التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٣

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٣

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0524-1
الصفحات: ٤٢٢

(سَلامٌ) وهو توبيخ لهم على عهده إليهم ، ومخالفتهم عهده ، فيكون سبب تمييزهم وفصلهم أنه كما حكى القرآن : ألم أعهد إليكم ، أي آمركم وأوصكم من طريق الرسل أيها البشر : ألا تطيعوا الشيطان ، فيما يوسوس به إليكم من المعصية والمخالفة ، فإن الشيطان عدو ظاهر العداوة لكم ، بدءا من عهد أبيكم آدم عليه‌السلام.

وأمرتكم أن تعبدوني وتطيعوني وحدي ، فيما أمرتكم به ونهيتكم عنه ، وهذا هو الطريق المعتدل القويم ، وهو دين الإسلام.

ولقد أغوى الشيطان خلقا كثيرا ، وزين لهم فعل السيئات ، وصدّهم عن طاعة الله وتوحيده ، أفلم تعقلوا عداوة الشيطان لكم؟!

ويقال لهم تقريعا وتوبيخا : هذه النار التي وعدتم بها في الدنيا ، وحذّرتكم منها على ألسنة الرسل ، فكذبتموهم : ادخلوها وذوقوا حرها اليوم ، بسبب كفركم بالله في الدنيا ، وتكذيبكم بها. وهو أمر تنكيل وإهانة. ويواجهون بجرائمهم عيانا ، ففي هذا اليوم الرهيب ، يختم الله على أفواههم ، بحيث لا يقدرون على الكلام ، وتتكلم أيديهم وأرجلهم ، شاهدة على أصحابها بما ارتكبت من آثام في الدنيا. والتكلم للأيدي والأرجل ؛ لأن أكثر الأفعال تتم بمباشرة الأيدي ، وسعي الأرجل.

وقدرة الله كبيرة ، فلو شاء لأذهب أعينهم وأعماهم ، فصاروا لا يبصرون طريق الهدى ، ولا يعرفون طريق النجاة ، فكيف يبصرون وقد ذهبت أبصارهم؟ أي لو شاء ربك لمسح أعين الكفار ، حتى أرادوا سلوك الطريق الواضح المعروف لهم لما استطاعوا ، فكيف يبصرون حينئذ؟

ولو شاء الله لبدّل خلقهم ، وحوّل صورهم إلى صور أخرى أقبح منها كالقردة والخنازير ، وهم جاثمون في الأماكن التي ارتكبوا فيها السيئات ، فلا يتمكنون من الذهاب أمامهم ولا الرجوع وراءهم ، بل يلزمون حالا واحدة ، لا يتقدمون ولا يتأخرون.

٢٦١

ومن يطل الله عمره ، يتبدل حاله بقدرة الله ، ولا يفعل ذلك إلا الله ، فيرده إلى الضعف بعد القوة ، والعجز بعد النشاط ، والبله بعد الفهم ، ونحو ذلك ، أفلا يدركون ويتفكرون أنهم كلما تقدّمت بهم السّن ، ضعفوا عن العمل ، فإذا أعطاهم الله فرصة أخرى للعمل ، فلن يفيدهم طول العمر شيئا ، وفي هذا قطع لأعذارهم بأنه لم تتوافر لديهم الفرصة الكافية للبحث والنظر والعمل.

صفة الرسالة النبوية

ركّز القرآن الكريم في التشريع المكي على إثبات أصول الدين الثلاثة : وهي الوحدانية ، كما جاء في آية سابقة في سورة يس : (وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٦١) والبعث أو اليوم الآخر كما في قوله تعالى : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (٦٣) والرسالة النبوية في قوله تعالى : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ). وهذه الأصول الثلاثة تنقض عقائد المشركين ، وتقيم بدلها ما ينبغي اعتقاده ومطابقته للواقع ، فإن تركوا عقائدهم الموروثة ، وبادروا إلى الإيمان بأصوله الثوابت ، كان لهم عزّ الدنيا والآخرة. قال الله تعالى مبينا أوصاف الرسالة النبوية :

(وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦)) [يس : ٣٦ / ٦٩ ـ ٧٦].

أخبر الله تعالى عن حال نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه رسول من عند الله ، وليس هو بشاعر ، ولا

٢٦٢

القرآن شعرا ، والشعر : كلام موزون بقواف معينة ، ولم يعلّم الله نبيه الشعر ، ولا حاجة له به ، وكان لا يقول الشعر ولا يرويه ولا يزنه ، وإنما يكسر وزنه غالبا إذا نطق به ، وينقل المعاني فقط. والقرآن ليس شعرا ، وإنما هو ذكر من الأذكار ، وموعظة من المواعظ ، وكتاب إلهي واضح لمن تأمله وتدبره ، واسترشد بنظامه في الحياة.

وإنما منع الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الشعر ترفيعا له عما في قول الشعراء من التخيل وتزويق الكلام. أما القرآن الكريم فهو ذكر الحقائق والبراهين فما هو بقول شاعر ولا كاهن ولا ساحر.

