التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٣

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٣

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0524-1
الصفحات: ٤٢٢

الله تعالى ، وحصر مهمة النبي في الإنذار والتخويف من سوء العذاب ، وقبح العقاب ، وإحقاق الحق ، وإبطال الباطل ، وإعلان النجاة لمن صدق بالقرآن ، والهلاك والخسران لمن كذب به أو أعرض عنه.

خلق آدم عليه‌السلام وتكريمه

تكرر الإخبار عن قصة خلق آدم عليه‌السلام وإكرامه ، في القرآن الكريم مرات كثيرة ، لأن في بيان تلك القصة إيحاء واضحا على تكريم الإنسان بتكريم أصله ، وذلك بأمر الملائكة بالسجود له سجود تحية وتقدير ، لا سجود عبادة وتأليه وتقديس. وكان جميع المأمورين مطيعين أمر الله تعالى ما عدا إبليس الذي اغتر بعنصريته ، وأنه خلق من نار ، وآدم خلق من تراب ، وعنصر النار المرتفع أقوى وأسمى ، من عنصر التراب الخامد الراكد. وهذا ما صرحت به الآيات القرآنية الشريفة الآتية التي ختمت بها سورة ص :

(إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) قُلْ ما (١) (٢)

__________________

(١) أي أكملت خلقه.

(٢) أي أنا الحق ، فهو أي الأول خبر لمبتدأ محذوف تقديره : أنا الحق ، أو المراد به القسم أي فو الحق ، والحق الثاني منصوب بأقول.

٣٢١

أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨)) [ص : ٣٨ / ٧١ ـ ٨٨].

المعنى : اذكر أيها النبي قصة خلق آدم ، حين قال الله تعالى للملائكة : إنني موجد بشرا مخلوقا هو آدم من طين ، أي تراب مخلوط بالماء ، فإذا أتممت خلقه ، بعثت فيه الحياة وأوجدته بأن نفخت فيه من روحي ، فاسجدوا له سجود تحية وتكريم ، لا سجود عبادة وتأليه وتقديس.

وقوله تعالى : (مِنْ رُوحِي) إضافة ملك إلى مالك ، لأن الأرواح كلها هي ملك لله تبارك وتعالى ، وأضيف ذلك إلى الله تشريفا. والنفخ من الروح تمثيل لإفاضة ما تكون به الحياة ، فليس هناك نافخ ولا منفوخ.

فامتثل الملائكة أمر الله تعالى ، وسجدوا لآدم بأجمعهم لم يبق أحد منهم ، وفي آن واحد ، لا متفرقين إلا إبليس امتنع متكبرا متعاظما عن السجود ، وكان بهذا الرفض أو الامتناع كافرا ، من فئة الكافرين ، لمخالفته أمر الله تعالى ، والخروج عن طاعته.

فقال الله تعالى على سبيل التوبيخ والإنكار : يا إبليس ما الذي منعك من السجود لآدم ، الذي توليت خلقه بنفسي ، من غير أب ولا أم ، هل استكبرت عن السجود الآن ، أو كنت من القوم المتعالين عن ذلك في الماضي؟ والمراد : إنكار الأمرين معا ، وهما رفض السجود والتعالي عن السجود.

قال إبليس : إنني خير من آدم ، فإني مخلوق من نار ، وآدم مخلوق من طين ، والنار خير وأشرف من الطين في زعمه ، لارتفاعها وعلوها ، ولأن التراب عنصر راكد هابط ، لا ارتفاع فيه. وهذا توهم أن النار أفضل من الطين ، وهو قياس فاسد ، لا يصلح أمام النص أو الأمر الإلهي بالطاعة والسجود لآدم.

فقال الله تعالى : فاخرج يا إبليس من الجنة أو من السماء ، فإنك مرجوم

٣٢٢

بالكواكب ، مطرود من رحمة الله ومن إحسانه ، وتنصبّ عليك لعنتي الدائمة وسخطي إلى يوم القيامة. فأخرج من جنة الخلد : وهي الجنة الحقيقية المخلوقة من القديم جنة السماء ، كخلق النار ، وأهبط إلى الأرض ، بلا خلاف.

والرجيم : المرجوم بالقول السيئ ، واللعنة : الإبعاد ، ويوم الدين : يوم القيامة ، والدين : الجزاء. والمراد بأن اللعنة على إبليس مستمرة دائمة ، مخلّدة. وإنما قيدت بيوم الدين : ليبين له طريق التوبة قبل يوم القيامة ، وما بعد يوم القيامة واضح أنه لا تقبل التوبة ، إذ الآخرة ليست دار عمل.

فطلب إبليس قائلا : رب أمهلني في الحياة ، ولا تحكم علي بالموت إلى يوم البعث ، بعث الأجساد من القبور ، فأمهله الله وجعله باقيا إلى يوم الوقت المعلوم : وهو عند النفخة الأولى. وقد طلب إبليس الإمهال إلى يوم البعث ، ليتخلص من الموت ، وذلك إلى وقت الصعق لا إلى وقت البعث وهو الآن حي مغو مضل. فلما أمن من الموت تمرّد وطغى ، وتحدى قائلا : أقسم بعزتك ، أي سلطانك وقهرك : لأغوين وأضللنّ بني آدم بتزيين الأهواء والشهوات لهم ، إلا عبادك منهم الذين أخلصتهم لطاعتك ، وعصمتهم من الضلال.

