التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٣

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٣

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0524-1
الصفحات: ٤٢٢

وكلمة (أم) فيها معنى الإضراب عن الكلام الأول ، والاستفهام ، وقدرها سيبويه ب (بل والألف) كقول العرب : «إنها لإبل أم شاء». والإشارة ب (هنالك) في قوله تعالى : (جُنْدٌ ما هُنالِكَ) إشارة إلى الارتقاء في الأسباب ، أي هؤلاء القوم إن راموا ذلك هم جند مهزوم ، من جملة الأحزاب والأمم المتعصبين في الباطل ، والمكذبي الرسل ، فأخذهم الله تعالى. و (ما) في قوله (جُنْدٌ ما) زائدة مؤكّدة ، وفيها تخصيص.

ثم قارن الله وضع قريش بأمثالهم الغابرين ، فلقد كذبت الرسل قبل قريش ، قوم نوح ، وقبيلة عاد ، وفرعون ذو الأوتاد ، أي المباني العظيمة الثابتة ، والحكم الراسخ ، وقبيلة ثمود قوم صالح ، وقوم لوط ، وأصحاب الأيكة ، أي غيضة الشجر ، أولئك الأحزاب ، أي الموصوفون بالقوة والكثرة ، كمن تحزب عليك أيها النبي عام الخندق بالمدينة.

لقد كذب كل هؤلاء الأقوام رسلهم الكرام ، فوجب العقاب الإلهي لهم ، جزاء وفاقا. وما ينتظر كفار قريش إلا عقابا بنفخة الساعة التي هي النفخة الثانية ـ نفخة الفزع التي ينفخها إسرافيل ، فتطال جميع أهل السماوات والأرض إلا من استثنى الله ، وليس لتلك النفخة انتظار كالمهلة التي بين الحلبتين ، بل هي متصلة حتى مهلكهم.

وقال مشركو مكة وأمثالهم تهكما واستهزاء حين سمعوا بتهديد العذاب في الآخرة : ربنا عجل لنا نصيبنا من العذاب الذي توعدنا به ، ولا تؤخره إلى يوم القيامة. وهذا إنكار من الله على المشركين في مطالبتهم بتعجيل العذاب ، وهو يتضمن إنكارهم البعث.

٣٠١

نعم الله على داود عليه‌السلام

وفصله في الخصومة بين رجلين

توالت الأخبار وإيراد قصص الأنبياء السابقين في القرآن الكريم ، لتذكّر أحوالهم ، والتأسي بهم في صبرهم على أذى أقوامهم ، محتسبين الأجر عند الله تعالى. وكان الخطاب فيها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليتأسى بهم ، ويهوّن عليه إعراض قومه عن دعوته ، فتلك هي سيرة الأقوام الماضين مع رسلهم ، وفي تلك القصص بيان أنواع النعم الإلهية التي أنعم الله بها على أولئك الأنبياء في صراعهم مع أقوامهم ، وصبرهم عليهم ، ثم نجاتهم وتدمير أعدائهم.

وهذه قصة نبي الله داود عليه‌السلام ، وهي قصة مثيرة للعجب والعبرة ، قال الله تعالى :

(اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦)) (١) (٢) (٣) (٤) [ص : ٣٨ / ١٧ ـ ٢٦].

__________________

(١) أي صاحب القوة والجلد.

(٢) أي كثير التوبة والرجوع إلى الله.

(٣) أي مجموعة.

(٤) أي الشركاء.

٣٠٢

تضمنت الآيات بيان عشر صفات لداود عليه‌السلام أنعم الله بها عليه ، وهي : اصبر أيها النبي محمد على ما يتقوله قومك من الأقاويل التي يريدون بها الاستخفاف ، ولا تلتفت إليها ، واذكر عبدنا داود ذا القوة في الدين والصّدع به ، فتأسّ به وتأيد كما تأيد. والأيد : القوة ، وهي في داود متضمنة قوة البدن وقوة الطاعة. وهو الأوّاب : الرجاع إلى طاعة الله تعالى في جميع أموره وشؤونه. وهو الصبور على طاعة الله تعالى.

وهو عبد الله محقّق معنى العبودية بمعنى التذلل والخضوع والانقياد والاجتهاد في الطاعة. وهذه أربع صفات ، والخامسة والسادسة : أن الله تعالى سخر الجبال والطير معه وذللها ، تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار.

والسابعة : جمع الطيور وجعلها مع الجبال مطيعة له ، تسبح الله تبعا له ، حال كون الطيور محبوسة في الهواء ، فكلما سبّح داود جاوبته ، وهذا يدل على أن داود عليه‌السلام كان حسن الترتيل ، جميل الصوت.

والثامنة : قوة الملك ، فقد قوينا ملكه وأيدناه بكل ما وهبناه إياه من قوة وجند ونعمة.

والتاسعة : إيتاء الحكمة ، فإنا أعطيناه الفهم والعقل والفطنة وفهم الدين وجودة النظر ، والعلم الذي لا ترده العقول ، والعدل ، وإتقان العمل والحكم السديد.