وخصائص مهمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هي إنذار كل من كان حي القلب والبصيرة ، ولم يكن ميتا لكفره ، وتثبيت الحقائق والتعريف بها ، وليتحتم العذاب على الكافرين ، ويجب الخلود لهم في النار ، إذا ما أعرضوا عن الإنذار ، ولم يذعنوا للحقيقة.

ثم نبّه الله قريشا حينما أعرضت عن الشرع وعبدت الأصنام ، وذكّرهم بإنعامه عليهم ، حيث خلق لهم الأنعام (وهي الإبل والبقر والغنم) وسخّرها لهم ، وملّكها إياهم ، ولو شاء لجعلها مستعصية عليهم ، نافرة منهم ، ومنافع الأنعام كثيرة : أهمها أن الله تعالى جعلها مذللة منقادة لهم ، فمنها مركوبهم الذي يركبونه في الأسفار ، ويحملون عليه الأثقال ، ومنها ما يأكلون من لحمها.

ولهم فيها منافع أخرى غير الركوب والأكل منها ، كالاستفادة من أصوافها وأوبارها وأشعارها ، وجعلها مصدرا للشرب من ألبانها ، أفلا يشكرون خالقها ومسخّرها وموجدها ، وميسر النعم الكثيرة لهم؟! والشكر يكون بعبادة الله وطاعته ، وترك الإشراك به شريكا آخر. وهذا تحريض على شكر الخالق المنعم ، والقيام بوفاء النعمة.

ولكنّ كفار قريش المشركين تنكروا لهذا الواجب ، وكفروا بأنعم الله ، واتخذوا

٢٦٣

الأصنام والأوثان آلهة يعبدونها من دون الله ، لعلهم ينصرون بها ، ويشفعون لهم ، ويقربونهم إلى الله زلفى ، في زعمهم.

ولكن هذه المعبودات لا تحقق فائدة لأحد ، فهم لا يقدرون على نصر عبّادها ولا نصر أنفسهم ، على الرغم من أنهم جند طائعون لها ، أي للأصنام ، يخدمونهم ويدفعون عنهم ، ويغضبون لهم ، أي هم حراس أمناء.

ثم آنس الله نبيه عما يلقاه من صدود قومه عن دعوته وعما يلقاه منهم من ألوان الأذى ، فلا تهتم أيها النبي بتكذيبهم لك وكفرهم بالله ، وبأقوالهم الباطلة المفتراة حيث قالوا : هؤلاء آلهتنا ، وهم شركاء لله في المعبودية ، فإننا نحن (الله) نعلم جميع ما هم فيه ، نعلم سرهم وجهرهم ، ونعلم ما يسرّون لك من العداوة ، ومعاقبوهم على ذلك.

إن كل زمرة أو مجموعة قليلة من الآيات تصلح ردا قاطعا على عقائد المشركين الوثنيين ، ولكن الله جلّت حكمته ، نوّع الخطاب ، وكرّر المعنى ، وأقام الأدلة الكثيرة في مناسبات متعددة ، حتى لا يبقى لأحد عذر في البقاء على ضلاله وشركه ، وهذه آيات كغيرها تثبت توحيد الله تعالى ، وقدرته ، وتبيّن مزيد نعمه على عباده ، ليحملهم صنع المعروف على تذكر المنعم ، والمبادرة إلى الإقرار بوجوده والإذعان لكلامه في قرآنه المجيد.

الرد على منكري البعث

استبد العناد والتحدي ببعض المشركين ، فأعلنوا إنكار البعث واليوم الآخر ، فجاء العاص بن وائل ، أو أبي بن خلف إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مجاهرا في إنكاره الآخرة ، أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال : جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعظم حائل ، ففتّه فقال : يا محمد : أيبعث هذا بعد ما أرمّ؟ قال : نعم ، يبعث الله

٢٦٤

هذا ، ثم يميتك ، ثم يحييك ، ثم يدخلك نار جهنم ، فنزلت الآيات : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) إلى آخر سورة يس.

وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد وعكرمة وعروة بن الزبير وقتادة والسدّي نحو الرواية المذكورة وقاله الحسن البصري ، وسموا الإنسان أبي بن خلف ، وقال أبو حيان : هذا هو الأصح ، لما رواه ابن وهب عن مالك ، وهو ما رواه ابن إسحاق وغيره.

وقال ابن جبير : هذه الآيات نزلت بسبب أن العاص بن وائل السهمي جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعظم رميم (١) ، ففتّه ، وقال : يا محمد : من يحيي هذا؟ قال الله تعالى واصفا هذا الحدث ورادا على قائليه :

(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣)) [يس : ٣٦ / ٧٧ ـ ٨٣].