فأجابه الله قائلا : فالحق الثابت أنا ، وأقول الحق ، لأملأن جهنم منك ومن أتباعك جميعا ، ممن أطاعك وتبع إغواءك. والإغواء : تزيين المعاصي.

وقل أيها الرسول للمشركين من قومك : لا أطلب منكم أجرا على تبليغي رسالة الله إليكم ، ولست من المتقولين على الله ، حتى أقول ما لا أعلم أو أدعو إلى غير ما أمر الله تعالى. والتكلف : التصنّع والاختلاق. وما هذا القرآن إلا تذكرة لجميع العوالم من الإنس والجن ، ولسوف تعرفنّ خبره وصدق نبأه بعد زمان قريب : إما بعد الموت وإما يوم القيامة.

٣٢٣

تفسير سورة الزّمر

تنزيل القرآن وغاياته

تفضل الله تعالى على عباده بأعظم هدية وأكرم منحة خالدة : ألا وهي تنزيل القرآن الكريم تدريجا في مبدأ الأمر والوحي الإلهي إلى أن اكتمل وحفظ حفظا تاما في الصدور والكتابة ، من غير زيادة ولا نقص فيه ، ولا تعديل ولا تبديل لشيء فيه ، وسيظل محفوظا بكفالة الله وتعهده إلى يوم القيامة ، لأنه منهاج الحياة السديدة ، في العقيدة ، والعبادة ، والمعاملة ، والأخلاق ، والعلاقات الإنسانية والاجتماعية. أنزله الله بالحق والميزان ، فأبطل عقائد المشركين الوثنية ، ونفى اتخاذ الله ولدا ، وشرع شرائع الشرائع ، وأبان الحلال والحرام ، ونظم أصول الحياة والآداب والفضائل ، لينقذ الله به العالمين من الضلالة إلى النور ، ومن الزيغ والانحراف إلى طريق الهداية والاستقامة ، قال الله تعالى مبينا مصدر القرآن ، ومحددا غاياته وأهدافه في مطلع سورة الزمر :

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤)) (١) [الزمر : ٣٩ / ١ ـ ٤].

__________________

(١) مرفوع بالابتداء ، والخبر قوله : (من الله) أو أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : هذا تنزيل.

٣٢٤

هذا الكتاب العظيم وهو القرآن الكريم تنزيل من الله تعالى ، العزيز : في قدرته الذي لا يغلب ، الحكيم في إبداعه وصنعه ، فهو الكتاب الإلهي الحق الذي لا مرية فيه ولا شك ، إنا أنزلنا أيها النبي الرسول القرآن مقترنا بالحق ، متضمنا إياه ، أي الحق فيه وفي أحكامه وفي أخباره ، فكل ما فيه حق ، من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وأنواع الأحكام والتكاليف الشرعية ، ولم ننزله مشوبا بالباطل الكاذب الذي لا قرار له.

فاعبد الله وحده لا شريك له ، وادع الخلق إلى ذلك ، وأخبرهم أنه لا تصلح العبادة إلا لله وحده ، وأنه ليس له شريك ولا نظير.

والإخلاص : أن يقصد العبد بعمله وجه الله تعالى ورضوانه ، ولا يقصد شيئا آخر. والدين : العبادة والطاعة ، وأساس توحيد الله ، وتنزيهه عن الشريك والنظير.

ألا لله العبادة والطاعة الخالصة من شوائب الشرك والرياء وغيره ، وأما ما سواه من الدين ، فليس بدين الله الخالص الذي أمر به.

ومعنى الآية : الأمر بتحقيق النية لله في كل عمل. والدين هنا : يعم المعتقدات وأعمال المكلفين العضوية التي يمارسونها. وقوله سبحانه : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) بمعنى : من حقه ومن واجباته ، لا يقبل غيره.

وأما المشركون الذين والوا غير الله تعالى ، وعبدوا سواه ، وهي الأصنام أو الكواكب أو الملائكة أو بعض البشر ، وقالوا : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله تقريبا ، ويشفعوا لنا عنده في حوائجنا ، فهم في أسوأ عاقبة ، وأقبح مصير ، لذا هددهم الله بقوله : إن الله يحكم بين أهل الأديان يوم القيامة ، ويفصل في خلافاتهم ، ويجزي كل عامل بعمله ، فيدخل الموحدين الجنة ، ويدخل المشركين النار.

قال ابن عباس : أنزلت هذه الآية : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) في

٣٢٥

ثلاثة أحياء : عامر وكنانة وبني سلمة ، كانوا يعبدون الأوثان ، ويقولون : الملائكة بناته ، فقالوا : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى.

