التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٣

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٣

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0524-1
الصفحات: ٤٢٢

وقد فعلنا بهم ذلك ، كما فعلنا بأمثالهم من كفار الأمم الماضية ، إنهم كانوا جميعا في الدنيا في شك وريبة من أمر الرسل ، ومطالبتهم بالتوحيد ، وإثباتهم البعث والجزاء ، والشرائع والأحكام. والأشياع : الفرق المشابهة لهم من كل أمة ، جمع شيعة.

٢٢١

تفسير سورة فاطر

الخلق دليل القدرة الإلهية

تكثر ادعاءات المغرورين والمتكبرين المشركين ومزاعمهم بأنهم يملكون قدرة معينة : إما فكرية وإما جسدية وإما إبداعية ، وتتبدد كل تلك المزاعم أمام الواقع الأعظم : وهو إيجاد أشياء مادية وروحية حركية معا ، تعمل بفكر منظم ومنطق رتيب. لذا لم نجد حاجة في القرآن الكريم لإثبات وجود الله غير دليل الإيجاد أو الخلق أو الإبداع الإلهي للأشياء بدون سابقة ، وهذا وحده كاف لتتداعى أمامه كل ألوان الغرور والتكبر والشرك ، واستحق هذا أن يحمد الخالق عليه بكل مشتملات الحمد ، ويستغرق هذا جميع الأفعال الشريفة ، فيثبت الكمال لله وحده ، وهذا ما عبّرت عنه الآيات الآتية في مطلع سورة فاطر :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤)) (١) (٢) [فاطر : ٣٥ / ١ ـ ٤].

__________________

(١) أي خالقهما ومبدعهما ابتداء لا على مثال سبق ، من الفطر : وهو الشق ، أي شق الشيء بإخراج السماء والأرض منه.

(٢) أي كيف تصرفون عن الإيمان إلى الكفر؟

٢٢٢

لله تعالى جميع أنواع المحامد والشكر الخالص على نعمه ، فكلمة (الْحَمْدُ) الألف واللام لاستغراق الجنس على أتم عموم ، والشكر بعض أنواع الحمد ، فيشمله ، وحمده تعالى لأنه سبحانه مبتدئ خلق السماوات والأرض ، مما يدل على وجوده ، وتمام قدرته ، واتصافه بالكمال وحده ، فهو إذن قادر على إعادة الخلق أحياء مرة أخرى.

والله تعالى جاعل الملائكة وسائط بينه وبين أنبيائه لتبليغ رسالاته وغير ذلك ، فقد جعلهم رسلا بالوحي ونحوه من الأوامر ، ومنهم جبريل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل ، ومنهم الملائكة المتعاقبون المتناوبون لتنفيذ أوامر الله ، ومنهم المسدّدون لحكام العدل وغيرهم ، وقد خلقهم الله ذوي أجنحة متعددة ، بعضهم له جناحان ، وبعضهم له ثلاثة ، وبعضهم له أربعة ، وبعضهم له أكثر من ذلك وهم شذوذ ، ينزلون بها من السماء إلى الأرض ، ويعرجون بها من الأرض إلى السماء. فقوله تعالى : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) ألفاظ معدولة من اثنين وثلاثة وأربعة ، فهي ممنوعة من الصرف للعدل والتعريف.

وليس هذا بمستغرب أو ببدع في قدرة الله تعالى ، فإنه يزيد في خلقه ما يشاء ، من أجنحة وغيرها ، كملاحة العين ، وجمال الأنف ، وحلاوة الفم ، وحسن الصوت ، إن الله تام القدرة في خلق الزيادة المادية الحسية والمعنوية ، فلا يعجز عن شيء.

وبالإضافة إلى تمام القدرة الإلهية ، فإنه سبحانه نافذ الإرادة والمشيئة والأمر ، فما يعطي الله تعالى من خير أو نعمة حسية كرزق ، ومطر ، وصحة ، أو معنوية ، كأمن وعلم ، ونبوة وحكمة ، فلا مانع له ، وما يمنع من ذلك ، فلا يقدر أحد أن يرسله من بعد إمساكه من الله ، بيده الخير كله ، والله هو القوي الغالب القاهر ، الحكيم في قوله وفعله وتدبيره ، يضع كل شيء في موضعه المناسب له. فقوله : (مِنْ رَحْمَةٍ) عام

٢٢٣

في كل خير ، يعطيه الله لعباده ، جماعة وأفرادا ، وقوله : (مِنْ بَعْدِهِ) فيه حذف مضاف ، أي من بعد إمساكه.

وبما أنه تعالى مصدر الخلق والرزق والإنعام ، فيجب تذكر نعمه والإقرار بتوحيده ، فيا أيها الناس كلهم ، تذكروا نعم الله عليكم ، واحفظوها بمعرفة حقوقها والإقرار بها ، ووحّدوا المنعم بها ، فلا خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض ، ولا إله إلا هو ، فكيف بعد هذا البيان الواضح ، تصرفون عن الحق : وهو توحيد الله وشكره ، وتعبدون هذه الأصنام؟!