المعنى : ألم يعلم كل إنسان أننا بدأنا خلقه من ماء مهين يحمل نطفة صغيرة ، في غاية الضعف ، ثم جعلناه إنسانا كاملا ، ثم يتنكر للخالق ، فتراه يجادل بالباطل ، وهو ناطق فصيح ، وذو عقل قوي. أفلم يستدل منكر البعث بهذا البدء في الخلق على إمكان الإعادة والإحياء؟! إن شأن هذا المخلوق أن يشكر النعمة ، فيتعرّف على خالقه القادر ، لا أن يجادل بالباطل ، ويتشكك في إمكان قدرة الله تعالى على بعثه مرة أخرى.

__________________

(١) أي بال مفتّت ، وهو الرّفات.

٢٦٥

لقد ضرب هذا المنكر مثلا بعظم رميم بال على استبعاد البعث ، ونسي مبدأ خلق نفسه من العدم ، وثم صيرورته إلى الوجود ، فقال : من الذي يتمكن من إحياء العظام البالية بعد أن صارت رميما ، أي بالية فانية؟! والنسيان من هذا المنكر : إما نسيان الذهول أو نسيان الترك.

فأجابه الله تعالى بقوله : قل أيها النّبي لهذا المشرك المنكر للبعث : يحيي الله العظام البالية : الذي أنشأها وأبدع خلقها في المرة الأولى ، من غير شيء ، بل من العدم ، ولم تكن شيئا مذكورا ، والله لا تخفى عليه خافية من الأشياء ، سواء أكانت مجموعة أم مجزأة مشتتة في أنحاء الوجود ، ولا يخرج عن علمه أي شيء كائنا ما كان ، في البر أو في البحر أو في جوف الحيوان أو مختلطا بالتراب.

ودليل آخر على إمكان البعث : وهو أن الله تعالى خلق هذا الشجر من ماء ، حتى صار أخضر نضرا ، ثم صيّره حطبا يابسا ، يجعله الناس وقودا لنيرانهم ، فمن كان قادرا على هذا التحويل والتقلّب من عنصر الرطوبة إلى عنصر الحرارة ، فهو قادر على إعادة الرطب يابسا ، والحي ميتا ، والميت حيّا ، لأن المعوّل في ذلك كله على القدرة الإلهية.

ودليل ثالث : وهو أن من خلق السماوات السبع وما فيها من الكواكب السّيّارة والثّوابت ، والأرضين السّبع وما فيها من معادن وكنوز وجبال وأنهار ، وسهول وهضاب ، وهي أعظم من خلق الإنسان ، من خلق ذلك ، فهو قادر على خلق مثل البشر ، وإعادة الأجسام إلى الحياة مرة أخرى ، وهي أضعف وأصغر من خلق السماوات والأرض ، والله هو الخلاق : أي كثير الخلق ، العليم : الشامل العلم.

إن شأن القدرة الإلهية أو شأن الله في إيجاد الأشياء سهل يسير ، فإنما هو إذا أراد شيئا قال له : كن ، فإذا هو كائن على الفور ، من غير توقّف على شيء آخر أصلا.

٢٦٦

فتنزيها لله تعالى عما لا يليق به من العجز والنقص والسوء ، فهو الذي بيده ملكية جميع الأشياء ، وله القدرة التّامة على كل الموجودات ، يتصرّف فيها كيفما يشاء ، وإليه وحده دون غيره مرجع جميع العباد ، بعد البعث في الدار الآخرة ، فيجازي كل إنسان بما عمل ، فما عليهم إلا أن يؤمنوا بوحدانيته وقدرته ، وبإيجاد الآخرة بحسب علمه.

٢٦٧

تفسير سورة الصافات

من أدلة الوحدانية والقدرة على البعث وغيره

في الكون عجائب المخلوقات والخلق ، ففيه الملائكة ذوو الصفات والمهام المتعددة ، وفيه السماوات والأرضون ، وفي السماء الكواكب الكبيرة والصغيرة التي تزيّن بها السماء الدنيا ، وفي السماوات من الكواكب أكبر بكثير مما نشاهده ، وفي البشر أناس أشداء الخلق والتكوين ، وذلك كله من المظاهر الدالة على وجود الله ووحدانيته وقدرته وعظمته ، والعقلاء : هم الذين يقدّرون هذا ويوقنون به ، وهذا ما افتتحت به سورة الصافات المكية النزول ، والتي تدل بجملها وتراكيبها الموجزة على إعجاز القرآن وفصاحته ، وتأثيره البليغ في النفوس ، تأثيرا يهز المشاعر ، ويحرّك العواطف ، قال الله تعالى :

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا (١) (٢) (٣)

__________________

(١) أي طردا وإبعادا.

(٢) أي دائم.

(٣) أي يطلبون أن يكونوا ممن يسخر ، أو بمعنى : يسخر ، مثل :

(واستغنى الله) فيكون فعل واستفعل بمعنى واحد.

٢٦٨

وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١)) (١) [الصافات : ٣٧ / ١ ـ ٢١].

