التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٣

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٣

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0524-1
الصفحات: ٤٢٢

الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩)) [الأحزاب : ٣٣ / ٤٥ ـ ٤٩].

هذه مهمات أو وظائف سبع للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذكرت الآية الأولى منها ثلاثا : وهي الشهادة على أمته وغيرهم بالتبليغ إليهم ، والتبشير ، والإنذار ، فيا أيها النّبي المنزل إليك الوحي ، إنا كلفناك وأرسلناك شاهدا على أمّتك بالتبليغ إليهم ، وعلى سائر الأمم في تبليغ أنبيائهم ، ونحو ذلك ، وتبشر المؤمنين برحمة الله وبالجنة ، وتنذر العصاة والمكذبين من النار وعذاب الخلد. قال ابن عباس رضي الله عنهما فيما رواه ابن أبي حاتم وغيره : لما نزلت هذه الآية ، دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليّا ومعاذا رضي الله عنهما ، فبعثهما إلى اليمن ، وقال : «اذهبا فبشّرا ولا تّنفّرا ، ويسّرا ولا تعسّرا ، فإني قد أنزل علي ، وقرأ الآية».

والآية الثانية ذكرت وظيفتين للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهما الدعوة إلى الله ، وجعلك سراج النور المنقذ من ظلمة الكفر ، فيا أيها النّبي إنا جعلناك داعية الناس إلى الله بأمره في تبليغ التوحيد والأخذ به ، ومكافحة الكفر. وجعلناك أيضا ذا سراج تضمّنه شرعك لما فيه من النور ، لتخرج الناس من ظلمة الكفر إلى نور الحق والتوحيد والإيمان. فقوله : (وَسِراجاً مُنِيراً) استعارة للنور الذي يتضمنه شرعه ، فكأن المهتدين به والمؤمنين يخرجون بنوره من ظلمة الجهالة والكفر إلى الإيمان الحق. ووصف السّراج بالإنارة ، لتميّزه وإضاءته ، لأن بعض السّرج لا يضيء لضعفه.

ومفاد المهمة السادسة في الآية الثالثة : تبشير المؤمنين المصدّقين برسالتك بأن لهم فضلا كبيرا على سائر الأمم ، وأجرا عظيما.

أخرج ابن جرير الطبري في سبب نزول هذه الآية عن عكرمة والحسن البصري قالا : لما نزل : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الفتح : ٤٨ / ٢]. قال رجال من

١٨١

المؤمنين : هنيئا لك يا رسول الله ، قد علمنا بما يفعل بك ، فما ذا يفعل بنا؟ فأنزل الله : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ) الآية [الفتح : ٤٨ / ٥] ، وأنزل في سورة الأحزاب : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً).

والمهمة السابعة : لا تطع أيها النّبي الكافرين بنبوتك ، ولا المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ، واترك إيذاءهم وعقابهم ، أي اصفح عن زللهم ولا تؤذهم ، وفوّض أمرك إلى الله تعالى في كل ما تعمل وتذر ، وثق به ، فإن فيه كفاية لهم ، والله هو حافظك وراعيك ، وكفى بالله كافيا عبده ، وذلك حق مطلق : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) [الزّمر : ٣٩ / ٣٦].

ثم عاد البيان القرآني لتفصيل حكم عدة ومتعة المرأة غير المدخول بها ، بعد بيان عدة زينب المدخول بها ، في حال طلاقها ، فيا أيها المصدّقون بالله ورسوله ، إذا تزوجتم النساء المؤمنات ، ثم طلقتموهن قبل الدخول (أو البناء) بهن ، فليس لكم عليهن عدة تستوفون عددها ، ولكن قدّموا لهنّ بعد الطلاق تطييبا لخاطرهن متعة : وهي كسوة كاملة تليق بكم وبهن بحسب الزمان والمكان ، وطلقوهن طلاقا لا ضرر فيه ، بل إنه متّصف بجمال التسريح : وهو ألا يطالبها بما آتاها ، ويحسن عشرتها ، ويكلمها بكلام طيب دون أذى. فقوله : (تَعْتَدُّونَها) من العدّ. وتخصيص المؤمنات بالذّكر : (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ) إرشاد إلى الحرص على الزواج بالمؤمنات ، فإنهن أشدّ تحصينا للدين.

وهذه الآية خصّصت آيتين : إحداهما : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة : ٢ / ٢٢٨] فخصصت هذه الآية من لم يدخل بها ، وكذلك خصّصت من ذوات الثلاثة الأشهر : المرأة اليائس من الحيض ، والصغيرة التي لم تحض قبل الدخول في آية : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ ..) [الطّلاق : ٦٥ / ٤] فهاتان قبل الدخول لا عدة عليهما.

