التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٣

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٣

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0524-1
الصفحات: ٤٢٢

صدقها ، على معنى إقامة الحجة والتقرير ، فتجيب بأنها قد صدقت الله تعالى في إيمانها وجميع أفعالها ، فيثيبها الله على ذلك. وفرقة كفرت ، فينالها ما أعد لها من العذاب الأليم. إن إنزال الشرائع بقصد الاختبار ، ليعرف المؤمنون الصادقون ، ويتميز الكافرون الجاحدون ، بعد اختيار كل فريق اتجاهه. والصدق في هذه الآية : إما المضاد للكذب في القول ، وإما صدق الأفعال واستقامتها.

والكلام مشعر بضرورة اختيار الأفضل ، وهو الإيمان الصحيح لتحقيق النجاة والفلاح ، وترك أضداد الإيمان ، من الكذب والنفاق والشرك والرياء.

أحداث غزوة الخندق

ـ ١ ـ

تجمع الأحزاب والمنافقين

نزلت في سورة الأحزاب آيات بينات في شأن غزوة الخندق وما اتصل بها من أمر بني قريظة في السنة الخامسة من الهجرة ، حيث اجتمع حول المدينة عشرة آلاف أو أكثر ، وهو أكبر تجمع للمشركين واليهود وأهل الكتاب ، للقضاء على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحبه ، وهي تظاهرة خطيرة ، بعد إجلاء يهود بني النضير من المدينة ، فخرجوا إلى مكة مستنهضين قريشا إلى حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجسّروهم على ذلك ، فتجمعت جموع قريش من كنانة وغطفان وبني أسد وأهل نجد وتهامة واليهود ، وتحزبوا وأزمعوا السير إلى المدينة بقيادة أبي سفيان بن حرب ، فعلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، فحفر الخندق حول ديار المدينة وحصّنه ، وكان أمرا لم يعهده العرب ، وإنما كان من أعمال فارس والروم ، وأشار به سلمان الفارسي رضي الله عنه ، وجاء وصف هذه الغزوة في الآيات الآتية :

١٦١

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥)) (١) [الأحزاب : ٣٣ / ٩ ـ ١٥].

المعنى : يا أيها المصدقون بالله ورسوله ، اذكروا بالشكر والحمد نعمة الله التي أنعم بها عليكم ، حين وقعتم في حصار جنود وحشود هائلة من قريش وغطفان واليهود وغيرهم ، الذين جاؤوا لإبادتكم ، فأرسلنا عليهم ريحا باردة في ليلة شاتية ، وجنودا ملائكة لم تروها ، أرعبتهم ، فأكفأت القدور ، وقلبت البيوت ، وآثروا فك الحصار والنجاة ، وكان الله مطلعا على جميع أعمالكم من حفر الخندق ، والتعرض للشدائد ، والاستعداد للقتال ، والله يجازيكم عليها.

واذكروا حين جاءتكم الأحزاب من أعلى الوادي جهة المشرق ، ومن أسفل الوادي جهة المغرب ، ومالت الأبصار عن موازينها ، فلم تلتفت لكثرة العدو ، وصرتم في حال رهيبة من شدة الخوف والفزع ، وتظنون ألوان الظنون الحسنة والسيئة ، أي تكادون تضطربون ، فمنكم المؤمن الثابت ، ومنكم المنافق المتردد المضطرب ، وتقولون : ما هذا الخلف للوعد؟ وحينئذ اختبر الله المؤمنين ، فظهر المؤمن المخلص ، والمنافق الكاذب ، واضطربوا اضطرابا شديدا من الفزع وتهديدات العدو.

__________________

(١) أي غير حصينة.

١٦٢

واذكروا حين قال المنافقون وضعفاء الإيمان لحداثة عهدهم بالإسلام ما وعدنا الله ورسوله من النصر على العدو إلا خداعا ووعدا باطلا زائفا ، لا حقيقة له. والقائل : جماعة من اليهود والمنافقين نحو سبعين رجلا.

واذكروا أيضا حين قالت طائفة من المنافقين : يا أهل المدينة ، لا مجال لإقامتكم مع محمد وعسكره ، ولا قرار لكم هنا ، فارجعوا إلى بيوتكم في المدينة ، لتسلموا من القتل والاستئصال.

ويطلب في هذه الحال الرهيبة فريق من المنافقين الإذن في العودة إلى بيوتهم في المدينة ، قائلين : إن بيوتنا ليست محصّنة ، وهذا كذب وليست كذلك ، بل هي حصينة خلافا لما يزعمون ، وإنما قصدهم الهرب والفرار.

