التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٣

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٣

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0524-1
الصفحات: ٤٢٢

تفسير سورة غافر

مصدر القرآن الكريم

لقد أدرك الكافرون من العرب والمؤمنون أن القرآن العظيم كلام الله تعالى ، لاختلافه التام عن كلام البشر من أدب وشعر ، ونثر وخطابة ، ولتفوقة في البلاغة والفصاحة ، ولسموه في النظم والمعنى والانسجام ، إلا أن من لم يؤمن به عائد وتحدى ، حفاظا على المراكز والمصالح ، ومن بادر إلى الإيمان به ، استجاب لنداء العقل والحكمة ، واختار لنفسه طريق السعادة والنجاة ، وحمى نفسه من التردي والضياع والخسران. وهذا ما قررته الآيات الشريفة الآتية بكل ثقة وبداهة في أول سورة غافر أو المؤمن التي هي مكية :

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦)) (١) (٢) [غافر : ٤٠ / ١ ـ ٦]

__________________

(١) أي مصدر الإنعام صاحب النعم والفضل والغنى ، فالطول : السعة والغنى.

(٢) أي ليبطلوا ويزيلوا به الحق.

٣٦١

هذه الآيات تبين مصدر إنزال القرآن : وهو أنه من عند الله ، وتناقش الكفار الذين جادلوا بالباطل ، لدحض الحق ، فاستحقوا التهديد بالعذاب في النار.

حم : حروف مقطعة للاستفتاح والتنبيه لخطر ما بعدها ، وللتحدي بالإتيان بمثل آي القرآن في الفصاحة والبلاغة ، والإحكام في النظم والمعنى ، لأنه لم يخرج تركيبه عن الحروف العربية ، مثل هذين الحرفين : حم ، ثم إن تنزيل القرآن الكريم على قلب النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الله الغالب القوي القاهر ، الواسع العلم بخلقه وبكل أقوالهم وأفعالهم ، فأنت أيها النبي صادق في قولك : إنك رسول الله ، وإن القرآن من عند الله. والله منزّل القرآن : هو غافر الذنب الصادر من الإنسان ، وقابل التوبة الخالصة منه ، وشديد العقاب لمن عاداه ، وذو الفضل والسعة والنعمة والمن بكل نعمة ، ينعم بمحض إحسانه ، وهو الإله الواحد الذي لا شريك له ولا نظير ، وإليه مرجع الخلائق كلهم. هذه ست صفات لله عزوجل تضمنت وعيدا بين وعدين ، وعيدا بالعقاب ، ووعدا بمغفرة الذنب وبالإمداد بالنعم ، وهكذا رحمة الله تعالى تغلب غضبه. قال عمر رضي الله عنه : «لن يغلب عسر يسرين» مشيرا لقوله تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (٦) [الشرح : ٩٤ / ٥ ـ ٦].

ولا يخاصم في دفع آيات الله وتكذيبها إلا الذين كفروا بالله ، فهم يجادلون بالباطل ، أي جدالا باطلا ، فلا تغتر أيها النبي أو تظن أن وراء تقلبهم وإمهالهم خيرا لهم ، ولا يغتروا بإملاء الله تعالى لهم ، أي ولا تنخدع بتصرفهم وتمتعهم بالمساكن والمزارع والأسفار ، وتنقلهم في بلاد الله للتجارة وتحقيق الأرباح ، وجمع الأموال ، فإنهم معاقبون عما قليل ، وعاقبتهم في النهاية : الدمار والهلاك.

ثم ذكر الله تعالى أن لهم مثلا بمن تقدمهم من الأمم السابقة ، فكما حل العقاب بأولئك ، كذلك ينزل بهؤلاء ، فلقد كذبت قبل جماعة قريش قوم نوح والأحزاب

٣٦٢

(الجماعات) الذين تحزبوا على الرسل من بعد قوم نوح ، كعاد وثمود وأهل مدين وأصحاب لوط ، وقوم فرعون وغيرهم ، فإنهم جاهروا بتكذيب الرسل ، فعوقبوا أشد العقاب.

وعزمت كل أمة من تلك الأمم المكذبة برسولهم المرسل إليهم على أخذه ، لحبسه وتعذيبه ، أو قتله ، أو طرده ، وجادلوا الرسل بالشبهة المزيفة ، وبباطل القول وزخرف الكلام ، لرد الحق ، وإبطال الإيمان الصحيح.

وقوله تعالى : (لِيَأْخُذُوهُ) معناه : ليهلكوه ، والأخيذ : القتيل أو الأسير ، فأخذهم الله ، أو أهلكم ودمرهم.

فانظر كيف كان عقابي الذي عاقبتهم به؟ فإنه كان مهلكا مستأصلا. فيكون قوله تعالى : (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) تعجيب وتعظيم ، وليس باستفهام عن كيفية وقوع الأمر.