١٨٢

خصوصيات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الزواج

اقتضت ظروف النبوة وأحوال نشر الدعوة الإسلامية اختصاص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببعض الأحكام في الزواج بالنساء ، ومنها هبة المرأة نفسها للنبي من غير مهر ، وإعفاؤه من القسم بين الزوجات ، والاقتصار على زوجات تسع ، وهذا ما نصت عليه الآيات الآتية :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢)) [الأحزاب : ٣٣ / ٥٠ ـ ٥٢].

أحل الله تعالى لنبيه أن يتزوج كل امرأة يؤتيها مهرها ، وأباح له كل النساء بهذا الوجه ضمن قيود معينة ، وأباح له ملك اليمين ، وأباح له بنات العم والعمة والخال والخالة ممن هاجرن معه ، وخصص هؤلاء بالذكر تشريفا وتنبيها. ذكر الله تعالى في الآية الأولى أربع فئات من النساء المباحات للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الأولى : النساء الممهورات ، أي اللاتي أعطيت أجورهن ، والأجر في اللغة : المهر ، والفئة الثانية : ملك اليمين مثل صفية وجويرية وريحانة بنت شمعون النضرية ، ومارية القبطية أم إبراهيم. والفئة الثالثة : بنات العم والعمة والخال والخالة المهاجرات معه من مكة إلى المدينة. والفئة

١٨٣

الرابعة : المرأة الواهبة نفسها للنبي بغير مهر ، إن رغب النبي في الزواج بها ، والزواج بلفظ الهبة خصوصية للنبي دون المؤمنين هذه خصوصيات للنبي ، وقد علم الله حكم ما أحل من النساء لبقية المؤمنين من الزوجات والمملوكات المسبيات. وإباحة هؤلاء النساء لك أيها النبي لدفع الحرج والمشقة عنك ، ولتتفرغ لتبليغ رسالتك ، وكان الله وما يزال واسع المغفرة لك وللمؤمنين والمؤمنات ، ما لا يمكن التحرز عنه ، ورحيما بك وبالمؤمنين ، بدفع الحرج والمشقة ، وترك العقاب على ذنب تابوا عنه.

وسبب نزول هذه الآية : هو ما أخرج الترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ابن عباس عن أم هانئ قالت : خطبني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاعتذرت إليه ، فعذرني ، فأنزل الله : (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ ..) إلى قوله : (اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) فلم أكن أحلّ له ، لأني لم أهاجر.

وخير الله نبيه في القسم بين الزوجات دون إلزام ، فلك أن تؤخر المبيت عند من تشاء من زوجاتك ، أي هذه الأصناف كلها ، وتبيت مع من تشاء ، لا حرج عليك من ترك القسم لهن ، ومن طلبت إلى المبيت معك ممن تركت البيتوتة معهن ، فلا إثم ولا حرج عليك في ذلك ، كل ذلك أقرب إلى سرورهن وقرة أعينهن ، وعدم حزنهن ، ورضاهن كلهن بما تفعل ، دون قلق ولا عتاب ، والله تام العلم بالميل لبعضهن دون بعض ، من غير اختيار ، وكان الله وما يزال شامل العلم تام الحلم ، فلا يعاجل المذنب بعقاب ، حتى يتوب.

نزلت هذه الآية كما أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها : أنها كانت تقول : أما تستحي المرأة أن تهب نفسها!! فأنزل الله : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ ..) الآية ، فقالت عائشة : أرى ربك يسارع لك في هواك.

وبما أن ملك اليمين نادر ، فإن نساء النبي سررن بسبب تحريم بقية النساء على

١٨٤

النبي ، بنزول هذه الآية. ثم حرم الله تعالى على نبيه التزوج بغير الزوجات التسع اللاتي عنده ، فلا يحل لك أيها الرسول النساء بعد هؤلاء اللواتي عندك ، جزاء لاختيارهن الله ورسوله ، ولا يحل لك أيها النبي الاستبدال بهن غيرهن ، بأن تطلق واحدة منهن وتتزوج بأخرى ، وإن أعجبك حسنها ، إلا ملك اليمين ، كمارية القبطية التي أهداها المقوقس لك ، وكان الله وما يزال مطلعا على كل شيء ، مراقبا كل ما يكون من أي إنسان ، وكل ما يحدث في الكون ، فاحذروا مخالفة أوامره ، فإن الله يجازي كل امرئ بما كسب.

وسبب نزول هذه الآية : هو ما أخرج ابن سعد في الطبقات عن عكرمة ، قال : لما خيّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أزواجه اخترن الله ورسوله ، فأنزل الله تعالى : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ).

