعبد شيئا.

وذلكم العذاب اللاحق بهم ، والإضلال بتركهم في ضلالهم ، بسبب ما كنتم تظهرون في الدنيا من الفرح بمعاصي الله ، والابتهاج بمخالفة الرسل والكتب الإلهية ، وبسبب موقف البطر والأشر والتكبر ، فهذا جزاء الشرك والوثنية. وجزاؤكم أيها المشركون الإدخال في أبواب جهنم السبعة المقسومة لكم ، المؤدية إلى طبقاتها ودركاتها ، كما جاء في آية أخرى : (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) (٤٤) [الحجر : ١٥ / ٤٤].

فبئس موضع الإقامة والمأوى الذي فيه الهوان والتعذيب لمن تكبر عن آيات الله وبراهينه القاطعة. ثم آنس الله تعالى نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووعده بالنصر بقوله : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي اصبر أيها النبي على تكذيب قومك ، فإن وعد الله بالنصر عليهم وإظهار أمرك ودعوتك والانتقام منهم كائن واقع لا محالة ، إما في حياتك حيث تراه وتقرّ به عينك ، وإما بعد موتك ، حيث يصيرون ويرجعون إلى أمرنا وتعذيبنا.

أي إما أن نرينك في حال حياتك بعض ما وعدناهم به من العذاب ، كالقتل ، والأسر يوم بدر وغيره ، وذلك بعض ما يستحقونه ، وإما أن نتوفينك قبل إنزال العذاب بهم ، فإلينا مصيرهم يوم القيامة. وهذا كما جاء في آية أخرى : (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) (٤٢) [الزخوف : ٤٣ / ٤١ ـ ٤٢].

ثم رد الله على العرب الذين قالوا : إن الله تعالى لا يبعث بشرا رسولا ، واستبعدوا ذلك ، فلقد أرسلنا رسلا وأنبياء كثيرين ، من قبلك أيها النبي الرسول ، إلى أقوامهم ، منهم من أخبرناك بأخبارهم ، وهم أربعة وعشرون ، ومنهم من لم

٣٩١

نخبرك عنهم شيئا ، ولم يكن لرسول من الرسل الإتيان لقومه بمعجزة خارقة للعادة إلا بأمر أو إذن من الله له في ذلك ، فإذا حان وقت العذاب في الدنيا أو الآخرة ، قضي بالعدل فيما بينهم ، وخسر كل مبطل ، وحصل على فساد آخرته. فتكون الآية توعدا لهم ، أو إذا أراد الله إرسال رسول وبعثة نبي ، قضى الله ذلك ، وأنفذه بالحق ، وخسر المبطلون ، فتكون الآية على هذا التأويل ردا على قريش في إنكارهم أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

نعم الله وتهديد أهل الجدل بالباطل

لا يمكن لأحد في العالم عنده مسكة من عقل أن ينكر فضل الله ونعمه على الناس ، لأن الواقع المشاهد حجة دامغة ، ولا يستطيع أحد إنكاره أو تجاوزه ، وما أكثر الأدلة الحسية الميدانية من التاريخ في تعذيب المبطلين المكابرين بالمجادلين في آيات الله تعالى ، لذا كان تحدي الواقع سببا موجبا للتهديد بالعذاب ، وإيقاعه على أولئك المعاندين المغترين بدنياهم ، المستهزئين بآيات الله ، وإذا وقع العذاب ، حدث الندم الشديد ، ولم ينفع الإيمان والاعتذار في ذلك الوقت ، كما تصور هذه الآيات :

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (١) (٢) (٣)

__________________

(١) أي السفن.

(٢) نزل وثبت وأحاط ، وهي مستعملة في الشر.

(٣) شدة عذابنا.

٣٩٢

(٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥)) [غافر : ٤٠ / ٧٩ ـ ٨٥].

هذه آيات للعبر ، وتعداد النعم ، والاحتكام للواقع المشاهد ، فالله تعالى جعل لكم أيها البشر الأنعام وهي الأزواج الثمانية من الإبل والبقر والغنم والمعز. فبعضها في الغالب للركوب كالإبل ، وبعضها للأكل وحرث الأرض عليها كالبقر ، وبعضها للأكل وشرب اللبن كالغنم ، وكلها تتكاثر وتتوالد ، ويستفاد من أصوافها وأوبارها.