ثم واسى الله رسوله في أنه : إن يكذبك أيها الرسول هؤلاء المشركون ويعارضونك فيما جئت به من توحيد الله تعالى ، فقد كذبت الرسل السابقون من قبلك من أقوامهم ، وعارضوهم وآذوهم ، ومصير الجميع في نهاية الأمر إلى الله تعالى ، فيجازي على ذلك أو في الجزاء ، يجازي رسله ومنهم أنت أيها النبي على الصبر ، ويجازي أقوامهم على التكذيب ، وكلا الجزاءين حق وعدل ، ومصلحة ونفع إما للشخص نفسه في الدنيا والآخرة ، أو له في الدنيا لتذكيره وزجره.

التحذير من غرور الدنيا

من الظواهر الواقعية أن الدنيا ملهاة ، وتأثيرها بزخارفها على النفوس كبير ، والإصغاء إلى وساوس الشيطان خطير ، لذا حذر الله تعالى منها ، من أجل خير الإنسان ، وبسبب عرضه على الحساب في يوم القيامة الذي لا بد منه ، فيكون الناس إما في خير وتنعيم ، أو عذاب وعقاب وجحيم ، أما أهل الإيمان والعمل الصالح ، فلهم مغفرة وثواب كبير ، وأما الكافرون ، فلهم عذاب شديد. ولا مجال للمفاضلة

٢٢٤

أو المقارنة بين الفريقين ، لعلو درجة المؤمنين ، ودنوّ رتبة الكافرين الذين زيّن لهم سوء عملهم ، وهذا ما أخبر عنه القرآن الكريم في الآيات الآتية :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨)) (١) [فاطر : ٣٥ / ٥ ـ ٨].

أبانت آيات سورة فاطر في مطلعها ثلاثة أصول إيمانية : الأول ـ التوحيد الإلهي ، والثاني ـ الرسالة النبوية ، وهذا مما سبق بيانهما ، والثالث ـ الحشر والبعث ، وهذا موضوع الآيات المذكورة هنا.

يعظ الله تعالى جميع العالم ، ويحذرهم غرور الدنيا بنعيمها وزخرفها ، وينبّههم إلى عالم المعاد ، فإن وعد الله بالبعث والجزاء حق ثابت لا شك فيه ، والمعاد كائن لا محالة ، بما فيه من خير ونعيم ، أو عذاب مقيم ، فلا تلتهوا بمغريات الدنيا ولذائذها عن العمل للآخرة ، ولا يغرنكم الشيطان بالله ، فيجعلكم في أوهام وآمال خيالية ، ولا تلهينكم الحياة الدنيوية.

إن عداوة الشيطان لكم أيها البشر عداوة قديمة ظاهرة ، فعادوه أنتم عداوة شديدة ، وخالفوه بطاعة الله ، واجتنبوا إغراءه بمعاصي الله ونواهيه ، فعداوته : بالمباينة والمقاطعة ، والمخالفة له : باتباع الشرع.

إنما يريد الشيطان إضلالكم حتى يوصلكم معه إلى عذاب النار الشديد. ويدعو

__________________

(١) هو الشيطان.

٢٢٥

حزبه ، أي حاشيته الصاغية له وجماعته الملتفين حوله ، ليصيروا من أهل النار ، فتكون اللام في (لِيَكُونُوا) لام الصيرورة ، لأنه لم يدعهم صراحة إلى السعير ، وإنما ترتب على الاستجابة لوساوسه صيرورة أمرهم منه إلى ذلك. والسعير : طبقة من طبقات جهنم ، وهي سبع طبقات.

وجزاء فريقي الآخرة معروف ، فالذين كفروا بالله ورسوله ، وأنكروا الآخرة ، واتبعوا وساوس الشيطان ، لهم عذاب شديد في نار جهنم ، لأنهم أطاعوا الشيطان ، وعصوا الرحمن.

والذين صدقوا بالله ورسوله وباليوم الاخر ، وعملوا صالح الأعمال من اتباع الأوامر ، واجتناب النواهي ، لهم مغفرة لذنوبهم وأجر كبير ، وهو الجنة ، بسبب الإيمان والعمل الصالح.

وفرق كبير بين الفريقين ، فكيف يتساوى المحسن والمسيء وكيف يتماثل الذين حسّن لهم الشيطان أعمالهم ، ظانين أنهم محسنون صنعا ، وأولئك المهتدون على طريق الحق والخير؟ والمراد بمن زيّن له سوء عمله : كفار قريش وأمثالهم. وقوله تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) جوابه محذوف ، تقديره : كمن اهتدى. ثم واسى الله تعالى نبيه عن كفر قومه ، ببيان أن من شاء الله إضلاله أضلّه ، ومن شاء هدايته هداه ، بسبب ما يعلم الله من استعداد كل واحد لتقبل الخير ، أو حبّ الشر ، ويجب التسليم لله تعالى في إضلال من شاء ، وهداية من شاء.