والواقع أنهم ضعاف الإيمان ، فلو دخل عليهم الأعداء من جوانب المدينة ، واشتد الخوف الحقيقي ، ثم طلب منهم العودة صراحة إلى الكفر ، لفعلوا ذلك سريعا. ولم يمكثوا للجهاد إلا زمنا يسيرا ، ممتلئا بالخوف والذعر. وقوله : (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ) أي محاربة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه. والأقطار : النواحي.

ولقد كان هؤلاء المنافقون ، وهم بنو حارثة ، عاهدوا الله يوم أحد قبل هذه المخاوف ألّا يولوا الأدبار ، وألا يفروا من الزحف ، ولكن الله يسألهم عن ذلك العهد والوفاء به يوم القيامة ، ويجازيهم على نقضه. وقوله تعالى : (وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) معناه مطلوبا مقتضى ، حتى يوفى به ، وفيه توعد لقريش وأنصارهم.

إن هذا الوصف لأحوال التجمع القرشي حول المدينة ، يقتضي تذكر الأهوال وإدراك المخاطر ، ثم المبادرة إلى الشكر وحمد الله على نعمته وفضله ، إذ نجى الله المؤمنين ، وهزم الكافرين الأحزاب وحده تعالى.

١٦٣

غزوة الخندق

ـ ٢ ـ

توبيخ المنافقين

استحق المنافقون الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر اللوم والتوبيخ الشديد ، وافتضاح شأنهم وعلم الله بهم ، وبيان صفاتهم السيئة ، من البخل ، والجبن ، وسلاطة اللسان ، والاعلام بأنهم في الحقيقة غير مؤمنين ، وأنهم من شدة خوفهم ظنوا أن الأحزاب لم يرحلوا ولم ينهزموا ، وإن عادوا إلى القتال لتمنوا الخروج من المدينة إلى البادية ، وإن قاتلوا مع المؤمنين لم يقاتلوا إلا قتالا يسيرا ، بسبب انهزامهم الداخلي وفقد الثقة بالنفس. وهذه آيات كريمات تبين هذه الأحوال ، قال الله تعالى :

(قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠)) [الأحزاب : ٣٣ / ١٦ ـ ٢٠].

هذه تهديدات مبطنة وظاهرة ، وتوبيخات شديدة لأولئك الذين نافقوا ولم يؤمنوا ، أخبرهم أيها النبي أن الفرار لا ينجي من القدر ، وأنهم لا يمتّعون في عالم الدنيا إلا تمتعا قليلا ، أو زمانا يسيرا بل تنقطع أعمارهم في يسير من المدة. والقليل المستثنى : هو مدة الآجال المقررة.

١٦٤

وقل لهم أيها الرسول ، لا أحد يستطيع أن يمنعكم من مراد الله بكم ، أو دفع السوء عنكم إذا قدّره الله عليكم ، أو جلب الخير والنفع لكم إن أراده الله ، ولن يجد هؤلاء المنافقون ومؤيدوهم مجيرا ولا نصيرا ينصرهم أو يشفع لهم.

ثم حذرهم الله تعالى بدوام علمه بالخائنين ، ووبخهم بإخبار نبيه أن الله يعلم الذين يعوقون الناس عن نصرة الرسول ، ويمنعونهم بالأقوال والأفعال ، ويعلم القائلين لإخوانهم وأصحابهم من أهل المدينة : تعالوا إلى ما نحن فيه من الإقامة في البساتين تحت الظلال والثمار ، واتركوا محمدا والحرب معه ، ولا يأتي المنافقون الحرب أو القتال ، إلا زمنا قليلا أو شيئا يسيرا إذا اضطروا إليه ، خوفا من الموت أو القتل. وهلم : بمعنى أقبل.

وصفات هؤلاء المنافقين الشخصية قبيحة جدا :

فهم أولا : قوم بخلاء أشحة بأنفسهم وأموالهم وجميع أحوالهم ، لا يقدّمون منفعة للمؤمنين ولا لغيرهم بحق.

وهم أيضا جبناء ، فإذا ظهرت أمارات الخوف من العدو في بدء المعركة والقتال ، لاذوا بك أيها النبي ، ورأيتهم ينظرون إليك ، كما ينظر المغشي عليه من معالجة سكرات الموت ، حذرا وخورا وضعفا ، فإذا ذهب ذلك الخوف العظيم ، بدت منهم سلاطة اللسان وتفاخروا بأنهم أهل النجدة والشجاعة ، وهم في ذلك كاذبون مراوغون ، وسبب هذه السلاطة أنهم لا خير فيهم ولا منهم ، قد جمعوا بين الجبن والكذب ونضوب الخير ، فهم جبناء في الحالين : حال البأس أو الشدة ، وحين جمع الغنيمة.