فهذه الآية نزلت مجازاة لأزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضا الله عنهن على حسن صنيعهن في اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة ، لما خيّرهن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

آداب دخول البيت النبوي

إن للبيوت عامة حرمة خاصة ، وتزداد هذه الحرمة وتتألق في بيوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لذا شرع الإسلام آدابا عامة في الدخول لبيوت الآخرين والخروج منها ، وآدابا خاصة بالبيت النبوي ، وفرض الحجاب على نساء النبي ، وتحريم الزواج بهن من بعده ، ومنع الاختلاط. وقد نزلت آية حجاب زوجات النبي أمهات المؤمنين ، كما ذكر قتادة والواقدي ، في صبيحة عرس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بزينب بنت جحش التي زوّجها الله من نبيه ، في ذي القعدة من السنة الخامسة. وهذه هي الآداب في الآيات القرآنية الآتية :

١٨٥

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً (٥٣) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥)) (١) [الأحزاب : ٣٣ / ٥٣ ـ ٥٥].

تضمنت الآية الأولى حكمين : الأول ـ الأدب في شأن الطعام والجلوس ، والثاني ـ أمر الحجاب. أما الحكم الأول ، فيا أيها الذين آمنوا أو صدقوا بالله ورسوله لا تدخلوا بيتا من بيوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كل الأحوال إلا بالإذن لتناول طعام ، غير منتظرين وقت نضجه ، فإذا نضج فادخلوا. فإذا دعيتم فادخلوا ، فإذا تناولتم الطعام فانتشروا في الأرض غير مستأنسين أو مشتغلين بلهو الحديث. إن دخولكم بيت النبي واشتغالكم بالحديث قبل نضج الطعام كان يؤذي النبي ، وإيذاؤه حرام ، وكان النبي يتضايق من ذلك ، ويكره أن ينهاكم عن ذلك من شدة حيائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والله لا يستحيي من بيان الحق ، وهو الأمر بالخروج من البيت ، ومنع البقاء فيه. وهذا أدب عام يشمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسائر المؤمنين.

نزلت هذه الآية فيما أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن أنس ، قال : لما تزوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زينب بنت جحش ، دعا القوم ، فطعموا ، ثم جلسوا يتحدثون ، وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام ، فلم يقوموا ، فلما رأى ذلك قام ، وقام

__________________

(١) أي منتظرين نضجه.

١٨٦

من القوم من قام ، وقعد ثلاثة ، ثم انطلقوا ، فجئت ، فأخبرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنهم انطلقوا ، فجاء حتى دخل ، وذهبت أدخل ، فألقى الحجاب بيني وبينه ، وأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ ..) الآية.

والحكم الثاني : هو حجاب زوجات النبي ، فكما نهيتكم عن الدخول إلى بيوت النبي من غير إذن ، ودون انتظار نضج الطعام ، كذلك نهيتكم عن النظر إلى زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا طلبتم منهن شيئا من الأمتعة ، كالمواعين وسائر مرافق الدين والدنيا ، فاطلبوه من وراء حجاب ساتر. ذلك الحجاب أطهر وأطيب للنفس ، وأبعد عن الريبة ، لقلوبكم ، وقلوبهن ، أي أطهر من الهواجس ووساوس الشيطان.

وذلك لأنه لم يصح لكم أن تؤذوا رسول الله وتضايقوه ، كالبقاء في منزله ، والاشتغال بالحديث ، وانتظار نضج الطعام ، ويحرم عليكم أبدا التزوج بنسائه بعد الفراق بموت أو طلاق ، تعظيما له ، إن إيذاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وزواج نسائه من بعده ذنب عظيم وإثم كبير. والبعد عن الإيذاء سرا وعلنا مطلوب ، فإنكم إن تظهروا شيئا من الأذى أو تكتموه ، فإن الله تام العلم به ، يعلم السرائر والخفايا ، والظواهر والأحوال كلها.

ثم استثنى الله من حكم حجاب أزواج النبي : المحارم ، فلا إثم ولا حرج على زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ترك الحجاب أمام الآباء والأبناء ، بسبب النسب أو الرضاع ، والإخوة وأبناء الإخوة والأخوات ، وأمام النساء المؤمنات ، والأرقاء من الذكور والإناث ، بعدا عن الحرج والمشقة في ذلك بسبب الخدمة. ودخل الأعمام في الآباء. والمرفوع فيه الإثم بهذه الآية : هو الحجاب كما قال قتادة ، أي يباح لهذه الأصناف الدخول على النساء دون الحجاب ، ورؤيتهن. وقال مجاهد : ذلك في وضع الجلباب وإبداء الزينة. ثم مع الإلزام بالحجاب أمر الله نساء النبي بالتقوى ، وتوعد على المخالفة

١٨٧

بقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) أي إن الله كان وما يزال مطلعا على كل شيء ، وفي ذلك منتهى التحذير من مخالفة الأمر والنهي الإلهي.

حكم إيذاء النبي والمؤمنين

لقد عظّم الله تعالى نبيه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأعلن الصلاة عليه ، أي رحمته ، وأمر المؤمنين بالصلاة والسلام عليه ، وهذا تشريف له ، وذكر الله منزلته عنده ، وحرّم إيذاءه بمخالفة أمره ، وعصيان نهيه ، والطعن في أهل بيته ، فإن المؤذين ملعونون في الدنيا ، معذبون في الآخرة ، وكذلك حرّم الله تعالى إيذاء أهل الإيمان ، وجعل ذلك مستوجبا للإثم الكبير ، وهذا ما أبانته الآيات الكريمة الآتية :

(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨)) [الأحزاب : ٣٣ / ٥٦ ـ ٥٨].