أقسم الله تعالى في هذه الآيات بالملائكة المتصفين بصفات ثلاث : وهي وقوفهم صفوفا للعبادة ، أو في الهواء تصفّ أجنحتها انتظارا لأمر الله تعالى ، وتزجر السحاب زجرا ، أي تسوقه وتحركه سوقا ، وتتلو أو تقرأ ذكر الله أي كتبه. وجواب القسم أن الله واحد لا شريك له ، وأنه رب السماوات والأرض وما بينهما من سائر المخلوقات ، ورب مشارق الشمس وهي أماكن طلوعها بعدد أيام السنة ، ولها أيضا مغارب مماثلة ، مفهومة بدلالة الآية ، فلكل مشرق ومغرب كما جاء في آية أخرى : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ) (٤٠) [المعارج : ٧٠ / ٤٠].

ثم أخبر الله تعالى عن قدرته بتزيين السماء الدنيا بالكواكب الكثيرة ، وانتظم التزيين بجعلها حفظا وحرزا من الشياطين المردة ، وهم مسترقو السمع ، فإذا أراد شيطان استراق السمع انقضّ عليه شهاب ثاقب فأحرقه. ولا يقدر الشياطين أن يتسمعوا لحديث الملأ الأعلى : وهم الملائكة ، في السماء الدنيا وما فوقها ، لأنهم يرمون بالشهب.

ومرادهم أن يسترقوا شيئا مما يوحيه الله تعالى لملائكته من الشرع والقدر. والملأ الأعلى : أهل السماء الدنيا فما فوقها.

فيكون للشهب والكواكب السماوية فائدتان كبيرتان : تزيين السماء الدنيا ، وحفظها من مردة الشياطين. والمارد : المتجرد للشر. وحض الله السماء الدنيا بالذكر

__________________

(١) صاغرون وذليلون.

٢٦٩

لأنها التي تشاهدها أبصارنا ، وأيضا فالحفظ من الشياطين إنما هو فيها وحدها. وحفظا : منصوب على المصدر.

إن الشياطين يرمون بالشهب من كل جانب أو جهة يتجهون إلى السماء منها ، إذا أرادوا الصعود لاستراق السمع. ويبعدون ويطردون طردا ويمنعون من الوصول إلى مقاصدهم ، ولهم في الآخرة عذاب دائم مستمر موجع. والدحور : الإصغار والإهانة حال الطرد ، لأن الزجر : الدفع بعنف.

وطرد الشياطين هي الحال الغالبة على جميع الشياطين إلا من شذ ، فخطف خبرا أو نبأ ، فأتبعه شهاب فأحرقه.

فاسأل أيها الرسول منكري البعث : أيهم أشد خلقا ، أي أصعب إيجادا ، هم أم السماوات والأرض وما بينهما من الأمم والملائكة والشياطين والمشارق والمخلوقات العظيمة؟

وقد نزلت الآية في الأشد بن كلدة وأمثاله ، سمي بالأشد لشدة بطشه وقوته. والسؤال بقصد التوبيخ والتقريع.

إنا خلقنا أصلهم : وهو آدم من طين لزج يلتصق باليد ، فإذا كانوا مخلوقين من هذا الشيء الضعيف ، فكيف يستبعدون المعاد؟ وهو إعادة الخلق من التراب أيضا. واللازب : اللازم ، أي يلازم ما جاوره ويلصق به ، وهو الصلصاص.

بل في الواقع لا حاجة لاستفتائهم ، فهم قوم أهل تكبر وعناد ، وأنت يا محمد تتعجب من تكذيب هؤلاء المنكرين للبعث ، لإيقانك بقدرة الله العظمى ، وهم إذا وعظوا لا يتعظون ولا ينتفعون بالموعظة. وإذا شاهدوا دليلا واضحا ، أو معجزة أو علامة ترشدهم إلى الإيمان يبالغون في السخرية والاستهزاء ، ويتنادون للتهكم والتضاحك.

٢٧٠

وهذه الآية نزلت في ركانة ، وهو مكي مشرك ، صارعه النبي ثلاث مرات على أن يؤمن ، فصرعه ، ولم يؤمن ، ثم جاء إلى مكة قائلا : يا بني هاشم ، ساحروا بصاحبكم هذا أهل الأرض ، فنزلت الآية فيه وفي نظرائه.

وقالوا : ما هذا الذي تأتينا به من الدلائل إلا سحر واضح ظاهر ، فلا يؤبه به ، ولا ننخدع به. وتساءلوا منكرين : كيف نبعث أحياء بعد أن صرنا أمواتا ، وترابا مفتتا ، وعظاما بالية؟ وهل يبعث معنا أسلافنا القدامى من الآباء والأجداد. فأجابهم الله تعالى : قل لهم أيها الرسول : نعم تبعثون أحياء مرة أخرى ، وأنتم ذليلون صاغرون. والأمر سهل جدا على قدرة الله ، فما البعث إلا صيحة واحدة من إسرافيل بالنفخ في الصور بأمر الله تعالى للخروج من القبور. وقال منكرو البعث. لنا الويل والهلاك ، فقد حل يوم الجزاء والعقاب ، على ما قدمنا من أعمال. فأجابتهم الملائكة : هذا يوم الحكم والقضاء المبرم الذي كنتم تكذبون به في الدنيا ، ويعرف فيه المؤمن من الكافر.