وسبب مرضهم الشديد الذي ينخر العظام أنهم فاقدو الإيمان ، فهم غير مصدقين بالله ورسوله ، وإن لم يظهروا الإيمان لفظا ، فأبطل الله أعمالهم التي كانوا يأتون بها

١٦٥

في الظاهر مع المسلمين ، وكان ذلك الإحباط أو الإبطال لثمرة الأعمال سهلا هينا عند الله تعالى ، بمقتضى عدله وحكمته.

وهذه الصفات القبيحة ملازمة لهم ، فهم يظنون من شدة الخوف والفزع الذي ملأ قلوبهم أن أحزاب الكفر من قريش وغطفان وبني قريظة ، لم يرحلوا عن المدينة ، ولم ينهزموا ، وأنهم عائدون إلى الحصار. وإذا استعد الأحزاب لقتال المؤمنين ، تمنوا ألا يكونوا حاضرين معهم في المدينة وبين المقاتلين الصامدين ، بل يكونون في البادية ، يترقبون الهزيمة للمؤمنين ، ويسألون عن أخبارهم وما كان من أمرهم مع العدو ، شماتة بهم ، وانتظارا لإيقاع الشر والسوء بهم ، وجبنا وخوفا شديدا ، وغرضهم من البداوة : أن يكونوا سالمين من القتال ، ولو كانوا موجودين مع المؤمنين في ساحة المعركة ما قاتلوا إلا قتالا يسيرا ، لجبنهم وخوفهم ، وهذا إيناس للنبي ، وتحقير لشأن المنافقين.

غزوة الخندق

ـ ٣ ـ

حال المؤمنين في القتال وغيره

كان أهل الإيمان الحق مثلا أعلى في الشجاعة والبطولة والصبر على لقاء الأعداء ، والصدق في المواقف كلها ، والتأسي التام بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم القدوة الحسنة ، ولم تكن الأحداث تزيدهم إلا صلابة في الموقف وإصرارا على تحدي الأعداء ، فاستحقوا أفضل الجزاء في الدار الآخرة ، كما استحق المنافقون العذاب ، والمشركون الهزيمة المنكرة والخيبة والفشل ، وقد سجل القرآن العظيم هذه الأحوال المتباينة ، وذلك في الآيات الآتية :

١٦٦

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧)) (١) [الأحزاب : ٣٣ / ٢١ ـ ٢٧].

أوجب الله تعالى على كل مسلم أن يقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام ، حين قاتل وصبر وجاد بنفسه ، في وقعة الأحزاب وغيرها ، والمعنى : لقد كان لكم معشر المؤمنين ، أسوة أي قدوة صالحة يقتدى به وهو رسول الله ، فهو مثل أعلى لكم في الشجاعة والإقدام ، إذا كنتم تريدون ثواب الله وفضله على العمل الصالح ، وتخشون الله وحسابه ، وتذكرونه ذكرا كثيرا في جميع الأوقات ، حبا به سبحانه وتعظيما له ، وخشية منه ، وطمعا في فضله ورحمته ، فإن ذكر الله تعالى دافع لطاعته ، ومانع من نقمته ، والتأسي برسوله. وهذا عتاب للمتخلفين ، وإرشاد للتأسي برسول الله. وبما أن ذكر الله من خير الأعمال نبّه عليه الحق سبحانه وتعالى.

وموقف المؤمنين يختلف عن المنافقين ، فحينما شاهد المؤمنون فئات الأحزاب وجموعهم الحاشدة قالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله من الاختبار بمجابهة الأعداء ثم يعقبه النصر القريب ، وصدق الله ورسوله الوعد بالنصر ، وما زاد المؤمنين تجمع

__________________

(١) حصونهم.

١٦٧

الأعداء وتكاثرهم لحربهم ، وصبرهم على البلاء ، إلا إيمانا بالله ورسوله ، واستسلاما لقضائه وقدره ، وانقيادا لأمره ونهيه. والتسليم : الانقياد لأمر الله تعالى كيف جاء.

ويختلف موقف المؤمنين أيضا عن المنافقين بالوفاء بالعهد ، فهم صدقوا العهد مع الله تعالى ، ووفوا بما عاهدوا الله عليه من الصبر في حال الشدة والبأس ، فمنهم من انتهى أجله واستشهد كيوم بدر وأحد ، ومنهم من ينتظر قضاء الله والشهادة وفاء بالعهد ، وما بدّلوا عهدهم وما غيروه ، بخلاف المنافقين الذين ولّوا الأدبار ، وبدّلوا الأقوال ونقضوا العهود. وهذا ثناء من الله على عباده المؤمنين الذين عاهدوا الله على الاستقامة التامة ، فوفوا نذورهم وعهودهم ، قال الحسن : قضى نحبه : مات على ما عهد.

