التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٣

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٣

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0524-1
الصفحات: ٤٢٢

جهنم ، ويقابل ذلك وعد الصادقين المصدقين بالله ورسوله بمنحهم عند ربهم كل ما يشاءون من الجنة والنعيم والرضوان ، وإثابتهم أفضل الثواب ، ليقترن الوعد بالوعيد ، وتظهر التفرقة بين الحالين ، قال الله تعالى مبينا هذا التفاوت :

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥) أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧)) (١) (٢) [الزمر : ٣٩ / ٣٢ ـ ٣٧].

من أقبح خصال المشركين : أنهم يكذبون الله ورسوله ، فلا أحد أظلم ممن كذب على الله ، فزعم أن له ولدا أو شريكا ، أو صاحبة ، وحرّم وحلل من غير أمر الله ، وكذّب بما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من دعوة الناس إلى التوحيد ، والأمر بإقامة فرائض الشرع ، والنهي عن المحرّمات ، والإخبار بالبعث والنشور والحساب والجزاء.

وهؤلاء في الواقع يستحقون أشد العذاب ، أليس في نار جهنم الواسعة مقام ومستقر لهؤلاء الكافرين؟! وفيه دلالة على علة كذبهم وتكذيبهم ، وهو الكفر.

وفي مقابل هذا الوعيد : يأتي الوعد للمؤمنين ، فالذي جاء بالصدق والقول الحق : وهو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والذين صدقوا به ، وآمنوا بأنه رسول من عند الله ، وهم أتباعه المؤمنون ، أولئك لا غيرهم هم الذين اتقوا الله وخافوه ، وتجنبوا الشرك وعبادة الأوثان.

__________________

(١) أي مقام لهم.

(٢) أي يكفيه وعيد المشركين.

٣٤١

وثواب هؤلاء الصادقين المصدقين : أن لهم ما يطلبون عند ربهم في جنان الخلد ، من رفع الدرجات ، ودفع الضرر ، وتكفير السيئات ، وذلك جزاء الذين أحسنوا في أعمالهم.

قال على بن أبي طالب رضي الله عنه وجماعة : الذي جاء بالصدق هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والذي صدّق به : هو أبو بكر رضي الله عنه. وقال قتادة وابن زيد ، الذي جاء بالصدق : هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والذي صدّق به هم المؤمنون. وقال مجاهد : هم أهل القرآن.

وعلة هذا الجزاء : تكفير السيئات ، والمجازاة بأحسن أفعالهم ، أي وعدهم الله تعالى بالجنان ونعمها من أجل تكفير سيئ عملهم ، وإثابتهم بمحاسن أعمالهم ، وإذا غفر الله لهم أسوأ أعمالهم ، غفر لهم ما دونه بطريق أولى. والحسن الذي يعملونه : هو الأحسن عند الله تعالى.

وكذلك يكفي الله المؤمنين في الدنيا ما أهمهم ، ويمنع عنهم ما يخيفهم ، أليس الله يكفي من عبده وتوكل عليه؟ فيدفع عنه الويلات والمصائب ، ويحقق له جميع رغائبه. والمراد بعبده : النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجميع عباد الله. وهذا تقوية لنفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن كفار قريش كانوا خوّفوه من الأصنام ، وقالوا : أنت تسبّها وتخاف أن تصيبك بجنون أو علة ، فنزلت الآية في ذلك. أي إن المشركين يخوّفونك أيها النبي بالذي يعبدون من دون الله. وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث خالد بن الوليد إلى كسر صنم العزّى ، فقال سادنها (١) : يا خالد ، إني أخاف عليك منها ، فلها قوّة لا يقوم لها شيء ، فأخذ خالد الفأس ، فهشم به وجهها وانصرف (٢).

ثم قرر الله تعالى : أن الهداية والإضلال من عنده بالخلق والاختراع ، وأن ما أراد

__________________

(١) خادمها والقائم على حمايتها.

(٢) أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن جرير عن قتادة.

٣٤٢

من ذلك لا رادّ له ، ثم توعد الله المشركين بعزته وانتقامه ، فكان ذلك والانتقام يوم بدر وما بعده.

أي إن من حقّ عليه القضاء بضلاله لسوئه وعناده ومكابرته ، ماله من هاد يهديه إلى الرشد ، ويخرجه من الضلالة ، ومن يوفقه الله إلى السعادة والإيمان لاستعداده لهما ، فلا مضل له أبدا. أليس الله بغالب لكل شيء ، قاهر له ، ينتقم من عصاته بعذاب شديد؟ فهو سبحانه منيع الجانب ، قوي البطش ، شديد الانتقام من أعدائه المشركين المكذبين رسوله وأمينه عليه الصلاة والسّلام.