مسئولية المشركين في الآخرة

إن كل إنسان في الآخرة مسئول عن أعماله خيرها وشرها ، وتكون المسؤولية شديدة ، وصعبة على المشركين ، حيث يحاسبون عن شركهم وضلالهم ، وتركهم الواجبات المفروضة عليهم من الإيمان بالله ورسله أولا ، ثم أداء الفرائض ، وحيث لا يجدون أحدا يشفع لهم أو ينصرهم ، ولأنهم كانوا متكبرين في الدنيا ، لا يسمعون لنداء الحق ، وكلمة التوحيد ، ويتهمون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاتهام الباطل كالقول : بأنه شاعر مجنون ، وهذا محض الكذب والافتراء ، وصف الله تعالى مسئولية المشركين وأسبابها في الآخرة ، فقال الله تعالى :

٢٧١

(احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧)) [الصافات : ٣٧ / ٢٢ ـ ٣٧].

موقف الحشر في القيامة رهيب وشديد ، يأمر الله الملائكة بجمع أصناف ثلاثة في موقف الحساب : وهم الظالمون المشركون ، وأمثالهم أو أزواجهم ومعبود وهم الذين عبدوهم من دون الله من الأصنام والأوثان وغيرهم من بني آدم ، زيادة في تخجيلهم وتوبيخهم ، وحسرتهم وإظهار سوء حالهم. والمقصود بكلمة (وَأَزْواجَهُمْ) أي أنواعهم وأشباههم.

ويقال للملائكة : أرشدوا هؤلاء المشركين وعرّفوهم طريق جهنم ، زيادة في لومهم ، واحتقارهم ، والتهكم بهم. وقوله : (فَاهْدُوهُمْ) أي قوّموهم واحملوهم على طريق الجحيم. والجحيم : طبقة من طبقات جهنم ، يقال : إنها الرابعة.

واحبسوهم في ساحة الموقف للحساب والسؤال ، عن عقائدهم وأقوالهم وأعمالهم التي صدرت منهم في الدنيا ، ويقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ : ما بالكم لا ينصر بعضكم بعضا ، كما كنتم في الدنيا؟ بل إنهم اليوم منقادون لأمر الله ، لا يخالفونه ، ولا يحيدون عنه ، لعجزهم عن العذر أو الحيلة.

وفي هذا الموقف يتساءل المشركون مع بعضهم سؤال توبيخ وتقريع وخصام ، كما يتخاصمون في دركات النار.

٢٧٢

قال الأتباع للقادة : إنكم تأتوننا من جهة القوة والشدة ، أي إنكم كنتم تغووننا بقوة منكم ، وتحملوننا على طريق الضلالة بمتابعة منكم في شدة ، أو كنتم تأتوننا من الجهة التي يحسّنها تمويهكم وإغواؤكم ، ويظهر فيها أنها جهة الرشد والصواب ، فأجاب الرؤساء بجوابين : الأول : بل إنكم أنتم أعرضتم عن الإيمان ، مع تمكنكم منه ، مختارين الكفر. والثاني : لم يكن لنا عليكم من حجة وتسليط نسلبكم به اختياركم وتمكنكم ، بل كان فيكم طغيان وتجاوز الحد في الكفر ، واختياركم طريق الضلال كان منكم.

فوجب علينا وعليكم حكم ربنا ، ولزمنا قول ربنا وتعيّن العذاب لنا ، وهو قوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) (٨٥) [ص : ٣٨ / ٨٥]. فنحن جميعا ذائقو العذاب حتما في الآخرة. والذوق هنا : مستعار.

إننا أضللناكم ، ودعوناكم إلى ما نحن فيه من الضلالة ، فاستجبتم لنا.

ثم أخبر الله تعالى : أنهم ، أي التابعين والمتبوعين والقادة مشتركون جميعا في العذاب ، وحصلوا فيه ، كما اشتركوا في الضلال والكفر ، والجميع في نار جهنم ، كل بحسبه ، وبمثل ذلك الجزاء نفعل بالمشركين ، ويجازى كل عامل بما قدم.

هؤلاء الذين أجرموا ، وجهلوا الله سبحانه ، وعظّموا أصناما وأوثانا ، إذا دعوا إلى كلمة التوحيد : وهي لا إله إلا الله ، استكبروا عن القبول ، وأعرضوا عن قولها ، كما يقولها المؤمنون.

ويقولون : أنحن نترك عبادة آلهتنا وآلهة آبائنا لقول شاعر مجنون ، قاصدين بذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهم بهذا أنكروا أولا وحدانية الله ، ثم أنكروا الرسالة النبوية ، وهؤلاء هم جماعة من قريش.