إن تعرض المؤمنين للمحن والبلايا واختبارهم بالخوف وملاقاة الأعداء ، من أجل تمييز الخبيث من الطيب ، ومكافأة الصادقين في إيمانهم ، بصبرهم على ما عاهدوا الله عليه ، وقيامهم به ومحافظتهم عليه ، ولتعذيب المنافقين الذين كذبوا ، ونقضوا العهد ، وأخلفوا الأوامر واعتذروا بالأعذار الكاذبة ، فاستحقوا العذاب واللوم.

إن الله تعالى كان وما يزال كثير المغفرة حيث ستر ذنوب عباده ورحمهم ورزقهم الإيمان ، ووفقهم للتوبة ، ولم يعاقبهم على ما مضى بعد التوبة الخالصة. وهذا حث على التوبة والإيمان قبل فوات الأوان.

وكانت نهاية معركة الأحزاب أو الخندق تحقيق النصر للمؤمنين ، وهزيمة الكافرين ، وجلاءهم عن المدينة بعد الحصار الشديد ، فقد ردّهم الله تعالى عن المدينة خائبين خاسرين ، مع شدة غيظهم ، لعدم تحقيق مآربهم ، ولم يحققوا خيرا لأنفسهم ، لا في الدنيا من الظفر والمغنم ، ولا في الآخرة من الآثام والعذاب وإحباط

١٦٨

الأعمال ، بسبب عداوتهم للنبي عليه الصلاة والسلام ، ومحاولاتهم التخلص منه ، بالقتل أو غيره.

وكفى الله المؤمنين القتال ، أي لم يحوجهم إلى قتال ومبارزة ، حتى يجلوا الأعداء عن بلادهم ، بل كفاهم الله وحده شرهم ، ونصر عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، وكان الله وما يزال صاحب القوة ومصدرها ، قادرا على استئصال الأعداء وإذلالهم ، لا يغلبه أو يقهره أحد مهما كان قويا.

وتحقيق هذا النصر الإلهي الواضح على جموع الأحزاب يستدعي الشكر والحمد لله جل جلاله ، وزيادة الإيمان بقدرته ، لذا كان عليه الصلاة والسلام فيما أخرج الشيخان يقول : «لا إله إلا الله وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، فلا شيء بعده».

ثم ذكر الله هزيمة بني قريظة الذين تواطؤوا مع قريش في غزوة الأحزاب ، فإن الله تعالى أنزلهم من حصونهم وقلاعهم ، وأجلاهم عنها ، وألقى في نفوسهم الخوف الشديد ، لممالأتهم المشركين على محاربة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصار أمرهم أن قتل المسلمون فريقا منهم ، وهم الرجال المقاتلون ، وأسروا فريقا منهم ، وهم النساء والصبيان.

وجعل الله أراضيهم المزروعة ومنازلهم المعمورة وأموالهم المدخرة وأرضا أخرى لم تطأها أقدام المؤمنين في عهد النبوة ، وهي التي ستفتح في المستقبل ، جعلها الله كلها للمسلمين ، مثل خيبر ومكة وفارس والروم ، وكان الله وما يزال تام القدرة على كل شيء ، ينصر من يشاء ، ويذل من يشاء.

١٦٩

مضاعفة الأحكام لزوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

صان الله تعالى بيت النبوة الطاهر صيانة أدبية عالية ، وتعهد أمهات المؤمنين بالتربية العالية القائمة على العفة والكرامة ، وجعلهن المثل الطيب الذي يحتذي لنساء المؤمنين والمؤمنات على ممر الزمان ، واقتضى هذا إعدادهن لمنازل الآخرة العالية ، ومضاعفة ثواب أعمالهن ، وزيادة عقوبتهن ، فالأجر مرتان ، والعقاب ضعفان. وهذا دليل على كون القرآن الكريم كلام الله تعالى ، حيث لا مجال فيه لتمييز بيت النبوة بمزايا معينة أو بخصوصيات محددة ، وإنما كان التشديد عليهن هو الصفة الغالبة ، ويقابله زيادة الحسنات بفعل الصالحات ، قال الله تعالى مبينا هذه الأحكام الخاصة :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١)) (١) [الأحزاب : ٣٣ / ٢٨ ـ ٣١].

أمر الله تعالى رسوله بتخيير نسائه بين التمتع بزهرة الحياة الدنيا وزخافها وزينتها وهي المال والبنون ، ومتاعها ، وبين الآخرة ونعيمها ، فإن آثرن الدنيا وأحببنها ، فارقهن وأعطاهن متعة الطلاق المستحقة : وهو مال يهدى للمطلقة تطييبا لخاطرها ، وطلقهن طلاقا لا ضرر فيه ولا بدعة.

قال أبو الزبير : نزل ذلك بسبب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأله أزواجه النفقة ، وطالبنه منها فوق وسعه.

__________________

(١) هذه الآية من الجزء ٢٢.