مناقشة عبدة الأصنام

الإسلام دعوة الإصلاح الكبرى الشاملة لجميع أبناء البشر ، لذا كان حريصا بصراحته ورحمته واعتماده على العقل الحر والمنطق الرشيد ، هداية الناس جميعا حتى الوثنيين البدائيين إلى الدين الحق والعقيدة الصحيحة القائمة على توحيد الله عزوجل ، وإبطال عبادة كل ما لا خير فيه ولا نفع ، ولا دليل من الواقع عليه ، واعتمد القرآن الكريم في مناقشة عبدة الأصنام على أساسين واضحين :

الأول ـ أن المشركين لو سئلوا عن خالق السماوات والأرض لأقروا بأنه الله تعالى.

الثاني ـ أن أصنامهم التي يعبدونها عاجزة عن تحقيق الخير أو دفع الشر.

روي عن مقاتل : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سألهم ، فسكتوا ، فنزل قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) وقال بعض المشركين : لا تدفع هذه الأصنام شيئا قدّره الله ، ولكنها تشفع ، فنزلت هذه الآيات الآتية :

٣٤٣

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠)) (١) [الزمر : ٣٩ / ٣٨ ـ ٤٠].

هذا ابتداء احتجاج على المشركين بحجة حاسمة ، مفادها أن القرآن الكريم انتزع منهم الإقرار بالخالق المخترع الموجد : وهو الله عزوجل ، وحينئذ لم يبق لهم في الأصنام غرض إلا أن يقولوا : إنها تضر وتنفع.

فقيل لهم : إذا أراد الله أمرا ، هل للأصنام قدرة على نقضه؟

والجواب واضح : وهو أنه لا قدرة للأصنام على شيء من ذلك.

وتقرير الأمرين أو الأصلين يتبين في معنى هذه الآيات.

لئن سألت أيها النبي أو أي إنسان المشركين عن خالق السماوات والأرض ، لأقروا على الفور وبصراحة : بأنه هو الله الخالق ، مع أنهم يعبدون الأصنام.

فإذا أقررتم بأن الله تعالى خلق الأشياء كلها ، فأخبروني عن هذه الآلهة المزعومة : إن أراد الله بأحد شيئا من الضّر ، أي الشدة والبلاء ، هل تستطيع هذه الأصنام أن تمنع ما أراده الله من شدة ، وإن أراد الله بأحد منحه شيئا من الخير والنعمة والفضل والإحسان ، هل تقدر هذه الأصنام حجب رحمة الله عنه؟ وإذا كانت لا تمنع شرا ، ولا تجلب نفعا ، فكيف تجوز عبادتها وتعظيمها؟!

ثم أمر الله تعالى نبيه أن يصدع بالاتكال على الله تعالى ، وأنه حسبه وكافيه من كل

__________________

(١) أي على ما رأيتموه متمكنا لكم ، وعلى حالاتكم التي استقر رأيكم عليها.

٣٤٤

شيء ومن كل ناصر ، وأنه هو وحده لا غيره الذي يجب أن يتوكل عليه المتوكلون ، ويفوض إليه جميع الأمور المؤمنون ، ويلجأ إلى الاستعانة به كل البشر أجمعون.

ثم أمر الله نبيه بأن يتوعد المشركين في قوله : (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي : قل أيها النبي : يا قوم ، اعملوا ما شئتم ، وافعلوا ما أنتم عليه من هذه الحال والطريقة التي أنتم عليها ، من معاداة رسالتي ، والاعتماد على القوة والشدة والثروة ، واجتهدوا في استعمال مختلف أنواع المكر والكيد ، فإني على حالتي ومنهجي وطريقتي التي أدعو بها إلى توحيد الله ، ونشر دينه في الآفاق ، ولدى جميع الناس ، فسوف تعلمون وبال ذلك وعاقبته الوخيمة ، وتأملوا فيمن سيأتيه عذاب يذله ويهينه في الدنيا ، بعد تفاخره وعناده واستكباره ، فيظهر حينئذ المبطل من المحق ، وسيتعرض لعذاب دائم مستمر ، لا محيد عنه في الآخرة : وهو عذاب النار يوم القيامة.

وقوله سبحانه : (اعْمَلُوا) لفظ أمر بمعنى الوعيد والتهديد ، والعذاب المخزي : هو عذاب الدنيا يوم بدر وغيره من الهزائم المنكرة التي تلحق بالمشركين ، والعذاب المقيم : هو عذاب الآخرة.

إن النظرة العاجلة السريعة التي يتبين خطؤها عما قريب : هي التي تحمل أهل الشرك والكفر والضلال على البقاء على ما هم عليه ، وإن النظرة المتأنية المعتمدة على المنطق السديد والعقل الرشيد هي التي تغيّر المواقف ، وتحوّل أصحاب العقول السوية من طريق الغواية والانحراف إلى طريق الرشاد والاستقامة.