والعاشرة : حسن الفصل في الخصومات ، فإنا ألهمناه حسن الفصل في القضاء بين الناس بالحق ، وإصابته وفهمه ، وإيجاز البيان ، ومنها إيجاب اليمين على المدعى عليه ، والبينة على المدعي ، وكان إذا خاطب في مسألة ، فصّل المعنى وأوضحه ، لا يتلكأ ، ولا يعجز عن البيان ، ولا يعتريه ضعف ، فكان كلامه عليه‌السلام فصلا.

ومن قضائه أنه تسلق عليه المحراب في يوم العبادة وفي غير يوم المحاكمة رجلان ،

٣٠٣

ففزع منهم ، فقالا له : لا تخف ، نحن متخاصمان جار بعضنا على بعض ، فاحكم بيننا حكما عادلا ، ولا تتجاوز الحق في الحكم ولا تبعد في الحكم ، واهدنا أو أرشدنا إلى طريق الحق والعدل. وسواء الصراط : وسطه والواضح منه.

واستفتحت الآيات بالاستفهام : (وَهَلْ أَتاكَ ..) تعجبا من القصة وتفخيما لها. وعبر عن الاثنين بالجمع : (تَسَوَّرُوا) و (دَخَلُوا) و (قالُوا) على جهة التجوز في العبارة عن الاثنين ، بلفظ الجمع. والمحراب : الموضع الأرفع من القصر أو المسجد ، وهو موضع التعبد. وفزعه بسبب دخولهم من غير الباب ودون استئذان.

وموضوع الخصومة : إن هذا أخ لي في الدين والإنسانية ، يملك تسعا وتسعين شاة ، وأملك أنا شاة واحدة ، فقال : ملّكنيها ، وغلبني في المخاصمة والجدال ، والحجة. والنعجة : أنثى الضأن. فقال داود عليه‌السلام بعد إقرار المدعى عليه بالدعوى : لقد ظلمك بهذا الطلب ، وطمع عليك. وإن كثيرا من الشركاء في المال ليعتدي ويستطيل بعضهم على بعض ، إلا من آمن بالله وخاف ربه ، وعمل صالح الأعمال ، وهؤلاء المؤمنون الصالحون قلة ، وشعر داود وعلم أنما اختبرناه وامتحناه ، بهذه الواقعة ، فاستغفر ربه لذنبه وهو سوء ظنه بالخصمين ، وأنهما أتيا لاغتياله ، لوقوع اغتيالات في أنبياء بني إسرائيل ، وخرّ ساجدا ، وعبّر بالركوع عن السجود ، لأن القصد منهما التعظيم ، ورجع إلى الله بالتوبة من ذنبه.

والعرب تعبر بالظن عن المعلومات الناجمة من غير الحواس ، ولا يستعمل الظن بمعنى اليقين التام البتّة ، كما ذكر ابن عطية في تفسيره.

فغفر الله له سوء ظنه ، لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين ، وإن له عند ربه لقربى ومكانة رفيعة وحسن مرجع في الآخرة وهو الجنة.

يا داود إنا جعلناك حاكما بين الناس في الأرض ، فاقض بين الناس بالعدل ، ولا

٣٠٤

تتبع أهواء النفس أو مطامع الدنيا ، فيوقعك ذلك في الضلال والانحراف عن الحق ، إن الذين يحيدون عن طريق الحق والعدل ، لهم عقاب شديد يوم القيامة ، بسبب نسيانهم أهوال ذلك اليوم وتركهم الاستعداد له. والمقصود من ذلك تنبيه الحكام والقضاة على الحكم بين الناس بالحق والعدل.

التمييز في الحساب بين المصلحين والمفسدين

قد تكون كثرة النعم منسية شكر المنعم ، إذا كان الإنسان غارقا في الأهواء والشهوات ، ممعنا في الكفر والضلال ، بعيدا عن إشعاعات وأنوار الهدي الإلهي ، خالي القلب من الإيمان وتوجيهات القرآن ، ومن هنا لا غرابة أن يظن الكافرون أن خلق السماوات والأرض إنما هو باطل لا معنى له ، كما ينسون النعم الدائمة ، المعطاة لهم من أرزاق وخيرات ، وقوة وعافية ، ووعي وتفكير ، وعلم ومعرفة وغير ذلك. ويترتب على هذا أنه لا مساواة في الحساب بين الجاحدين والمفسدين ، وبين المؤمنين والمصلحين ، وعلى الجميع أن يطلبوا الإيمان والتقوى من كتاب الله العزيز ، قال الله تعالى واصفا هذه الأحوال :

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩)) [ص : ٣٨ / ٢٧ ـ ٢٩].

هذه الآيات واردة بين قصتي داود وسليمان ، عظة لأمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووعيدا للكفرة بالله تعالى.

أخبر الله تعالى أن الذين كفروا يظنون أن خلق السماوات والأرض وما بينهما ، إنما هو باطل لا معنى له ، وأن الأمر لا يؤول إلى ثواب وعقاب ، فرد الله تعالى

٣٠٥

عليهم مكذبا ظنهم ، ومتوعدا إياهم بالنار ، فالله تعالى لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما من المخلوقات عبثا لا حكمة فيه ، أو لهوا ولعبا ، وإنما خلق ذلك للدلالة على قدرته العظيمة ، ومن أجل العمل فيهما بطاعته وعبادته وتوحيده ، كما قال الله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٥٦) [الذاريات : ٥١ / ٥٦].

