التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٣

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٣

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0524-1
الصفحات: ٤٢٢

وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧)) (١) [القصص : ٢٨ / ٣٣ ـ ٣٧].

لما أمر الله تعالى موسى عليه‌السلام بالعودة إلى مصر ، لهداية فرعون ، بعد أن فرّ من سطوته وبطشه ، قال موسى : يا ربّ ، إني قتلت من قوم فرعون نفسا ، فأخاف إن رأوني أن يقتلوني ثأرا من قتيلهم ، فكيف أذهب إلى فرعون وقومه؟!

إن أخي هارون هو أفصح لسانا مني ، وأحسن بيانا ، وأدرى مني بلهجة المصريين ، لأنه لم يترك بلادهم ، فأرسله معي معينا ووزيرا يصدّقني في قولي وخبري ، ويتحمّل معي عبء الرسالة ، إني أخاف أن يكذّبوني في نبوّتي ورسالتي ، فأجاب الله تعالى طلبه ، وجعل هارون رسولا.

وقال الرّب عزوجل لموسى : سنعزز جانبك ، ونقوّي شأنك ، ونعينك بأخيك الذي سألت أن يكون نبيّا معك ، وسنجعل لكما السلطان ، أي الحجة الغالبة ، والتّفوق على عدوّكما ، فلا يكون للأعداء سبيل للوصول إلى أذاكما ، بما نسلّطكما عليهم بآياتنا البيّنات ، تمتنعان منهم بها ، أنت يا موسى وأخوك ، ومن آمن بكما ، واتّبعكما في رسالتكما الغالبون بالحجة والبرهان. وقوله تعالى : (وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا) يحتمل أن يتعلّق قوله : (بِآياتِنا) إما بفعل (وَنَجْعَلُ لَكُما) أو بفعل (يَصِلُونَ إِلَيْكُما) وتكون الباء باء السبية ، أي بسبب آياتنا لن يتسلطوا عليكما ، ويحتمل أن يتعلق بقوله : (الْغالِبُونَ) أي تغلبون بآياتنا.

فلما جاء موسى عليه‌السلام بآيات الله البيّنات الواضحات ، قال فرعون وقومه :

__________________

(١) حجة.

٢١

ما هذا الادّعاء بالرسالة من عند الله إلا سحر مفترى ، وقول مكذوب ، وما سمعنا بما تدعونا إليه من عبادة الله وحده لا شريك له ، في عهود آبائنا وأجدادنا الأقدمين ، ولم نر أحدا من الأسلاف على هذا الدّين ، ولم نر إلا الإشراك مع الله آلهة أخرى.

فأجاب موسى عليه‌السلام فرعون المتألّه وقومه بقوله : الله ربّي الذي لا إله غيره ، خلق كل شيء وأوجده ، أعلم مني ومنك بالمحقّ من المبطل ، وبمن جاء بالهداية والرّشاد ومن أرسله بهذه الدعوة ، ومن الذي تكون له العاقبة المحمودة في الدنيا بالنصر والظفر والتأييد ، وفي الآخرة بالنّجاة والثواب ، والرحمة والرضوان ، كما جاء في آية أخرى : (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ، جَنَّاتُ عَدْنٍ) [الرّعد : ١٣ / ٢٢ ـ ٢٣]. وآية : (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) [الرّعد : ١٣ / ٤٢]. وسيفصل الله بيني وبينكم ، إنه لا يفلح ولا ينجح المشركون بالله عزوجل ، ولا يظفرون بالفوز والنجاة ، بل يكونون هالكين خاسرين.

وهذا أسلوب أدبي رفيع ، فإن موسى عليه‌السلام لم يعلن أنه المحقّ وغيره هو المبطل ، وإنما فوّض الأمر لله ، ليجعل للعقل في النّقاش والجدل مجالا في إصدار الحكم النّهائي ، وتغليب الصواب على الخطأ ، فهذه دعوة للرّوية والأناة ، والتعقل ، وإعمال الحكمة ، كما جاء في أسلوب آخر في خطاب نبيّنا للمشركين ، حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : ٣٤ / ٢٤].

عاقبة الجدل المثير بين موسى عليه‌السلام وفرعون

بادر موسى عليه‌السلام بجولة أخرى من الجدل ، والنّقاش مع فرعون حول ربوبيّة الله تعالى وألوهيته ، على الرغم من إظهاره آيات الله البيّنات المؤيّدة لرسالته ، وأصرّ فرعون على إنكار وجود الله ، وأعلن للحاشية والأشراف من قومه بأنه هو الإله ،

٢٢

وأنه لم يعلم بوجود إله آخر سواه ، وتحدّى ببناء صرح أو برج للبحث عن إله موسى في السماوات ، واستبدّت به المادة الحسّيّة والأهواء فتصوّر أن الإله كالبشر ، وعلا واستكبر ، فجعله الله مع جنوده غرقى في البحر ، وجعلهم قادة إلى النار ، وأتبعهم اللعنة والطّرد من رحمة الله ، وأيّد الله موسى بالتّوراة بصيرة وهداية ورحمة لمن يتذكر ويخشى ، قال الله تعالى مبيّنا هذه الفصول :

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣)) (١) (٢) (٣) [القصص : ٢٨ / ٣٨ ـ ٤٣].