وأمر الله نبيه بالإعراض عن أمر قومه ، وألا يهلك نفسه أو يوقعها في الغم والحزن ، بسبب عدم إيمان قومه ، وإصرارهم على الكفر ، وبقائهم في الضلال ، فالله عليم بأحوالهم واستعداداتهم ، وعالم بما يفعلون من المنكرات والقبائح ، فيجازيهم بما يستحقون. وهذا وعيد للكفار ، وتهديد ، وزجر بليغ ، والمراد بقوله : (فَلا تَذْهَبْ

٢٢٦

نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) ألا تغتم ولا تهتم وتضايق نفسك أو تهلكها متحسرا عليهم ، أو حزنا عليهم ، لأنهم لم يؤمنوا برسالتك. والحسرات جمع حسرة : وهي همّ النفس على فوات أمر.

والمطلوب بإيجاز : التأكد من الإيمان بالآخرة. والتحذير من وساوس الشيطان ، ومن إغراءات الدنيا ، والاستعداد للآخرة والنجاة بالإيمان والعمل الصالح.

الإحتجاج على الكفار في إنكار البعث

إرشادات الحق جل جلاله تحمل كل عاقل على الاستجابة لها ، والتفاعل معها ، والاقتناع بها ، لأنها في الغالب مستمدة من الحس المشاهد أمامه ، الملموس لديه ، ولا ينصرف أحد عن القناعة بهذه الأدلة والإرشادات إلا بسبب العناد والاستكبار ، وتعطيل المواهب والطاقات المودعة عنده. وهذا هو الشأن في الإحتجاج على الكفار في إنكارهم البعث ، وهو التأمل بالبلد الميت الذي لا نبت فيه ، كيف يخضرّ وينبت بالماء ، فتلك حياته ، وكذلك إحياء الموتى ، أي مثل ذلك ينقلب الميت أو الراكد إلى حياة حركية بإحياء الله ، وإعادة الروح لكل إنسان. وهذا ما أرشدت إليه الآيات الآتية :

(وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠) وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١١)) (١) (٢) [فاطر : ٣٥ / ٩ ـ ١١].

__________________

(١) النشور : إحياء الموتى من القبور.

(٢) يبور : يهلك ويضيع.

٢٢٧

هذان دليلان على إمكان البعث والنشور أو إحياء الموتى من القبور ، يحتج بهما الله تعالى على الكفار ، الذين أنكروا البعث من القبور ، ويدلهم على المثال الموازي تماما.

الدليل الأول ـ إحياء الأرض بالماء : الله سبحانه وتعالى يرسل الرياح ، فتحرك الغيوم حيث يشاء الله ، فيقودها إلى بلد ميت لا نبات به ، فينزل المطر عليه ، فتحيا الأرض بالنبات بعد يبسها ، وتصبح مخضرة ، تموج بالحركة ، وجمال الزرع والشجر ، بعد أن كانت تربة هامدة ، فكذلك مثله ، أي وهذا المثال المعاين أمامكم يكون مثله ويساويه تماما النشور ، أي الإحياء من القبور ، فكما يحيي الله الأرض بعد موتها ، يحيي العباد بعد موتهم وصيرورتهم ترابا ، لكنّ أرواحهم باقية عند الله تعالى.

ومن كان يريد العزة بعبادة الأوثان ، ومغالبة الله ، فلله وحده العزة الكاملة ، أي ليست لغيره ، ولا تتم إلا له ، وهذا المغالب مغلوب ، كما فسره مجاهد ، وهذا رد على الكفار الذين كانوا يطلبون العزة بعبادة الأوثان والأصنام ، وعدم إطاعة الرسل ، فإن العزة كلها في الحقيقة هي لله تعالى.

ومن مظاهر عزة الله : أنه يسمع كلام الناس ، ويقبل طيب الكلام ، كالتوحيد والتمجيد والأذكار ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والدعاء ، وتلاوة القرآن الكريم ، والتسابيح والتهاليل ، وغير ذلك ، ومن أفضل الأذكار : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر.

وكما أنه تعالى يقبل الكلام الطيب ، يرفع العمل الصالح إليه ، وهذا أرجح الأقوال ، كما ذكر ابن عطية رحمه‌الله في تفسيره.