ثم أخبر الله تعالى عن كذب ظن الكافرين ، وتوعّدهم بالنار ، أي إن ظن الذين كفروا بأن هذه المخلوقات العظمى خلقت عبثا لغير غرض ، فلا قيامة ولا حساب ، هو ظن خطأ كاذب ، فيا هلاك هؤلاء الكافرين في النار يوم المعاد والنشور ، جزاء ما قدموا من الشرك والعصيان ، وجحود نعم الله تعالى ، وإنكار البعث.

وأبان الله تعالى الفرق في الحساب عنده بين المؤمنين العاملين بالصالحات وبين المفسدين الكفرة ، وبين المتقين والفجّار ، فليس من العدل والمعقول والحكمة التسوية بين الفريقين. والمعنى : بل أنجعل الذين آمنوا بالله وصدقوا رسله ، وعملوا بفرائضه ، وأصلحوا أعمالهم ، فأدوا الفرائض والواجبات على وجه متقن ، كالمفسدين في الأرض بالمعاصي والجحود ، أم نجعل أتقياء المؤمنين كأشقياء الكافرين والمنافقين والعصاة؟ ليس ذلك حقا ولا عدلا ، ولا حكمة ولا نظاما سويا.

وفي هذا البيان والتفرقة بين الفريقين حض على الإيمان وترغيب فيه ، ووعيد للكفرة والجاحدين. ونظير الآية كثير في القرآن المجيد ، مثل قوله تعالى : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٣٦) [القلم : ٦٨ / ٣٤ ـ ٣٦].

ثم أحال الله تعالى في طلب الإيمان والتقوى ، على كتابه العزيز بقوله : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ) أي هذا كتاب لمن أراد التمسك بالإيمان والقربة إلينا ، إن طريق السعادة الأبدية : هو اتباع القرآن الذي أنزله الله هدى ورحمة للمؤمنين ، وهو كثير الخير

٣٠٦

والبركة ، فيه الشفاء النافع لمن تمسّك به ، والنجاة لمن اتبعه ، وقد أنزله الله تعالى للناس للتدبر والتفكر في معانيه ، لا لمجرد التلاوة بدون تدبر وإمعان ، وليتعظ أهل العقول الراجحة به وببيانه. وقوله تعالى : (لِيَدَّبَّرُوا) أي لتتدبروا آياته.

قال الحسن البصري رحمه‌الله : والله ما تدبّره بحفظ حروفه ، وإضاعة حدوده ، حتى إن أحدهم ليقول : قرأت القرآن كله ، ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق ولا عمل.

وفي هذه الآية اقتضاب وإيجاز بديع ، كإعجاز كل القرآن العزيز. ووصف القرآن بالبركة ، لأن أجمعها فيه ، فهو يورث الجنة ، وينقذ من النار ، ويحفظ المرء في حال الحياة الدنيا ، ويكون سبب رفعة شأنه في الحياة الآخرة.

وظاهر هذه الآية يقتضي أن التدبر من أسباب إنزال القرآن ، فالترتيل أفضل من أجل هذا ، إذ التدبر لا يكون إلا مع الترتيل ، والترتيل وسيلة لفهم المعاني ، والاتعاظ بالأحكام ، والاسترشاد بالهدي القرآني ، وحمل الإنسان على الاتباع والالتزام ، وترك هجر القرآن ، كما عليه حال بعض الناس اليوم.

والآية أيضا دليل على وجوب معرفة معاني القرآن ، والمعرفة تقود إلى الاتباع ، قال الحسن البصري : تدبر آيات الله : اتباعها.

إن من أجلّ مقاصد القرآن إصلاح الحياة الإنسانية ، بإصلاح الفرد والجماعة ، وإصلاح الروابط والعلاقات في جميع مجالاتها وأنواعها.

نعم الله تعالى على سليمان عليه‌السلام

أفاض الله فيض نعمه السخية على سليمان ، كما أفاض على أبيه داود عليهما‌السلام ، واستمرار هذا الفيض الإلهي يقتضي أن يشكر المحسن ، ويتعظ المسيء بما

٣٠٧

يجده في قصتي داود وسليمان عليهما‌السلام من عبر وعظات ، فإنهما جمعا بين الملك العظيم في الدنيا ، والنبوة والرسالة ، ولم يمنعهما ذلك الملك من شكر الله وعبادته وطاعته ، فهل لقريش وغيرها من الزعامات أن يجدوا في هذه القصة ما يحملهم على شكر المنعم ، وعبادته؟ قال الله تعالى :

(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠)) (١) (٢) [ص : ٣٨ / ٣٠ ـ ٤٠].

وهب الله تعالى سليمان ولدا لداود عليهما‌السلام ، وأثنى عليه بأوصاف من المدح تضمنها قوله تعالى : (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) والهبة والعطية بمعنى واحد ، والمعنى : لقد أعطينا داود ابنا نبيا وهو سليمان ، وهو عبد الله صالح ، لأنه رجّاع إلى الله تواب ، كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى الله عزوجل في أكثر الأوقات. وذكر الله تعالى واقعتين لسليمان من وقائع توبته.