ثم أكد الله تعالى هذا المعنى بقوله : (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ..) أي وكما أخذت أولئك المذكورين وأهلكتهم ، فكذلك حقت كلماتي ، ووجب عذابي على جميع الكفار ، من تقدّم منهم ومن تأخر ، أنهم أهل النار وسكانها. وهذه كلها عبارة عن تحتم القضاء عليهم ، فما دام السبب واحدا أو العلة واحدة ، فإن الجزاء أو العذاب واحد ، وهو استحقاقهم النار.

إن عدالة القرآن الكريم ، وبيانه البديع ، وقانونه الحق المبرم يتطلب كل ذلك الإذعان لدعوته وامتثال أمر الله وطاعته ، والحذر من مخالفته وعصيانه ، ولو لم يكن ذلك منهج القرآن الذي يسوّي بين جميع البشر في الحساب والجزاء ، لما أيقن أهل الإيمان بقدسيته ، ولما جعلوه بمثابة الروح والقلب والدم في نفوسهم ، بل الذي لا يعلوه شيء ولا يتقدم عليه شيء.

٣٦٣

استغفار الملائكة للمؤمنين

كرّم الله تعالى أهل الإيمان بأنواع متعددة من التكريم والتشريف ، سواء في الدنيا أو في الآخرة ، ومن ذلك أن الملائكة حملة العرش والذين هم حول العرش وهم أفضل الملائكة يستغفرون للمؤمنين ، ويسألون الله تبارك وتعالى لهم الجنة والرحمة. وما أحوج الإنسان إلى رحمة الله وفضله!! وما أكرم المؤمن الذي يحظى بدعاء الملائكة ، وبقبول الله لهذا الدعاء المخلص المجاب من رب العزة ، كما جاء في بعض الآيات : (كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) [الفرقان : ٢٥ / ١٦]. أي سألته الملائكة فأجيبوا. وجاء تفسير مجمل هذا الدعاء في آية أخرى : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) [الشورى : ٤٢ / ٥]. وهذا الدعاء والتكريم الملائكي للمؤمنين : هو مضمون الآيات الآتية :

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩)) [غافر : ٤٠ / ٧ ـ ٩].

المعنى : إن الملائكة حملة العرش ومن حول العرش وهم الكروبيون أفضل الملائكة ينزهون الله تعالى عن جميع النقائص ، ويحمدونه على نعمه البالغة ، ويصدّقون بوجود الله ووحدانيته ، ولا يتكبرون إطلاقا عن عبادته ، ويطلبون المغفرة السابغة للذين آمنوا بالله وبالغيب ، لا للذين كفروا بالله ومغيباته ، إذ لا يجوز الاستغفار للكفار إلا بمعنى طلب هدايتهم والمغفرة لهم بعد ذلك ، كاستغفار إبراهيم عليه‌السلام لأبيه. واستغفار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمنافقين : معناه أن يهديهم الله ثم يستقيموا.

٣٦٤

والعرش : أعظم المخلوقات ، وهو مركز تدبير العالم وهو حقيقة ، الله أعلم به. ومضمون دعاء الملائكة بالاستغفار هو :

يا ربنا الذي وسعت رحمتك وعلمك كل شيء ، اغفر واستر واصفح عن المؤمنين الذين تابوا عن الذنوب ، واتبعوا سبيلك ودينك في القرآن ، واحفظهم من عذاب الجحيم ـ عذاب النار.

ربنا وأدخل المؤمنين جنات عدن ، أي جنات الإقامة الدائمة التي وعدتهم بها على ألسن الرسل ، وأدخل معهم من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرّياتهم المؤمنين الصالحين ، اجمع بينهم وبينهم ، تكميلا لنعمتك وفضلك ، إنك أنت القوي الغالب الذي لا يقهر ، الحكيم في أقوالك وأفعالك من شرعك وقدرك.

روي عن سعيد بن جبير في تفسير هذه الآية : أن الرجل يدخل الجنة قبل قرابته ، فيقول : أين أبي؟ أين أمي؟ أين زوجتي؟ فيلحقون به لصلاحهم ، ولتنبيهه عليهم وطلبه إياهم ، وهذه دعوة الملائكة.

ولم يقتصر دعاء المؤمنين على طلب إدخال الجنان ، وإنما شمل طلب الحماية من العذاب أو العقاب ، فيا ربنا احفظ المؤمنين من ألوان العقاب والعذاب وجزاء المعاصي التي ارتكبوها ، بأن تغفر لهم ، ولا تؤاخذهم بشيء منها ، واحمهم من آثار السيئات ، فمن وقيته من السيئات يوم القيامة ، فقد شملته برحمتك ، وأنجيته من عذابك ، وذلك هو الفوز الأكبر الذي لا فوز أفضل منه. وقوله تعالى : (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) يحتمل معنيين :

الأول : يحتمل أن يكون الدعاء في أن يدفع الله عنهم السيئات نفسها حتى لا ينالهم عذاب من أجلها.