١٧٠

وإن خيّر الزوج زوجته في تطليق نفسها ، فقال الإمام مالك : هي طالق ثلاثا ، وليس للزوج الإنكار ، بخلاف التمليك. وقال غير مالك : هي طلقة بائنة.

وإن أرادت نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رضا الله ورسوله وثواب الآخرة وهو الجنة ، فإن الله أعد للمحسنة منهن ثوابا عظيما ، يفوق زينة الدنيا. ويشير هذا إلى أن من أراد الله ورسوله والدار الآخرة ، كان محسنا صالحا. وحينما خيّرهن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الدنيا والآخرة ، اخترن جميعا الآخرة ، فسّر بذلك ، وشكرهن الله على حسن اختيارهن ، وكرّمهن.

ثم بعد اختيارهن الآخرة خصصهن الله تعالى بمضاعفة الأحكام الشرعية في حقهن ، فيا نساء النبي ، من يرتكب منكن معصية كبيرة ظاهرة القبح ، كالنشوز وعقوق الزوج وسوء الخلق ، يكون عقابها مضاعفا ، لشرف منزلتكن وفضل درجتكن ، وكان تضعيف العذاب لكنّ يسيرا هينا على الله تعالى. ويا نساء النبي ، من تطع منكن الله ورسوله بسكون وخشوع ، وتخشع جوارحها ، وتستجب لأمر ربها ، وتعمل عملا صالحا ، يضاعف الله لكنّ الأجر والثواب ، بسبب كونكن من أهل بيت النبوة ومنزل الوحي ، وأعد الله لكل واحدة منكن زيادة على هذا رزقا كريما خالصا في الجنة ، لا عيب فيه ولا نقص. والاعتاد : التيسير والإعداد ، والرزق الكريم : الجنة ، ويجوز أن يقصد بالرزق : الرزق الدنيوي من حيث هو حلال وطيب.

وأزواج (زوجات) الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللواتي نزلت الآية فيهن تسع : خمس قرشيات : وهن عائشة بنت أبي بكر الصديق ، وحفصة بنت عمر ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وسودة بنت زمعة ، وأم سلمة بنت أبي أمية. وأربعة غير قرشيات : ميمونة بنت الحارث الهلالية ، وصفية بنت حييّ بن أخطب الخيبرية ، وزينت بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية ، رضي الله عنهن أجمعين ، فهن مع السيدة خديجة رضي الله عنها أمهات المؤمنين.

١٧١

ولما نزلت هذه الآية ، بدأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعائشة فقال : «إني ذاكر لك أمرا ، ولا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك» ثم تلا الآية ، فقالت له : وفي هذا أستأمر أبويّ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. قالت : «وقد علم أن أبويّ لا يأمراني بفراقه» ثم تتابع أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مثل قول عائشة رضي الله عنها ، فاخترن الله ورسوله. وهذا ثابت في الحديث عند البخاري ، ومسلم ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن عائشة رضي الله عنها ، والرواية على لسانها.

إن هذا الاختيار الموفق من نساء النبي دليل واضح على كمالهن وفضلهن وعلو درجتهن ، وعلى مدى تأثير الإسلام العظيم في صوغهن على مراد الله تعالى.

خصوصيات آل البيت النبوي

كان لآل بيت النبوة خصوصيات ومزايا ، أولها ـ كما في الآية السابقة : (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) (وهي من الجزء ٢٢) : مضاعفة الثواب والعقاب ، والثانية ـ الامتياز على سائر النساء بشرط التقوى ، والثالثة ـ الحزم في القول والكلام ، والرابعة ـ القرار في البيوت والنهي عن التبرج ، والخامسة ـ استدامة الطاعة بأداء الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله والرسول ، والسادسة ـ التطهير من الآثام ، والسابعة ـ السمعة الطيبة ، والثامنة ـ تعليم القرآن والسنة.

وفيما عدا هذه الخصوصيات سوّى الله تعالى بين النساء والرجال في ثواب الأعمال والمغفرة. وهذا ما أبانته الآيات التالية :

(يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى

١٧٢

وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥)) [الأحزاب : ٣٣ / ٣٢ ـ ٣٥].

هذه مزايا إيجابية عظيمة لنساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مقابل واجبات ألزمن بها ، فيا أيها النسوة آل البيت لا شبيه لكنّ بين بقية النساء ، فأنتن أفضل النساء ، بشرط التقوى ، فعليكن إظهار الحزم في القول ، وترك اللين في الكلام ، وتميز النطق بالجدّ والحزم والقوة ، حتى لا يطمع في الخيانة من في قلبه مرض ، أي نفاق كما قال قتادة ، وقال عكرمة : أي فسق وغزل ، وهو الصواب ، كما قال ابن عطية ، وقلن القول المعروف : وهو الصواب الذي لا تنكره الشريعة ولا النفوس ، البعيد عن ترخيم الصوت وعن الريبة.