فكلمة (منها) الأولى في قوله (لِتَرْكَبُوا مِنْها) للتبعيض لأن المركوب منها هو الإبل خاصة ، وكلمة (منها) الثانية (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) لبيان الجنس ، لأن الجميع منها يؤكل ، ولكم أيها البشر في الأنعام منافع أخرى غير الركوب والأكل من صوف وشعر ووبر ، وزبد وسمن ، وجبن وغير ذلك ، ولحمل الأثقال على بعضها إلى البلاد النائية بيسر وسهولة ، وعلى الإبل وغيرها في البر ، وعلى السفن في البحر ، تحملون وتنقلون من بلد إلى آخر.

والله تعالى يريكم أيها الناس عيانا هذه الآيات والبراهين في الآفاق والأنفس ، والتي هي كلها ظاهرة دالة على كمال قدرته ووحدانيته ، مما لا سبيل لإنكاره ، فأي آية من آياته الباهرة تنكرون؟ إنها كلها مشاهدة مرئية ، لا تستطيعون إنكارها ، ففي كل شيء له آية تدل على وحدانيته ، لذا فإنكم على سبيل التوبيخ كيف تنكرون آية منها؟

ثم احتج الله تعالى على قريش بما يظهر في الأمم السالفة من نقمات الله ، مع أنهم كانوا أكثر عددا ، وأشد قوة أبدان وممالك ، وأعظم آثارا في المباني والأفعال من قريش والعرب. أفلم يسر هؤلاء المشركون المجادلون بالباطل في آيات الله ، فينظروا في أسفارهم كيف كان مصير الأمم السابقة التي عصت الله تعالى ، وكذّبت رسلها ،

٣٩٣

ويشاهدوا آثارهم القائمة في ديارهم نتيجة العقاب والتعذيب ، مع أنهم كانوا أكثر من مشركي قريش عددا ، وأقوى منهم أجسادا ، وأوسع منهم أموالا ، وأبقى في الأرض آثارا بالمباني والقصور والحصون والمزارع والسدود ، فلما حلّ بهم العذاب ، لم ينفعهم مالهم ولا أولادهم ، ولا أغنى عنهم كسبهم ولا حالهم شيئا ، حين جاءهم عذاب الله وأخذه.

فلما جاءت الرسل بالحجج والبراهين الواضحة الدالة على صدق نبوتهم ورسالتهم ، أعرضوا عنهم ، ولم يلتفتوا إليهم ، وفرحوا بما لديهم من العلوم والمعارف ، وهي الشبهات والضلالات الزائفة التي ظنوها علما نافعا ، وأحاط بهم العذاب من كل جانب ، ونزل بهم من العذاب الذي كذبوا به ما كانوا يستبعدون وقوعه ، استهزاء وسخرية. وهذا كقوله تعالى : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) [الروم : ٣٠ / ٧].

ثم أخبر الله تعالى عن حالة بعض أولئك المعذبين الذين آمنوا بعد تلبّس العذاب بهم فلم ينفعهم ذلك. إنهم حينما عاينوا وقوع العذاب بهم ، صدقوا بالله ووحّدوه ، وكفروا بمعبوداتهم الباطلة التي اتخذوها شركاء لله ، وهي الأصنام ، فلم ينفعهم إيمانهم شيئا عند معاينة العذاب وشدة الانتقام ، لأنه إيمان اليأس والإلجاء والقهر ، فهو إيمان قسري عن إكراه فلا يقبل ، لأنه في تلك الحال لا يبقى مجال للتكليف وقبول الإيمان.

ثم ذكر الله تعالى حكمه العام في الأمم ، وهو أن هذا العذاب هو حكم الله وطريقته في جميع من تاب عند معاينة العذاب بأنه لا يقبل ، وخسر الكافرون وقت رؤيتهم بأس الله ومعاينتهم لعذابه ، والكافر خاسر في كل وقت ، ولكن يتبين لهم خسرانهم إذا رأوا العذاب.