مظاهر القدرة الإلهية والوحدانية

مظاهر وحدانية الله تعالى وسلطانه ومقدرته الفائقة تتعدد في الكون والإنسان والحياة وما بعد الممات في عالم الآخرة ، وأول المظاهر الكبرى للوحدانية والقدرة

٣٤٥

الإلهية : إنزال القرآن الكريم على النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيان علو مكانته واصطفاء ربه عزوجل له ، ثم الاعلام بقدرة الله على قبض الأرواح بانتهاء آجالها ، وملكه الشفاعة التي لا تتم إلا بأمره وإذنه. وهناك مظاهر ثلاثة متممة أخرى ، وهي كون الله مبدع السماوات والأرض ، واتصافه بعلم الغيب والشهادة ، علم الآخرة والدنيا المشاهدة ، وإظهار أنواع من العقاب غير معروفة ولا محسوبة ، وبيان آثار السيئات والمعاصي التي يرتكبها الناس ، قال الله تعالى مبينا ذلك :

(إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥) قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨)) [الزمر : ٣٩ / ٤١ ـ ٤٨].

المعنى : يقرر الله تعالى أنه أنزل القرآن الكريم بالحق ، أي متضمنا الحق في أخباره وأحكامه ، أو أنزله بالواجب من إنزاله وبالاستحقاق لذلك ، لما فيه من مصلحة العالم وهداية الناس. وهذا بيان لإقامة الحجة على العباد ، ولم يبق إلا اختيارهم وإقدامهم على الأخذ به ، فمن عرف الحق وسلك طريقه واتبعه ، فاهتداؤه ومعرفته

٣٤٦

لخير نفسه ، ومن حاد عن الحق وتنكر له ، فضلاله على نفسه ، ووباله على ذاته ، وما أنت أيها الرسول بموكل على الناس أن يهتدوا ولا يمكنك حملهم على جادة الهداية ، وإنما عليك إبلاغ الرسالة. ومن المعلوم أن إنزال القرآن هو أول مظاهر قدرة الله وفضله وتوحيده.

والمظهر الثاني : أن الله تعالى هو الحاكم المطلق على الناس بالموت ، فهو الذي يقبض الأرواح من طريق الملائكة حين انتهاء آجال أصحابها ، وهي الوفاة الكبرى ، فيمسك تلك الأرواح ، أي لا يردها إلى الجسد الذي كانت فيه ، ويرسل روح النفس الأخرى التي نامت إلى أجسادها حين اليقظة ، بأن يعيد إليها إحساسها ، ويبقيها على قيد الحياة ، إلى أجل معين : هو وقت الموت. إن في ذلك التوفي التام ، وإرسال الروح مرة أخرى لعلامات باهرة على قدرة الله ووحدانية ، من قوم يتفكرون ويتأملون في ذلك. أما الروح فلا يعلم حقيقتها إلا الله ، ولا سلطان عليها لأحد غير الله ، لا بتحضير الأرواح أو التنويم المغناطيسي ولا بغير ذلك : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ١٧ / ٨٥].

بل اتخذ المشركون من دون الله آلهة شفعاء تشفع لهم عند الله؟ لا ينبغي لهم ذلك ، وقل لهم أيها النبي للرد عليهم : كيف تتخذون تلك الأصنام شفعاء لكم ، وهم لا يملكون شفاعة ولا غيرها ، ولا يعقلون شيئا من شفاعة ولا غيرها ، ولا تدرك تلك الأصنام شفعاء لكم ، وهم لا يملكون شفاعة ولا غيرها ، ولا يعقلون شيئا من شفاعة ولا غيرها ، ولا تدرك تلك الأصنام أن الناس يعبدونها. وقل أيضا يا نبي الله : إن الله تعالى هو مالك جميع أنواع الشفاعة ، وليس لأحد منها شيء فالله هو مالك جميع السماوات والأرض وكل ما يحدث فيهما ، ثم إليه مصائر جميع الناس بعد البعث ، فيحاسبهم على جميع أعمالهم ، وفي هذا تهديد ووعيد لمن يعتمد على غير الله في أي شيء.

ومن قبائح المشركين : إذا ذكر الله وحده ، وأنه لا إله سواه ، انقبضوا وانزعجوا ،

٣٤٧

لأنهم لا يؤمنون باليوم الآخر ، وإذا ذكرت الأصنام كاللات والعزى ، إذا هم يفرحون ويسرّون.

قال مجاهد : نزلت هذه الآية في قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سورة النجم عند الكعبة ، وفرحهم عند ذكره الآلهة ، أي عند قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) (١٩) [النجم : ٥٣ / ١٩].

ثم رد الله تعالى عليهم بقوله : ادع الله أيها النبي فقل : يا خالق السماوات والأرض ، ويا عالم الغيب والشهادة (ما غاب عن البشر وما شاهدوه) أنت تحكم بين عبادك في كل ما اختلفوا فيه. وهذا دليل على العلم التام لله عزوجل.