٣٦٥

الثاني : ويحتمل أن يكون الدعاء في رفع العذاب اللاحق من السيئات ، أي وقهم جزاء السيئات ، فهو على هذا على حذف مضاف.

إن فائدة استغفار الملائكة للمؤمنين التائبين الصالحين هي زيادة الكرامة والثواب ، وتحقق الإجابة لهذا الدعاء ، لأن دعاءهم وسؤالهم بوعد من الله تعالى ، لا خلف فيه.

ومن مزيد فضل الله وتكريمه : إخباره في قرآنه المجيد عن هذا العون والمدد : بأن الملائكة تستغفر لأهل الإيمان ، كما تستغفر أيضا لطلاب العلم ، كما جاء في الحديث النبوي الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحة والبيهقي عن أبي الدرداء الذي قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من سلك طريقا يلتمس فيه علما ، سهّل الله له طريقا إلى الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع ، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء ..».

أهوال الحساب يوم القيامة

لا يتصور إنسان تصورا واعيا مدى المخاطر والأهوال والمخاوف التي يتعرض لها الكفرة في عالم الحساب يوم القيامة ، ولو لا القرآن الكريم الذي رسم صورة مرعبة لحال الكفار في ذلك اليوم الرهيب ، لما أدركنا تلك الأهوال أو تصورناها ، وإشفاقا على هذا الإنسان المتمرد في الدنيا عن الإيمان بربه والعمل بأوامر الله ، كيف يتحمل تلك الأهوال وألوان العذاب والهزات والآلام الشديدة؟! ولكن العلاج سهل وتفادي الويلات المرتقبة أمر يسير جدا ، وهذه مهمة القرآن الكريم في الإنذار والتحذير ، كما ترسم هذه الآيات :

٣٦٦

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧)) (١) (٢) (٣) (٤) [غافر : ٤٠ / ١٠ ـ ١٧].

هذه أحوال الكافرين ، ذكرت عقب بيان أحوال المؤمنين من التكريم بدعاء الملائكة لهم ، ليتبين الفرق ، وتتبين المعادلة أو الموازنة بين الفريقين على نحو واضح كالشمس ، وهذه الفوارق هي ما يلي :

ـ تنادي الملائكة الكفار يوم القيامة ، وهم يعذبون في نار جهنم : بأن تعذيب الله وغضبه عليهم في الآخرة أشد وأكبر من مقت أنفسهم ولومها على ما قدموا من سوء الأعمال في الدنيا حين أعرضوا عن الإيمان بالله تعالى ، ودعوا إليه ، فكفروا وتمردوا.

ـ فيجيب الكفرة مستغيثين مستنجدين قائلين : يا رب ، لقد أمتنا مرتين حين كنا نطفا في الأصلاب ، وذرأت في عالم الذر ، وحين صرنا أمواتا بعد حياة الدنيا ، وأحييتنا مرتين أيضا : حياة الدنيا ، وحياة البعث والنشور من القبور ، فاعترفنا

__________________

(١) المقت : أشد أنواع البغض ، والمراد به التعذيب والغضب.

(٢) مرتفع الصفات ، منزه عن مشابهة المخلوقات.

(٣) أي الوحي الإلهي.

(٤) يوم اجتماع الخلائق للحساب بين يدي الله تعالى.

٣٦٧

بذنوبنا التي اقترفناها في الدنيا ، من تكذيب الرسل ، والتورط في الشرك ، وإنكار البعث والحساب في عالم الآخرة ، فهل لنا طريق للخروج من النار والرجوع إلى الدنيا ، لنعمل غير الذي كنا نعمل؟!

فأجابتهم الملائكة : ذلكم المقت لأنفسكم ، وتعرضكم للعذاب الذي أنتم فيه على النحو القائم في وضعكم : لا تغيير فيه ولا تبديل ، ولا رجعة إلى الدنيا ، بسبب أنكم كنتم إذا دعيتم لتوحيد الله عزوجل في دنياكم ، كفرتم به وتركتم توحيده باستمرار ، وإن يشرك بالله غيره من عبادة الأصنام ونحوها ، تصدّقوا بالشرك وتجيبوا الداعي إليه ، فالحكم لله وحده دون غيره صاحب العظمة والجلال ، والتعالي عن المثيل في ذاته وصفاته ، الأكبر من كل شيء في الوجود.

ومن كمال عظمة الله وقدرته : أنه سبحانه هو الذي يظهر لكم دلائل توحيده ، وعلامات قدرته في آيات الكون العظيمة ، الدالة على مبدعها وخالقها ، وينزل لكم من السماء المطر ، يكون سببا في الرزق والنماء ، ونتاج الزروع والثمار ، ولكن لا يتعظ بتلك الآيات إلا الراجع إلى ربه ، الخاشع المطيع ، فأخلصوا لله وحده العبادة والدعاء ، ولو كره الجاحدون المنكرون منهجكم ذلك.