٣٩٤

تفسير سورة فصلت أو السجدة

موقف المشركين من القرآن

عارض المشركون المكيون النبي والقرآن معارضة شديدة ، اتسمت بالعناد والاستهزاء والتحدي ، فاستحقوا التهديد بقواصف العذاب ، وصواعق العقاب ، يتبين ذلك من سبب نزول أوائل سورة فصّلت أو سجدة المؤمن ، أو المصابيح ، التي هي مكية بإجماع المفسرين ، يروى أن عقبة بن ربيعة ذهب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليبيّن له أمر مخالفته لقومه ، وليحتجّ عليه فيما بينه وبينه ، وليبعد ما جاء به ، فلما تكلم عتبة ، قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (حم) (١) ومرّ في صدر هذه السورة ، حتى انتهى إلى قوله تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) (١٣) فأرعد الشيخ ، وقفّ شعره (١) ، وأمسك على فم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده ، وناشده بالرّحم أن يمسك ، وقال حين فارقه : «والله لقد سمعت شيئا ما هو بالشّعر ولا بالسّحر ولا بالكهانة ، ولقد ظننت أن صاعقة العذاب على رأسي». وهذه هي بداية هذه السورة :

(حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥) قُلْ إِنَّما (٢) (٣)

__________________

(١) أي أخذته الرعدة ، وقام من الفزع.

(٢) أي أغطية ، جمع كنان : وهو الجعبة : وعاء السهام.

(٣) أي صمم.

٣٩٥

أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨)) [فصلت : ٤١ / ١ ـ ٨].

افتتحت السورة بالحروف المقطعة : (حم) (١) للتنبيه ولفت النظر لما يعرض فيها ، وتحدي العرب بإعجاز القرآن المتكون من الحروف العربية الأبجدية أو الهجائية ، وتقترن هذه الحروف عادة بالكلام عن القرآن ، للدلالة على الصلة بينه وبين مكوناته العربية ، وذكر هنا أن القرآن الكريم منزل من الله تعالى المتصف بالرحمة الواسعة والدقيقة ، فقوله تعالى : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) صفتا رجاء ورحمة لله تعالى. وهذا الكتاب فصلت آياته ، أي بيّنت بيانا كافيا ، وفسّرت معانيه ، وتميز حلاله وحرامه ، وزجره وأمره ونهيه ، ووعده ووعيده ، وأنزله الله كتابا مقروءا باللغة العربية ، موضحا لقوم يعلمون أن القرآن منزل من عند الله ، ويعلمون معانيه لنزوله بلغتهم ، ويعلمون الأشياء ، ويعقلون الدلائل ويتأملون بنظر ثاقب بمشتملاته.

وهذا القرآن الذي أنزله الله يبشر المؤمنين بالجنة لاتباعهم له ، وينذر الكافرين بالنار لمخالفتهم أحكامه ، ولكن أكثر الكافرين أعرضوا عما اشتمل عليه ، من الإنذارات والبشائر ، لأسباب ثلاثة وهي :

ـ إنهم قالوا : قلوبنا في أغطية تحجز ما بيننا وبينه ، وفي آذاننا صمم ، أو ثقل سمع يمنعها من استماعه ، ومن بيننا وبينك ساتر يستر عنا رؤيتك ، ويمنعنا من إجابتك ودعوتك ، فالحجاب : هو مخالفة النبي إياهم ، ودعوته إلى الله تعالى دون أصنامهم ، هذه الحواجز الثلاثة تمنعنا من قبول دعوة النبي ، فاعمل على دينك وطريقتك ، إننا عاملون على ديننا وطريقتنا ، ولا نتبعك. فقوله تعالى : (فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) يحتمل أن يكون القول تهديدا ، ويحتمل أن يكون متاركة محضة. ثم أمر الله نبيه أن يصدع أو

٣٩٦

يجهر بتبليغ التوحيد والرسالة الإلهية : فقل أيها الرسول مجيبا قومك : ما أنا إلا بشر كواحد منكم ، لو لا نزول الوحي علي ، وخلاصة هذا الوحي : العلم والعمل ، أما العلم : فأساسه معرفة توحيد الله ، لأن الله تعالى بدليل خلق الكون وتسييره واحد لا شريك له ، فاستقيموا إليه على محجة الهدى وطريق الشرع والتوحيد ، بالعمل الصالح والعبادة الخالصة له ، واستغفروه من الذنوب السابقة ، وأولها الشرك بالله تعالى.