ثم توعد الله المشركين بأمور ثلاثة :

أولها : لو أن هؤلاء المشركين ملكوا جميع خزائن الأرض ومثلها معها ، لجعلوا الكل فدية لأنفسهم من ذلك العذاب يوم القيامة.

وثانيها : وظهر لهم من أنواع العقاب والعذاب المهيأ لهم ما لم يكن في حسابهم ولا خطر في بالهم.

وثالثها : وظهر لهم جزاء وأثر سيئاتهم التي اكتسبوها في الدنيا ، وأحاط بهم من العذاب ما كانوا يستهزئون به في دار الدنيا ، ومن إنذارات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

سوء الطبع عند الإنسان

من قبائح طبائع المشركين والكافرين : تنكرهم للنعمة الإلهية حال الرخاء ، ولجوؤهم إلى الله تعالى حين الشدة والبلاء ، زاعمين بأن الإنقاذ والنعمة يحدثان بمهارتهم وجهدهم ، مع أن الله تعالى وحده هو مصدر الخير والنعمة والرزق ، وليس جمع الثروة بمهارة الإنسان وفطنته وخبرته ، ولا ضعفها ولا قلتها بغبائه وخموله ،

٣٤٨

وإنما أمر الرزق بيد الله تعالى بشرط السعي والعمل ، فقد يكون الجهد الكثير ، ولا يحصل سوى الرزق القليل ، وقد يكون العجز والضعف ، ويسوق الله الرزق الوفير لصاحبه ، على وفق مراد الله تعالى وحكمته ، وهذا ما دوّنته الآيات الآتية :

(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢)) (١) (٢) (٣) (٤) [الزمر : ٣٩ / ٤٩ ـ ٥٢].

إن طبع الإنسان غريب ، فتراه إذا كان كافرا أو مشركا ، وأصابه ضرّ من فقر أو مرض أو غيرهما ، تضرّع إلى الله تعالى ، واستعان به لكشف الضّر عنه ، حتى إذا منحه الله نعمة من صحة وعافية وسلامة أو ثروة ومنصب وجاه ، أو غير ذلك ، زعم أنه وصل لذلك بخبرته ومهارته بأوجه المكاسب والعمل ، أو لأنه يستحق ذلك ، والحقيقة أن الحياة بأوضاعها كلها ابتلاء وخبرة للناس وامتحان لهم ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك ، ولا يدركون أن كلّا من النعمة والنقمة اختبار وامتحان ، ففي حال الإنعام ليعرف الشاكر من الجاحد ، وفي حال الإفقار ليعلم الصابر والمؤمن من الجزع والجاحد ، والجزع : ضدّ الصبر.

وهذه المقالة من المشركين ، قالها الذين سبقوهم ، فزعموا هذا الزعم ، وادّعوا هذه الدعاوي مثل قارون وغيره ، فما صحّ قولهم ، ولم يفدهم ما كسبوا من متاع الدنيا شيئا ، ولا نفعهم جمع المال الكثير.

__________________

(١) أي أعطيناه وملكناه.

(٢) أي اختبار وابتلاء.

(٣) أي مفلتين وناجين بأنفسهم.

(٤) أي يضيّق.

٣٤٩

ترتّب على هذا الموقف المباين للصواب والسداد أن يحلّ بهم جزاء المعاصي والسيئات التي اكتسبوها من الأعمال ، فعوقبوا في الدنيا بعقوبات شتى كخسف الأرض بقارون ، وتدمير عاد وثمود وقوم لوط ، ولهم أشدّ العقاب أيضا في الآخرة ، وكذلك هؤلاء الظالمون الكافرون من مشركي مكة حين نزول الوحي وأمثالهم في كل زمان ، سيصيبهم وبال كسبهم منكرات الأعمال ، وسوء الاعتقاد ، كما أصاب من قبلهم ، من القحط والقتل والأسر والقهر ، وما هم بمفلتين ولا ناجين بأنفسهم من سلطان الله تعالى ، بل مردّهم ومرجعهم إليه ، في قبضته وهيمنته ، يصنع بهم ما يشاء من العقوبة.

إن هؤلاء المعاندين لرسالة الأنبياء والمعارضين لدعوة الإصلاح ، لا يغني عنهم كسبهم وجمعهم للأموال ، ولا يغني أمثالهم ، والجميع يستحقون التوعّد ، فأولئك الغابرون ، أصابهم جزاء ما كسبوا ، وكذلك الذين ظلموا بالكفر من هؤلاء المعاصرين للنّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيصيبهم ما أصاب المتقدّمين.

ثم قرّر الله تعالى القرار الحقيقي في أمر الكسب والرزق وسعة النّعم ، وطريقة قسمته بين الناس على وفق الحكمة والمصلحة للعباد أنفسهم ، وهذا القرار هو : أو لم يعلم المشركون وأمثالهم أن الله هو الذي يبسط الرزق لقوم ، ويضيّقه على قوم بمشيئته وسابق علمه ، وليس ذلك لمهارة أحد ولا لعجزه ، إن في ذلك لدلالات واضحات وعلامات قاطعات لقوم يؤمنون بالله وحده ، ويصدّقون بسلطانه وقدرته الخارقة والشاملة.