ومن صفات الله العالية : أنه رفيع الصفات ، منزه عن مشابهة المخلوقات ، صاحب العرش والسلطان المطلق ، ينزل الوحي على من يريد من عباده ويصطفيه ، لينذر بهذا الوحي الناس من العذاب ، يوم اجتماع الخلائق للحساب في محشر القيامة.

ومن صفات القيامة : أن يوم التلاق أو اجتماع الناس للحساب هو اليوم الذي يكونون فيه ظاهرين للعيان ، أي مرئيين بالعين المجردة ، لا يسترهم شيء لاستواء الأرض وهم خارجون من قبورهم ، ويكون فيه الملك المطلق والسلطان الشامل لله

٣٦٨

الواحد الأحد ، صاحب القهر والغلبة والقدرة ، لا لأحد سواه من ملك أو رسول أو نبي.

إن يوم القيامة : هو يوم الجزاء والحساب والعقاب والثواب بحسب عمل كل عامل ، من خير أو شر ، صالح أو سيئ ، ولا ظلم في الحكم فيه على أحد ، فلا زيادة في العقاب ، ولا نقص من الثواب ، وإن الله في هذا الموقف سريع الحساب لعباده على أعمالهم في الدنيا ، فيحاسب الخلائق كلهم كما يحاسب نفسا واحدة ، كما جاء في آية أخرى : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) [لقمان : ٣١ / ٢٨]. وهذا نص واضح على أن الثواب أو العقاب على اكتساب العبد وعمله ، وعلى إحاطة الله بالأشياء علما.

إنذارات من مخاوف القيامة

حرص الحق سبحانه وتعالى في قرآنه على تقويم الإنسان وضمان حياة السعادة والنجاة له ، فقدّم له الإنذارات المتتالية ، والتحذيرات المتعاقبة ، ولا سيما من أهوال القيامة ومخاطرها ، وهو يوم الآزفة ، ليبادر الناس جميعا للإيمان ، ويتجنبوا الشرك والعصيان ، فإن فعلوا حققوا الخير لأنفسهم ، وإن تمردوا وعصوا ، جلبوا الدمار والهلاك لذواتهم ، ولا يغنيهم أي شيء قدموه أو يقدمونه عن الجزاء العادل ، والحساب الرهيب عن سوء أعمالهم ، وفحش منكراتهم. وإذا كان الأمر خطيرا تفادينا أسبابه ، والسبب النافع يحقق ثمرة طيبة ، والسبب العقيم يؤدي إلى نتيجة وخيمة ، قال الله تعالى واصفا إنذاراته :

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ (١) (٢)

__________________

(١) أي يوم القيامة ، سميت بذلك لقرب وقوعها.

(٢) أي ممتلئين غما شديدا ، والحناجر : جمع حنجرة وهي الحلقوم.

٣٦٩

وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢)) (١) [غافر : ٤٠ / ١٨ ـ ٢٢].

المعنى : خوّف أيها الرسول أهل الكفر من يوم القيامة ، ليؤمنوا ويتركوا الشرك والضلال ، حيث تكون القلوب في ذلك اليوم كأنها زائلة عن مواضعها من الخوف ، وترتفع حتى تصير إلى الحلوق ، ويكون أصحابها ممتلئين كربا وغما شديدا ، ولا يكون للظالمين الكافرين قريب ينفعهم ، ولا شفيع يشفع لهم ، أو تقبل شفاعته بهم. وقوله تعالى : (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) معناه عند الحناجر ، قد صعدت من شدة الهول والجزع.

وهذا يصور حال الرعب والخوف أو الذعر الذي يكون عليه الكفار يوم القيامة ، والله تعالى يعلم النظرة الخائنة ، التي ينظرها الإنسان إلى ما حرّم الله عليه ، أي يعلم الاختلاسة التي تختلس النظر إلى المحرّم وتسارقه ، ويعلم الله أيضا كل ما تسرّه الضمائر من أمور خيّرة أو شريرة ،. وما تخفيه الصدور من الرغبات والنوايا والخواطر.

والنظرة الخائنة : هي النظرة الثانية ، وما تخفي الصدور : أي عند النظرة الأولى التي لا يمكن للمرء دفعها. وقوله تعالى : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) متصل بقوله : (سَرِيعُ الْحِسابِ) لأن سرعة حسابه تعالى للخلق ، إنما هي بعلمه الذي لا يحتاج معه إلى رؤية وفكرة ، ولا لشيء مما يحتاجه الحاسبون. والله يحكم بالحكم العادل ، ويجازي كل

__________________

(١) أي حافظ يدفع عنهم السوء أو العذاب.

٣٧٠

إنسان بما يستحقه من خير أو شر. وأما الذين يعبدون الأصنام من غير الله ، فإن أصنامهم لا يتمكنون من القضاء بشيء ، أو فلا يحكمون بشيء ، ولا يملكون شيئا ، لأنهم لا يعلمون شيئا ، ولا يقدرون على شيء ، وإن الله هو السميع لكل شيء من الأقوال والبصير بالأفعال ، فيجازي عليها أصحابها يوم القيامة. وهذا وعيد شديد ، وتحذير رهيب على أقوالهم وأفعالهم.