هذه الآية أظهرت مكانة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند الله والملائكة ، فإن الله يصلي على نبيه بالرحمة والرضوان ، والملائكة تدعو له بالمغفرة وعلو الشأن ، لذا فأنتم أيها المؤمنون مأمورون بالصلاة والسلام عليه تسليما كثيرا مباركا فيه. والصلاة من الله تعالى : رحمة منه وبركة ، وصلاة الملائكة : دعاء وتعظيم ، وصلاة الناس : دعاء واستغفار.

وصفة الصلاة على رسول الله : تظهر فيما أخرجه الشيخان وأحمد وغيرهم عن كعب بن عجرة رضي الله عنه : قال رجل : يا رسول الله ، أما السلام عليك فقد عرفناه ، فكيف الصلاة عليك؟ قال : قل : «اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد ، كما

١٨٨

صليت على إبراهيم ، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد».

والصلاة والسلام على النبي واجبة مرة في العمر ، عملا بالأمر المقتضي للوجوب ، وهو : (صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا) وهي حينئذ مثل كلمة التوحيد ، لأن الأمر لا يقتضي التكرار ، وإنما يدل على الماهية المطلقة عن قيد التكرار والمرة. ويسن الإكثار من الصلاة والسلام على رسول الله في المناسبات المختلفة ولا سيما في يوم الجمعة وعند زيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعد النداء للصلاة ، وفي صلاة الجنازة. أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رغم أنف رجل ذكرت عنده ، فلم يصلّ علي ..».

وشأن التشريف والتعظيم للنبي من الله وملائكته والأمر بالصلاة والسلام عليه ، يستوجب تحريم الأذى والإخلال بقدره ، لذا عقب الله ذلك بالتهديد بالعقاب لكل مؤذ ، فإن الذين يصدر منهم إيذاء الله ورسوله ، لعنهم الله في الدنيا والآخرة ، وطردهم من رحمته وأبعدهم عن كل خير ، وأعد لهم عذابا ذا إهانة وإذلال وتحقير في نار جهنم. وإيذاء الله معناه : الكفر به ، ونسبة الصاحب والولد والشريك إليه ، ووصفه بما لا يليق به.

أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عن أبي قتادة رضي الله عنه في الآية : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فيما يروي عن ربه عزوجل : «شتمني ابن آدم ، ولم ينبغ له أن يشتمني ، وكذبني ولم ينبغ له أن يكذبني ، فأما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولدا ، وأنا الأحد الصمد ، وأما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني» ، أي إنه ينكر البعث.

وإيذاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يكون بما يؤذيه من الأقوال والأفعال ، كأن يقال عنه : إنه ساحر ، أو شاعر ، أو كاهن أو مجنون. وروي عن ابن عباس : أن الآية نزلت في الذين طعنوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تزوجه صفية بنت حيي بن أخطب.

١٨٩

ثم ذكر الله تعالى عقاب المؤذين لأهل الإيمان ، فإن الذين يصدر منهم الأذى للمؤمنين والمؤمنات بالأفعال والأقوال القبيحة ، والبهتان ، والكذب الفاحش المختلق ، سواء فيما يمس العرض أو الشرف أو المال ، بأن ينسبوا إليهم ما لا علم لهم به ولم يفعلوه ، فإنهم تحملوا البهتان أي الفعل الشنيع ، أو الكذب الشائن ، وارتكبوا ما يوجب الوقوع في الإثم والذنب الواضح.

ومن أشد أنواع الأذى للمؤمنين : الطعن بالصحابة ، والغيبة ، واستباحة عرض المسلم ، والتعييب والتحقير ، والإنقاص ، والهمز واللمز ، والإتلاف والاعتداء على النفس والمال. ويستثني من ذلك حالة الرعاية والتأديب لأغراض شريفة أو كريمة.

إن صون حرمة المؤمن واجب شرعي ، وأدب أخلاقي كريم ، لا سيما في أثناء الغيبة.

وإن إيذاء الله بالكفر به ، وإيذاء الرسول بالطعن بشيء من تصرفاته ، أو الإساءة لأهله ، جرم عظيم وفعل شنيع.