ثبّت الله موسى عليه‌السلام في محاجّة فرعون ، وآتاه الله التوراة هداية ورحمة ، ودمّر فرعون وقومه الذي نادى في قومه : يا أيها الملأ الأشراف والكبراء ، لم أعلم بوجود إله غيري ، فإله موسى غير موجود ، فاصنع لي أيها الوزير هامان آجرّا (طينا مشويّا بالنار) وابن لي به قصرا عاليا في الفضاء ، حتى أصعد به إلى السماء ، فأشاهد إله موسى الذي يعبده ، توهّما منه بأن الإله جسم مادّي كالبشر ، وإني لأعتقد بأن موسى كاذب في ادّعائه وجود إله غيري.

واستكبر فرعون وجنوده في أرض مصر ، بالباطل والإفك المجافي للحقيقة ،

__________________

(١) قصرا شامخا.

(٢) المطرودين المبعدين من رحمة الله.

(٣) الأمم الماضية المكذبة.

٢٣

واعتقدوا بأنه لا قيامة ولا حساب ولا عقاب ، ولم يدروا بأن الله رقيب عليهم ومجازيهم بما يستحقون. فأغرقهم في البحر في صبيحة يوم واحد ، وأفناهم عن آخرهم ، فانظر أيها الرسول وكل متأمّل في قدرة الله وعظمته ، كيف كان مصير هؤلاء الظالمين الذي ظلموا أنفسهم؟ لقد أغرقناهم في اليم ، أي في بحر القلزم (البحر الأحمر).

وضاعف الله عذابهم حين جعل فرعون وأشراف قومه وأتباعه قادة ضلال ، وقدوة لكل كافر وعات ، إلى يوم القيامة ، لأنهم قاموا بإضلال غيرهم ودعوتهم إلى النار ، فجوزوا بجزاءين : جزاء الضلال ، والإضلال ، وفي يوم القيامة لا يجدون مناصرين لهم ، ولا شفعاء يشفعون لهم ، لإنقاذهم من بأس الله وعذابه.

وألزمناهم على الدوام في الدنيا لعنة وخزيا ، وغضبا ، على ألسنة المؤمنين والأنبياء المرسلين ، كما أنهم يكونون يوم القيامة من المقبوحين ، أي الذين يقبح كل أمرهم ، قولا لهم وفعلا ، ومن المطرودين المبعدين عن رحمة الله ، كما جاء في آية أخرى : (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) (٩٩) [هود : ١١ / ٩٩].

وتم إنجاء أهل الإيمان بعد إغراق فرعون وقومه ، فآتى الله موسى كتاب التوراة بعد إهلاك أهل القرون القديمة من قوم نوح وهود وصالح ولوط ، ليكون ذلك الكتاب مصدر هداية ونور وتبصّر وتدبّر وتفكّر ، ورحمة لمن آمن به ، وإرشاد للعمل الطّيب ، وإنارة للقلوب ، لتمييز الحق من الباطل ، لعل الناس يتذكّرون به ويتّعظون ، ويهتدون بسببه.

تضمّن هذا الإخبار أن الله تعالى أنزل التوراة على موسى ، بعد إهلاك فرعون وقومه ، وبعد إهلاك الأمم القديمة من عاد وثمود وقرى قوم لوط وغيرها ، والقصد من هذا الإخبار التمثيل لقريش وتحذيرهم بما تقدّم في غيرهم من الأمم من ألوان العذاب.

٢٤

إخبار النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الأقوام السابقين

تواترت الأدلة والبراهين على صدق النّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بما أوحى الله إليه في القرآن الكريم المعجزة الخالدة أبد الدهر. ، ومن أنباء القرآن : ما قصّه الله على نبيّه من أخبار صادقة ، عن قوم أو أمم لم يشهدهم ، ولم يكن معهم ، ولم يدوّن التاريخ أخبارهم ، فلم يبق طريق للمعرفة إلا الوحي القرآني فهو المصدر الصحيح لتلك الأخبار ، وفي ذلك عظة وعبرة ، وبرهان ساطع على صدق النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومن أهم تلك الأخبار بعض فصول قصة موسى عليه‌السلام ، وأهمها إنزال التوراة عليه ، في جبل الطور في صحراء سيناء ، قال الله تعالى :

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧)) (١) (٢) (٣) [القصص : ٢٨ / ٤٤ ـ ٤٧].

المعنى : لم تحضر أيها النّبي هذه الأخبار الغيبية التي نخبر بها ، ولكنها صارت إليك بوحينا ، وذلك حين أنزلنا التوراة على النّبي موسى عليه‌السلام ، وما كنت أيها النّبي من الحاضرين تلك المناجاة ومكالمة الله تعالى. فكان الواجب على قومك المسارعة إلى الإيمان برسالتك ، ولكن تطاول الأمر والزمن على القرون (الأمم) التي أنشأناها ، زمنا زمنا ، وطال عليها العهد ، فاندرست العلوم ، وبادت المعارف ، وتغيّرت الشرائع ، ونسي الناس شرائع الله وأحكامه ، واستحكمت فيهم الجهالة والضلالة.

__________________

(١) أي بجانب الجبل الغربي من موسى حين المناجاة مع الله.

(٢) أي أنفذنا وصرفنا التوراة.

(٣) مقيما.