وقد خصّ الله تعالى المؤمنين بأنهم هم الذين ينتفعون بالآيات ويدركون ذلك ، ويقدرون مواقفهم السديدة في مواجهة الحقّ تعالى ، ويبين هذا أيضا آية أخرى هي قوله تعالى : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) (٢٧) [الشّورى : ٤٢ / ٢٧].

٣٥٠

إن في هذا البيان الإلهي تقريرا لأمرين : الأول ـ أن الله تعالى هو لا غيره الرازق المتكفّل بأرزاق المخلوقات من بدء الحياة إلى الموت. والثاني ـ أن قسمة الرّزق بيد الله تعالى ، لا تكون مرتبطة بالمهارات وضدّها من العجز ، ولا بالإيمان ونقيضه ، ولا بالاستقامة والطاعة وعكسها.

طريق التجديد والإصلاح

من المعلوم أن الإنسان مركب على النقض ، معرّض للأخطاء ، فالخطأ ملازم لكل إنسان ، لكن لا يجب ولا يصح استمرار الخطأ ، وإنما العلاج سهل ويسير ، والتخلص من آثار الزلات والانتكاسات أمر ليس بالعسير ولا بالشاق ، ألا وهو العودة إلى الله تعالى ، وتجديد الحياة ، وتصحيح المسيرة بالتوبة الخالصة بين الإنسان وربه ، وإخلاصه العمل له سبحانه ، والتوجه الصحيح في فهم حقيقة الوجود ، وضرورة الإيمان لكل إنسان ، والالتزام بأصول الحق والسداد والاستقامة. قال الله تعالى مبينا هذا المنهاج ليفتح لنا باب الأمل والرجاء :

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) (١) (٢) (٣) (٤)

__________________

(١) أي تجاوزوا الحد وأفرطوا.

(٢) لا تيأسوا ، والقنوط أعظم اليأس.

(٣) أي فجأة وعلى غير موعد.

(٤) أي في تضييع شريعته والإيمان به.

٣٥١

بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩)) [الزمر : ٣٩ / ٥٣ ـ ٥٩].

نزلت هذه الآية فيما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس : أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا ، وزنوا فأكثروا ، ثم أتوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن ، أو تخبرنا أن لنا توبة ، أو أن لما عملنا كفارة؟ فنزلت الآية : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) إلى قوله : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان : ٢٥ / ٦٨ ـ ٧٠] ونزل : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ..) وهذه الآية عامة في جميع الناس إلى يوم القيامة ، تشمل الكافر والمؤمن.

المعنى : قل أيها النبي لقومك : يا عباد الله الذين أسرفوا أو تجاوزوا الحد في المعاصي ، واستكثروا منها ، لا تيأسوا من مغفرة الله تعالى ، فإن الله تعالى يغفر جميع الذنوب إلا الشرك الذي لم يتب منه صاحبه ، كما في آية أخرى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤ / ٤٨].

إن الله كثير المغفرة واسع الرحمة ، فلا يعاقب بعد التوبة ، فإن توبة الكافر تمحو كفره ، وتوبة العاصي تمحو ذنبه ، ومقتضى ظواهر القرآن : أن الذنب مغفور بالتوبة ولا بد ، لكن الشرك ليس بمغفور إجماعا ، وكل مغفرة أو عمل مقيد بمشيئة الله.

لكن المغفرة تتطلب أمرين : التوبة الخالصة لله تعالى ، وإخلاص العمل لله سبحانه ، لذا أمر الله بالإنابة إليه بالتوبة والطاعة ، واجتناب المعاصي ، وتسليم الأمر لله عزوجل ، والرضا بحكمه وبأمره ، من قبل مجيء عذاب الدنيا ، والوقوع في الهزيمة المنكرة. ومعنى قوله : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) : ارجعوا وميلوا بنفوسكم.

وإخلاص العمل لله لا يكون إلا باتباع القرآن الكريم بإحلال حلاله ، وتحريم حرامه ، والتزام طاعته ، وتجنب معصيته. ومعنى قوله : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ

٣٥٢

إِلَيْكُمْ ..) أي التزموا طريق التفهم والطاعة ، واتبعوا أوامر الله واجتنبوا نواهيه ، فهو أحسن من أن يسلك الإنسان طريق الغفلة والمعصية ، وهذا هو المعنى المقصود ب (أحسن) وليس معناه أن بعض القرآن أحسن من بعض ، من حيث هو قرآن ، وإنما وجه الأحسنية : هو بالإضافة إلى أفعال الإنسان وما يجد من عواقبها ، فما يأمر به الله خير مما يفعله الإنسان بهواه وعقله ، قال السّدي : الأحسن : هو ما أمر الله تبارك وتعالى به في كتابه.