فرد الله عليهم تكذيبا : بل إن النبي جاء بالحق في جميع ما شرعه الله له ، وأول

٢٧٣

مبادئه التوحيد ، وصدّق في ذلك الأنبياء المرسلين فيما جاؤوا به من التوحيد ، والوعد ، والوعيد ، وإثبات المعاد ، ولم يخالفهم في تلك الأصول.

ومن حوادث عرض كلمة التوحيد على غير المؤمنين : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبي طالب : «أي عم ، قل : لا إله إلا الله ، أحاجّ لك بها عند الله» فقال أبو جهل : أيرغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال آخر ما قال : أنا على ملة عبد المطلب. وبعرضه عليه الصلاة والسّلام قول : لا إله إلا الله ، جرت السنة في تلقين الموتى المحتضرين ، ليخالفوا الكفرة في نهاية العمر ، ويخضعوا لكلمة التوحيد.

جزاء المؤمن والكافر

العدل الإلهي المطلق : هو أساس الجزاء والحساب في الآخرة ، وليس هناك تمييز ولا استئناف ، وإنما القرار مبرم حاسم ، والتنفيذ محقق وسريع ، فمن آمن بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبالقرآن دستورا ومنهاجا ، وبمحمد نبيا ورسولا ، وبالكعبة المشرفة قبلة ، كان من الناجين السعداء في جنان الخلد ، ذات النعيم المادي المترف ذي الألوان المختلفة ، والنعيم النفسي التام ، حيث لا همّ ولا قلق ، ولا حزن ولا تعب ، ومن جحد بالله أو أشرك به ، ولم يؤمن برسوله ، ولا بالقرآن الكريم ، فهو في عذاب مستمر في نيران جهنم ، مع المعاناة الدائمة والقلاقل المستمرة ، وجزاء الفريق بحسب العمل في الدنيا ، قال الله تعالى مبينا ذلك :

(إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ

٢٧٤

وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١)) (١) (٢) (٣) [الصافات : ٣٧ / ٣٨ ـ ٦١].

يخاطب الله تعالى خطابا مباشرا للناس بما معناه : إنكم أيها الجاحدون لتذوقن العذاب المؤلم الدائم في نار جهنم ، وليس جزاؤكم إلا بالحق والعدل الذي لا ظلم فيه ، وهو عقابكم على أعمالكم من الكفر والمعاصي ، فهي سبب الجزاء. لكن عباد الله وهم المؤمنون الذين أخلصهم الله تعالى لنفسه ، وهم الطائعون ربهم ، المخلصون في عملهم لله تعالى ، هم ناجون لا يذوقون العذاب ، ولا يناقشون الحساب ، ولهم رزق معلوم حسنه وطيبه ودوامه عندهم ، ويأتيهم في حين تطلعهم إليه ، يشتمل على الفواكه أو الثمار المتنوعة ، وبإكرام بليغ متمم للنعم ، حيث يخدمون ويرفهون.

ومساكنهم في جنان النعيم الدائم ، على أسرّة يتكئون عليها ، ينظر بعضهم إلى وجوه بعض ، بسرور وابتهاج. وشرابهم يدار عليهم بآنية من عيون جارية ، فيها الخمر التي لا تسكر وغيرها من الأنبذة ونحوها ، يطوف بها عليهم ولدان مخلدون. وتلك الخمر شديدة البياض ، لذيذة الطعم ، طيبة الرائحة ، ليس فيها أذى أو فساد ، ولا تذهب بالعقول ، خلافا لخمر الدنيا. وقوله : (مِنْ مَعِينٍ) أي من جار مطّرد.

وعندهم زوجات عفيفات ، لا ينظرن إلى غير أزواجهن ، ذوات عيون واسعة

__________________

(١) أي ليس في خمر الجنة أذى ، ولا إذهاب للعقول.

(٢) أي في الجنة حوريات عفيفات لا ينظرن إلى غيرهن ، واسعات الأعين مع الحسن.

(٣) أي في وسط الجحيم.

٢٧٥

حسان ، كأن ألوانهن من البياض المشوب بصفرة خفيفة كالبيض المصون المستور الذي لم تمسه الأيدي ، ولم يتلوث بالغبار. وأقبل هؤلاء المؤمنون بعضهم على بعض في حال تمتعهم ، يتساءلون عن أحوالهم التي كانوا عليها في الدنيا ومعاناتهم فيها ، إتماما لنعيم الجنة.

ومن تساؤلاتهم : قال مؤمن من أهل الجنة : كان لي صاحب كافر بالبعث مقارن في الدنيا يقول : أنحن إذا صرنا أمواتا وترابا وعظاما بالية ، أنكون محاسبين بعدئذ على أعمالنا ونجازى عليها؟ ذلك أمر غير ممكن ولا معقول ، فهل تصدق هذا؟ ثم قال المؤمن لجلسائه : انظروا معي إلى أهل النار ، لأريكم ذلك القرين الذي قال لي هذا القول ، كيف يعذب ويجازى؟ فنظر المؤمن إلى أهل النار ، بالرغم من كثرتهم ، فرأى قرينه يتلظى بحرّ جهنم. قال المؤمن لقرينه الكافر موبخا : لقد قاربت أن توقعني في الهلاك ، ولو لا رحمة ربي وعصمته من الضلال ، وتوفيقي للحق ، وهدايتي للإسلام ، لكنت من المحضرين معك في العذاب في النار.