٢٥

وهذا تنبيه على المعجزة ، لأن الإخبار عن قصة تاريخية من مئات السنين ، دون مشاهدة لأحداثها ، دليل واضح على صدق المخبر : وهو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وكذلك لم تكن أيها النّبي مقيما بين قوم شعيب في أهل مدين ، تقرأ عليهم آياتنا المنزلة ، ولكنا ، أي ذات الجلالة كنا مرسلين إياك رسولا للناس ، وأوحينا إليك بهذه الأخبار.

ولم تكن أيضا أيها الرسول موجودا بجانب جبل الطور ، وقت إنزال التوراة إلى موسى ، وحين مناداة موسى عليه‌السلام وتكليمه ومناجاته ، حتى تعرف تفاصيل الخبر ، ثم تحدّث به للناس ، ولكن علّمناك وأخبرناك بأخبار القرآن ، وجعلناك رحمة للعالمين ، لتنذر قوما وهم العرب ، لم ينذروا من قبل ، تنذرهم بأس الله وعذابه إن لم يؤمنوا بك ، لعلهم يهتدون بما جئتهم به من عند الله عزوجل ، ويتذكرون هذه الإنذارات والتحذيرات.

وأما سبب رسالتك أيها النّبي محمد : فهي إخبار قومك والعالم كله بمضمون رسالة الله وشرائعه وأحكامه ، فإنهم إذا أصابتهم مصيبة العذاب على كفرهم ، وما قدمته أيديهم من المعاصي ، قالوا : يا ربّنا ، هلا أرسلت إلينا رسولا يبيّن لنا صحة العقيدة ، ونظام الحياة ، فنؤمن بك ربّا واحدا ، ونعمل بشريعتك ، ونلتزم بدينك ونتّبع أحكامك ، فلو لا خشية الاعتذار بالجهل بالأحكام والتعرّض للمصائب ، لما أرسلناك رسولا. والمصيبة : عذاب في الدنيا على كفرهم. وجواب قوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ ..) محذوف ، تقديره : لما أرسلنا الرسل ، أي فيكون إرسال الرسل حجة على الناس في تركهم أحكام الله عن بيّنة وعلم. وهذا يلتقي مع المبدأ القانوني المعروف : «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنصّ».

لذا بعثناك أيها النّبي رسولا للبشرية ، نذيرا للإنسانية ، تقيم عليهم الحجة البالغة ،

٢٦

وتبلّغهم رسالة ربّهم في العقيدة والأخلاق ودستور الحياة ، وتبطل اعتذارهم بأنهم لم يأتهم رسول ولا نذير. وذلك كما جاء في آية أخرى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (١٦٥) [النّساء : ٤ / ١٦٥].

وهذا الإنزال للقرآن والكتب السماوية السابقة : إنما هو رحمة من الله بعباده ، ومن رحمته أنه لا يعذّب أحدا إلا بعد بيان ، ولا يعاقب شخصا إلا بعد تكليف وإرسال رسول ، وبعد التحقّق من وجود العقل الذي هو مناط التكليف.

إنكار القرآن من قبل المشركين

إن عناد الكفّار يحملهم على شتى أنواع الكفر والضلال والتكذيب ، ونشاهد هذه الظاهرة جليّة في مشركي مكة ، فإنهم بعد إرسال الرسل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم ، ولغيرهم من العالم ، وتأييده بمعجزة القرآن ، طالبوا بإنزال كتاب عليه مثل التوراة دفعة واحدة ، وكانوا قبل ذلك كافرين بالتوراة. وإذا طولبوا بكتاب منزل من عند الله خير من القرآن ، عجزوا وتراجعوا ، مما يدلّ كل ذلك على اتّباعهم الأهواء. وأما سبب تنجيم القرآن ، أي نزوله تدريجا مقسطا على حسب المناسبات ، فهو تلاؤمه مع الحكمة والحاجة وعلاج النوازل ، ومراعاة المصلحة ، وتجاوبه مع مقتضيات كل عصر وأوان ، وهذا كله حكاه القرآن الكريم ، وسجّله على هؤلاء الكفرة في قول الله تعالى :

(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ (١)

__________________

(١) تعاونا وهما التوراة والقرآن.

٢٧

عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١)) (١) [القصص : ٢٨ / ٤٨ ـ ٥١].

عجبا من شأن كفار قريش ، موقفهم لا يتّسم بالمنطق والفكر السديد ، فإنهم لما جاءهم الحق الثابت الذي لا مثيل له : وهو القرآن الكريم والنّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالوا بتعليم اليهود لهم : لم لا يأتي بآية مادّية باهرة ، كالعصا واليد وشقّ الجبل وغير ذلك مما جاء به موسى عليه‌السلام ، فردّ الله تعالى عليهم بأن هذا مجرد عناد ومكابرة وهروب من الإيمان ، فإنهم ، أو لم يكفر أمثالهم من المعاندين بما أوتي موسى من تلك الآيات العظيمة؟! فإن موقف أهل الكفر واحد ، فهم وأمثالهم من اليهود لم يؤمنوا بآيات موسى عليه‌السلام ، وقال مشركو مكة : القرآن والتوراة سحران تعاونا وتعاضدا ، ومحمد وموسى ساحران متآزران متعاونان ، تعاونا على الدّجل والضّلال ، وصدّق كل منهما الآخر ، وإنّا بكلا الكتابين والشخصين كافرون ، لا نصدق بما حدّثا أو جاءا به.