وأما الذين يعملون مكائد المكر ، وسوء الأعمال في الدنيا ، كالتامر على قتل النبي ، أو إضعاف المسلمين ، ويوهمون غيرهم أنهم في طاعة الله تعالى ، فلهم عقاب

٢٢٨

بالغ الغاية في الشدة. ومكر أو تدبير هؤلاء المفسدين يفسد ويضيع ، ولا ينفذ ، لأن الله تعالى يحبط مكائدهم ، ويفوّت عليهم ألوان مكرهم.

والدليل الثاني على إمكان البعث : بدء خلق الإنسان ، والمراحل التي يمر بها في أطوار خلقه ، فالله تعالى ابتدأ خلق الإنسان من تراب ، وهو أبونا آدم عليه‌السلام ، ثم جعل تكاثر ذريته ونسله بواسطة سلالة من ماء مهين ، حيث صيّر التراب نطفة بواسطة الماء ، ثم جعل الناس أصنافا ، ذكورا وإناثا ، هذا التحوّل من تراب لا حياة فيه إلى خلية حية ، إلى إنسان سوي : دليل قاطع آخر على إمكان البعث الذي هو إعادة الحياة مرة أخرى بفعل الله تعالى ، والإعادة في مفهوم الناس وتقديرهم أهون من الخلق ، أما بالنسبة لله تعالى فهما سواء.

ودليل القدرة الإلهية هذا ، يصحبه دليل آخر لإتمام الهندسة أو الصنع الإلهي ، وهو كمال العلم ، فإن الله تعالى عالم بحمل أي أنثى في العالم ، لا يخفى عليه من ذلك شيء ، يعلم بدء التخلق ، ووقت الوضع ومكانه وكيفيته.

وحال الإنسان وعمره بعد الولادة مختلف ، فما يمدّ في عمر إنسان ، ولا ينقص من عمر آخر إلا وهو مدوّن معلوم في اللوح المحفوظ ، سواء كان ذا عمر طويل أو عمر قصير ، وذلك النظام المرتّب ، والمتفاوت لكل إنسان ، سهل يسير على الله تعالى ، لديه علمه جملة وتفصيلا.

ومن المعلوم أن عمر الإنسان محدود ، لا يزيد ولا ينقص ، وأما ظاهر دلالة الآية على تعمير المعمر ونقص عمر قصير الأجل ، فهذا بحسب أحوال الناس وأعرافهم ، فإنهم يقولون : فلان قضى عمره ، وفلان لم يكمل عمره ، والحقيقة : أن لكل واحد عمرا في علم الله لا يزيد ولا ينقص.

٢٢٩

من أدلة قدرة الله تعالى وتوحيده

في الوجود أدلة كثيرة على توحيد الله تعالى ، وقدرته الفائقة ، وإمكانه بعث الناس من القبور مرة أخرى ، منها خلق الأشياء المتحدة الجنس ، لكنها مختلفة المنافع ، مثل إيجاد الماء الملح والماء العذب ، إما متجاورين في مكان واحد ، أو في أمكنة متباعدة ، ومثل تداخل الليل والنهار ، وتسخير الشمس والقمر والكواكب المختلفة النيرة في أنحاء السماوات ، وكل هذا ونحوه يدل دلالة واضحة على وجود الإله الخالق ، المدبر ، الواحد ، القدير ، المهيمن ، ويوحي بوجوب الإيمان به عقلا وفعلا ، قال الله تعالى منبها على هذه الأدلة :

(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤)) [فاطر : ٣٥ / ١٢ ـ ١٤].

هذه أدلة أخرى تثبت مقدرة الله العظمى لكل عاقل ، وتقطع بأن الأصنام عاجزة عن فعل مثلها.

والدليل الأول : هو أن الله تعالى أوجد البحرين : الملح والعذب ، وهما وإن تساويا في الصورة ، يختلفان في الطبيعة ، فإن أحدهما ملح شديد الملوحة ، وهو البحر الذي تسير فيه أنواع السفن ذات الحمولة الكبيرة ، والآخر عذب شديد العذوبة ، سائغ الشراب ، يجري في الأنهار الكبيرة والصغيرة ، ويحقق منافع كثيرة.

ويصاد السمك من كل من البحرين الملح والعذب ، وتستخرج الحلية الملبوسة

٢٣٠

منهما ، وهو اللؤلؤ والمرجان ، كما جاء في آية أخرى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣)) [الرحمن : ٥٥ / ٢٢ ـ ٢٣] وعلى الرغم من أن الحلية إنما تخرج من الملح ، فإنه يجوز النسبة إلى كل من الملح والعذب ، كما في آية : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) [الأنعام : ٦ / ١٣٠] والرسل : إنما هي من الإنس.

وتشاهد أيها الناظر السفن في البحر والنهر الكبير تمخر عباب الماء ، أي تشقّه ، مقبلة مدبرة ، حاملة المواد التجارية المختلفة ، لتطلبوا بالتجارة وكل سفر الرزق من فضل الله ، ولتشكروا الله على تسخير الماء العظيم لكم ، وعلى ما أنعم به عليكم من النعم.