ثم أخبر الله تعالى بما معناه : إن الله لا يهدي الكاذب الكفّار في حال كذبه وكفره ، وعناده وإعراضه ومبالغته في الكفر والجحود ، ولا يوفقه للاهتداء إلى الحق ، فهو كاذب مفتر على الله ، في زعمه أن لله ولدا ، وأن تلك المعبودات الباطلة تشفع لعابديها ، وتقربهم إلى الله تعالى.

ثم رد الله تعالى على زعم المشركين اتخاذ ولد لله ، بقوله فيما معناه : لو شاء الله اتخاذ ولد ، وهو لا يحتاج لذلك ، لاختار من جملة خلقه موجوداته ومحدثاته ما يشاء أن يختاره ، ولكان الأمر على خلاف ما يزعمون ، فيختار أكمل الأولاد وهم الأبناء ، لا البنات كما زعموا ، والواقع أنه لا موجود سوى الله ، ولا أحد غير الله إلا وهو مخلوق لله ، ولا يصح أن يكون المخلوق ولدا للخالق. وقوله : (مِمَّا يَخْلُقُ) أي من موجوداته ومحدثاته.

ثم نزّه الله تعالى نفسه تنزيها مطلقا عن جميع الشركاء ، فأخبر بقوله : تنزه الله وتقدس عن أن يكون له ولد ، فإنه الإله الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي يفتقر إليه كل شيء ، والذي قهر الأشياء والمخلوقات كلها ، فدانت لعظمته ، وخضعت لسلطانه وهيبته.

عظمة القدرة الإلهية

في مناسبات مختلفة ، يورد الله تعالى البراهين والأدلة الحسية القطعية على وحدانيته ، وقدرته ، واستغنائه عن مخلوقاته ، ليقتنع اللادينيون من الملاحدة والمشركين بأن الله تعالى هو وحده الإله الحق ، وأنه القادر على كل شيء ، وأنه

٣٢٦

مستغن عن جميع مخلوقاته وموجوداته ، وتلك الأدلة والبراهين محسوسة مشاهدة ، منها خلق السماوات والأرضين وما فيهما من العوالم ، وخلق الإنسان من نفس واحدة ، وخلق الأنواع الثمانية من الأنعام ، وهذه آي كريمة تعبر بجلاء واضح عن هذه الموجودات :

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)) (١) (٢) [الزمر : ٣٩ / ٥ ـ ٧].

هذه أدلة ثلاثة على وحدانية الله وقدرته ، في كل دليل منها ثلاثة أدلة :

الدليل الأول ـ من عالم السماء والأرض : أبدع الله تعالى عالم السماء والأرض إبداعا بالواجب الواقع موقعه ، الجامع للمصالح ، فليس في هذا الخلق باطل وعبث ، من غير استعانة بأحد ، فهو وحده الإله الموجود الذي لا شريك له ولا نظير ، التامّ القدرة ، الكامل الاستغناء عن غيره.

يلف الليل على النهار ، ويلف النهار على الليل أو يولج أحدهما في الآخر ، ويعيد من هذا على هذا ، بنسب متفاوتة تتفق مع أحوال الزيادة والنقصان ، دون الاستمرار

__________________

(١) أي بما يتفق مع الواجب ، القائم على المصالح ، الواقع موقعه المناسب.

(٢) أي نزل الأمر بخلقها وإيجادها من عند الله ، والعادة تقضي بأن نعم الله ورحمته وأمطاره هي من السماء ، فعبر عن خلقها بالإنزال.

٣٢٧

على مقدار واحد ، وهو دليل على كروية الأرض ، لأن التكوير : اللف على الجسم المستدير ، وعلى دوران الأرض حول نفسها مرة ثانية ، لأن تعاقب الليل والنهار لا يتم من غير دوران. ويجعل الله الشمس والقمر مذللين لأمره بالطلوع والغروب ، يسير كل منهما في فلكه إلى منتهى معيّن ، وإلى وقت محدد في علم الله تعالى وهو انتهاء الدنيا وقيام القيامة ، أو انتهاء دورة القمر كل شهر ، ودورة الشمس كل سنة. ألا إن هذا التدبير والخلق من إله غالب قادر ، ساتر لذنوب عباده بالمغفرة.

والدليل الثاني ـ من خلق الإنسان والأنعام ، فإنه سبحانه خلقكم أيها الناس على اختلاف أجناسكم وألسنتكم وألوانكم من نفس واحدة ، هي آدم عليه‌السلام ، ثم جعل حواء من جنسه أو من طينته ، أو خلقها من ضلعه ـ ضلع آدم القصير ، ثم تكاثر الخلق منهما.

وأمر الله تعالى بخلق أو إيجاد ثمانية أصناف من الأنعام : وهي الإبل والبقر والغنم والمعز ، جاعلا من كل صنف ذكرا وأنثى ، ويبتدئ الله خلق الناس في بطون الأمهات في مراحل متدرجة من الخلق والإبداع ، حيث يكون بدء تكون الجنين من نطفة ثم من علقة ، ثم من مضغة ، ثم تتكون العظام ، ثم تكسى باللحم والعروق والأعصاب. ومراحل الخلق هذه في ظلمات ثلاث : هي ظلمة البطن ، وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة والأغشية. هذا الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما ، وخلق الإنسان : هو الرب المربي لكم ، الذي له الملك المطلق في الدنيا والآخرة ، وهو الإله الواحد الذي لا إله غيره ، فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره؟!