فأمر الله نبيّه بأن يتحدى المشركين في مكة ، ويطالبهم بكتاب خير من القرآن ، قل أيها النّبي الرسول : أنتم أيها المكذّبون بهذه الكتب التي تضمّنت الأمر بالعبادات وتوحيد الله ومكارم الأخلاق ، ونهت عن الكفر والشّرك والنقائص ، ووعد الله تعالى عليها الثواب الجزيل ، إن كان تكذيبكم لمعنى ، فأتوا بكتاب من عند الله عزوجل أكثر هداية وأتم إرشادا من القرآن ، أتّبعه معكم ، إن كنتم صادقين فيما تقولون أو تدّعون ، وتنكرون به الحق ، وتؤازرون به الباطل ، وهذا تنبيه على عجزهم عن محاكاة القرآن ومعارضته والإتيان بمثله.

__________________

(١) أنزل القرآن عليهم متواصلا لهم ، أي أتبعنا بعضه بعضا في الإنزال.

٢٨

فإن لم يجيبوك عما قلت لهم ، ولم يتّبعوا الحق ، ولم يؤمنوا بالقرآن وبرسالتك أيها النّبي ، فاعلم أنهم في عقائدهم الباطلة ، يتّبعون أهواءهم بلا حجة ولا برهان ، فهم جماعة أهواء وشهوات. والله يعلم أنهم لا يستجيبون ، ولكنه أراد سبحانه إيضاح فساد حالهم ، وسوء مقالهم ، وضعف موقفهم.

والواقع أنه لا أحد أضلّ منهم ، إذ ليس هناك في البشر أشدّ ضلالا عن الهدى والرشاد ممن سار مع أهوائه ، واتّبع شهواته ، بغير حجة مأخوذة من كتاب الله ، وهذا دليل على بطلان التقليد في العقائد ، وأنه لا بد لكل إيمان من دليل عليه ، إن الله لا يوفق للحق أهل الظلم الذين ظلموا أنفسهم بالشّرك والمعصية وتكذيب الرسل. وأما سبب إنزال القرآن منجّما مقسّطا بحسب الوقائع والمناسبات ، فهو أن الله أتبع إنزال القرآن بعضه بعضا في أزمان متتابعة ، ليتّصل التذكير ، ويتوافق مع الحكمة ، وينسجم مع المصلحة ، لعل قريشا وأمثالهم يتّعظون بالقرآن عن عبادة الأصنام ، أو يتذكّرون محمدا فيؤمنون به ، أو يتنبّهون لما فيه خيرهم وصلاحهم ، فيؤمنون بالقرآن وبمن أنزله وعلى من أنزله. قال أبو رفاعة القرظي في بيان سبب نزول آية (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ ..) : نزلت في اليهود في عشرة أنا أحدهم.

وقال جمهور العلماء : المعنى أعم ، وهو أننا واصلنا لقريش واليهود نزول القرآن ، وتابعناه موصولا بعضه ببعض في المواعظ والزجر والدعاء إلى الإسلام والحكمة.

المباهاة بإيمان بعض أهل الكتاب

ليس معسكر الشّرك أو الكفر كله شرّا أو سوءا ، فقد يتمخّض عن هذا الوسط بعض العناصر الواعية العاقلة ، يفكّرون في حقيقة الوحي القرآني ، ومشمولات شرائعه وأحكامه ، ودعوته إلى عقيدة الحق والتوحيد ، والخير والواقع السديد ،

٢٩

فيؤمنون به ، ودليل هذا توارد وحدات الإيمان من أفراد وجماعات في كل زمان ومكان ، وهذا ما كان واقعا فعلا في إبّان نزول الوحي على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد ذكر الله تعالى القوم الذين آمنوا من أهل الكتاب مباهيا بهم قريشا ، وباعثا لهم على تقليدهم. قال سعيد بن جبير : نزلت آية (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ ..) في سبعين من القسّيسين ، بعثهم النّجاشي ، فلما قدموا على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قرأ عليهم : (يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) (٢) حتى ختمها ، فجعلوا يبكون ، وأسلموا. وهذه هي الآيات :

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥)) (١) (٢) (٣) [القصص : ٢٨ / ٥٢ ـ ٥٥].

المعنى : إن جماعة من علماء أهل الكتاب الأصفياء العقلاء ، من اليهود والنصارى ، الذين عاصروا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، آمنوا بالقرآن ، لتوافقه مع كتبهم ، وبشارتها بمحمد نبي آخر الزمان ، فإنهم أوتوا الكتاب من قبل القرآن ، وهم به الآن يصدقون. وهؤلاء الجماعة : إما من اليهود الذين أسلموا ، أو بحيرا الراهب ، أو النّجاشي وصحبه ، أو أهل نجران.

إذا يتلى القرآن على هؤلاء الجماعة يقولون : صدّقنا به ، وآمنّا بأنه الكلام الحقّ من ربّنا ، وكنا مصدّقين بالله ، مسلمين له ، أي موحّدين ، مخلصين لله ، خاضعين لحكمه ، مستجيبين لأمره ، من قبل نزول هذا القرآن على النّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمراد به الإسلام المتحصّل لهم من شريعة موسى وعيسى عليهما‌السلام. وهذا المعنى هو الذي قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يرويه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب السّتة ما عدا أبا

__________________

(١) يدفعون.

(٢) السّب والشّتم من الكفار.