وهذه الخصوصية مشروطة بشرط التقوى ، لما منحهن الله من صحبة الرسول عليه الصلاة والسلام ، وعظم المكانة ، ونزول القرآن في حقهن.

وأنتن مأمورات بالقرار في البيوت ، منهيات عن التبرج تبرج الجاهلية العربية قبل الإسلام ، وعليكن إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وإطاعة الله ورسوله. وسبب تلك الأوامر والمنهيات والمواعظ : إرادة الله إذهاب الإثم عنكن ، والتطهير من المعاصي والمأمورات. والتبرج : إظهار الزينة والتصنع بها ، وأهل البيت : كل من لازم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأزواج والقرابة ، بدليل مطلع الآية : (يا نِساءَ النَّبِيِ).

وعلى أهل البيت تذكر تلاوة القرآن في بيوتكن ، والحكمة : وهي السنة النبوية ،

١٧٣

وتعليم الكتاب والسنة للناس ، إن الله كان وما يزال تام اللطف والخبرة ، حين علم ما ينفعكم ، ويصلحكم في دينكم ، وجعل في بيوت آل البيت الآيات والشرائع.

ثم سوّى الله تعالى في عشر صفات بين الرجل والمرأة وهي الإسلام والانقياد لأوامر الله تعالى ؛ والتصديق التام بما جاء عن الله من شرائع وأحكام وآداب ، والقنوت لله : وهو دوام العمل الصالح ، والطاعة في رضا وسكون وخشوع ، والصدق في القول والعمل باعتباره علامة على الإيمان ، كما أن الكذب أمارة على النفاق ، والصبر على المصائب ، وتحمل المشاق في أداء العبادة وترك المعصية ، والخشوع في العبادة ، وهو السكون والطمأنينة ، والتؤدة والوقار ، والتواضع لله تعالى ، والتصدق بالمال لمساعدة المحتاجين والضعفاء الذين لا مكسب لهم ، وصوم الفرض والنفل لإشراقة الروح وقوة النفس ، والتسامي عن الماديات والشهوات ، والإقبال على الله تعالى تشبها بالملائكة ، والعفة وحفظ الفروج عن المآثم والمحرّمات إلا عن المباح بالزواج ، وذكر الله تعالى ذكرا كثيرا ، أي استحضار عظمة الله تعالى في القلب ، وتنزيهه باللسان عن كل نقص ، ووصفه بكل كمال في جميع الأحوال.

هؤلاء المتصفون بهذه الخصال العشر هيأ الله تعالى لهم مغفرة سابغة تمحو سيئاتهم وذنوبهم ، وأجرا عظيما لا مثيل له : وهو الجنة بمنازلها العالية وطيباتها ، وأنهارها ، وجمالها ، ونعيمها الدائم.

زواج زيد بن حارثة بزينب

في أسباب نزول بعض الآيات إيضاح لدلالاتها ، وبيان للظروف التي تقدمتها ، كما أن فيها دفعا قويا لامتثال أمر الله تعالى ، والتزام توجيهاته ، وبيان خطة قضائه وقدره.

١٧٤

من هذه الأسباب للآية (٣٦) من سورة الأحزاب : ما أخرجه الطبراني بسند صحيح عن قتادة قال : خطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب ، يريدها لزيد ، فظنت أنه يريدها لنفسه ، فلما علمت أنه يريدها لزيد ، أبت ، فأنزل الله : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ ..).

وسبب نزول الآية التي بعدها (٣٧) : ما أخرج البخاري عن أنس : أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش وزيد بن حارثة. وأخرج الحاكم عن أنس قال : جاء زيد ابن حارثة يشكو إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من زينب بنت جحش ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أمسك عليك أهلك ، فنزلت : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ). قال الله تعالى :

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٣٧) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٣٩) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠)) [الأحزاب : ٣٣ / ٣٦ ـ ٤٠].

المعنى : ليس لأي مؤمن ولا مؤمنة إذا حكم الله ورسوله بأمر أن يختاروا أمرا آخر ، وإنما عليهم امتثال المأمور الإلهي وتجنب عصيانه ، والرسول العربي : هو المبلّغ حكم الله ، ومن يخالف أمر الله والرسول أو يعصي نهيه ، فقد تاه وانحرف عن طريق الهدى والرشاد ، ووقع في الضلال الواضح الذي يستحق عليه الإثم الكبير ، وتطبيقا

١٧٥

لهذا امتثلت زينب بنت جحش بنت أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله أمر النبي لها بزواجها من زيد بن حارثة الذي كان عتيق النبي ومتبناة في مبدأ أمر الإسلام ، فكان يدعى زيد بن محمد ، حتى أبطل الله التبني بآية : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) فصار يدعى : زيد بن حارثة.