الأولى ـ قصة عرض الخيل عليه. والمعنى : اذكر أيها الرسول محمد مادحا حين عرض على سليمان عليه‌السلام في مملكته وسلطانه بعد العصر آخر النهار الخيول (الجياد) القائمات على ثلاث قوائم وطرف حافر الرابعة (٣) ، وهي آلاف تركها له

__________________

(١) أي الخيول القائمات. والجياد : السراع في العدو.

(٢) أي القيود والأغلال.

(٣) وهذه علامة الفراهة أي النشاط والحيوية مع الجمال وحسن المنظر.

٣٠٨

أبوه ، ليتعرف أحوالها ، ويستعرضها ، كالاستعراضات العسكرية اليوم ، فقال سليمان : لقد أحببت هذه الخيل وآثرتها على غيرها حبا حصل بذكر الله وأمره ، لا بهواي وشغفي ، فكانت تركض حتى تغيب عني بسبب الغبار وبعد المسافة. وقوله : (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) معناه : أحببت هذه الخيل حبّ الخير ، أو آثرت محبتها (١). مواراتها بالحجاب : بعدها عنه. والمراد : أن حبه للخيل لم يكن إلا امتثالا لأمر الله بربط الخيل لتكون عدة الجهاد في سبيل الله ، وتقوية دينه ، ونشره بين الناس.

والخير عند بعضهم : هو الذي عند الله في الآخرة بسبب ذكر ربي. والظاهر أن المراد بالخير : هو المال ، لكثرة استعماله في المال عند العرب. وقال أبو حيان : الخير عند العرب تسمى الخيل.

والخلاصة أو المراد : أحببت الجياد الصافنات أو عرضها حبا مثل حب الخير ، منيبا لذلك عن ذكر ربي ، وليس المراد بالخير هو الخيل فقط.

ثم أعاد سليمان عليه‌السلام عرض الصافنات أمامه ، فقال : أعيدوا هذه الخيل إلي ، فلما عادت جعل يمسح بيده سيقانها وأعناقها ونواصيها ، تشريفا لها وتكريما وتدليلا ، ومحنة لها ، وسرورا بها. وطفق : معناه دام يفعل. ولا يصح القول بأن عرضها عليه ألهاه عن صلاة العصر حتى غربت الشمس ، أو أنه قطّع قوائم الخيل بالسيف ، فذلك من الإسرائيليات. وإنما المراد : اختباره بمحبّة الخيل حبا شديدا ، لمعرفة مدى تواضعه والبعد عن الاغترار ، واشتغاله بالعرض والندم عليه.

والواقعة الثانية : إلقاؤه جسدا على كرسيه : والمعنى : تالله لقد اختبرنا سليمان عليه‌السلام باختبار آخر ، وهو كما قال الرازي الفتنة في جسده ، حيث ابتلاه الله

__________________

(١) وعلى التأويل الأول يكون (حب) منصوبا على المصدر ، وعلى التأويل الثاني بتضمين الفعل معنى آثرت.

٣٠٩

بمرض شديد في جسمه ، حتى نحل جسمه ، وأصبح هزيلا ، ثم أناب ، أي رجع إلى حال الصحة ، وقال : رب اغفر لي ما صدر عني من الذنب الذي ابتليتني لأجله ، وهذا من باب السمو بتصور الخطيئة ، التي لا تعدو أن تكون تركا للأفضل والأولى ، وامنحني ملكا عظيما لا يحصل لأحد غيري مثله ، إنك أنت الكثير الهبات والعطايا ، فأجب دعائي. ويكون المراد بإلقاء الجسد على كرسيه : أنه مرض مرضا كالإغماء ، حتى صار على كرسيه جسدا ، كان بلا روح. والمراد بقوله (لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) أن يتفرد به بين البشر كرامة له.

فأجاب الله دعاءه ومنحه خمس نعم هي :

١ ـ لقد ذللنا الريح ، تنقاد لأمره ، وتجري لينة طائعة في قوة وسرعة ، تحمله حيث اتجه إلى أي مكان أراده.

٢ ـ وذللنا له أيضا الشياطين تعمل بأمره ، إما في بناء المباني العظيمة ، وإما في الغوص في البحار ، لاستخراج الدرر واللآلئ والمرجان ، وإما في أعمال أخرى.

٣ ـ وذللنا له شياطين آخرين ، وهم مردة الشياطين ، حتى إنه قرنهم في القيود والسلاسل ، قمعا لشرهم ، وعقابا لهم. ومقرنين : موثقين.

٤ ـ وجعلنا له حرية التصرف فيما أعطيناه من الملك العظيم والثروة ، والسيطرة على الريح والشياطين ، وأذنّا له أن يمنح من ثروته من يشاء ، ويمنع من يشاء ، بلا حساب عليه في الإعطاء أو الإمساك (المنع) أو يمنّ على من شاء من الجن فيطلقه أو يقيده كما قال قتادة.

٥ ـ وإن له في الآخرة لقربى وكرامة عند الله تعالى ، وحسن مرجع وهو الجنة ، وفيض ثواب ، فهو ذو حظ عظيم عند الله يوم القيامة.