(٣) سلمتم منا لا نعاملكم بالمثل من الشتم وغيره.

٣٠

داود) وغيرهم : «ثلاثة يؤتيهم الله أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه وآمن بي ، والعبد النّاصح في عبادة ربّه وخدمة سيّده ، ورجل كانت له أمة ، فأدّبها وعلّمها ، ثم أعتقها وتزوّجها».

هؤلاء الذين أسلموا وآمنوا بالقرآن الكريم ، من أهل الكتاب ، وآمنوا بكتابهم المنزل ، لهم الثواب المضاعف مرتين ، جزاء صبرهم وثباتهم على الإيمان الراسخ الدائم الموصول النسب ، وتحمّلهم أذى قومهم ، وكونهم يقابلون السيئة بالحسنة ، فلا يقابلون السيئ بمثله ، ولكن يعفون ويصفحون ، وينفقون من رزق الله الحلال في النّفقات الواجبة لأهليهم وأقاربهم من الزكاة والصدقة. ففي هذا مدح لهم من جانبين : الأول : اتّصافهم بمكارم الأخلاق ، حين صبروا على الأذى ، وقابلوا من قال لهم سوءا بالقول الحسن الذي يدفعه ، والجانب الثاني : النفقة في الطاعات ، وعلى موجب الشرع ، وفي ذلك حضّ على الصدقات ونحوها.

ومن أخلاقهم العالية : أنهم إذا سمعوا من المشركين أو غيرهم لغو الكلام ، وهو الساقط من القول ، من أذى وتعيير وسبّ وشتم وتكذيب ، أعرضوا عن أهله ، ولم يخالطوهم ولم يعاشروهم ، بل كانوا كما قال الله تعالى : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان : ٢٥ / ٧٢]. وقالوا : في الرّد على السفهاء ، على جهة التّبري : (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) أي نحن المسؤولون عن أعمالنا ثوابا وعقابا ، ولكم أعمالكم ، أي تبعاتها ومسئولياتها ، لا نردّ عليكم ، سلام عليكم سلام متاركة وتوديع ، لا سلام أهل الإسلام ، فليس هو التحية المعروفة ، لا نبتغي الجاهلين معناه : لا نطلبهم للجدال والمراجعة والمسابّة ، ونؤثر الكلام الطيب.

هذه المهادنة هي لبني إسرائيل ، بقصد فتح جسور المودة والتفاهم والقناعة ، بصدق الرسالات الإلهية ، أوّلها وآخرها ، فإذا ما تجرّدوا عن العصبية والهوى ،

٣١

وعادوا لنداء العقل الصائب ، توصّلوا إلى وئام أهل الأديان ، ووصل الاعتقادات ، لأن المصدر واحد ، والغاية واحدة ، فالله تعالى هو مرسل الرّسل ، ومنزل الكتب كلها ، والغرض منها تحقيق السعادة والطمأنينة والنجاة للعالم كله ، مما يقتضي اتّحاد أهل الأديان في العقائد والشرائع.

الهداية من الله تعالى وتفنيد الشّبهات الشّركية

الهداية نوعان : هداية دلالة وإرشاد وبيان ، وهداية توفيق ، أما هداية البيان فهي إلى النّبي ، كما في قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشّورى : ٤٢ / ٥٢] ، وأما هداية التوفيق : فهي إلى الله تعالى ، لا لرسوله ، وذلك كما قال الله تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) في هذه الآيات الآتية. وأما شبهات المشركين من أهل مكة في ترك الإيمان بالقرآن والنّبي : فمصدرها المخاوف من المجاورين كما زعموا ، ولكن هذا غير صحيح ، لذا توعّدهم الله بالقرى المهلكة ، فلم يكن إهلاك الأقوام الغابرين إلا بعد إرسال رسول لهم ، وليست الدنيا دار مقام واستقرار ، وإنما الآخرة هي دار القرار والخير ، فلم لا يبادر العقلاء إلى الدائم ، ويعبرون بالمؤقت في سلام؟! قال الله تعالى مفنّدا شبهات مشركي قريش :

(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما (١) (٢) (٣)

__________________

(١) ننتزع سريعا.

(٢) يجلب إليه.

(٣) طغت وتمرّدت في حياتها.

٣٢

كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١)) (١) (٢) [القصص : ٢٨ / ٥٦ ـ ٦١].

والمعنى : إنك أيها النّبي لا تستطيع هداية من شئت ، ولكن هداية التوفيق بيد الله تعالى ، والله أعلم بمن هو أهل الاهتداء ، فما عليك أيها النّبي إلا البلاغ والدعوة إلى الله ، وبيان الشريعة.

وقد أجمع أكثر المفسّرين على أن هذه الآية إنما نزلت في شأن أبي طالب عم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه دخل عليه النّبي ، وطالبه بالإيمان ، فأجابه : «يا محمد ، لو لا أني أخاف أن يعيّر بها ولدي من بعدي ، لأقررت بها عينك ، ثم قال أبو طالب : أنا على ملّة عبد المطّلب والأشياخ (٣) ، فتفجّع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخرج عنه ، فمات أبو طالب على كفره ، فنزلت هذه الآية : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) إشارة إلى أبي طالب.