والدليل الثاني : على قدرة الله التامة : إدخال الليل في النهار ، وإدخال النهار في الليل ، فيكون أطول من الآخر ، وما زاد من أحدهما أو نقص يدخل في الآخر ، فكأن الزيادة أو النقص دخول أحدهما في الآخر ، فيطول هذا ويقصر هذا ، ثم يتبادلان صيفا وشتاء.

والدليل الثالث : تسيير الشمس والقمر وبقية الكواكب السيارة ، والثوابت ، بإرادة الله وقدرته ، كل واحد منها يجري بمقدار معين ، ومدة محددة ، هي زمن مدارها أو منتهاها ، تساعد على تعلم عدد السنين والحساب.

ذلكم المذكور الذي فعل هذا من خلق السماوات والأرض ، وخلق الإنسان من تراب ونطفة ، وغير ذلك : هو الله الرب العظيم ، الذي لا إله غيره ، ولا ربّ سواه ، وهو صاحب الملك التام ، والقدرة الشاملة ، وكل ما عداه عبد له.

وفي مقابل ذلك تجد الأصنام عاجزة عن الخلق والإبداع ، وهي متصفة بصفات ثلاث ، كلها تدل على بطلانها ، أولها ـ أنها لا تسمع إن دعيت ، والثاني ـ أنها لا تجيب ، ولو سمعت ، والثالث ـ أنها تتبرأ يوم القيامة من الكفار.

٢٣١

إن الذي تعبدونه من الأصنام والأوثان التي هي على صورة بعض الملائكة في زعمكم ، لا يملكون شيئا من الأرض والسماوات ، ولو كان ذلك شيئا حقيرا بمقدار القطمير ، أي قشرة النواة الرقيقة.

ودليل عجز الأصنام : أنكم أيها الوثنيون إن دعوتموها من دون الله ، لا تسمع دعاءكم ، لأنها جماد لا تدرك شيئا ، ولو سمعوا لا يقدرون أن ينفعوكم بشيء مما تطلبون منها ، لعجزها عن ذلك ، ويوم القيامة يجحدون كون ما فعلتموه حقا ، وينكرون أنهم أمروكم بعبادتهم أو أقروكم عليها ، ولا يخبرك عن أمر هذه الآلهة وشأن عبدتها إلا خبير بصير بها : وهو الله تعالى.

أسباب عبادة الله تعالى

العبادة صلة بالمعبود ، وملء القلب بحب الله وعظمته وخشيته ، وإشعار بمزيد الحاجة إلى الله تعالى ، فهي نفع للعبد ، والله تعالى لا تنفعه طاعة ، وهو غني عن الناس ، لذا تنبغي العبادة لله ، فهي ذات شأن كبير ، وتستحق التهديد على تركها ، مع إعلامنا بمسؤولية كل إنسان عن نفسه فقط ، وإرشادنا إلى أن التبشير بالخير ، والإنذار بالشر ، إنما ينفع من خشي الله تعالى بالغيب ، وأقام الصلاة ، وزكّى وطهر نفسه من دخائل السوء. والمؤمن يحيا في نور ، والكافر يعيش في الظلام ، ومهمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تبشير المطيع بالجنة ، وإنذار المخالف بالنار ، وهو الواقع في كل أمة ، كما أن التكذيب من الأقوام قديم ، قال الله تعالى واصفا كل هذه المعاني والإرشادات :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ

٢٣٢

بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (١٨) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦)) (١) [فاطر : ٣٥ / ١٥ ـ ٢٦].

هذه مواعظ وإرشادات ، فيا أيها الناس جميعا ، أنتم المحتاجون إلى الله تعالى في كل شيء ، والله هو الغني الذي لا حاجة به لأحد ، وهو المحمود بالإطلاق المشكور على نعمه وعلى جميع ما يفعله ويقوله ، ويقدّره ويشرعه.

ودليل غناه وقدرته : أنه لو شاء لأفناكم ، وأتى بقوم غيركم ، هم أطوع لله منكم ، وأقوم وأتم ، وليس ذلك بصعب أو ممتنع على الله تعالى ، بل هو يسير هيّن عليه ، وهذا تهديد ووعيد.

والمسؤولية لكل إنسان شخصية أو فردية ، فلا تتحمل نفس آثمة ذنب نفس أخرى ، وذلك لا يمنع من مضاعفة العذاب للقادة المضلين. وكلمة (تَزِرُ) معناه تحمل الوزر الثقيل. وهذه الآية متعلقة بالذنوب والآثام والجرائم.