وثمرة هذه العبادة تعود للناس ، فإن تكفروا بالله أيها المشركون ، بعد توافر هذه الأدلة على وجود الله وتوحيده وقدرته ، فإن الله هو الغني عما سواه من المخلوقات ، ويغضب الله من كفر بعض عباده ، ويرضى ويحب شكرهم على نعمه وآلائه ، ويثيبهم

٣٢٨

به خيرا ، أي يقبله منهم. والشكر الحقيقي يتضمن الإيمان. وبعبارة أخرى : لا يقع الكفر إلا بإرادة الله تعالى ، إلا أنه بعد وقوعه لا يرضاه الله دينا لعباده. واستغناء الله عن خلقه هو الدليل الثالث على قدرته.

قال ابن عباس عن هذه الآية : (إِنْ تَكْفُرُوا ..) هذه الآية مخاطبة للكفار الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم. وكلمة (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) هم المؤمنون. ويحتمل أن تكون الآية مخاطبة لجميع الناس ، لأن الله غني عن جميع الناس.

والمبدأ في المسؤولية أمام الله : إنما هو المسؤولية الشخصية أو الفردية ، فلا تحمل نفس إثم أو ذنب نفس أخرى ، والوزر : الثقل ، وإنما كل إنسان مطالب بأمر نفسه ، من خير أو شر. والجزاء على قدر العمل ، فإن مصيركم جميعا أيها الخلائق إلى ربكم يوم القيامة ، فيخبركم بأعمالكم من خير أو شر ، إنه سبحانه وتعالى خبير بما تخفيه النفوس من أسرار ، فلا تخفى على الله خافية.

وهذا خبر يتضمن الحض على أن ينظر كل أحد في خاصة أمره وما ينوبه في ذاته ، كما يتضمن أيضا أن مرجعهم في الآخرة إلى ربهم ، أي إلى ثوابه أو عقابه ، فيطلع كل أحد على أعماله ، لأنه تعالى المطلع على نيات الصدور وسرائر الأفئدة.

الإنسان في وقت المحنة

الإنسان في منهاج حياته لا يسير على منوال واحد ، ما دام مستكبرا معاندا مكابرا الحقائق ، فتراه يصر على الكفر بالله بفلسفات بالية وعقائد موروثة ساذجة ، حتى إذا ألم به ضرر ، أو تعرض لأزمة أو محنة ، بادر إلى الاستعانة بالله تعالى ، والتضرع إليه ، إذ لا يجد في أصائل نفسه طريقا للفرج إلا الله القوي القادر الذي يكشف الضر ، ويدفع الشر ، وهذا دليل على تناقض الكافر ، يضرع إلى الله تعالى وقت الشدة ،

٣٢٩

ويهمله ويعرض عنه وقت الرخاء ، أما المؤمن فمنهاجه سواء ، إن أصابه سراء ونعمة شكر ، وإن تعرض لضراء ونقمة صبر ، فكان خيرا له في كلا الحالين ، مما يدل على ثبات إيمانه ، وصلابة يقينه وتمسّكه بالمبدأ الذي لا يحيد عنه. قال الله تعالى واصفا الإنسان :

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩)) (١) (٢) (٣) (٤) [الزمر : ٣٩ / ٨ ـ ٩].

هذه موازنة واضحة بين الكافر والمؤمن في وقت الرخاء والشدة ، أما الكافر فهو متناقض مضطرب ، إذا أصابته شدة من مرض أو فقر أو خوف ، تضرع إلى ربه ، تائبا إليه ، مستغيثا به لتفريج كربه ، ثم إذا أنعم الله عليه بنعمة أو خير ، وصار في حال رخاء ، نسي دعاء الله في حال الضرر ، أو نسي الله سبحانه وتعالى مطلقا ، ورجع إلى كفره ، وجعل الشركاء والنظراء أو الأمثال من الأصنام وغيرها شركاء لله ، يعبدها ، ليؤول أمره إلى الوقوع في دائرة الضلال ، وإضلال غيره عن جادة الحق ، وطريق الإسلام والتوحيد.

والإنسان في هذه الآية : يراد به الكافر ، بدلالة ما وصفه به آخرا من اتخاذ الأنداد لله تعالى ، ولقوله سبحانه موبخا ومهددا إياه : (تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ). وتخويل النعمة : إما في كشف الضر المذكور ، أو يريد أي نعمة كانت ، واللفظ يشمل الأمرين.

ثم أمر الله تعالى نبيه أن يقول للكفار ـ على سبيل التهديد ـ قولا ، يخاطب به

__________________

(١) أي تائبا مقاربا مراجعا بصيرته.

(٢) خوله : ملّكه وحكمه فيها ابتداء منه ، لا مجازاة.

(٣) الأنداد : الأمثال التي تضادّ وتزاحم ويعارض بعضها بعضا.

(٤) الأظهر أن الألف في (أمّن) ألف تقرير واستفهام.