وقال مشركو قريش في تسويغ عدم إيمانهم برسالة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واعتذارهم عنه : إن اتّبعنا ما جئت به من الهدى ، وخالفنا ما عليه بقية العرب ، خفنا أن يقصدونا بالأذى والمحاربة ، فردّ الله تعالى عليهم بأمور ثلاثة :

الأول ـ تأمين الحرم وأهله : إن هذا الاعتذار كذب وباطل ، لأن الله تعالى جعل قريشا في بلد آمن ، وحرم آمن ، ويستمر فيه الأمن حال كفرهم وإيمانهم. أخرج ابن جرير عن ابن عباس : أن أناسا من قريش قالوا للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن نتّبعك تخطّفنا الناس ،

__________________

(١) عاصمتها.

(٢) ممن أحضروا للنار.

(٣) لكن على رأي القائلين بأن أهل الفترة ناجون يكون هؤلاء أصول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ناجين كغيرهم

٣٣

فنزلت هذه الآية : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً). والمعنى : إنهم لا يقدّرون هذه الأرزاق الآتية لهم من كل شيء ومكان ، تفضّلا من الله ونعمة ، ولكن أكثرهم جهلة لا يعلمون الحق والخير.

والثاني ـ ليعلم هؤلاء المعتذرون من أهل مكة عن الإيمان خوفا من زوال النّعم : أن عدم الإيمان هو الذي يزيل النّعم ، فكثيرا ما أهلك الله أهل القرى السابقة ، التي كفرت وطغت وجحدت بأنعم الله ، وبطروا وتكبّروا ، فأصبحت مساكنهم خاوية على عروشها ، لا يسكنها أحد بعدهم إلا لمدة قليلة ، أثناء السفر والعبور ، وأصبح الوارث لها هو الله تعالى ، لأنها صارت خرابا ، لا يخلفهم فيها أحد. وهذا توعّد من الله تعالى لقريش بضرب المثل بالقرى المهلكة ، والمراد : فلا تغتروا أيها المكّيون بالحرم الآمن ، والثمرات التي تجبى لصلاح حالكم وقوام أمركم ، فإن الله تعالى مهلك الكفرة بسبب ظلمهم. وهذا دليل على عدل الله في خلقه ، فلا عقاب إلا بعد بيان ، ولا هلاك إلا بعد ظلم وجحود.

فلم يكن إهلاك أهل القرى من ربّهم إلا بعد إنذار ، حيث يرسل لهم رسولا في عواصمهم ، يبين لهم الآيات الدالّة على وجود الله وتوحيده ، حتى لا يبقى لهم حجة بالجهل ، ولا عذر بطمس معالم الحق ، ثم لا يكون الإهلاك لقوم إلا وهم ظالمون أنفسهم بإنكار الآيات الإلهية وتكذيب الرّسل.

والرّد الثالث ـ هو أن الإيمان بالله لا يضيّع منافع الحياة الدنيوية ، لأن التمتع بها مهيأ لجميع المخلوقات ، علما بأن جميع ما في الدنيا من مال وولد وزينة ومتاع ، إنما هو متاع مؤقت وزينة زائلة ، لا يجدي عند الله شيئا منها ، وهو لا بد زائل ، وزهيد قليل إذا قيس بنعم الآخرة ، فإن نعيم الآخرة باق دائم ، وهو خير محض في ذاته ، وأفضل من متاع الدنيا ، أفلا تتفكرون أيها الناس في أن منفعة الباقي الدائم أولى بالإيثار من منفعة المؤقت الزائل؟!

٣٤

ولا يستوي المؤمن والكافر في الجزاء ، وكيف يستوي المؤمن بكتاب الله ، المصدّق بوعده ، المتأمّل فضل الله وملاقيه ، والكافر الكذوب ، المتمتّع بحطام الدنيا أياما قليلة ، ثم يحضره الله يوم القيامة ، ليتلقى العذاب المهين؟!

وهذه الآية : (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ ..) نزلت كما أخرج ابن جرير عن مجاهد في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي أبي جهل بن هشام. وقيل : في حمزة وأبي جهل.

أسئلة تقريع للمشركين يوم القيامة

ناقش القرآن الكريم المشركين في عقائدهم الفاسدة ، مبيّنا لهم ما يتعرّضون له من أسئلة ، وهذا غاية الصراحة والإخلاص والبيان السابق ، إنهم عبدوا الأصنام والأوثان ، فهل تستطيع مناصرتهم؟ ودعوا تلك الآلهة المزعومة لتخليصهم من العذاب ، فلم يجيبوا ، وسئلوا عن توحيد الله عزوجل وإجابتهم رسلهم ، فلم يجدوا جوابا مقنعا ، فأفلسوا ووقعوا في اليأس والإحباط. إن هذه المناقشة تستدعي التأمل والوعي والتفكّر ، إن كان الوثنيون من ذوي العقل والرّشد ، وأرادوا النّجاة والخير لأنفسهم ، ولكنهم بعدوا عن مقتضى العقل ، فخابوا وخسروا. قال الله تعالى واصفا هذه الحال :

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧)) (١) (٢) [القصص : ٢٨ / ٦٢ ـ ٦٧].

__________________

(١) دعوناهم إلى الغي ، فاتّبعونا.

(٢) المراد : فعموا عن الأنباء ، فقلب الأسلوب ، أي خفيت عليهم.

.