ثم هدد الله المشركين على موقفهم المعارض ، والمناوئ لدعوة التوحيد والحق ، ومضمون التهديد والوعيد : ويل : كلمة تهديد أو واد في جهنم ، للمشركين الذين أشركوا مع الله إلها آخر ، ولا يؤدون الزكاة للمحتاجين لكراهيتهم الناس ، وهم جاحدون بالآخرة ، منكرون لها. والزكاة : للمحاجين لكراهيتهم الناس ، وهم جاحدون بالآخرة ، منكرون لها. والزكاة : المال فهي قنطرة الإسلام ، وذلك بالمعنى العام للزكاة ، وإما زكاة النفس وهي (لا إله إلا الله) أساس التوحيد ، وهذا رأي الجمهور ، كما في قول موسى لفرعون : (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) [النازعات : ٧٩ / ١٨]. ويرجح هذا التأويل أن الآية من أوائل السور المكية ، وزكاة المال نزلت بالمدينة ، فهي زكاة القلب والبدن ، أي تطهيرهما من الشرك والمعاصي.

وبعد تهديد المشركين ، وعد الله المؤمنين بالنجاة ، وذكر الله حالة الذين آمنوا لمقارنتها بحال الكفار المذكورين ، ليتبين الفرق. فالذين صدقوا بالله ورسوله ، وعملوا بما أمر الله تعالى وانتهوا عما نهى عنه ، لهم عند ربهم ثواب غير منقوص أو مقطوع ، أو لا يشتمل على المنّ والأذى ، فهو من جهة الله تشريف لا منّ فيه ، أما أعطيات البشر : فهي التي يدخلها المنّ.

وقال السدّي : نزلت هذه الآية في المرضى والزّمنى (المرضى مرضا يدوم طويلا) إذا عجزوا عن إكمال الطاعات ، كتب لهم من الأجر كأصح ما كانوا يعملون.

٣٩٧

التوبيخ على الكفر

في مناسبات قرآنية كثيرة ، أورد الله تعالى بعض الأدلة على وجوده وتوحيده ، وكمال قدرته وحكمته ، ومن أهم هذه الأدلة : خلق السماوات والأرض وتقديرها في مدة قليلة ، وأتبع ذلك في بعض الآيات كما هنا توبيخ المشركين على كفرهم بخالق الأرض والسماء ومخترعهما ، لذا فإنه آن للبشرية أن ينتهي الشرك من ساحتها. ويتخلصوا من العقائد الباطلة ، والموروثات الزائفة حتى في عصرنا الحاضر ، وهذا ما تضمنته هذه الآيات الكريمة الآتية :

(قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢)) (١) (٢) (٣) [فصلت : ٤١ / ٩ ـ ١٢].

قل أيها النبيّ لقومك المشركين على سبيل التوبيخ والتقريع : كيف تكفرون بالله الذي خلق الأرض في مقدار يومين ، وتجعلون له شركاء من الملائكة والجن ، والأصنام والأوثان ، فذلك الخالق المبدع : هو رب العالمين كلّهم من إنس وجن ، وهو مالكهم وخالقهم ومدبّرهم.

والحكمة في خلق هذه المخلوقات في مدة ممتدة ، مع قدرته على إيجادها في لحظة واحدة : هي إظهار القدرة في ترتيب ذلك ، حسب شرف الإيجاد أولا فأولا ، وقال قوم : ليعلّم عباده التأني في الأمور والمهل.

__________________

(١) أي شركاء وأشباها وأمثالا.

(٢) الرواسي : هي الجبال الثوابت.

(٣) أي جعلها منبتة للطيبات والأطعمة ، وطهورا إلى غير ذلك من أنواع البركة.