واتباع أوامر الله : مطلوب قبل مجيء العذاب فجأة من غير موعد ، والناس غافلون عنه لاهون ، لا يشعرون به ، وهذا تهديد ووعيد.

وهذا منهج الحكمة والعقل ، فإن المبادرة إلى التوبة والعمل الصالح أمر مطلوب قبل فوات الأوان ، وذلك قبل الندم ، وقبل أن تقول نفس مفرطة في التوبة : يا حسرتاه على التقصير في الإيمان والطاعة ، وتدبّر القرآن والعمل بأوامره وإرشاداته ، فلقد كان عملي في الدنيا عمل ساخر مستهزئ بدين الله وكتابه وبرسوله وبالمؤمنين ، غير مصدّق بالله وحسابه. أو قبل أن تقول نفس : لو أن الله أرشدني إلى دينه ، لكنت ممن يتقي الله ويجتنب الشرك. فهذه الجملة (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) هي من قول الكافر ، مفادها الندامة على استهزائه بأمر الله ، والسّخر : الاستهزاء. أو قبل أن تقول حين معاينة العذاب : ليت لي رجعة أخرى إلى الدنيا ، فأكون من المؤمنين بالله ، الموحّدين له ، المحسنين في أعمالهم. ثم رد الله تعالى على أصحاب هذه التأملات بأنه قد جاءت آيات الله في قرآنه تنذر وتحذر ، فكذبوا بها ، وتكبروا عن اتباعها ، وكانوا من الجاحدين بها ، الكافرين بمضمونها.

إن هذه التحذيرات من سوء العاقبة مفيدة في الدنيا ، لا في الآخرة ، فإن الدنيا : هي دار التكليف ، والآخرة هي دار الحساب والجزاء ، وفي الآخرة لا ينفع الندم ، ولا مجال لإصلاح العمل أو العودة للدنيا لتصحيح الأعمال.

٣٥٣

الوحدانية والخلق والجزاء

يجمع الله تعالى في بضع آيات موضوعات متعددة ، يساند بعضها بعضا ، وتحقق الغاية منها لإصلاح الإنسان ، وتحذيره من الانحراف والعصيان ، فيكون الوعد بجوار الوعيد ، والنهي يقابل الأمر ، والترغيب مع الترهيب ، والإخبار بسوء مصير المكذبين بآيات الله ، ونجاة المتقين في عالم القيامة ، واقتران التذكير بأن الله خالق كل شيء ، مع التفرد بالسلطان والحساب والجزاء ، والتحذير من إحباط الشرك جميع الأعمال ، والأمر بعبادة الله وشكره ، وهذا اللون من الجمع بين المتقابلات يتميز به أسلوب القرآن المتميز بالإعجاز ، وارتقاء المستوى البلاغي والفصاحة إلى أرقى الحدود ؛ لأن الأشياء تتبين بأضدادها ، قال الله تعالى :

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١) اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧)) (١) (٢) (٣) (٤) [الزمر : ٣٩ / ٦٠ ـ ٦٧].

هذه ألوان من الأخبار المتضمنة للوعيد والتحذير والإنذار لمعاصري النبي محمد

__________________

(١) أي قائم على الأمر ، موفّ كل شيء على السام والكمال.

(٢) أي مفاتيح ، وهذه استعارة يراد بها بيان قدرة الله على كل شيء وتصرفه بكل شيء.

(٣) أي يبطل ويفسد.

(٤) هذه استعارة لكمال العظمة والقدرة.

٣٥٤

صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن يأتي بعدهم ، تتضمن بيان خواص الألوهية والوحدانية ، وكمال العظمة والسلطان والقدرة الإلهية.

أول هذه الخواص : أن الله تعالى هو المتفرد بالخلق والإبداع وإيجاد جميع الأشياء في الدنيا والآخرة ، وأنه القائم على جميع الأمور المستقل بها ، الموكل بحفظها وتدبيرها ، والمتولي إكمالها وتتميمها ، وهذا دليل على أن الله هو الخالق لجميع أعمال الناس.

وأخبر أيها النبي بخبر مهم جدا : وهو أنك وكل إنسان ترى المشركين يوم القيامة ، الذين كذبوا على الله في ادعائهم شريكا لله ، وجوههم مسودة مظلمة بكذبهم وافترائهم ، لما شاهدوه من مآس وأحزان ، وعذاب وسخط ، إن في جهنم مسكنا ومقاما للمتكبرين عن طاعة الله ، الذين أبوا الانقياد للحق والطاعة.

وأخبر في مقابل هؤلاء الجناة للمعادلة والموازنة عن حال المتقين الذين اتقوا الشرك والمعاصي ، فإن الله تعالى ينجيهم من النار ، ويدخلهم الجنة ، ويحميهم من السوء والكدر ، ومن الحزن والألم ، فهم آمنون من كل فزع.