٣٣٠

واحدا واحدا منهم : (تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ) أي تلذّذ به ، واصنع ما شئت مدة قليلة : وهي مدة عمر ذلك المخاطب ، فإنك في النهاية يوم القيامة مصيرك أن تكون من أصحاب النار ، أي من سكانها والمخلّدين فيها. وهذا أمر يراد به التهديد.

ثم ذكر الله تعالى على جهة المقارنة حال المؤمن المخلص ، والمعنى : أذلك القانت خير أم هذا المذكور الذي يتمتع بكفره قليلا ، وهو من أصحاب النار؟ الجواب واضح وهو أن المؤمن خير. والقانت : الطائع الخاشع ، المصلي لله في أوقات الليل ، ساجدا خاضعا لربه ، وفي حال قيامه ، يخاف الآخرة ، ويرجو رحمة ربه ، جامعا بين الخوف والرجاء ، وتلك هي حقيقة العبادة الكاملة ، التي يفوز بها صاحبها. وهذا دليل على فضل قيام الليل وأنه أفضل من قيام النهار.

وكما لا يستوي القانت المطيع الخاشع ، والكافر الجاحد ، لا يستوي أهل العلم والجهل ، إنما يتعظ بآيات الله ويتدبرها أهل العقول السليمة والأفكار السديدة ، لا الجهلاء الأغبياء ، الذين لا يقدّرون الأمور حق قدرها ، ولا يتأملون في مصير المستقبل. نزلت هذه الآية (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ) إما في عثمان بن عفان أو في عمار بن ياسر ، أو ابن مسعود أو سالم مولى أبي حذيفة.

وفي هذه الآية دلالة واضحة على أن كمال الإنسان محصور في هذين المقصودين : العلم والعمل ، كما قال أبو حيان في البحر المحيط ، فكما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي ، والمراد بالعلم هنا : ما أدى إلى معرفة الله تعالى ، ونجاة العبد من سخطه.

وهذه المقارنة في معنى مقارنة آتية في السورة نفسها (سورة الزمر) في قول الله تعالى : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الزمر : ٣٩ / ٢٢].

٣٣١

والقنوت يطلق على الدعاء ، والطاعة ، أخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كل حرف من القرآن يذكر فيه القنوت ، فهو الطاعة».

وعن ابن عباس قال : «من أحب أن يهوّن الله عليه الوقوف يوم القيامة ، فلينزه الله في سواد الليل ساجدا وقائما».

طريق الخلاص في الآخرة

إن طريق الخلاص والنجاة في عالم القيامة محصور في أمور ثلاثة : تقوى الله وطاعته ، وإخلاص الدين لله ، واجتناب الطواغيت ، أي الأوثان وكل ما عبد من دون الله ، فإذا ملأ الإنسان قلبه خوفا من الله تعالى ، وبادر لأداء الفرائض والواجبات ، وأخلص النية والعمل لله ، واجتنب كل ألوان الشرك والوثنية ، كان ناجيا مطمئنا ، مستقرا في جنان الخلد ، عند مليك مقتدر ، وهذا وعد إلهي منجز ، وسبيل متعين للنجاة ، قال الله تعالى مبينا هذا التوجه الصحيح وأصوله :

(قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها (١) (٢) (٣)

__________________

(١) الحسنة في الآخرة : الجنة والنعيم ، وفي الدنيا : العافية والطهور وولاية الله تعالى أي نصرته ، والمراد هنا الحسنة الأخروية.

(٢) الظلل : طبقات النار.

(٣) الطاغوت : كل ما عبد من دون الله.

٣٣٢

وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ (٢٠)) (١) (٢) [الزمر : ٣٩ / ١٠ ـ ٢٠].

المعنى : قل أيها النبي : يا عباد الله الذين آمنوا بالله ربا وبالإسلام دينا ، اتقوا عذاب ربكم : باتباع أوامره ، واجتناب نواهيه ، فللمحسنين أعمالهم حسنة في الدنيا : وهي الصحة والعافية والنصر والسلطان ، وإذا لم تتمكنوا من ممارسة مقتضيات التقوى في بلد ، فهاجروا إلى بلد آخر ، حيث تمكن طاعة الله ، فإن أرض الله واسعة غير ضيقة ، فسيحة غير مغلقة ، إنما يوفي الله الصابرين في عملهم ثوابهم بغير مكيال ولا وزن ، وبما لا يقدر على حسابه حاصر وحاسب ، وهذا حض على الهجرة. وهذا وعد من الله تبارك وتعالى على الصبر على المكاره ، والخروج عن الوطن ، ونصرة الدين ، وجميع الطاعات ، ومفاد الوعد أن الأجر يوفّى بغير حساب ، أي بغير حصر ولا عدّ ، بل جزافا ، وهذه استعارة للكثرة التي لا تحصى ، وهذا رأي جمهور المفسرين. يروى أن هذه الآية نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين عزموا على الهجرة إلى أرض الحبشة.