٣٩٨

ورتّب الله تعالى أوضاع الأرض لتصلح للعيش عليها ، بإيجاد ثلاثة أنواع فيها ، وهي إيجاد الجبال الثوابت فيها ، لتحقيق الاستقرار والتوازن على سطحها ، وحفظها من الاضطراب ، ولتخزين المياه والمعادن في باطنها ، والإرشاد للطرق في جنباتها ، وحفظ الهواء والسحاب لها. ثم جعل الله الأرض مباركة كثيرة الخير ، بما أودع فيها من مصادر الثروة المعدنية والمائية والزراعية ، وقدّر الله فيها أرزاق أهل الأرض وأقواتهم ، وما يصلح لمعاشهم من الأشجار والمنافع ، وأتم الله تعالى معايش أهل الأرض في غضون أربعة أيام ، مع اليومين المتقدمين للخلق والإبداع ، وهذا كما تقول : بنيت جدار داري في يوم ، وأكملت جميعها في يومين ، أي بالأول ، وجعل الله ذلك الخلق في أربعة أيام ، مستوية استواء ، بلا نقصان ولا زيادة ، ومستغرقة بالأعمال ، لأجل إجابة سؤال السائلين عن الأمر ، والاستفهام عن حقيقة وقوعه ، والطالبين ما ينتفعون به ، فهم في حكم من سأل هذه الأشياء ، إذ هم بحال حاجة إليها.

وكلمة (سواء) مثل كلمة (عدل) ترد على المفرد والجمع ، والمذكر والمؤنث. وهي مصدر مؤكّد لمضمر هو صفة لأيام ، أي استوت استواء أو سواء.

ثم عمد الله وقصد بقدرته واختراعه إلى خلق السماوات وإيجادها ، حسبما تقتضي الحكمة الإلهية ، فقال للأرض وللسماء : كونا مخلوقتين منقادتين ، خاضعتين للأمر الإلهي ، طائعتين أو مكرهتين ، فاستجابتا ، وقالتا بلسان الحال أو المقال : أتينا ووجدنا طائعين ، أي ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف. وبه يتبين أن الله تعالى خلق الأرض أولا ، ثم خلق السماء بعدها ، ثم بعد السماء ، دحا الأرض ، أي بسطها بحسب نظرنا ، وهذا توفيق بين هذه الآية ، وآية : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) [النازعات : ٧٩ / ٣٠].

ثم ذكر الله كيفية تكوين السماوات ، وهو أنه تعالى أتم خلق السماوات السبع وأحكمهن ، وفرغ منهن في مقدار يومين ، فأصبح خلق السماوات والأرض في مقدار

٣٩٩

أيام ستة ، كما جاء في آية أخرى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) [الأعراف : ٧ / ٥٤] وغيرها ، قال مجاهد : ويوم من الأيام الستة كألف سنة مما تعدّون ، والراجح أن هذه الأيام مثل أيام الدنيا.

وأوحى الله في كل سماء أمرها ، أي جعل فيها النظام الذي تجري عليه الأمور فيها ، وزيّن سماء الدنيا بكواكب منيرة مضيئة ، مشرقة على أهل الأرض ، متلألئة كالمصابيح ، وجعل المصابيح زينة ، وحفظا من الشياطين الذين يسترقون السمع ، ومن الاضطراب في سيرها ، ومن اصطدام بعضها ببعض ، ذلك النظام البديع هو من ترتيب الله القادر على صنع كل شيء ، القاهر كل شيء ، والعليم علما تاما بمصالح الخلق وحركاتهم وسكناتهم جميعها.

تهديد المشركين بعذاب الدنيا

لم يترك القرآن الكريم وسيلة في خطاب المشركين لإقناعهم بوحدانية الله تعالى ، وترك عبادة الأصنام إلا سلكها ، ونوّع في عرضها ، وأبان ما ينبغي أن يكون عليه العقلاء والسعداء في وجوب المبادرة إلى سماع النصيحة ، والإقلاع عن عادة الوثنية وسلوكياتها الضالة ، وطرقها الوعرة ، وما يترتب عليها من خرافات وأساطير ، وحينما لم تجد معهم وسائل الإقناع والنقاش ، أنذرهم القرآن الكريم بالتعرض لأشد ويلات العذاب وألوان العقاب ، مثل الذي أنزله الله بالأمم السابقة العاتية ، كما تبين هذه الآيات الشريفة :

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ (١)

__________________

(١) الصاعقة : الهلاك للإنسان وعذابه.

٤٠٠