وثاني خواص القدرة الإلهية : أن الله تعالى هو المتصرف والمتحكم في شؤون السماوات والأرض ، وبيده خزائن الخيرات فيهما : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وهذه استعارة يراد بها بيان قدرة الله تعالى المطلقة وتحكم الله في مخزونات الكون حفظا وتدبيرا ، ومنحا ومنعا ، أو عطاء وحرمانا ، لكن الذين جحدوا بآيات الله الكونية الدالة على وحدانيته وقدرته ، في أنحاء السماوات والأرض ، أولئك لا غيرهم هم الذين خسروا أنفسهم ، واستحقوا الخلود في النار ، جزاء كفرهم.

وإذا كان الله تعالى هو المتميز بالوحدانية والقدرة المطلقة ، فيستحق المشركون التوبيخ على ترك عبادة الله ، والتوجه نحو عبادة الأصنام ، فقل أيها الرسول لكفرة

٣٥٥

قومك وأمثالهم : كيف تأمروني أيها الجهال بعبادة غير الله تعالى؟ بعد قيام الأدلة القطعية على تفرده بالألوهية ، فهو خالق الأشياء ومدبرها ورازق الأحياء ، فلا تصلح العبادة إلا له تعالى.

وسبب نزول هذه الآية : هو كما روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس : أن المشركين من جهلهم ، دعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عبادة آلهتهم ، وأن يعبدوا معه إلهه ، فنزلت هذه الآية : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) (٦٤).

ثم قرّر الله تعالى مبدأ إعلان الوحدانية الدائم في قوله : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ ..) أي إن أمر المشركين المساومين عجيب ، فلقد أوحي إلى النبي محمد وإلى كل نبي عليهم الصلاة والسّلام : لئن أشركت مع الله إلها آخر ، ليبطلنّ عملك ، ولتكونن من الذين خسروا أنفسهم ، وأضاعوا دنياهم وأخراهم. وهذا دليل على أن الشرك يحبط الأعمال ، ويضيعها هباء منثورا ، ولو كانت خيرا.

ثم أكد الله تعالى مقتضى الوحدانية بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له ، وأن يكون من الشاكرين نعم الله بالهداية والرسالة النبوية.

أما المشركون : فلم يقدروا الله حق قدره ، أي لم يعظموه حق تعظيمه ، حين عبدوا معه إلها آخر ، فإن الأرض كلها تحت سلطان الله وتصرفه وملكه والسماوات خاضعة لقدرته وسلطانه ومشيئته ، تنزه الله عما يشركون به من الشركاء. والمراد باليمين والقبضة في الآيات : أنها عبارة عن القدرة والقوة.

وسبب نزول هذه الآية كما روى الطبري : هو الرد على رهط من اليهود حين أتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا محمد ، هذا الله خلق الخلق ، فمن خلقه؟ فغضب النبي ، ثم جاءه الجواب عما سألوا عنه بنزول سورة الإخلاص (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١) فلما تلاها عليهم النبي قالوا : صف لنا ربك ، كيف خلقه ، وكيف عضده ، وكيف

٣٥٦

ذراعه؟ فغضب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشد من غضبه الأول ، ثم ساورهم ، فأتاه جبريل فقال مثل مقاله ، وأتاه بجواب ما سألوه عنه : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) الآية.

نفخة الصور وتوابعها

لكل شيء مخلوق نهاية ، والدوام والخلود ابتداء وبقاء هو لله تعالى ، والنهاية الحتمية للمخلوقات جميعها تكون يوم القيامة ، وهي أمر سهل على الله تعالى ، لأن من ملك البدء في الخلق ، أمكنة الإعادة ، وهما سواء بالنسبة للخالق عزوجل ، ونهاية الكون تكون بنفخات ثلاث : الأولى صعقة الفزع ، وهي ليست مذكورة في الآيات الآتية ، ثم نفخة الصور للإماتة ، ثم نفخة البعث من القبور ، وهاتان النفختان مذكورتان في الآيات الآتية ، ويتبع ذلك فصل الخصومات أو المنازعات بين الناس ، على منهج الحق التام والعدل المطلق ، ثم إيصال الحق لصاحبه. قال الله تعالى واصفا هذه الأحداث الجسام :

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها (١)

__________________

(١) الصور : القرن أو البوق الذي ينفخ فيه قبل القيامة.

٣٥٧

وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥)) [الزمر : ٣٩ / ٦٨ ـ ٧٥].