ثم أنذر الله تعالى الكافرين ، وخوّفهم من عقاب الدنيا ، بعد أن حذّرهم من عذاب الآخرة ، فأرشدهم إلى الاعتبار والاتعاظ بغيرهم ، أفلم يمش هؤلاء المكذبون برسالتك أيها النبي محمد ، فينظروا مآل الغابرين المكذبين أنبياءهم ، وما حلّ بهم من عذاب الاستئصال والانتقام ، مع أنهم كانوا أشد قوة من قومك أهل مكة وأمثالهم ، وأبقى آثارا ، بما عمروا في دنياهم من حصون وقصور ، وأشادوا من مدن وقلاع ، فأهلكهم الله بذنوبهم ومنكراتهم ، ولم يكن لهم من الله من واق ، أي ساتر مانع يقيهم السوء ، ويدفع عنهم العذاب. وهذا تحذير شامل للكافرين في كل زمان ، حيث يجب عليهم أن ينظروا بما حل بالأقوام الغابرين.

وعلّة هلاكهم وتدميرهم أو أخذهم وإماتتهم : بسبب أن رسلهم كانوا يأتونهم بالحجج الواضحة على الإيمان الحق ، فكفروا بما جاءوهم به ، فأهلكهم الله ، ودمر ديارهم عليهم ، إن الله ذو قوة شديدة ، وبطش كبير ، وذو عقاب مؤلم جدا ، يفعل كل ما يريد ، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، فهل من متعظ؟

وقوله تعالى : (ذلِكَ) إشارة إلى أخذ الله الكفار بذنوبهم ، وإن لم يكن لهم منه واق أو حافظ مانع. وسبب إهلاك الماضين هو ما عليه قريش في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث جاءهم رسول من الله تعالى ، مؤيد بالمعجزات والبراهين ، فكفروا به ، فأهلكهم الله ، وقد وصف الله نفسه بالقوة وشدة العقاب ، وكل ذلك وعيد لقريش وأمثالهم.

٣٧١

موقف فرعون من رسالة موسى عليه‌السلام

إن الصراع الحاد بين الخير والشر ، وبين دعوة الإصلاح ومعارضيها أمر قديم في الإنسان ، ولكن مهما كانت المقاومة شديدة ، فإنه لا يأس ولا قنوط ، فقد يهتدي بعض الراشدين العقلاء ، ويظل أولو النفوذ والسلطة والمصلحة على غيهم وضلالهم وتمسكهم بمواقفهم ، على الرغم من معرفة الحق وقوته ، وضعف الباطل وجهالته ، وهذا موقف من هذه المواقف التي تتصادم فيها دعوة المصلحين مع مصالح المتسلطين ، وهو موقف فرعون من رسالة موسى عليه‌السلام ، وصف الله تعالى هذا الموقف بقوله :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧)) (١) (٢) [غافر : ٤٠ / ٢٣ ـ ٢٧].

هذه قصة عجيبة في تاريخ الدعوة إلى الله تعالى ، فيها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيناس وتثبيت وأسوة ، وفيها لقريش والكفار وعيد وتخويف وإرهاب أن يحل بهم ما حلّ بأولئك من النقمة ، وفيها للمؤمنين وعد ، ورجاء بالنصر والظفر وإدراك عاقبة الصبر.

تبدأ القصة بقسم الله تعالى أننا : لقد أرسلنا موسى بالمعجزات الدالة على صدقه ، وأيدناه بحجة بينة واضحة ، مضمونها تحدي فرعون بالعصا واليد وغيرهما من الآيات

__________________

(١) أي أبقوهم أحياء.

(٢) أي استجرت واستعنت واستعذت.

٣٧٢

التسع. أرسلناه إلى فرعون ملك مصر ، وإلى هامان وزيره ، وإلى قارون كبير الأثرياء في زمانه ، فقالوا عنه : إنه ساحر مخادع مجنون ، كذّاب فيما زعم أن الله أرسله وخص هؤلاء الطغاة بالذكر ، لأنهم رؤساء القوم ، وغيرهم تابع لهم ، وشأن المتسلطين المستكبرين ألا يذعنوا لكلمة الحق والهداية ، حفاظا على مراكزهم وقواهم ومكانتهم بين الأتباع.

فلما أتى موسى عليه‌السلام بالحق ، أي بالبرهان القاطع الدال على أن الله أرسله إلى فرعون وقومه ، بمعجزاته الظاهرة ، قال الطغاة : عودوا إلى قتل الذكور. وترك النساء أحياء ، لئلا يكثر جمعهم ، ويضعف شأنهم ، وما مكر الكافرين وقصدهم تقليل خصومهم إلا في ضياع وذهاب سدى ، لا فائدة منه.