وإن طلبت نفس ، مثقلة بالأوزار والمعاصي ، مساعدة نفس أخرى في حملها ، لتحمل عنها بعض الذنوب ، لم تتحمل تلك النفس شيئا من ذنوب غيرها ، حتى ولو كانت قريبة لها في النسب ، كالابن والأب ، لأن كل إنسان مشغول بنفسه وحاله. وأنت أيها النبي تفيد دعوتك أهل التقوى ، وتفيد بوعظك الذين يخافون من عذاب ربهم قبل معاينته ، وفي خلواتهم السرية ، ويؤدون الصلاة المفروضة عليهم على النحو

__________________

(١) أي الكتب المكتوبة.

٢٣٣

المشروع ، تامة الأركان والشرائط ، ومن تطهر من الشرك والمعاصي ، وعمل صالحا ، فإنما يتطهر لنفسه ، لأن نفع ذلك يعود على نفسه ، لا على غيره ، وإلى الله المرجع والمآب ، وهو سريع الحساب ، يجازي كل امرئ بما كسب.

سبب هذه الآية أن الوليد بن المغيرة قال لقوم من المؤمنين : اكفروا بمحمد ، وعليّ وزركم ، فحكم الله تعالى بأن الأوزار لا يحملها أحد عن أحد.

ثم ضرب الله المثل للمؤمن والكافر ، فكما أنه لا يستوي الأعمى والبصير ، ولا الظلمة ولا النور ، ولا الظل ولا الحرور (شدة حر الشمس) كذلك لا يتساوى الكافر الذي عمي عن دين الله ، والمؤمن الذي عرف طريق الرشاد ، فاتبعه وانقاد له ، ولا تتساوى ظلمات الكفر ونور الإيمان ، ولا يتساوى الثواب والعقاب أو الجنة والنار.

ولا يتساوى المؤمنون أحياء القلوب والنفوس والمشاعر ، والكافرون أموات القلوب والحواس ، ومصدر الهداية هو الله تعالى ، فإن الله يرشد من يشاء إلى سماع الحجة وقبولها والانقياد لها ، والمشركون لا ينتفعون بهداية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن الكفر سيطر عليهم وأمات قلوبهم ، كما لا ينتفع الموتى في قبورهم بالهداية والإرشاد. وهذا تمثيل بما يحسه البشر ويشاهدونه ، فهم يرون أن الميت لا يسمع. وما أنت أيها النبي إلا رسول منذر عذاب الله ، ليس عليك إلا الإنذار والتبليغ ، وأما الهداية فهي بيد الله تعالى.

ولقد أرسلناك أيها الرسول بدعوة الحق الثابت المطابق للواقع ، مبشرا أهل الطاعة بالجنة ، ومنذرا الكافرين والعصاة بالنار.

ولم تخل أية أمة من الأمم السابقة من نذير منذر ، لئلا يكون للناس حجة أو عذر ، وإن يكذبك أيها الرسول قومك فقد كذبت الأمم الماضية أنبياءهم ، جاءتهم رسلهم

٢٣٤

بالمعجزات والأدلة على صدقهم ، وبالكتب المكتوبة ، كصحف إبراهيم وموسى ، وبالكتاب الإلهي النير الواضح ، كالتوراة والإنجيل.

ومع كل هذا ، كذبوا وعصوا ، فاستوجبوا العقاب والتهديد ، لذا أخذ الله الكافرين بالعقاب والتنكيل ، فكيف رأيت أيها النبي إنكاري عليهم بشدة وقوة؟!.

أدلة أخرى على قدرة الله وتوحيده

ما أكثر الأدلة الدالة على وجود الله تعالى وقدرته ووحدانيته ، ففي الكون مشاهد وألوان مختلفة ، منها العلوم الأرضية ، كإخراج الثمار ذات الألوان المتعددة بماء المطر ، وإيجاد الناس والدوابّ والأنعام المختلفة الألوان ، وبها يدرك العلماء عظمة الكون ، ويؤمنون بوجود الله تعالى ، ويعرف المؤمنون الذين يتلون القرآن الكريم ، ويقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة وينفقون من أموالهم في السر والعلانية : أن هذه الأعمال تحقق لهم القبول والثواب من الله تعالى على طاعتهم ، بل إنهم ينتظرون المزيد من فضل الله وإحسانه ، قال الله تعالى مبينا هذه الأدلة والبراهين :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠)) (١) (٢) [فاطر : ٣٥ / ٢٧ ـ ٣٠].

__________________

(١) الجدد : الطرق المختلفة الألوان.

(٢) أي وطرق سود غرابيب ، شديدة السواد.

٢٣٥

المعنى : ألم تشاهد أيها الإنسان أن الله خلق الأشياء المتفاوتة من الشيء الواحد ، فإنه سبحانه أنزل الماء من السماء ، وأخرج به ثمارا مختلفة الألوان والطعوم والأنواع ، والرؤية في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ) رؤية القلب ، وهي المراد في آيات القرآن.