من تمام مظاهر قدرة الله تعالى : النفخ في الصور ليصعق الأحياء من أهل الدنيا والسماء ، والنفخات ثلاث كما ذكرت : نفخة الفزع (١) ، ولم تتضمنها هذه الآية ، فاذكر أيها النبي حين ينفخ إسرافيل في الصور للإماتة ، والصور قرن أو بوق ، فيخرّ ميتا جميع أهل السماوات والأرض ، إلا من شاء الله ألّا يموت حينئذ كجبرائيل وميكائيل وإسرافيل حيث يموتون بعد ذلك ، ثم ينفخ إسرافيل نفخة أخرى للبعث من القبور ، فيقوم الناس أحياء من قبورهم ، ينظرون أهوال يوم القيامة ، وينتظرون ماذا يفعل بهم ، بعد أن كانوا عظاما بالية ، ورفاتا مفتتة كالتراب.

روي أن بين النفختين أربعين سنة أو شهرا أو يوما أو ساعة ، لا يدري الراوي أبو هريرة ذلك ، كما روى البخاري.

وتكون أحوال القيامة على النحو التالي :

١ ـ ٤ : تضيء الأرض في المحشر بتجلي الحق للخلائق لفصل القضاء ، ويوضع سجل أو صحائف الأعمال لبني آدم بين يدي أصحابها ، إما باليمين أو بالشمال ويجاء بالأنبياء إلى الموقف ليسألوا عما أجابتهم به أقوامهم ، ويجاء أيضا بالشهود الذين يشهدون على الأمم ، من الملائكة الحفظة التي تقيّد أعمال العباد. والشهداء : جمع شاهد ، والمراد بالشهود : أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين جعلهم الله تعالى شهداء على الناس.

__________________

(١) ثبت في بعض الأحاديث عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن قبل الموت صعقة الفزع

٣٥٨

وتكون توابع الحشر والنشر والحساب والجزاء كما يلي :

١ ـ ٤ : يقضي الله بين العباد بالحق والعدل والصدق ، ولا يظلم ولا ينقص شيء من ثوابهم ، ولا يزاد في عقابهم ، ويكون الجزاء على قدر أعمالهم ، وتوفى أو تعطى كل نفس جزاء ما عملت من خير أو شر ، والله أعلم من كل أحد بما يفعل العباد في الدنيا ، من غير حاجة إلى كاتب أو حاسب أو مسجل ، ولكن وضع الكتاب أو صحف الأعمال وشهادة الشهود والأنبياء لإلزام الناس بالحجة وقطع المعذرة. ثم أبان الله تعالى حال الأشقياء وحال الأتقياء.

فيساق الكافرون سوقا عنيفا بزجر وتهديد إلى جهنم ، جماعات متفرقة ، حتى إذا وصلوا إليها ، تفتح لهم أبوابها السبعة ، ليدخلوها ويعاقبوا فيها. وتقول لهم خزنة النار من الملائكة ، على وجه التقريع والتوبيخ : ألم يأتكم رسل من جنسكم تأخذون عنهم ، ويتلون عليكم آيات الله التي أنزلها لإقامة الحجة على صحة ما دعوكم إليه ، ويحذرونكم شر هذا اليوم ، فأجابوا بقولهم : بلى ، جاءونا وأنذرونا ، ولكن كذبناهم وخالفناهم ، ووجبت كلمة العذاب على من كفر بالله وأشرك. فتقول لهم الملائكة : ادخلوا في أبواب جهنم التي فتحت لكم ، مقدّرا لكم فيها الخلود والبقاء والدوام إلى الأبد ، فبئس المقر الدائم جهنم ، بسبب تكبركم في الدنيا عن اتباع الحق.

وأما الأتقياء الذين اتقوا الشرك ، وهم كل من يدخل الجنة من المؤمنين : فتسوقهم الملائكة إلى الجنة بإعزاز وتكريم ، جماعات متعاقبة ، حتى إذا وصلوا إلى أبواب الجنة الثمانية ، بعد تجاوز الصراط فتفتح لهم أبوابها الثمانية ، والواو في قوله : (وَفُتِحَتْ) واو الحال ، للدلالة على فتح الأبواب سابقا ، وعلى الترحيب بهم ، ولاستعجال السرور قبل الدخول إذا رأوها مفتوحة ، وصيانة لهم عن المذلة التي يلقاها من يجد الباب مغلقا في وجهه. وتقول لهم خزنة الجنة : سلام لكم من كل آفة ومكروه ، طابت أعمالكم وأقوالكم وسعيكم في الدنيا ، فادخلوا الجنة ماكثين فيها على الدوام.

٣٥٩

وقال هؤلاء المؤمنون الأتقياء : الحمد لله الذي أنجز لنا وعده على ألسنة الرسل ، وجعلنا ورثة جنان الخلد ، ننزل فيها أي مكان شئنا ، فنعم الأجر أجرنا على عملنا ونعم أجر العالمين : وهو الجنة.

وترى أيها السعيد أن الملائكة تحيط بالعرش المجيد ، ينزهون الله عن أي نقص أو شبيه ، ويمجدونه ويعظمونه ، ويفصل بينهم فصلا بالحق والعدل ، ويقولون : سبحان الله وبحمده ، فهو رب جميع العالمين من إنس وجن.

٣٦٠