وقال فرعون لقومه : دعوني أقتل موسى ، وليدع ربه الذي يزعم أنه أرسله إليهم ، فليمنعه من القتل إن قدر على ذلك.

وسبب القتل : أني أخشى عليكم يا شعب مصر أن يغير منهاج دينكم الذي أنتم عليه من عبادتي وعبادة الأصنام ، ويدخلكم في دينه الذي هو عبادة الله وحده ، أو أن يوقع بين الناس الخلاف والفتنة والإفساد ، فتكثر الخصومات والمنازعات.

والظاهر من هذا الموقف لفرعون : أنه بهر بآيات موسى ومعجزاته ، وانهدّ ركنه ، واضطربت معتقدات أصحابه ، فلجأ إلى التهديد بالقتل. وهذا سلاح الجبّارين المتمكنين من إنفاذ أوامرهم. فإذا اعتز فرعون بجبروته وبطشه وقوته ، فإن موسى عليه‌السلام اعتصم بالله تعالى ، وقال داعيا ربه لما سمع قول فرعون وتهديده له بالقتل لأنه كان معه في مجلس واحد : إني استجرت بالله ، وعذت به من شره وشر أمثاله من كل متعاظم متعال مستكبر عن الإذعان للحق ، كافر مجرم لا يؤمن باليوم الآخر وما فيه من حساب وجزاء.

٣٧٣

واستعاذة موسى من فرعون الذي جمع بين الاستكبار وبين التكذيب بيوم الآخرة والجزاء والحساب ، بسبب الجرأة على الله تعالى وعلى عباده. وقول موسى : (إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) لحث قومه على مشاركته في الاستعاذة بالله من شر فرعون وملئه.

وقد ثبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا خاف قوما قال : «اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم ، وندرأ بك في نحورهم».

إن هذه المواجهة الكلامية الساخنة غير متكافئة في عرف الناس ، فإن فرعون الملك الحاكم الجبار يعتمد على قوى كثيرة ، وجند مدججين بالسلاح ، وأما موسى بمفرده أو مع أخيه هارون لا يملكان مثل تلك القوى الظاهرة المادية ، ويحكم الناس عادة على الضعيف بالهزيمة ، ويغيب عنهم أن الضعيف يتقوى بقوة الله تعالى ، فيتغلب على جميع القوى بتأييد الله تعالى.

دفاع مؤمن آل فرعون عن موسى عليه‌السلام

لقد طاش عقل فرعون وصوابه أمام معجزات موسى عليه‌السلام ، فلجأ إلى التهديد بقتل موسى عليه‌السلام ، وزاد من ارتباكه واضطرابه مقالة رجل مؤمن من قومه وما صدع به ، فدافع عن موسى بأوجه ثلاثة :

الأول ـ استنكار قتل موسى المؤمن بربه.

الثاني ـ تحذير القوم بأس الله في الدنيا والآخرة بتكذيب الرسل.

الثالث ـ تذكيرهم بما فعل آباؤهم الأولون مع يوسف عليه‌السلام ، من تكذيب رسالته ورسالة من جاء بعده.

٣٧٤

وهذا الدفاع من رجل هو من آل فرعون أو من أبناء عمه ، كان يكتم إيمانه بالله تعالى ، كان له شأنه البعيد في إحباط خطط فرعون ، وهو موقف تاريخي خلّده القرآن الكريم ، فرضي الله عن هذا المؤمن وأمثاله في سجل الخالدين. قال الله تعالى واصفا قصة مؤمن آل فرعون :

(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) [غافر : ٤٠ / ٢٨ ـ ٣٥].

هذا موقف خالد لرجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه ، أثبته الله في المصاحف ، لكلام قاله في مجلس من مجالس الكفر ، وأثنى عليه إلى الأبد ، لقد قال هذا الرجل : كيف تقتلون رجلا لا ذنب له إلا أنه قال : الله ربي؟ والحال أنه قد جاءكم

__________________

(١) متجاوز الحد في المعاصي.

(٢) غالبين متفوقين على بني إسرائيل.

(٣) مثل أيام الأمم الماضية أي وقائعهم.

(٤) مثل عادة وجزاء ما كانوا عليه من الكفر.

(٥) يوم القيامة ، ينادي فيه بعضهم بعضا للاستغاثة.

(٦) حجة قوية.

٣٧٥

بالمعجزات الواضحات الدالة على صدق نبوته ورسالته ، فهذا لا يستدعي القتل ، فتوقف فرعون عن قتله.

وأضاف الرجل حججا ستا أخرى لتأييد كلامه وهي :

١ ـ إن كان هذا الرجل ، أي موسى كاذبا في دعوته ، كان وبال كذبه عليه ، فاتركوه ، وإن كان صادقا في دعواه يصبكم بعض الذي يعدكم به إن خالفتموه من العقاب الدنيوي والأخروي ، فاتركوه أيضا في دعوته.