٣٥

هذه مواقف ثلاثة مثيرة للخجل والندم ، موقعة في العجز والإحباط ، مفادها التوبيخ والتأنيب للمشركين في يوم الحساب ، والإشارة لقريش :

الأول ـ اذكر أيها النّبي يوم ينادي الله المشركين عبّاد الأصنام ، إما بواسطة أو بغير واسطة ، فيقول لهم : أين الآلهة التي زعمتم أنها شركاء في الألوهية؟ بمقتضى قولكم وزعمكم. والمقصود من السؤال : التوبيخ والتقريع ، إذ لا جواب عندهم ، وكأن ذلك موجّه أصالة للأعيان والرؤوس منهم ، الذين أوقعوا غيرهم في الغواية والضّلال ، تأكيدا لاستحقاقهم العذاب المضاعف ، لكنهم طمعوا في التّبري من الأتباع ، فأجابوا وقد ثبت عليهم مقتضى القول ، ولزمهم العذاب : ربّنا هؤلاء هم الأتباع الذين آثروا الكفر على الإيمان باختيارهم وإرادتهم ، وهؤلاء أضللناهم كما ضللنا نحن باجتهاد لنا ولهم ، وأحبّوا الكفر كما أحببناه ، فنحن نتبرأ إليك منهم ، وهم لم يعبدونا ، إنما عبدوا غيرنا. وهذا يعمّ جميع الكفرة ، لكن الجواب من المغوين من الشياطين : الجنّ ، ومن الإنس : الرؤساء والسّادة.

الثاني ـ نداء آخر للكفار لمعرفة ما أجابوا المرسلين الذين دعوهم إلى توحيد الله تعالى ، فيقال لهم : ادعوا شركاءكم الآلهة لتخليصكم مما أنتم فيه ، كما كنتم ترجون في الدنيا ، فدعوهم لفرط الدهشة والحيرة ، فلم يجيبوهم عجزا عن الجواب ، وتيقنوا أنهم صائرون إلى عذاب النار ، وودّوا حين معاينة العذاب المحيط بهم ، لو أنهم كانوا مهتدين إلى الإيمان بالحق والدين القويم. وهذا توبيخ وتقريع آخر ، لكشفهم أمام الناس ، والله يعلم كل ذلك سلفا.

الثالث ـ واذكر أيها النبي يوم ينادي الله سبحانه وتعالى أهل الشرك ، لمعرفة جوابهم للمرسلين إليهم ، وهل استجابوا لدعوتهم لتوحيد الله تعالى ، وإلى أصول الأخلاق ، وعبادة الله تعالى ، وإصلاح الحياة. ولكن أظلمت الأمور عليهم ،

٣٦

وخفيت الأدلة الدفاعية المقنعة ، ولم يجدوا معتصما غير السكوت ، لما اعتراهم من الاندهاش والذهول. وجاء الفعل : (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) بصيغة الماضي ، لتحقّق وقوعه ، وأنه تعيّن ، والماضي من الأفعال متيقّن ، فيعبر به عن المستقبل المتيقّن ، لتأكيد وقوعه وتقوية صحته. والمعنى : أظلمت جهات الأمور عليهم. ولم يبق لديهم أمل في مساءلة بعضهم بعضا لحلّ المشكلات ، لأنهم قد أيقنوا أنهم جميعا ، لا حيلة لهم ولا مكانة ، ولا أمل في النجاة.

ثم استثنى الله تعالى من هؤلاء المشركين الآيسين من رحمة الله أولئك الذين تابوا من كفرهم ، وآمنوا بالله ورسله ، وعملوا بتقوى الله ، فهؤلاء يرجى لهم من الله الفوز والنّجاة ، والظفر بالنعيم الدائم. إن الذين تابوا من الشّرك ، وصدّقوا بالله ، وأقرّوا بوحدانيته ، وأخلصوا العمل لله ، وأدّوا الفرائض وغيرها ، وآمنوا بالنّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هم الفائزون برضوان الله ونعيمه الجنان.

والتعبير بكلمة (عسى) المفيدة للرجاء ، دون القطع واليقين بحسب اللغة ، يراد بها هنا التأكّد والتّيقّن ، لأن (عسى) من الله واجبة التّحقّق ، كما قال كثير من العلماء. وهذا مستفاد من حسن الظّن بالله تعالى ، المبني على فضله وكرمه ، خلافا لما عليه حال البشر ، فإن قولهم مثلا : «عسى» و «لعل» مجرد ترج وتوقّع لا يدلّ على التأكّد والتحقّق.

صفات الجلال والجمال والكمال

الجلال التّام ، والجمال المطلق ، والكمال النّهائي ، والإرادة الشاملة ، والسّلطان النّافذ : إنما هو كله لله وحده ، لا لأحد سواه ، فهو خالق الأكوان والعباد ، وبيده الأمر في البدء والختام ، وله الحكم والقضاء النافذ في الدنيا والآخرة ، فأين موقف

٣٧

المعاندين؟ لا يساوي شيئا ، إن الله تعالى خالق الليل والنهار ، لحكمة واضحة فيهما ، فإن أراد التغيير والتبديل ، من يستطيع الحيلولة من ذلك؟ إن الآلهة المزعومة المتخذة شركاء لله في الألوهية لا يصمدون أمام النّقاش في حقيقة الألوهية ، ولا يجدون برهانا يقنع ، ولا متّكأ يعتمدون عليه ، تصور هذه الآيات الكريمة هذه المعاني تصويرا دقيقا ، لا لبس ولا غموض فيه ، قال الله تعالى :

(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) [القصص : ٢٨ / ٦٨ ـ ٧٥].