واذكر أيها النبي حين قلت لزيد الذي أنعم الله عليه بالإسلام ، وأنعمت عليه بالإعتاق والحرية والتربية : حافظ على زواجك بزينب ، واصبر على طبعها ، واتق الله في شأنها ، ولا تطلقها لتعاليها وأنها من علية قريش ، وتخفي أيها الرسول في نفسك ما الله مظهره من الحكم الإلهي : وهو علمك بطلاق زيد لها في المستقبل وتزوجك بها ، لإعلام الله لك بذلك ، وتحذر انتقاد الناس ، والله أولى بأن تحذره أو تخشاه ، وتلزم أمره وتمتثل حكمه.

فلما طلّقها زيد ، وانتهت حاجته منها ورغبته بها ، وانقضت عدتها ، أمرك الله تعالى بتزوجها ، لرفع الحرج عن المسلمين في التزوج بأزواج أدعيائهم الذين تبنوهم ، وليبين الله أن رابطة التبني ليست كحرمة النبوة ، فتزوجها النبي ودخل بها ، بعد أن أمر النبي زيدا بخطبتها له ، فاستخارت الله تعالى وقبلت ، ونزل القرآن في قصتها ، وكان إنفاذ أمر الله وقدره كائنا لا محالة.

وقوله تعالى : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) فيه حذف مضاف تقديره : وكان حكم أمر الله. قالت زينب : أنا التي زوجني الله من فوق سبع سموات.

ولم يكن على النبي حرج أو مشقة أو عيب فيما أحل الله له وقدّره ، فذلك حكم الله وقانونه في الأنبياء قبله ، لم يكن الله ليجعل عليهم ضيقا وإحراجا ، وكان أمر الله الذي قدّره مقدرا في الوقت المناسب له ، وواقعا لا محيد عنه. وهذا رد على

١٧٦

المنافقين واليهود الذين عابوا الرسول فيما فعل بتزوجه بزوجة متبناة في الماضي ، وفي تعدد زوجاته لنشر الدعوة الإسلامية.

وقوله : (سُنَّةَ اللهِ) منصوب على المصدر ، أي استن بسنة الله ، أو على إضمار فعل ، تقديره : الزم سنة الله. وأمر الله : أي مأمورات الله ، والكائنات عن أمره ، فهي مقدرة. وقدرا : على حذف مضاف : أي ذا قدر أو عن قدر.

ثم امتدح الله جميع الأنبياء بقوله : (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ ..) أي إنهم أولئك الرسل ، الذين رفع الله الحرج عنهم فيما أحل لهم ، مهمتهم تبليغ رسالات الله وشرائعه إلى الناس ، تبليغا تاما كما أمر الله تعالى ، بأمانة ، وهم يخافون الله وحده في ترك التبليغ لشيء من الوحي ، ولا يخافون أحدا سواه ، وفيه تعريض بمعاتبة النبي بالعتاب الأول في خشيته الناس ، ثم رد الله الأمر كله إلى الله تعالى ، وأنه المحاسب على جميع الأعمال والمعتقدات ، وكفى به أنه لا إله إلا هو.

ثم رد الله تعالى على انتقاد العرب وغيرهم تزوج النبي بزوجة من كان متبنى له ، فقال : (ما كانَ مُحَمَّدٌ ..) أي لم يكن النبي أبا على الحقيقة لأحد من الناس المعاصرين له ، وإنما هو رسول الله لتبليغ رسالته للناس ، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين ، فلا نبي بعده ، وكان الله وما يزال تام العلم بكل شيء ، ولا يفعل إلا الأصلح.

وسبب نزول هذه الآية : ما أخرج الترمذي عن عائشة قالت : لما تزوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزينب قالوا : تزوج حليلة ابنه ، فأنزل الله : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) أراد الله امتحان زينب بزواج زيد ، لإلغاء عادة التبني ، وجعل الشرف في الإسلام للتقوى لا للأحساب والأنساب.

١٧٧

ذكر الله تعالى

ربط الله تعالى قلوب عباده بغرس أصول الإيمان والتقوى فيها ، وعلّمهم بسبب تعرضهم للنسيان كيفية تجديد رابطتهم بالله تعالى ، من طريق مداومة ذكر الله تعالى ذكرا كثيرا ، من غير تقدير بحد معين ، لتسهيل الأمر عليهم ، وتعظيم الأجر فيه ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : لم يعذر أحد في ترك ذكر الله إلا من غلب على عقله ، وقال : الكثير : ألا ينساه أبدا. وأخرج أحمد وأبو يعلى وابن حبان والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أكثروا ذكر الله حتى يقولوا : مجنون».