الحجاب وجزاء المنافقين

لا يمكن لأحد الادعاء بأن المرأة ليست فتنة للرجل ، بشعرها وسواعدها وأرجلها وسائر جسدها ، بدليل إدامة النظر إليها ما لم يكن هناك شاغل أو مانع خلقي أدبي أو ديني ، والواقع خير شاهد ، ولا مكابرة فيه وبرهان ذلك الأمر الإلهي الدائم بغض النظر من الرجل والمرأة ، لذا نظم الشرع الحنيف العلاقة بين الرجل والمرأة ، فأقامها على الحق والعدل ، وصان المرأة من كل ذرائع الافتتان بها أو إيذائها ، وذلك بما لا داعي لستره وهو جميع جسدها ما عدا الوجه والكفين ، على المعتمد المحقق شرعا. وأما المنافقون فهم أداة إفساد وتفريق ، وداء مرضي ضار ، فكان من الطبيعي كشفهم

١٩٠

أمام المجتمع ، وزجرهم بما يستحقون ، وتهديدهم بالعقاب المناسب ، قال الله تعالى مبينا فرضية الحجاب الشرعي بحدوده المعتدلة وحكم أهل النفاق :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٦٢)) [الأحزاب : ٣٣ / ٥٩ ـ ٦٢].

يأمر الله النبي بتبليغ زوجاته وبناته ونساء المؤمنين بإرخاء الستر عليهن وتغطيتهن بالحجاب الشرعي : وهو الجلباب ، أي الرداء الساتر لجميع الجسد ما عدا الوجه والكفين ، وهو أدب حسن يبعد المرأة عن مظان التهمة والريبة ، ويحميها من أذى الفساق ، ويميز الحرائر عن الإماء كما كان في الماضي ، وكان الله وما يزال واسع المغفرة لما سلف من إهمال التستر ، عظيم الرحمة بعباده ، حيث أرشدهم إلى هذا الأدب الرفيع فقد كانت عادة العربيات في الجاهلية التبذل في الستر ، وكشف مواطن الزينة ، فبدل الإسلام بالتبرج : الصون والستر المناسب.

روي أنه كان في المدينة قوم يجلسون على الصّعدات (١) (كالمصاطب) لرؤية النساء ومعارضتهن ومراودتهن ، فنزلت الآية بسبب ذلك.

ثم توعد الله المنافقين (الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر) فلئن لم يكفوا عما هم عليه من النفاق فلنسلطنك عليهم ، هم والذين في قلوبهم مرض (وهو شك وريبة في أمر الدين وحب الزنا) وأهل الإرجاف في المدينة (وهم قوم من المنافقين كانوا يتحدثون بغزو العرب المدينة ، بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيغلب ،

__________________

(١) جمع صعدة وهي القناة المستوية المستقيمة.

١٩١

ونحو هذا مما يضعف نفوس المؤمنين) ثم لا يجاورونك أيها النبي إلا جوارا قليلا ووقتا قليلا.

وهم في حال إقامتهم في المدينة زمنا قليلا يكونون مطرودين من رحمة الله ، منبوذين ، أينما حوصروا وقدر عليهم ، أسروا وأخذوا أذلاء ، وقتلّوا شر تقتيل ، فلم يجدوا أحدا يؤويهم ، بل ينكل بهم ويؤسرون.

وهذا الحكم وهو لعن المنافقين وأسرهم وتقتيلهم وتسليط المؤمنين عليهم وقهرهم ، هو سنة الله وطريقته في المنافقين في كل زمن مضى ، وهم منافقو الأمم ، ولا تبديل ولا تغيير لسنة الله ونظامه ، لقيامها على الحكمة والمصلحة وصلاح الأمة ، بل هي سنة ثابتة دائمة في أمثال هؤلاء مدى الزمان. وقوله تعالى : (سُنَّةَ اللهِ) منصوب على المصدر ، أي استنوا بسنة الله تعالى.

يلاحظ من هاتين الآيتين أن الحجاب الشرعي ذا الحدود المعتدلة من غير إفراط ولا تفريط مظهر حضاري كريم ، لا يعوق نشاط المرأة ، وإسهامها في كل عمل حيوي يفيد المجتمع والأمة.

ويلاحظ أيضا أن الأوصاف الثلاثة : وهي النفاق ، ومرض القلب ، والإرجاف موجودة كلها في المنافقين. وهم خطر على الأمة في عقيدتها ، وفي سلمها وحربها ، فهم كالسوس ينخر في جسم الأمة ، وهم في السّلم جرثومة فتك وأداة تخريب وتفريق ، وفي الحرب أداة إضعاف وإشاعة السوء ، وزعزعة المقاتلين ، وهم في الواقع عون للأعداء على المسلمين ، مما يجب التخلص منهم ، وعقابهم أشد العقاب ، كما قال تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) [النساء ٤ / ١٤٥].