المعنى : إن الله تعالى هو المتفرّد بخلق ما يشاء ، واختيار ما يريد ، ما كان لأحد غير الله القدرة على الاختيار ، يختار قوما لأداء الرسالة ، ويصطفي من الملائكة والناس رسلا لأداء المهمة ، تنزه الله وتقدّس عن إشراك المشركين ، وعن منافسة الأصنام وغيرها في خلقه واختياره. سبب نزول هذه الآية الرّد على تطلّعات قريش وترقّبهم إنزال القرآن على غير محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو أحد رجلين : إما الوليد بن المغيرة من مكّة ، أو عروة بن مسعود الثّقفي من الطّائف. فردّ الله تعالى عليهم أنه سبحانه يختار

__________________

(١) الاختيار.

(٢) ما تخفي.

(٣) أخبروني.

(٤) دائما.

(٥) تاه

(٦) يختلقونه من الباطل.

٣٨

لرسالته من يريد ، ويجعل فيه المصلحة ، وليس الاختيار للناس في هذا ونحوه ، كما أنه تعالى هو الذي يختار الأديان والشرائع ، وليس لأحد الميل إلى الأصنام ونحوها في العبادة.

واختيار الله تعالى مبني على علم صحيح ثابت ، فهو يعلم ما تنطوي عليه الصدور ، وما يعلنه الناس من الأقوال والأفعال.

وعلمه تعالى صادر عن قدرة شاملة وسلطان نافذ ، فهو المتفرّد بالألوهية ، فلا معبود سواه ، وهو القادر على كل الممكنات ، المنزه عن النقائص والعيوب ، المستحقّ للحمد والشكر والعبادة ، المحمود في جميع ما يفعله في الدنيا والآخرة ، له القضاء النافذ في كل شيء ، وإليه مرجع جميع الخلائق في القيامة.

وأدلة قدرة الله تعالى على كل شيء كثيرة ومتنوعة ، فقل أيها الرسول لكل من أشرك بالله إلها آخر : أخبروني إن جعل الله وقتكم كله ظلاما دامسا ، وليلا دائما متتابعا إلى يوم القيامة ، من الإله المتألّه غير الله يتمكن من الإتيان بضياء النهار ، أفلا تسمعون ذلك سماع تعقّل وتأمّل؟!

وقل أيها النّبي أيضا : أخبروني إن جعل الله زمنكم كله نهارا دائما ، ونورا متّصلا إلى يوم القيامة ، دون أن يعقبه ليل ، من الإله الذي يستطيع أن يأتيكم بليل ، تسكنون فيه سكن الراحة والاطمئنان ، أفلا تبصرون هذه الظاهرة الدالة على القدرة الإلهية التامّة؟!

إن من رحمة الله تعالى بكم أيها الناس تعاقب الليل والنهار ، وتفاوتهما ، لتجعلوا الليل مجالا للراحة والسكن النفسي ، والنهار مجالا للتبصّر وتحصيل المنافع ، وكسب المعايش ، وابتغاء الرزق والفضل الإلهي ، والتنقّل من مكان لآخر ، وقضاء الحاجات ، فتشكروا الله تعالى بأنواع العبادات على ما يسّر لكم.

٣٩

واذكر أيها النّبي للمشركين مرة أخرى يوم يناديهم الله بواسطة ، لأن الله تعالى لا يكلم الكفار كما رجح القرطبي ، فيقول : أين الشركاء الذين كنتم تزعمون في الدنيا أنهم شركائي في الألوهية ، ليخلّصوكم مما أنتم فيه؟ وقد كرّر الله تعالى هذا المعنى إبلاغا وتحذيرا ، وتوجيه هذا النداء يقصد به توبيخ الكفار وتقريعهم. وأكّد الله ذلك بالإشهاد عليهم ، ليعلم أن التقصير منهم ، والإشهاد : أن يخرج الله من كل أمّة شهودا عليهم : وهم الرّسل الكرام ، فكل رسول يشهد على قومه بأعمالهم في الدنيا ، ويشهد نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الأنبياء جميعا. ويقال للمقصّرين : أحضروا برهانكم على صحة ادّعائكم أن لله شريكا ، فلم يتمكنوا ولم يجيبوا ، فعلموا أن الحقّ في الألوهية لله وحده ، وتاه عنهم وتبدّد كل ما يفترونه ويكذّبونه من نسبة الشريك لله تعالى.

قصة قارون

ـ ١ ـ

فتنة المال وتأثيره على الإنسان

أورد الله تعالى تفصيلا واضحا لقصة قارون الذي كان من قوم موسى ، فاغتر بماله وثرواته ، وزعم أنه أوتي ذلك بذكائه ومهارته ، وأنه لا حقّ لأحد له فيه ، فجاءه التوجيه الإلهي إلى ضرورة استعمال المال والانتفاع به فيما يحقّق له النفع في الآخرة ، وإصلاح شؤون الدنيا ، والإحسان في تثميره وتنميته وإنفاقه ، وتجنّب كل مهاوي الفساد والإفساد به في الأرض ، ولكنه لم يستجب لهذا التوجيه ، وبطر في عيشه وتبختر ، فحقّ عليه الهلاك والدّمار ، قال الله تعالى واصفا قصة قارون :

٤٠