وفي ترطيب اللسان بذكر الله تعالى واستحضار القلب عظمة الله : إشعار بفائدة الذكر ، وبضرورة الارتباط الوثيق بالله تعالى وخشيته ، ليستقيم الإنسان على أمر الله ، قال الله تعالى آمرا بالذكر ، مبينا فائدته القصوى وثمرته عند الله عزوجل :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤)) [الأحزاب : ٣٣ / ٤١ ـ ٤٤].

الآية تبيان فضيلة الذّكر ، وثواب الذاكرين. فيا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله ، اذكروا الله بألسنتكم وقلوبكم ذكرا كثيرا ، من غير تحديد وقت ، ولا تقدير قدر ، إنما المطلوب غلبة ذكر الله تعالى في أحوال الإنسان ، وضموا إلى الذكر التسبيح في الصباح والمساء ، والمراد : في كل الأوقات ، التي تبدأ بطرفي النهار والليل ، وإنما خص هذان الوقتان بالذّكر ، لكونهما مشهودين بملائكة الليل والنهار. وأكد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأمر بمداومة الذكر ، روى البيهقي عن مكحول مرسلا : «إن ذكر الله شفاء ، وذكر الناس داء». ورواه الديلمي عن أنس بن مالك بلفظ : «ذكر الله شفاء

١٧٨

القلوب» (١). وعن قتادة : «قولوا : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».

وخص الأمر بالذكر في المزدلفة عند المشعر الحرام ، فقال الله تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) [البقرة : ٢ / ١٩٨] وفي أداء مناسك الحج في قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) [البقرة : ٢ / ٢٠٣] وبعد ذهاب الخوف من العدو : (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٢ / ٢٣٩] وعند ذبح الأنعام : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَ) [الحج : ٢٢ / ٣٦] وعند الصيد : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) [المائدة : ٥ / ٤]. ووصف الله المؤمنين بالذاكرين في الأوقات كلها في قوله سبحانه : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) [آل عمران : ٣ / ١٩١] وقوله تعالى : (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) [الأحزاب : ٣٣ / ٣٥].

ثم أبان الله تعالى فضيلة الذّكر وسببه وثوابه بقوله : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) أي إن الله تعالى الذي تذكرونه وتسبّحونه : هو الذي يرحمكم ، وصلاة الله على عباده : هي رحمته لهم ، وبركته لديهم ، ونشره إلينا الجميل ، والملائكة تستغفر لكم ، لأن صلاة الملائكة : الدعاء للمؤمنين ، وذلك من أجل إرادة هدايتكم ، وإخراجكم من ظلمات الضلال والجهل إلى نور الحق والهدى والإيمان ، وكان الله وما يزال رحيما ، تام الرحمة بالمؤمنين من عباده ، في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا : فإن الله يهديهم إلى الحق الذي جهله غيرهم ، ويبصّرهم الطريق الذي حاد عنه سواهم الى الكفر والابتداع الضالّ ، وأما في الآخرة : فيؤمّنهم الله من الفزع الأكبر ، ويظلّهم بمظلته الرحيمة ، وتبشّرهم الملائكة بالفوز بالجنة والنجاة من النار ، رأفة بهم ، ومحبة لهم.

__________________

(١) حديث حسن لغيره.

١٧٩

وسبب نزول هذه الآية : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي) ما أخرجه عبد بن حميد عن مجاهد قال : لما نزلت آية : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) [الأحزاب : ٣٣ / ٥٦] قال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله ، ما أنزل الله تعالى عليك خيرا إلا أشركنا فيه ، فنزلت : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ).

ومن بشائر رحمة الله بعباده استقبالهم بالتحية والسلام ، فتحيتهم من الله تعالى بواسطة ملائكته يوم لقائه في الآخرة : هو السلام ، وأعد الله تعالى لهم ثوابا حسنا ، وهو الجنة وما فيها من ألوان النعيم والمناظر الحسنة ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. قال الله تعالى في آية أخرى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٣٦ / ٥٨]. وقال سبحانه : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد : ١٣ / ٢٣ ـ ٢٤].

وظائف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

إن عبء تبليغ الوحي الإلهي ، والقيام بموجب الرسالة ليس بالأمر الهين ، فهو بالإضافة إلى اقترانه بظروف عسيرة صعبة ، ومقاومة شديدة من القوم ، يتطلب إحساسا متقدا من الرسول ، وشعورا كبيرا بالمسؤولية ، خشية التقصير في تكليف الله إياه ، واطمئنانه إلى تنفيذ مراد الله ، ويمكن حصر خصائص أو وظائف النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبع ، تشمل جميع أوجه الوحي الإلهي ، وهذا ما أوضحته الآيات الكريمة الآتية :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٤٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ

١٨٠