١٩٢

جزاء الكفار

اصطدمت الدعوة الإسلامية إبّان ظهورها بحاجز صلب من شرك المشركين الذين جعلوا مع الله إلها آخر ، وأنكروا النبوة وإرسال النبي ، وجحدوا بوجود يوم القيامة ، وأخذوا في توجيه أسئلة التحدي والعناد ، والتشكيك بأصول الدين والعقيدة ، وحاولوا طمس معالمها ، وتوهين بنيتها ، فسألوا سؤال مكابرة عن تحديد موعد القيامة ، فاستحقوا التهديد والوعيد بالعذاب الأليم ، والتعرض لشيّ الوجوه والجلود بالنار ، وبادروا في الآخرة لإظهار الندم على ترك إطاعة الله والرسول ، وملازمتهم تقليد الآباء والسادة ، وطالبوا بمضاعفة العذاب على سادتهم ، وهذا ما صرحت به الآيات الكريمة الآتية :

(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨)) [الأحزاب : ٣٣ / ٦٣ ـ ٦٨].

سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن وقت الساعة (القيامة) متى هو؟ فلم يجب في ذلك بشيء ، ونزلت الآية آمرة أن يردّ العلم فيها إلى الله ، إذ هي من مفاتيح الغيب التي استأثر الله بعلمها.

وهذا السؤال والجواب في حال الاستفسار بحسن نية. لكن تساءل الناس المشركون سؤال تهكم وسخرية واستهزاء ، ومعهم المنافقون سؤال تعنت وتنطع ، ثم اليهود سؤال امتحان واختبار ، فأجابهم الله ونبيه بأن علمها محصور بالله تعالى. ثم توعدهم بقربها بقوله : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) أي ينبغي أن تحذر ، فما

١٩٣

يعلمك بها ، فإنها من المغيبات المختصة بالله تعالى ، وربما توجد في وقت قريب. وهذا تهديد للمستعجلين ، وتوبيخ لأهل التعنت والتهكم والاختبار. وقوله تعالى : (تَكُونُ قَرِيباً) القريب : لفظة واحد ، تطلق على الجمع والإفراد والتذكير والتأنيث.

ثم توعد الله الكافرين بعذاب لا ولي لهم فيه ولا ناصر ، ومضمونه : إن الله تعالى طرد الكافرين وأبعدهم عن رحمته ، وهيّأ لهم في الآخرة نارا شديدة الاستعار والإحراق. وهم في نار جهنم وعذابها خالدون مخلّدون ، ماكثون فيه على الدوام ، ولا يجدون من يواليهم ويناصرهم وينقذهم أو يخلّصهم من ذلك العذاب.

وأما أوصاف العذاب : فهي رهيبة جدا ، إن الكافرين يجرّون في النار على وجوههم ، ويتقلّبون فيها كاللحم المشوي على النار ، ويظهرون أشد الندامة قائلين : يا ليتنا أطعنا الله ورسوله فيما أمر ونهى. كما جاء في آية أخرى : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) [القمر : ٥٤ / ٤٨]. وقال سبحانه : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) [الفرقان : ٢٥ / ٢٧].

ثم أعلن الكافرون سبب انحراف اعتقادهم ، ولاذوا بالتشكي من كبرائهم في أنهم أضلوهم ، فقالوا وهم في عذاب جهنم : يا ربنا لقد أطعنا في الشرك والكفر رؤساءنا وقادتنا وعظماءنا وعلماءنا ، وخالفنا الرسل ، فأضلونا عن طريق الهدى بما زيّنوا لنا من الكفر بالله ورسوله. يا ربنا عذبهم عذابا مضاعفا : عذاب الكفر ، وعذاب إضلال غيرهم وإغوائهم إيانا ، أي عذبهم عن أنفسهم وعمن أضلوا ، وأبعدهم عن رحمتك بعدا كبيرا. وإضلال السبيل : يراد به سبيل الإيمان والهدى ، واللعن الكبير : أي العنهم مرات كثيرة.

إذا كان هذا هو مصير الضالين والمضلين في الآخرة ، فلم لا يبادر الفريقان إلى

١٩٤

ترك الضلال والإضلال ، فالداعي إلى الضلال يقلع عن مساعيه الشريرة في إضلال الآخرة ، والمدعو للضلال يتخلص من تأثيرات المضلين ، ويبتعد عن أقوالهم وأفعالهم وجميع إغراءاتهم وأضاليلهم ، فإذا فعلوا ذلك في الدنيا دار التكليف والاختبار ، نجّوا أنفسهم من سوء العذاب وسوء المصير.

تحريم الإيذاء وأداء الأمانات

لقد زخر القرآن العظيم بتوجيهات المؤمنين إلى أقوم السبل ، مبتدئا من التخلي عن الحرام ، وذلك بتحريم الإيذاء ، ثم تقويم النفوس على هدي الله وتقواه بالتزام الأوامر واجتناب النواهي ، ثم تحريض كل إنسان على أداء أمانة التكليف الإلهي على أقوم الوجوه وأسلم الطرق ، فيؤول أمر الناس أو يصير إلى إثابة المؤمنين المستقيمين على درب الطاعة ، وتعذيب الكافرين والمنافقين والمشركين الوثنيين. وهذه عملية إفراز وعزل ، يتميز بها كل فريق عن الآخر ، بالمزايا أو الصفات التي تؤهله إلى مصير معين : حسن كريم ، أو سيّئ مشؤوم ، قال الله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣)) [الأحزاب : ٣٣ / ٦٩ ـ ٧٣].