إن هذه النعم العظيمة على سليمان عليه‌السلام تدل على عظيم فضل الله ، وعلى

٣١٠

أن سليمان كان نبيا ورسولا من الصالحين كأبيه ، لم يصدر عنه إلا كل ما هو خير متفق مع مقتضى الرسالة ، ودعوة الناس إلى عبادة الله وشكره وليس دعاؤه بطلب ملك يتفرد به مرادا به : أنه لا يعطي الله تعالى نحو ذلك الملك لأحد ، وإنما المبالغة في هبة الملك وطلبه.

محنة أيوب عليه‌السلام

أيوب عليه‌السلام : هو نبي من أنبياء بني إسرائيل ، من ذرية يعقوب عليه‌السلام ، وهو المبتلى في جسده وماله وأهله ، ولكن صبر وسلّم معتقده ودينه ، ولم يكن ابتلاؤه بمرض معد أو منفّر طبعا ، خلافا لما زعم بعضهم ، وإنما كان مرضه جلديا مضعفا غير منفر ، وبعد أن طال صبره دعا ربه ، فأوحى إليه بالاغتسال والشرب من ماء نابع ، حفره بقدمه ، فشفي وعوفي ، ورد الله عليه أهله وزاده مثلهم في الذرية ، وافتدى الله يمينه بضرب زوجته بعود فيه مائة قضيب من الشجر الرطب ، فيضرب به ضربة واحدة ، يبر بها يمينه. وهذه حكاية محنته وبلواه وزوالها عنه. قال الله تعالى :

(وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤)) (١) (٢) [ص : ٣٨ / ٤١ ـ ٤٤].

الاعتبار والاتعاظ بقصص الأنبياء السابقين هو غاية إيراد قصصهم ، فمنهم كثير

__________________

(١) أي بضر ومشقة وتعب.

(٢) حزمة صغيرة من حشيش أو شجر رطب.

٣١١

النعمة كداود وسليمان عليهما‌السلام ، ومنهم من ابتلي وامتحن بالمرض كأيوب عليه‌السلام ، ففي حال النعمة شكر وحمد ، وفي حال النقمة صبر وتفويض لله.

والمعنى : اذكر أيها النبي محمد لقومك مدى صبر أيوب عليه‌السلام على مرضه مدة طويلة من الزمان ، قيل : هي نحو من ثماني عشرة سنة ، اذكره حين دعا ربه : بأنني قد مسني الضر ، وألحق بي الشيطان الضر والمشقة والألم. ولم يكن مرضه منفّرا الناس منه ، وإنما هو مرض جلدي ظاهري ، قابل للشفاء. أخرج ابن جرير الطبري في تفسيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن أيوب عليه‌السلام بقي في محنته ثماني عشرة سنة.

فأجاب الله دعاءه ، وأمره أن يضرب برجله الأرض ، فنبعت عين جارية ، فاغتسل فيها ، وشرب منها. وقوله : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) الركض : الضرب بالرّجل. والمعنى اركض الأرض ، ولما فعل ذلك عوفي من مرضه.

وأعاد الله له أيضا أهله وولده الذين تركوه ، ووهب له ماله في الدنيا ورد ما هلك من ماشيته ، وبارك في جميع ذلك ، وولد له الأولاد حتى تضاعفت الحال ، رحمة من الله به ، وتذكرة لأصحاب العقول السديدة ، فإن ما بعد الصبر والشدة إلا الفرج ، وما بعد العسر إلا اليسر.

وكانت زوجته تتردد عليه مدة مرضه ، فيوسوس لها الشيطان ويقول لها : لو سجد هذا المريض للصنم الفلاني لبرئ ، ولو ذبح عناقا (أنثى المعز أو الضأن إلى تمام الحول) للصنم الفلاني لبرئ ، ويعرض عليها وجوها من الكفر ، فكانت ربما عرضت ذلك على أيوب ، فيقول لها : ألقيت عدو الله في طريقك؟ فلما أغضبته بهذا ونحوه ، حلف لئن برئ من مرضه ليضربنها مائة سوط.

فلما برئ ، أمره الله تعالى أن يأخذ بيده قبضة أو حزمة كبيرة من القضبان ونحوها

٣١٢

من الشجر الرطب ، فيضربها به ضربة واحدة فتبر يمينه. وهذا حكم ورد في شرعنا حيث أخرج أبو داود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثله في حد رجل زمن (مريض مرضا مزمنا) بالزنى ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعذق (عدد من النخيل) فيه مائة شمراخ أو نحوها ، فضرب به ضربة. وقال به بعض الفقهاء وهو الإمام الشافعي.

ثم أثنى الله تعالى على أيوب عليه‌السلام بقوله : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي لقد وجدناه صابرا على البلاء الذي ابتليناه به في جسده ، وذهاب ماله وأهله وولده ، نعم الرجل العبد لله أيوب ، إنه رجّاع إلى الله تعالى بالتوبة والاستغفار ، زيادة في حسناته ، ورفع درجته ، لا بسبب ذنب ارتكبه ، فجازيناه بتفريج كربته ، مع أنه ليس في الشكوى إلى الله إخلال بالصبر ، ولكن إيمان الأنبياء المطلق الذي يستلهمون منه أن الله تعالى عليم بهم ، قد لا يطلبون من الله شيئا ، لإذهاب همهم وغمهم ، كما فعل إبراهيم عليه‌السلام حينما ألقي في النار ، لم يدع ربه ، وإنما قال : «علمه بحالي يغنيه عن سؤالي».