٢ ـ لو كان موسى مسرفا متجاوزا الحد في قوله ، كذابا في ادعائه النبوة ، لما هداه الله إلى المعجزات المؤيدة له ، ولخذله الله وأهلكه.

٣ ـ يا قومي ، قد أنعم الله عليكم بهذا الملك الواسع ، وأنتم الغالبون على بني إسرائيل في مصر ، فمن الذي يمنعنا من عذاب الله إن حل بنا؟! فقال فرعون مجيبا الرجل المؤمن : ما أشير عليكم إلا بما أرى لنفسي ، وما أدلكم إلا طريق الصواب الذي يحقق الفوز والغلبة ، وهو قتل موسى.

٤ ـ وقال المؤمن : إني أخشى عليكم إن كذبتم موسى أن يصيبكم مثل ما أصاب الأقوام الذين تحزّبوا على أنبيائهم ، وكذبوا رسلهم من الماضين ، مثل عادة قوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم كقوم لوط ، فقد حل بهم عذاب الله تعالى ، ولم يجدوا ناصرا لهم ينصرهم ، ولا عاصما يحميهم ، ولا يريد الله إلحاق ظلم بعباده ، فلم يهلكهم بغير جرم شديد أو كبير. وهذا تخويف بالعذاب الدنيوي.

٥ ـ ثم خوفهم العذاب الأخروي بقوله : يا قومي ، إني أخشى عليكم عذاب يوم القيامة ، حين ينادي الناس بعضهم بعضا للاستعانة والاستنجاد ، وحين تفرّون هاربين من النار ، لا تجدون واقيا ولا عاصما مانعا يعصمكم من عذاب الله ويحميكم منه ، ومن يضلّه الله ، فلم يوفقه للرشد والصواب ، فلا مرشد له غيره.

٣٧٦

٦ ـ وأذكركم بأن تكذيب الرسل موروث لديكم من الأسلاف ، فلقد بعث الله لآبائكم يوسف بن يعقوب بالمعجزات الباهرات الدالة على صدقه ، فكذبتموه وكذبتم بمن جاء بعده من الرسل ، وما زلتم في شك مما أتاكم به ، حتى إذا مات أنكرتم بعثة رسول من بعده ، فكفرتم به في حياته وبعد موته ، ومثل هذا الضلال وسوء الحال ، يضل الله كل إنسان لإسرافه في المعاصي وتجاوزه الحدود ، وارتيابه في دين الله. وهؤلاء المرتابون الذي يجادلون في آيات الله الكونية والدينية ليبطلوها ، بغير حجة واضحة ، كبر أو عظم ذلك الجدل بغضا عند الله وعند المؤمنين ، لأنه جدال بالباطل ، لا أساس له ، أما مقت الله : فهو العذاب والغضب ، وأما مقت المؤمنين : فهو هجر الكفار وترك التعامل معهم.

وكما طبع الله على قلوب هؤلاء المجادلين بالباطل المسرفين ، فكذلك يطبع أو يختم على جميع قلوب المتكبرين الجبارين.

تحديات فرعون

وإصرار الرجل المؤمن في الدفاع عن موسى

احتدم الجدال بين فرعون والرجل المؤمن من قومه وأتباعه حول شأن موسى عليه‌السلام ، فلجأ فرعون إلى التحدي الحسي ، وإقامة برج شاهق في السماء للاطلاع على إله موسى ، مقرا به أولا ، ثم مكذبا به ثانيا ، وصمم الرجل المؤمن على موقفه المدافع عن موسى عليه‌السلام ، ونصح قومه ودعاهم إلى الإيمان بالله وحذّرهم من الاغترار بالدنيا ، وحثهم على العمل للآخرة لدوامها ، وقارن بين دعوته لهم إلى الإيمان بالله تعالى طريق النجاة ، وبين دعوتهم إياه لعبادة الأصنام طريق الهلاك والعذاب ، وهذا في الآيات الآتية :

٣٧٧

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦)) (١) (٢) (٣) (٤) [غافر : ٤٠ / ٣٦ ـ ٤٦].

المعنى : نادى فرعون وزيره هامان والناظر في أموره قائلا : يا هامان ابن لي قصرا مشيدا عاليا ، لعلي أصل إلى طريق السماء ، فأبحث عن إله موسى ، وهو لا يريد بذلك إلا الاستهزاء منه وإنكار رسالته ، وإني لأظن موسى كاذبا في ادعائه بأن له إلها غيري.

ومثل ذلك التزيين المفرط في الحماقة والبلادة ، زين لفرعون الجبار سوء عمله وقبح صنعه ، من الشرك والتكذيب ، فتمادى في الغي والطغيان ، وحجب عن طريق الهدى والعدل والصواب ، ولم يكن كيده أو مكره إلا في خسار وضياع ، ثم تابع

__________________

(١) الصرح : كل بناء عظيم رفيع القدر.