تميزت هذه الآيات بأدب الخطاب الإلهي ، لابتدائها بوصف المخاطبين بالإيمان ، فيا أيها المصدقون بالله ورسوله ، لا تؤذوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقول أو العمل ، مما

١٩٥

يكرهه ، فتكونوا كالذين آذوا موسى ، وهم قوم من بني إسرائيل ، فبرأه الله من اتهامهم الباطل ، وكان موسى عليه‌السلام وجيها عند الله ، أي مكرم الوجه.

وإيذاء موسى : هو ما تضمنه حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المشهور ، الذي أخرجه البخاري ، ومسلم بمعناه ، قال : «كان بنو إسرائيل يغتسلون عراة ، وكان موسى عليه‌السلام يتستر كثيرا ، ويخفي بدنه ، فقال قوم : هو آدر (منتفخ الخصية) أو أبرص (والبرص : بياض يظهر في الجسد لعلّة) أو به آفة (والآفة : كل ما يصيب شيئا فيفسده ، من عاهة أو مرض أو قحط) فاغتسل موسى يوما وحده ، وجعل ثيابه على حجر ، ففرّ الحجر بثيابه واتّبعه موسى يقول : ثوبي حجر ، ثوبي حجر (أي اترك ثوبي يا حجر) فمرّ في أتباعه في ملأ من بني إسرائيل فرأوه سليما مما ظنّ به». فبرأه الله مما قالوا.

هذا هو التوجيه الأول : وهو نهي المؤمنين عن إيذاء الرسول ، والتوجيه الثاني هو : الأمر بالتقوى ، فيا أيها المؤمنون بالله ورسوله ، اتقوا الله في كل الأمور باجتناب معاصيه ، والتزام أوامره ، وقولوا القول السديد ، أي الصواب والحق في كل أموركم ، فإذا فعلتم ذلك أصلح الله لكم أعمالكم ، وهو قبولها وإثابتكم بالجنة دار الخلود ، وغفر لكم ذنوبكم الماضية. وهذا وعد من الله تعالى بأنه يجازي على القول السّداد ، بإصلاح الأعمال ، وغفران الذنوب ، ثم حرّض الله تعالى على الطاعة ، فمن يطع أوامر الله والرسول ، ويجتنب النواهي ، فقد نجا من النار ، وفاز أعظم فوز بالجنة.

ومما لا شك فيه أن المسؤولية عن التكاليف حساسة وخطيرة وثقيلة ، فقد عرض الله الأمانة ، أي التكاليف الإلهية كلها من فرائض وطاعات ومنهيات على أرجاء السماوات والأرض ، فأعرضت عن حمل مسئوليتها ، خوفا من حملها ، وتحملها الإنسان مع ضعفه ، ولكنه لم يقدّر ذلك الحمل ، فكان ظلوما لنفسه ، جهولا بقدر ما

١٩٦

يحمله. والإنسان هو ابن آدم ، كما قال جماعة كابن عباس والضحاك وغيرهما. والأمانة : كل شيء يؤتمن الإنسان عليه ، من أمر ونهي ، وشأن دين ودنيا ، فالشرع كله أمانة. ولام (لِيُعَذِّبَ اللهُ) هي لام العاقبة أو الصيرورة. لأن الإنسان لم يحمل الأمانة ليقع في العذاب ، ولكن حمل ذلك فصار الأمر وآل إلى أن يعذّب من نافق أو أشرك ، وأن يتوب على من آمن.

وكان من عاقبة التكليف والرضا به هو انقسام الناس إلى فريقين : طائعين وكافرين ، فيعذب الله فريق المنافقين والمنافقات ، والمشركين والمشركات ، لخيانتهم الأمانة وتكذيب الرسل ، ونقض الميثاق ، ويثيب الله المؤمنين والمؤمنات بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر ، العاملين بطاعة الله ، وكان الله تعالى وما يزال واسع المغفرة للمقصرين التائبين ، كثير الرحمة لخلقه إذا أقبلوا على ربهم ، واستدركوا أخطاءهم.

١٩٧

تفسير سورة سبأ

إثبات البعث

يفتتن الناس عادة بالقوة ، ويمجدون الأقوياء ، ويتعاطفون مع الأبطال ، ويتابعون مشاهد بطولاتهم في أعمالهم ، وما يلحقون به غيرهم من هزائم منكرة ، ولكنهم مع الأسف الشديد لاهون ، غير متأملين بمن هو مصدر القوة كلها جميعا في السماوات والأرض. وأبين دليل على قوة الله وعزته وسلطانه : خلقه السماوات والأرض ، والإنسان في أقوم خلقه وأشدّ تركيب ، وأحكم انسجام بين أجزاء جسده. قال الله تعالى مدللا على قدرته ، وإثبات البعث ، في مطلع سورة سبأ المكية ، إلا قوله تعالى : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) قيل : هي مكية ، والمراد : المؤمنون بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : هي مدنية ، والمراد من أسلم بالمدينة من أهل الكتاب كابن سلام وأشباهه :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥)) (١) (٢) [السبأ : ٣٤ / ١ ـ ٥].