وروي عن أيوب عليه‌السلام : أنه كان يقول كلما أصابته مصيبة : «اللهم أنت أخذت ، وأنت أعطيت» وكان يقول في مناجاته : «إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي ، ولم يتبع قلبي بصري ، ولم يلهني ما ملكت يميني ، ولم آكل إلا ومعي يتيم ، ولم أبت شبعان ولا كاسيا ، ومعي جائع أو عريان».

هذه أمثلة عالية من مواقف أيوب عليه‌السلام ، تعدّ ذخرا عظيما ، وقدوة حسنة للمؤمنين ، فلا يصدر عنهم في وقت المرض أو المحنة أو الأذى إلا ما يتفق مع الأدب مع الله تعالى والتفويض إليه.

٣١٣

نعم الله تعالى على إبراهيم وذريته عليهم‌السلام

هذه أيضا كما سبق سيرة طيبة عبقة لثلّة من الأنبياء ، يراد بها العظة والعبرة ، والتعليم للبشر ، والتخلق بأخلاقهم ، والعمل بأعمالهم التي من أجلها استحقوا ما أعد الله لهم ولأمثالهم في هذه الآيات الآتية من الثواب الجزيل والنعيم العظيم. تضمنت الآيات أمر النبي محمدا عليه الصلاة والسّلام أن يذكر للعبرة والعظة صبر إبراهيم حين ألقي في النار ، وصبر إسحاق في دعوة بني إسرائيل إلى الرشاد ، وصبر يعقوب حين فقد ولده وذهب بصره ، وصبر إسماعيل للذبح ، وصبر اليسع وذي الكفل على أذى بني إسرائيل ، قال الله تعالى واصفا كل ذلك بإيجاز بديع :

(وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤)) (١) (٢) (٣) (٤) [ص : ٣٨ / ٤٥ ـ ٥٤].

هذه أخبار سارّة عن فضائل الأنبياء والمرسلين ، اذكر أيها الرسول محمد عمل وصبر مجموعة من عبادنا المرسلين : إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي القوة في العبادة والبصيرة النافذة ، فإنهم دأبوا على الطاعة ، وقوّيناهم على العمل الصالح المرضي.

وذلك لأننا خصصناهم بميزة خالصة ، وهي العمل للآخرة ، والتزام الأوامر ، واجتناب النواهي ، لتذكرهم الآخرة ، وإيمانهم المطلق بها ، وذلك شأن الأنبياء والرسل.

__________________

(١) أي المختارين الخيّرين.

(٢) حابسات نظرهن على الأزواج.

(٣) أي لدات في سن واحدة.

(٤) أي انقطاع وفناء.

٣١٤

وقوله : (ذِكْرَى) مصدر ، و (الدَّارِ) منصوبة ب (ذكرى) على معنى : أخلصناهم بأن خلص لهم التذكير بالدار الآخرة ، ودعوا الناس إليها ، وحضوهم عليها.

وإنهم عند الله لمن المختارين من أبناء جنسهم ، الخيّرين ، المطبوعين على حب الخير وفعله ، فلا يميلون للأذى ، وليس في قلوبهم شيء من الضغينة والحقد والحسد والبغض لأحد ، ولا يقترفون منكرا ، ولا يرتكبون معصية ، فهم أخيار مختارون من الله تعالى.

واذكر أيضا أيها النبي الرسول محمد صبر إسماعيل واليسع وذي الكفل وأعمالهم الصالحة ، فكل منهم أيضا من الأخيار المختارين للنبوة وأداء الرسالة الإلهية. ثم أخبر الله تعالى عن الهدف من إيراد هذه الأخبار النبوية ، فهذه الآيات القرآنية التي تعدّد محاسن هؤلاء الأنبياء تذكّر لهم وتنويه ، وذكر جميل في الدنيا ، وشرف يذكرون به أبدا ، وإن لهم وللمتقين أمثالهم لحسن مرجع ، يرجعون فيه في الآخرة إلى مغفرة الله ورضوانه ونعيم جنته. ويحتمل أن يكون قوله تعالى : (هذا ذِكْرٌ) إشارة إلى القرآن ، أي هو ذكر للعالم.

ثم فسّر الله تعالى المقصود بالمرجع وحسن المآب : وهو أن لهم جنات إقامة دائمة ، مفتّحة لهم الأبواب ، فإذا قدموا فتحت لهم أبواب الجنة ، إكراما لهم ، تفتحها الملائكة ليدخلوها مكرمين. وفي هذا إيماء بتخصيصاتهم وبسعتها وبهائها.

تراهم متكئين في الجنات على الأرائك والأسرّة ، يطلبون ما لذّ وطاب مما شاؤوا من أنواع الفاكهة الكثيرة ، وأنواع الشراب الكثير العذب الطيب وغير ذلك ، فمهما طلبوا وجدوا ، وأحضر كما أرادوا.

ولهم زوجات قاصرات حابسات طرفهن على أزواجهن ، لا ينظرن إلى غيرهن ،

٣١٥

وهم لدات : متساويات في السن والحسن والجمال ، يحب بعضهن بعضا ، فلا تباغض ولا غيرة عندهن في نفوسهن.