ثم أمر الله تعالى بعد الأمر بالتقوى بالإخلاص في العبادة والطاعة ، فقل أيها النبي : إنما أمرت أن أعبد الله وحده ، بإخلاص خال من الشرك والرياء وغير ذلك ، وأمرت بأن أكون أول المسلمين المنقادين لله الخاضعين له ، من هذه الأمة ، في مخالفة دين الآباء الوثنيين.

وقل للمشركين الوثنيين : إني أخشى إن عصيت ربي بترك التقوى وإخلاص العبادة

__________________

(١) الغرفة : الحجرة.

(٢) وعد الله : منصوب على المصدر تقديره : وعدكم الله وعدا.

٣٣٣

لله وتوحيده : أن أتعرض لعذاب شديد الأهوال في يوم القيامة. وأمرني ربي أن أعبده وحده لا شريك له ، وأن يكون تعبّدي خالصا لله غير مشوب بشرك ولا رياء ولا غيرهما.

ثم قال لهم على سبيل التهديد والوعيد : اعبدوا ما أردتم عبادته من غير الله ، من الأوثان والأصنام ، فسوف تجازون بعملكم.

ثم قل لهم أيها الرسول : إنما أهل الخسارة التامة : هم الذين خسروا أنفسهم بالضلالة والشرك والمعاصي ، وخسروا أتباعهم من الأهل حيث أوقعوهم في الضلال ، وعرّضوهم للعذاب الدائم يوم القيامة ، وذلك هو الخسران الواضح ، ولا خسران أعظم منه.

ونوع الخسران : أن لهم طبقات متراكمة من النار الملتهبة ، من فوقهم ومن تحتهم ، ومن كل جانب ، ذلك العذاب الشديد الذي يخبر به الله خبرا كائنا لا محالة ، ليرهب به عباده ، فيا عبادي خافوا بأسي وعذابي واتقوا غضبي. ووعد المؤمنين : هو أن الذين تجنبوا عبادة الأوثان والشيطان وكل ما عبد من دون ، ورجعوا إلى الله ، لهم البشارة بالثواب الجزيل : وهو الجنة ، فبشر أيها الرسول بالجنة عبادي المؤمنين الذين يستمعون القول الحق من كتاب الله ، وسنة رسوله ، فيفهمونه ، فيتبعون أحسن ما يؤمرون به ، ويعملون بما فيه. أولئك المتصفون بهذه الصفة هم الموفقون للصواب في الدنيا والآخرة ، وهم ذوو العقول الصحيحة والآراء السديدة.

وآية (فَبَشِّرْ عِبادِ) نزلت في رجل من الأنصار أعتق سبعة مماليك ، ليعتق نفسه من أبواب النار السبعة ، وآية : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) نزلت في ثلاثة نفر موحدين الله في الجاهلية ، وهم زيد بن عمرو بن نفيل ، وأبو ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي.

ثم واسى الله رسوله على إعراضهم عن دعوته بما معناه : إنك لا تقدر على هداية

٣٣٤

من وجب عليه قرار العذاب ، ولا تتمكن من إنقاذه من النار. لكن أولئك الذين اتقوا عذاب ربهم بأداء فرائضه واجتناب معاصيه ، لهم في الجنة غرف مبنية محكمة البناء ، تجري من تحت تلك الغرف والقصور أنهار عذبة الماء ، وذلك وعد محقق من الله تنفيذه ، ووعد الله حق ثابت ، لا نقض فيه ولا رجوع عنه.

حال الدنيا الفانية وتوجيه الهداية

رغّب القرآن الكريم بالآخرة لخلودها ونعيمها التام ، ونفّر من الدنيا لفنائها وسرعة زوالها ، فهي أشبه بزرع اخضّر بماء السماء ، ثم اصفر وتهشم ، وأوضح القرآن سبيل الهداية للدين الحق والنور الإسلامي ، فمن استضاء قلبه بالإسلام ، فهو على نور من ربه ، ومن استنار بتعاليم القرآن ، ولأن جلده وقلبه لذكر الله تعالى ، فهو على طريق مستقيم. ومن أعرض عن هدي القرآن ، وانغمس في المعاصي والمنكرات ، فقد عرّض نفسه لسوء العذاب ، واستحقاق الخزي في الدنيا والآخرة ، قال الله تعالى واصفا أحوال الدنيا وحال انشراح الصدر بالقرآن :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١) أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢) اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ (١)

__________________

(١) الويل : كلمة عذاب أو واد في جهنم.

٣٣٥

وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦)) (١) [الزمر : ٣٩ / ٢١ ـ ٢٦].

المعنى : ألم تشاهد أيها النبي وكل بشر أن الله أنزل من السحاب مطرا ، فأدخله وأسكنه في الأرض ، ثم أخرج منها عيونا متدفقة بالماء ، ثم تسقى به الأرض ، فيخرج بذلك الماء من الأرض زرعا مختلفا أنواعه ، من الحنطة والشعير والحبوب الأخرى والخضروات وغيرها ، ثم ييبس ويجف ، فتراه مصفرا بعد خضرته ، ثم يتكسر ويتهشم ، إن في ذلك المذكور من إنزال المطر وإخراج الزرع به موعظة ينتفع بها أهل العقول الصحيحة.