(٢) أي الطرق.

(٣) خسار وهلاك.

(٤) أي حقا ، أو لا جرم :

بمعنى ثبت ووجب.

٣٧٨

مؤمن آل فرعون مواعظه لقومه ، فقال : يا قومي ، اتبعوني فيما أقول لكم وأدعوكم إليه ، أدلكم على طريق الرشاد والخير والسداد : وهو اتباع دين الله وأمره. ثم حذرهم من فتنة الدنيا وزهّد فيها ، فقال : يا قومي ، ليست هذه الحياة الدنيا إلا مجرد متاع يستمتع به قليلا ، ثم يزول وينتهي بالموت ، وإن الآخرة هي دار الاستقرار والبقاء والخلود ، أي إن الدنيا شيء يتمتع به قليلا ، وعلى المرء الرغبة في الآخرة.

من ارتكب معصية ، فلا يجزى في الآخرة إلا مثلها ، عدلا من الله ، ومن عمل العمل الصالح : وهو اتباع أمر الله واجتناب نهي الله ، وهو مصدق بالله وبرسله ، فهؤلاء هم لا غيرهم أهل الجنة التي يرزقون فيها رزقا وفيرا بغير عدّ وتقدير ، ولا مقصور على حجم العمل ، فضلا من الله ونعمة ، أي إن جزاء السيئة مثلها فقط ، وجزاء الحسنة لا يقتصر على المثل ، بل يتجاوزه لما شاء الله.

ويا قومي ، أخبروني عنكم ، ما بالي أدعوكم إلى النجاة من النار ودخول الجنة ، بالإيمان بالله تعالى وعبادته وطاعته وتصديق رسله ، وتدعونني إلى عمل أهل النار ، وهو الشرك وعبادة الأصنام؟! أي إن الدعاء إلى طاعة الله وعبادته وتوحيده : هو الدعاء إلى سبب النجاة ، ودعاؤهم إياه دعاء إلى سبب دخول النار. ثم فسر الفرق بين الدعوتين في أن الواحدة كفر وشرك ، والأخرى دعوة إلى الاعتزاز بالله تعالى وغفرانه.

إنكم تدعونني لأمر خطير : وهو الكفر بالله والإشراك به ، مما لم يقم أي دليل على صحته وقبوله ، وأنا أدعوكم إلى الإيمان بالمتصف بصفات الألوهية الحقة ، من العزة الكاملة ، والعلم الشامل ، والإرادة التامة ، والمغفرة الواسعة ، والتعذيب الشديد ، فآمنوا به يغفر لكم ويعزكم. وحقا إن دعاءكم لعبادة الأصنام والأنداد ليس لها أي دعوة مستجابة ، فلا تجيب الداعي ، سواء في الدنيا والآخرة ، والواقع المتحقق أن مرجعنا ومصيرنا إلى الله بالموت ، ثم بالبعث في الآخرة ، فيجازى كل إنسان

٣٧٩

بعمله ، وأن المسرفين المتجاوزين الحد في المعاصي : هم أهل النار الذين يصيرون إليها.

وسوف تتذكرون وتدركون صدق قولي لكم من الالتزام بأوامر الله ونواهيه وثمرة نصحي وإرشادي ، حين ينزل بكم العذاب ، وإني أفوض أمري إلى الله وأستعين به ليعصمني من كل سوء ، فإن الله مطلع على أمور عباده ، خبير بهم ، فيهدي مستحق الهداية المستعد لها ، ويضل مستحق الضلالة الحريص عليها.

وأما مصير الرجل المؤمن من آل فرعون : النجاة ، حيث حفظه الله ، وحماه في الدنيا ، من سوء مكرهم ، وتآمرهم على قتله ، وأحاط سوء العذاب بآل فرعون في الدنيا بالغرق في البحر ، وسيعذبون في الآخرة.

ويعرض آل فرعون بأرواحهم في قبورهم على النار في الصباح والمساء من أيام الدنيا إلى قيام القيامة ، أي إنهم يعذبون في القبور ، ويقال للملائكة يوم القيامة : أدخلوا آل فرعون في جهنم ، حيث يكون العذاب فيها أشد وأعظم ، قال الهذيل بن شرحبيل والسدي : إن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود ، تروح بهم ، وتغدو إلى النار.

الجدل بين أهل النار

يبادر الإنسان حينما يقع في فخ الحقيقة والجزاء إلى تقاذف المسؤولية ولوم الآخرين ، وينسى نفسه وتقصيره ، وذلك في الدنيا ، أو في حال العذاب في نار الآخرة ، وهذا واقع قائم بين السادة والأتباع ، حيث يشتد الجدل بينهم في ذلك المقر ، ويحاول كل فريق إلصاق التهمة بغيره والتملص من المؤاخذة ، ولكن لا جدوى ولا فائدة من هذا الجدال ، ولا يقبل عذر من المقصرين والظلمة ، ويكون الفوز

٣٨٠