وهذا المذكور من صفات الجنان : هو الذي وعد الله به تعالى عباده المتقين ، وهو الجزاء الأوفى الذي وعدوا به ، وأجّل ليوم الحساب في الآخرة ، بعد البعث والنشور من القبور.

وصفة هذا النعيم : الدوام ، فهذا الذي أنعمنا به عليكم لرزق دائم لا انقطاع له ولا فناء أبدا ، كما جاء في آيات أخرى ، منها : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) [النحل : ١٦ / ٩٦]. ومنها : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود : ١١ / ١٠٨] ومنها : (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) [الانشقاق : ٨٤ / ٢٥] أي غير منقطع. ومنها : (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) [الرعد : ١٣ / ٣٥].

إن الترغيب بالنعيم محبّب لدى النفوس البشرية ، مما يجعلهم طامعين بتحصيله ، حريصين على الوصول إليه ، فهو من جملة البواعث والدوافع ، إلى الطاعة والتأسي بالأنبياء الكرام ، تنزلا في تحقيق الرغبات لمستوى طبائع البشر وتطلعاتهم ، لا أن الله ناصب نفسه لتلبية الأهواء ، فهذا طبع للبشر ، قصد به الترغيب.

عقاب الطغاة

كلما تلا الإنسان آيات العذاب الشديد وألوان العقاب للكافرين الطغاة ، اقشعر بدنه وارتعدت فرائصه ، وخاف أن يناله شيء من ذلك ، لشدة الوصف ، وقسوة العذاب ، وتصويره كأنه واقع ماثل أمامه ، يراه ولا يطيق تحمله ، وحدوث هذا التأثر ، والتفاعل مع الوصف ، يحمل المؤمن على تفادي الأسباب ، والبعد عن

٣١٦

موجبات العذاب ، والبحث عن موجبات الرحمة والمغفرة ، والنجاة والتخلص من آفات العقاب وويلاته في الآخرة.

وهذه آيات تصف ما يستحقه أهل الكفر والطغيان ، قال الله تعالى :

(هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤)) [ص : ٣٨ / ٥٥ ـ ٦٤].

المعنى : الأمر المذكور في آيات سابقة وهو جزاء المؤمنين هذا ، وهذا واقع أو قائم ، وإن للطغاة الكافرين الخارجين عن حدود الطاعة الإلهية ، المكذبين لرسله ، لسوء مصير ، وشر مآب أو مرجع. ذلك المصير : هو إصلاؤهم في نار جهنم وإحراقهم ، فبئس الفراش الذي مهدوه لأنفسهم ، أي كأن ما تحتهم من النار كالمهاد أو الفراش. والطاغي : المفرط في الشر ، والطغيان المراد هنا : هو الكفر ، والمآب : المرجع ، وجهنم بدل من قوله : (لَشَرَّ مَآبٍ) ويصلونها : يباشرون حرها وحرقها ، والمهاد : ما يفرشه الإنسان ويتصرف به.

الأمر هذا فليذوقوه ، أو هذا حميم : وهو الماء الحار فليذوقوه ، وهذا هو الغساق : صديد أهل النار السيال بتجرعونه.

ولهم عذاب آخر كالحميم والغساق ، أشد كراهية وإيلاما كالزقوم ، وتلك ألوان من العذاب المختلفة المتضادة.

وتقول الطائفة الأولى التي تدخل النار مع زبانية جهنم : هذا فوج أي جمع كبير أو كثير داخل معكم ، لا مرحبا بهم ، أي لا كرامة لهم ، إنهم داخلو النار كما دخلناها.

٣١٧

وقوله تعالى : (مِنْ شَكْلِهِ) أي من مثله وعلى شاكلته. و (أَزْواجٌ) أي أصناف وأجناس. و (مُقْتَحِمٌ) داخل فيها بشدة.

فيقول الأتباع لقادتهم : بل أنتم لا مرحبا بكم ، أي لا كرامة لكم ولا خير تلقونه ولا سعة مكان ، وأنتم أحق بهذا منا ، إنكم بإغوائكم أسلفتم لنا ما أوجب هذا ، فكأنكم فعلتم بنا هذا ، فبئس المقر جهنم لكم ولنا.

فيقول الأتباع أيضا للروساء : يا ربنا كل من أوردنا هذا المورد ، في النار ، فزده عذابا مضاعفا في جهنم عقابا على الكفر والإضلال.

وقال جماعة من زعماء الكفر تحسرا وتعجبا : ما لنا لا نجد في النار رجالا كنا نعدهم في الدنيا أشرارا لا خير فيهم؟! يريدون بذلك ضعفاء المؤمنين ، كعمار وخباب وصهيب وبلال وسالم وسلمان. والزعماء القائلون هذا في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هم أبو جهل بن هشام ، وأمية بن خلف ، وأهل القليب (أهل البئر الذين دفنوا فيه من زعماء المشركين في بدر). ويريدون بقولهم : «كنا في الدنيا نعدّهم أشرارا لا خلاق لهم» أنهم في زعمهم سيكونون في النار. هل لأننا سخرنا منهم أو سخرناهم في أعمال الدنيا ، فلم يدخلوا النار ، أم مالت عنهم الأعين والأبصار ، وهم في الجنة؟! أمفقودون هم أم زاغت عنهم الأبصار؟ والمعنى : أليسوا معنا ، أم هم معنا ولكن أبصارنا تميل عنهم فلا نراهم؟!