هذا مثال لحال الدنيا الفانية ، متاعها زائل ، وبهجتها ذاهبة ، وكل مفكر تفكيرا صحيحا يدرك أن سرعة زوال الدنيا يدل على قصر عمر الإنسان ، وأنه مهما طال ، لا بد له من الانتهاء ، كما جاء في آية أخرى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص : ٢٨ / ٨٨].

ولا يكون الانتفاع بهذه المواعظ إلا إذا شرح الله الصدور للإسلام ، ونوّر القلوب بالإيمان ، ولا يستوي هذا ومن حجب قلبه عن الأنوار الإلهية. أفمن وسّع الله صدره ، فقبله واهتدى بهدية ، فأصبح مستنير القلب بنور الله ، وهو نور المعرفة ، والاهتداء إلى الحق ، كمن قسا قلبه لسوء اختياره وغفلته وجهالته؟! أي لا يستوي المهتدي للإسلام والحق ، ومن هو قاسي القلب ، البعيد عن الحق ، فالعذاب الشديد لمن تحجرت قلوبهم عند سماع ذكر الله ، ولم تخشع لصوت الحق الإلهي ، أولئك قساة

__________________

(١) الخزي : الذل والهوان.

٣٣٦

القلوب في ضلال واضح عن الحق ، ولا يفهم الكلام إلا بمحذوف يدل عليه الظاهر ، تقديره كالقاسي القلب والمعرض عن ذكر الله.

ذكر الواحدي في أسباب النزول : أن هذه الآية نزلت في علي وحمزة رضي الله عنهما ، وأبي لهب وابنه ، وهما اللذان كانا من القاسية قلوبهم.

و (شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ) استعارة لتحصيله للنظر الجيد والإيمان بالله تعالى. و «النور» : هداية الله ، وهي أشبه شيء بالضوء. قال ابن مسعود رضي الله عنه فيما أخرجه ابن مردويه : قلنا : يا رسول الله ، كيف انشراح الصدر؟ قال : إذا دخل النور القلب انشرح الصدر ، قلنا : وما علامة ذلك؟ قال : «الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والتأهب للموت». والقسوة : شدة القلب.

ثم وصف الله القرآن الذي يشرح الصدر بأن الله نزل أحسن الأحاديث وهو القرآن ، لما فيه من الخيرات والبركات والمنافع العامة والخاصة ، وهو كتاب يشبه بعضه بعضا ، في جمال النظم وحسن الإحكام والإعجاز ، وقوّة المباني والمعاني ، وبلوغ أرقى درجات البلاغة ، وتثنى فيه القصص ، وتتكرر فيه المواعظ والأحكام من أوامر ونواه ، ووعد ووعيد ، ويثنى في التلاوة ، وتقشعر من عظمة آياته وأمثاله ومواعظه جلود الخائفين من الله ، ثم تسكن وتطمئن الجلود والقلوب عند سماع آيات الرحمة ، ذلك القرآن الذي هذه صفته هو هداية الله ، يهدي به من يشاء هدايته وتوفيقه للإيمان ، ومن يخذله الله عن الإيمان بالقرآن من الفسّاق والعصاة والفجار ، فلا مرشد له. عن ابن عباس : أن قوما من الصحابة قالوا : يا رسول الله ، حدثنا بأحاديث حسان وبأخبار الدهر ، فنزل : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ).

وسبب التمييز بين المهتدي والضال يظهر في هذه المقارنة ، وهي : أفمن يتقحّم نار جهنم ، فلا يتمكن من اتقاء العذاب الشديد يوم القيامة ، كمن هو آمن لا يتعرض

٣٣٧

لشيء من المخاوف والمكروهات؟ وحين يقال للكافرين : ذوقوا جزاء ظلمكم وكسبكم من المعاصي في الدنيا. لقد كذب بعض الأقوام السابقين لقومك رسلهم ، فأتاهم العذاب من جهة لا يترقبون إتيان العذاب منها ، فأذاقهم الله الذل والهوان في الدنيا بما أنزل من العذاب والنكال ، كالخسف والمسخ والقتل ، والأسر ، ولعذاب الآخرة أشد وأعظم مما أصابهم في الدنيا.

ضرب الأمثال في القرآن

من حكمة الله تعالى ورحمته وفضله : إيراد الأمثال والأشباه الحسية لتوضيح المجملات ، وتقريب البعيد ، وإقناع الناس ، تخويفا وتحذيرا ، وهذه إحدى خواص القرآن الكريم ، ومن خواصه أيضا أنه قرآن متلو إلى يوم القيامة ، وأنه عربي اللسان ، وغير ذي عوج ، أي إنه بريء وبعيد عن التناقض والتعارض. وفيه مثل عجيب للمؤمن الموحد ، والمشرك ، في أهم الأمور وأعظمها خطرا : وهو التوحيد ، يدل على فساد مذهب المشركين ، وبعدهم عن المنطق ، فهم إن كانوا يرفضون الشركة في عبد مملوك لهم ، فكيف يجعلون لله الشريك؟! قال الله تعالى موضحا هذه الخواص :

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١)) (١) (٢) [الزمر : ٣٩ / ٢٧ ـ ٣١].