ثم قال المؤمن لجلسائه ابتهاجا وسرورا بنعيم الجنة : ألسنا مخلّدين في نعيم الجنان إلى الأبد ، فلا نموت إلا موتتنا السابقة في الدنيا ، ولسنا بمعذبين كما يعذب أصحاب النار؟

إن هذا النعيم الدائم الخالد ، لهو الفوز الأكبر الذي لا يوصف ، ولمثل هذا النعيم والفوز ، ليعمل العاملون في الدنيا ، ليحظوا به ، لا أن يعملوا لحظوظ الدنيا الفانية فقط ، المقترنة بالمخاطر والآلام ، والمتاعب الكثيرة ، والمراد : أن المطلوب من كل عاقل هو العمل للآخرة وللجنة الخالدة ، لا أن يقتصر العمل على مكاسب الدنيا وشهواتها الفانية المؤقتة ، فإن عمل الآخرة هو الباقي الخالد ، وعمل الدنيا فإن زائل.

٢٧٦

ألوان عذاب جهنم

تتنوع ألوان النعيم للمؤمنين الصالحين في الجنان ، كما تتنوع ألوان العذاب في جهنم للظالمين المشركين والجاحدين ، والتفاوت قائم في كلا الحالين ، وبدهي أن النفس ترتاح للنعيم ، وتتضايق للعذاب ، وقد جاء الوصف القرآني لتعذيب الكفار بما لا يوصف ولا يحتمل ، ولكن رحمة الله تعالى قدّمت الإنذار به قبل وقوعه ، للاحتراز منه ، وتجنب كل الأسباب المؤدية إليه ، فلا يبقى بعدئذ عذر لمقصر أو معاند أو جاحد ، لأن سبق الإنذار يوجب التعقل ، وتقدير الحساب والمخاطر ، وهذا ما وصفته الآيات القرآنية الآتية :

(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤)) (١) [الصافات : ٣٧ / ٦٢ ـ ٧٤].

هذه تساؤلات تقريرية لقريش والكفار ، ليست للاستفهام ، يراد بها إعلامهم بأن هذا المذكور من أوصاف نعيم الجنة وطيباتها في القرآن خير ضيافة وعطاء ، أم شجرة الزقوم ذات الطعم المرّ الشنيع التي في جهنم ، وهذا نوع من التهكم والسخرية بهم ، فهو طعام أهل النار يتزقمونه. إنا جعلنا تلك الشجرة اختبارا للكافرين ، حين افتتنوا بها وكذبوا بوجودها ، فقالوا : كيف تكون تلك الشجرة في النار ، والنار تحرق ما فيها؟.

__________________

(١) يستحثهم البرد للذهاب إلى النار ، وهذا الفعل ملازم للبناء للمجهول.

٢٧٧

وهذا بسبب جهلهم أن بعض الأشياء لا يقبل الاحتراق في النار ، وأنهم لم يعلموا أن من قدر على جعل إنسان يعيش في النار ، هو أقدر على خلق شجر فيها لا يحترق.

وأوصاف تلك الشجرة : أنها شجرة تخرج أو تنبت في قعر النار وقرار جهنم ، أي ملاصق أساسها الذي لها كالجدران. ويشبه ثمرها في تناهي قبحه ، وبشاعة منظره ، رؤوس الشياطين ، تكريها لذكرها. فقد شبه ثمرها بما استقر في النفوس من كراهة رؤوس الشياطين وقبحها ، وإن كانت لم تر.

وهذه الشجرة يأكل الكفار من ثمرها القبيح الرائحة والطعم ، فيملئون منها بطونهم ، بالإكراه والاضطرار ، لأنهم لا يجدون غير هذه الشجرة ونحوها من كل مرّ عسر المذاق.

ثم إن لهم بعد الأكل منها لشرابا من ماء شديد الحرارة يخالط طعامهم ، أي إن حال المشروب في البشاعة أعظم من حال المأكول. ثم إن مرجعهم بعد شرب الحميم وأكل الزقوم إلى دار الجحيم ، أي إن الحميم يكون في موضع خارج عن الجحيم ، فهم يوردون الحميم لشربه ، كما تورد الإبل إلى الماء ، ثم يردّون إلى الجحيم.

وعلة عذابهم على هذا النحو : أنهم وجدوا آباءهم على الضلال ، فاقتدوا بهم وقلّدوهم ، من غير تعقل ولا تدبر ، ولا حجة ولا برهان ، فهم يتّبعون آباءهم في سرعة. وذلك يدل على أن الكفر ظاهرة قديمة ، وأتباعه كثيرون ، فلقد كان أكثر الأمم الماضية ضالين ، يجعلون مع الله آلهة أخرى ، وليس قريشا وحدهم في هذا الضلال.