ثم أخبر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) (٦٤) أي إن ذلك الذي حكاه الله عن قادة الكفر : هو حق قائم ثابت ، لا بد منه ، ولا بد أن يتكلموا به ، فإن تخاصم أو تنازع أهل النار أمر حتمي واقع يوم القيامة ، وتخاصم بدل من قوله : (لَحَقٌ)

إن هذا الحوار الحامي يقع بين الرؤساء والأتباع ، رؤساء الضلالة والإضلال ،

٣١٨

والدعوة إلى الكفر والجحود الذين يترقبون لقاء فئة المستضعفين المؤمنين في النار معهم لدنوهم ، ويسخرون من أتباعهم ، وأتباعهم يقابلونهم بأسوأ الردود ، ويدعون ربهم أن يضاعف لهم العذاب بسبب إغوائهم ودعايتهم للفساد والإفساد.

التصديق بالقرآن والتكذيب به

أخبر الله تعالى في كتابه عن أسباب الدعوة إلى الإيمان بالقرآن الكريم والتصديق به ، لاشتماله على تبيان أصول العقيدة الثابتة : وهي توحيد الله عزوجل ، وإثبات نبوة الرسول محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإثبات المعاد أو اليوم الآخر ، فيكون التكذيب بهذه الأصول العقدية جرما عظيما ، وبعدا عن الحقيقة والواقع ، فمن كذب بذلك جنى على نفسه ، ومن آمن بتوحيد الله تعالى ، وصدق نبيه محمدا ، وأيقن بوجود القيامة ، فهو العاقل الناجي ، قال الله تعالى موضحا هذه الأخبار :

(قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠)) [ص : ٣٨ / ٦٥ ـ ٧٠].

أخبر أيها النبي عن مهمتك ورسالتك ، وقل للكفار المشركين في مكة ، وغيرها المكذبين بما جئت به : إنما أنا مخوف لكم من عقاب الله وعذابه ، مبلّغ ما يتعرض له المنكر الكاذب من أحوال السوء ، بسبب الإعراض عن دعوتي ورسالتي. إن القرآن الكريم وجميع ما تضمنه من دعوة التوحيد والإيمان بالمعاد حق وصدق وواقع.

ليس لي من أغراض أو أهداف إلا الإنذار والتخويف من سوء المصير ، وشدة العذاب ، وفداحة العاقبة لكل من كذب برسالتي ، وأنكر وجود الله تعالى ووحدانيته ، فليس هناك في الوجود على الإطلاق إلا إله واحد لا شريك له ، فهو

٣١٩

الإله الجبار القهار لكل شيء سواه ، وهو مالك جميع السماوات والأرض وما بينهما من المخلوقات ، والمدبر لها والمتصرف في شؤونها ، وهو القوي العزيز الغالب الذي لا يغلب ولا يقهر ، وإنما يغلب كل ما سواه ، وهو غفار الذنوب لمن أطاعه والتجأ إليه.

والتصديق بالقرآن وبوعد الله نجاة ، والتكذيب به هلكة وخسران وضياع.

ثم توعد الله المخالفين أمر الله والرسول ، المعرضين عن القرآن ، فقل أيها الرسول للمشركين : إن هذا الذي أخبرتكم به من كوني رسولا منذرا ، وأن الله واحد لا شريك له ، وأن القرآن كلام الله ووحيه أنزله علي : هو خبر عظيم خطير ، لكنكم أنتم معرضون عما أقول ، لا تتفكرون فيه. وفي هذا توبيخ شديد لهم وتقريع ، لإعراضهم عن دعوة الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والنبأ في كلام العرب : بمعنى الخبر ، والقرآن : أوثق الأخبار وأعظمها. ثم أخبر الله تعالى بما يدل على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومضمون الخبر : الإعلان من النبي : أنه لم يكن له قبل الوحي القرآني أي علم بأحوال الملأ الأعلى ، وما دار بينهم حين اختلفوا في شأن آدم عليه‌السلام وذريته ، وجعلهم في الأرض ، وامتناع إبليس عن السجود له ، فلو لا الوحي لم يكن النبي يعلم بتلك الغيبيات. فالدليل على صدق هذا النبي : أنه يخبر قومه بغيوب ومعلومات قديمة لم تأت إلا من عند الله تعالى ، ومنها أنه لم يكن له علم بالملإ الأعلى وقت خصومتهم في شأن آدم عليه‌السلام ، لولا أن الله تعالى أخبره بذلك.

والملأ الأعلى هنا : الملائكة أشراف الخلق عدا البشر.

ومما أوحى الله لنبيه أن يخبر قومه : أنه ما يوحى إليه إلا للإنذار الواضح ، والتبليغ البيّن القاطع ، لا لأمر آخر من تسلط أو ملك ، أو تحقيق أي مصلحة أخرى.

لقد تجسّدت رسالة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الإخبار عن أمور عظيمة : وهي الخبر بتوحيد الله ، وقدرته ، وتدبيره ، وقهره وغلبته ، وصدق الوحي والقرآن وكونه كلام

٣٢٠