وموضوع هذه الآية مثل آية : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤)) [الرعد : ١٣ / ٤]. وجعل الله بين الجبال طرقا ذات ألوان مختلفة ، بيضاء وحمراء وسوداء شديدة السواد ، وخلق الله أيضا الناس والدوابّ والأنعام (وهي الإبل والبقر والغنم) مختلفة الألوان في الجنس الواحد ، والنوع الواحد ، والحيوان الواحد ، كاختلاف الثمار والجبال.

وإنما يخاف الله بالغيب أهل العلم ، فهم الذين يتأملون في هذا الاختلاف بين المخلوقات ، ويدركون عظمة الصانع ، وقدرته على صنع ما يشاء ، وفعل ما يريد ، فمن كان أعلم بالله ، كان أخشى له ، ومن لم يخش الله فليس بعالم ، فالعلم رأس الخشية وسببها ، أخرج القضاعي عن أنس : «خشية الله رأس كل حكمة ..». وأخرج الحكيم الترمذي وابن لال عن ابن مسعود : «رأس الحكمة مخافة الله». وقال الله تعالى : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠)) [الأعلى : ٨٧ / ١٠]. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه عبد بن حميد وابن أبي ليلى : «أعلمهم بالله أشدهم له خشية». وقال مجاهد والشعبي : «إنما العالم من يخشى الله».

إن الله قوي قادر قاهر في كل شيء ، ومنها انتقامه من الكافرين ، وواسع المغفرة لذنوب عباده التائبين المؤمنين. والمراد بالعالم : هو عالم الطبيعة وطبقات الأرض ، والحياة ، والاجتماع ، والفلك ونحو ذلك. وأما العلماء بكتاب الله تعالى : فهم الذين

٢٣٦

يتلون آيات القرآن الكريم ، ويعملون بما اشتمل عليه من الفرائض والطاعات ، كإقامة الصلاة في أوقاتها ، والإنفاق من رزق الله وفضله في السر والعلانية ، والنفقة : الصدقات ووجوه البر ، فالسر من ذلك : التطوع ، والعلانية : هو المفروض.

وهؤلاء يطلبون ثوابا جزيلا من الله على طاعتهم. وقوله : (يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) معناه يطمعون في تجارة رابحة بما يعملون من عمل ، لن تكسد ويتعذر ربحها وهذا إشارة إلى الإخلاص في العمل.

ثم ذكر الله تعالى كيفية إيفائه الأجور ، فقال : (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ ..) والفعل (لِيُوَفِّيَهُمْ) متعلق بفعل مضمر تقديره : وعدهم بألا تبور تجارتهم إن فعلوا ذلك.

والمعنى : إن الله تعالى يوفي المؤمنين العاملين أجورهم كاملة ، ويزيدهم من فضله ، إما بمضاعفة الحسنات من العشر إلى السبع مائة ، وإما النظر إلى وجه الله الكريم ، وإما الشّفاعة في غيرهم لقوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ١٠ / ٢٦] ، إن الله تعالى واسع المغفرة لذنوبهم ، وافي الشكر لطاعتهم وللقليل من أعمالهم. والغفور : المتجاوز عن الذنوب الساتر لها. والشكور : المجازي على اليسير من الطاعة ، المقرب لعبده منه.

إن من أعجب الأدلة وأقواها على وجود الله ووحدانيته وقدرته : عظمة خلق المخلوقات من الجمادات والأراضي والجبال والطرقات ، وأنواع الحيوان ، والإنسان. وهذه الآية تتعلق بالعلوم العملية الطبيعية ، ويقصد بها إقامة الحجة على كفار قريش.

وأما أهل الإيمان والعمل الصالح العاكفون على تلاوة القرآن ، المقيمو الصلاة ، والمنفقون من طيبات الرزق بأداء الفريضة علنا ، وهي الزكاة ، والتطوعات والصدقات سرا ، فهم الراجون الثواب من الله ومزيد الفضل الإلهي ، والله سبحانه

٢٣٧

لا يضيع أجر المحسنين ، كما جاء في آيات أخرى ، منها : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء : ٤ / ١٧٣] ومنها : (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ ..) إلى قوله سبحانه : (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) [النور : ٢٤ / ٣٧ ـ ٣٨].

ورثة القرآن وجزاء المؤمنين

إن الاعتقاد بالقرآن الكريم يوجب التقيد بشرائعه وأحكامه وحلاله وحرامه ، إلا أن ورثة القرآن ثلاثة أنواع : إما ظالم لنفسه ، وإما مقتصد متوسط ، وإما سابق بالخيرات ، وجزاء السابقين المؤمنين جنان الخلد ، يحمدون المولى على نعمه وفضله ، ويجدون فيها النعيم المقيم ، والراحة الكبرى من عناء الدنيا ومعكراتها وأحزانها ، وتلك غاية كل إنسان في الحقيقة ، لكن تحقيق هذه الغاية مرهون بالعمل الصالح المؤدي إلى هذه الغاية ، لا بمجرد الآمال والأحلام ، قال الله تعالى مبينا هذه الأمور :

(وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥)) (١) [فاطر : ٣٥ / ٣١ ـ ٣٥].