__________________

(١) لا يغيب.

(٢) الرجز : سيئ العذاب أو أشده ، فهو العذاب السيئ جدا.

١٩٨

الشكر والحمد المطلق التام لله مالك السماوات والأرض وما فيهما ، والمتصرف بشؤونهما ، له الحمد في الآخرة كالدنيا ، لأنه المنعم المتفضل على أهل الدنيا والآخرة بنعمه الكثيرة ، وهو الحكيم في أقواله وأفعاله ، وشرعه وقدره ، يدبّر شؤون خلقه أحكم تدبير ، وهو خبير ببواطن الأمور وظواهرها.

والألف واللام في كلمة (الْحَمْدُ) لاستغراق الجنس ، أي الحمد بأنواعه المختلفة هو لله تعالى من جميع جهات الفكر.

والصفات التي تستوجب المحامد هي في الآية : ملكه جميع ما في السماوات وما في الأرض ، وعلمه المحيط بكل شيء ، وخبرته وحكمته بالأشياء ، لخلقه إياها ، ورحمته بأنواع خلقه ، وغفرانه لأهل الإيمان.

ولله أيضا كل الحمد في الآخرة ، فاللام والألف للجنس أيضا ، وهو خبر يفيد أن لله وحده الحمد في الآخرة ، لإنعامه وأفضاله ورحمته ، وظهور قدرته ، وغير ذلك من صفاته.

والله يعلم كل ما يدخل في الأرض ، كالغيث والكنوز والدفائن والأموات ، ويعلم ما يخرج من الأرض ، كالحيوان والنبات والماء والمعادن. ويعلم ما ينزل من السماء كالملائكة والكتب والأرزاق ، والأمطار ، والصواعق ، وما يعرج فيها كالملائكة أيضا ، وأعمال العباد والغازات والأدخنة ووسائل النقل الجوي ، والطيور ، والله هو الرحيم بعباده ، فلا يعاجل عصيانهم بالعقوبة ، الغفور لذنوب التائبين إليه ، المتوكلين عليه.

ولكن أنكر الكفار قيام القيامة ، فقالوا استعجالا منهم واستهزاء بالوعيد : لن تقوم الساعة ، ولا حساب ، ولا حشر ، ولا جنة ، ولا نار ، فرد الله : قل أيها النبي

١٩٩

لهم : بلى والله لتأتينكم بلا شك أو ريب. وهذا في غاية التأكيد ، بسبب القسم بالله ، وتأكيد الفعل باللام ، وبنون التوكيد الثقيلة.

والله القادر على البعث : عالم بالغيبيات ، لا يغيب عنه شيء من الموجودات ، ولو كان أصغر شيء كالذرة ، يعلم الأصغر والأكبر ، وكل ذلك ثابت علمه ، ومدوّن في كتاب واضح ، وهو اللوح المحفوظ ، وبما أن العلم بالمغيبات ثابت لله تعالى ، فاقتضى إمكان البعث.

وقيام الساعة ضروري للحساب وإحقاق الحق والعدل بين الناس ، من أجل إثابة المؤمنين الذي يعملون العمل الصالح : وهو الفرائض وكل ما أمروا به ، واجتناب كل ما نهوا عنه ، وأولئك لا غيرهم لهم المغفرة ، أي محو الذنوب ، والرزق الكريم : وهو الجنة. وهذا هو الفريق الأول. وهو ضروري أيضا من أجل عقاب الكفار المعاندين الذين حاولوا إبطال آيات القرآن ، وأدلة البعث ، ظانين أنهم يفلتون من العقاب ، وأولئك لا غيرهم لهم عذاب مؤلم شديد في نار جهنم ، وهو أسوأ العذاب وأشده.

إن تصور عالم الآخرة الرهيب الذي لا بد من وقوعه بعلم الله تعالى وقدرته وحكمته ، والنظر في مصائر الخلائق ، وفصل الحساب بينهم وتصنيفهم إلى أهل الجنة وأهل النار ، كل هذا مدعاة للتأمل في هذا المصير المحتوم والإعداد له بحسن الأعمال ، وتجنب سوء الأفعال.

موقف المؤمنين والكافرين من البعث والنبوة

تفاوتت مواقف المؤمنين والكافرين من النبوة والبعث تفاوتا كبيرا ، واختلفوا اختلافا صارخا ، فأهل الإيمان والعلم يرون الوحي المنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حقا ، وأنه يهدي إلى صراط مستقيم ، وأن البعث حق ، وأهل الكفر والجهل يرون الوحي كذبا ،

٢٠٠