ضرب الله الأمثال المجملة للناس في القرآن الكريم ، والمراد بضرب المثل : تطبيق

__________________

(١) أي متنازعون مختلفون لسوء طباعهم وأخلاقهم.

(٢) أي سالما خالصا.

٣٣٨

حالة غريبة على حالة تشبهها ، والمثل يقرّب المعنى إلى الذهن ، وذلك لعل الناس يتعظون ويعتبرون. ثم وصف الله القرآن بصفات ثلاث : هي كونه قرآنا ، أي مقروءا متلوا في المحاريب إلى يوم القيامة ، وكونه عربيا بلسان عربي مبين ، أعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته ، وكونه غير ذي عوج ، أي براءته وبعده عن التناقض والتضاد. وقدّم الله تعالى التذكر على الاتقاء ، لأن من اتعظ بشيء وفهم معناه ، أقبل على ساحة التقوى : بالتزام المأمورات واجتناب المنهيات والاحتراز من المعاصي والمنكرات.

ثم مثّل الله تعالى الكافر العابد للأوثان والشياطين بعبد لرجال عدّة ، في أخلاقهم شكاسة ونقص وعدم مسامحة ، فهم لذلك يعذّبون هذا العبد ، لأنهم يتضايقون في أوقاتهم ، ويضايقون هذا العبد في كثرة العمل ، فهو أبدا دائب متعب ، فكذلك عابد الأوثان ، أي ضرب الله مثلا للمشرك في صنعه ، لا في معبوده ، الذي يعبد أكثر من إله ، بحالة رجل عبد مملوك يملكه عدد من الرجال ، مختلفون فيما بينهم ، متنازعون في ذلك العبد المشترك بينهم ، متعاسرون ، لسوء أخلاقهم وطباعهم ، كل له رأي وحاجة ، فإذا طلب كل واحد من السادة من هذا العبد شيئا أو حاجة ، فما ذا يفعل ، وكيف يرضي جميع الشركاء؟ كذلك المشرك في عبادته آلهة متعددة لا يتمكن من إرضاء جميع تلك الآلهة ، فهو معذب الفكر بها ، ومتى أرضى صنما منها بالذبح له في زعمه ، تفكّر فيما يصنع مع الآخر ، فهو أبدا في تعب وضلال.

ومثّل الله تعالى المؤمن بالله تبارك وتعالى وحده ، بعبد لرجل واحد يكلفه شغله ، فهو يعمله على تؤدة ، وقد ساس مولاه ، فالمولى يغفر زلّته ، ويشكره على إجادة عمله ، أي ضرب الله مثلا آخر للمؤمن بحالة رجل آخر مملوك لشخص واحد ، لا يشاركه فيه غيره ، فإذا طلب شيئا منه لبّاه دون ارتباك ولا حيرة ، وهذا كالمسلم الذي لا يعبد إلا الله ، ولا يسعى لإرضاء غير ربه ، فهل يكون في طمأنينة أو في حيرة؟.

٣٣٩

الحمد لله على إقامة الحجة على عبدة الأوثان ، وعلى أن الحمد لله لا لغيره ، وعلى التوفيق للإسلام والحق ، بل أكثر الناس لا يعلمون هذا الفرق ، فيشركون مع الله غيره. وبما أن أكثر الناس جاهلون بالحق ، لا ينتفعون بهذا المثل ، هدد الله تعالى بالموت ، فمصير جميع الخلائق إلى الله ، وهو الذي يفصل بينهم في مظالمهم ، والموت عاقبة كل حي ، فإنك أيها النبي ميت ، وهم سيموتون ، ثم يكون التقاضي عند الله تعالى فيما اختلفتم فيه في الدنيا من التوحيد والشرك ، فينجي الله المؤمنين الموحدين ، ويعذّب المشركين المكذبين.

والتخاصم في الآخرة ليس خاصا بين المؤمنين والكافرين ، وإنما هو حادث بين كل متنازعين في الدنيا ، فإنه تتكرر المنازعة في الآخرة. وهو دليل على أن النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيخاصم قومه ، ويحتج عليهم بأنه بلّغهم الرسالة ، وأدى الأمانة ، وأنذرهم وبشرهم ، وهم يخاصمونه ويعتذرون بما لا معنى له ، وهذا توعد للمشركين : بأنهم سيتخاصمون يوم القيامة في ردهم شريعة الله ، وتكذيبهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أخرج الإمام أحمد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أول الخصمين يوم القيامة : جاران».

وعيد المكذبين ووعد المصدقين

ليس هناك بعد الشرك بالله أسوأ من الكذب ، وإن الذين يفترون الكذب لا يفلحون ، والكذب أخس صفة تؤدي إلى الطعن بالرجولة ، وتدل على فقد الثقة بالنفس ، وضعف الإنسان ، وتورطه بالنفاق ، لذا كان أسوأ اعتقاد المشركين تكذيب الله تعالى بإثبات ولد له أو شريك ، وتكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد إثبات صدقه في نبوته ، بالأدلة القاطعة والمعجزات الباهرة ، فاستحقوا الوعيد في نار

٣٤٠