__________________

(١) النصب : التعب ، واللغوب : الإعياء من التعب.

٢٣٨

الآية الأولى : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) تثبيت من الله تعالى لأمر نبيه وبيان لمنزلة القرآن ومهمته بين الكتب السماوية ، فالذي أوحينا إليك أيها النبي وهو القرآن المجيد : هو الحق الثابت الدائم المنزل إليك ، مصدقا ومؤيدا لما تقدمه أو لما بين يديه من الكتب السابقة ، وهو التوراة والإنجيل. إن الله محيط علمه بأمور عباده ، بصير مطّلع على أحوالهم. وهذا وعيد لمن أعرض عن القرآن وهجره إلى غيره.

ثم توارث معاني القرآن وعلمه وأحكامه وعقائده ، بقضاء الله وقدره ، جماعة من عباد الله وهم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم اختارهم لتحمّل عبء الرسالة القرآنية ، فكانوا أقساما ثلاثة :

ـ فمنهم الظالم لنفسه ، أي الذي تجاوز الحد ، وهو المفرّط في فعل بعض الواجبات المرتكب لبعض المحرمات ، وهو العاصي المسرف.

ـ ومنهم المقتصد : المتوسط المؤدي للواجبات ، التارك للمحرمات ، وهو المتقي للكبائر ، لكنه يرتكب بعض الصغائر ، ويترك بعض المستحبات المرغوب فيها.

ـ ومنهم السابق بالخيرات بإذن الله : وهو الذي يفعل الواجبات والمستحبات ، والمتقي على الإطلاق. وبإذن الله : معناه بأمره ومشيئته فيمن أحب من عباده.

والأصناف الثلاثة في الجنة بسبب الإيمان ، وتوريث الكتاب واصطفاء بعض الناس ليكونوا أمة الدعوة أمة محمد وما يكون من الرحمة : هو فضل عظيم من الله تعالى. وأورثنا : معناه أعطيناه فرقة بعد موت فرقة. أخرج الترمذي وحسنه والطبراني والبيهقي في البعث ، وغيرهم عن أسامة بن زيد رضي الله عنه : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ هذه الآية وقال : «كلهم في الجنة».

وجزاء المؤمنين المصطفين : أن يدخلهم ربهم جنات إقامة دائمة يوم المعاد ، يحلّون فيها أساور من ذهب ، مرصع باللؤلؤ ، ويكون لباسهم حريرا خالصا ، أباحه الله

٢٣٩

تعالى لهم في الآخرة ، بعد حظره على الرجال في الدنيا. ثبت في الصحيح : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من لبس الحرير في الدنيا ، لم يلبسه في الآخرة» وقال : «هي لهم في الدنيا ، ولكم في الآخرة».

وقال المؤمنون حين استقروا في جنات عدن : الحمد والشكر لله على ما أذهب عنا من الخوف من المخاطر والمحاذير ، وأراحنا من هموم الدنيا والآخرة ، إن ربنا صاحب الفضل والرحمة والسعة ، فهو غفور لذنوب عباده ، متجاوز عنها ، ساتر لها ، شكور لطاعتهم ، مجاز على اليسير من الطاعة ، مقرّب لعبده به ، قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره : غفر لهم الكثير من السيئات ، وشكر لهم اليسير من الحسنات.

وقالوا أيضا : الحمد لله الذي أعطانا هذه المنزلة ، ومتّعنا بهذه الإقامة ، وبدار المقامة : وهي الجنة ، بفضله وإحسانه ورحمته ، ولم تكن أعمالنا تساوي ذلك ، ولا نتعرض فيها لتعب ولا إعياء ، لا في الأبدان ولا في الأرواح ، لأنهم واظبوا على العبادة في الدنيا ، فصاروا في راحة دائمة في الآخرة ، كما قال الله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤)) [الحاقة : ٦٩ / ٢٤].

إن نعيم الجنة نعيم مادي حسي وروحاني معنوي ، وهو دائم خالد لا ينقطع ولا يزول ، وفيه يتمتع أهل الجنة بما لا يحلمون به ، وكل ذلك يستحق تمام الحمد والثناء على الله تعالى ، لإدراك هذه الحظوة التي لا مثيل لها ، ويغبطهم فيها كل بعيد عنها ، محروم منها.

جزاء الكافرين

بعد أن ذكر الله تعالى جزاء المؤمنين في الآخرة في جنان الخلد ، ذكر جزاء الكفار لعقد موازنة أو مقارنة بين الجزاءين ، فيقبل العاقل على ما يجعله من فريق المؤمنين

٢٤٠