ولكن رحمة الله تعالى لم تتركهم بدون إنذار ، فلقد أرسل الله في الأمم كلها أنبياء ورسلا ينذرونهم بأس الله ، ويحذرونهم سطوته ونقمته ممن كفر به ، وعبد غيره ، لكنهم تمادوا في تكذيب رسلهم ، فأهلكهم الله تعالى ، كما قال سبحانه : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) أي فانظر أيها الرسول وكل مخاطب بالرسالة الإلهية كيف

٢٧٨

كان مصير الكافرين المكذبين؟ أهلكهم الله ودمرهم وصاروا إلى النار ، مثل قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم. ثم استثنى الله تعالى المؤمنين بقوله : (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٧٤) أي لكن نجى الله عباده المؤمنين الذين اصطفاهم وأخلصهم لطاعته ، بتوفيقهم إلى الإيمان والتوحيد ، والعمل بأوامر الله سبحانه ، ففازوا بجنان الخلد ، ونصرهم في الدنيا.

مثّل الله تعالى في هذا المثل لقريش بالأمم التي ضلّت قديما ، وجاءها الإنذار الإلهي ، وأهلكها الله بعدله. وهو إخبار بأن الله عذّب الضالين في الدنيا ، ولهم عذاب شديد آخر في الآخرة.

دعاء نوح عليه‌السلام

الأنبياء والرسل عليهم‌السلام في مرصد العناية والرعاية الإلهية ، فهم يقومون بتبليغ دعوة الله تعالى لتوحيده وعبادته ، والله تعالى يراقب ردود أفعالهم لدى أقوامهم ، فإن تعرضوا لسوء ، أو وقعوا في محنة مستعصية لا سبيل إلى تذليلها ، دعوا ربهم بوحي منه لإنجائهم ، وقهر عدوهم ، وإهلاك معارضيهم ، وهذا منهج واضح في حياة الرسل ، وفي طليعتهم نوح عليه‌السلام أول رسول إلى قومه ، وأبو البشر الثاني ، فإنه دعا ربه حين يئس من هداية قومه ، كما في الآيات الآتية :

(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢)) [الصافات : ٣٧ / ٧٥ ـ ٨٢].

المعنى : تالله لقد دعانا نوح عليه‌السلام واستغاث بنا ، ودعا على قومه بالهلاك لما أيس منهم ، قائلا : (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) (٢٦) [نوح : ٧١ / ٢٦]. بعد أن مضى دهر طويل يدعوهم إلى الإيمان بالله تعالى ، فكذبوه وآذوه وهموا

٢٧٩

بقتله ، ولم يؤمن معه إلا قليل ، وذلك بعد ألف سنة إلا خمسين ، وتضمن نداء نوح أي استغاثته أشياء : منها الدعاء على قومه ، وسؤال النجاة ، وطلب النصرة ، وفي جميعها وقعت الإجابة ، فقد أجاب الله دعاءه ، وقوله تعالى : (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) يتضمن الإجابة على أكمل ما أراد نوح عليه‌السلام. وهذه أوجه الإجابة :

١ ـ نجينا نوحا ومن آمن معه وهم ثمانون من الغم الشديد : وهو الغرق وتكذيب الكفرة.

٢ ـ وجعلنا ذريته وحدهم دون غيرهم هم الباقين على قيد الحياة ، وأهلكنا من كفر بدعائه. قال ابن عباس رضي الله عنهما ، وقتادة : أهل الأرض كلهم من ذرية نوح ، وقال الطبري : العرب : من أولاد سام ، والسودان : من أولاد حام ، والترك والصّقلب : من آل يافث.

٣ ـ وأبقينا عليه ثناء حسنا فيمن يأتي بعده إلى آخر الدهر.

وقلنا : عليك يا نوح سلام منا في أوساط العالمين من الملائكة وعالمي الإنس والجن ، وفي الباقين غابر الدهر ، قال الطبري عن هذا السّلام : هذه أمنة لنوح في العالمين : أن يذكره أحد بسوء. وقال ابن عطية : هذا جزاء ما صبر طويلا على أقوال الكفرة الفجرة.

وأسباب هذه النعم التي أسبغها الله تعالى على نوح عليه‌السلام ثلاثة أشياء :

١ ـ مجازاته على إحسانه ، وهكذا نجزي من أحسن من العباد في طاعة الله عزوجل. وهذا ثناء من الله تعالى على نوح بالإحسان ، لصبره على أذى قومه ، ومطاولته لهم ، وغير ذلك من عبادته وأفعاله الطيبة.

٢ ـ وسبب كون نوح محسنا : هو كونه من عباد الله المؤمنين ، وهذا دليل على أن الإيمان بالله تعالى وإطاعته أعظم الدرجات وأشرف المقامات.

٢٨٠