التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٣

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٣

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0524-1
الصفحات: ٤٢٢

الله هو الحق ، أي الموجود الثابت المستحق للعبادة ، وأن كل ما سواه باطل زائل ، فهو وحده سبحانه الإله ، ولا تعدد في الآلهة ، وهو الغني عما سواه ، وكل شيء فقير إليه ، وأنه تعالى العلي العظيم الذي لا أعلى منه ، المرتفع على كل شيء ، الكبير الذي هو أكبر من كل شيء ، شامل العزة ، وكامل السلطان ، وكل شيء في الوجود خاضع له.

ودليل آخر ، ألم تعلم أيها النبي أيضا وكل مخاطب أن الله سخر البحر لتجري السفن فيه بأمره ، أي بلطفه وإحسانه ، وتهيئته الأسباب ، ليرشدكم إلى معرفته ، ويظهر لكم بعض آثار قدرته ، فإنه تعالى لولا جعله القوة في الماء لحمل السفن ، لما جرت بتأثير الرياح وغيرها من الطاقات المخترعة بإلهامه من فحم وكهرباء وذرة. إن في إيراد هذا الدليل وغيره لأدلة واضحة لكل صابر صبور وقت الشدة ، وشاكر شكور وقت النعمة ، لأن المؤمن يتذكر ربه في كل حال ، فيصبر إذا أصابته نقمة ، ويشكر إذا أتته نعمة. قال الشعبي : «الصبر نصف الإيمان ، والشكر نصفه الآخر ، واليقين : الإيمان كله».

غير أن المشركين وأمثالهم قوم متناقضون ، فإذا أشرفوا على الغرق ، وأحاطت بهم أمواج البحر العالية أو العاتية كالجبال ، وخافوا من الموت ، عادوا إلى الفطرة ، ودعوا الله دعاء خالصا ، مشتملا على مزيد الضراعة والإنابة ، لا يشركون به غيره ، ويستغيثون به وحده ، فلما نجوا برحمته وفضله ووصلوا إلى شاطئ البحر ، ونزلوا إلى البر ، فمنهم مقتصد في الكفر ، يتجه فورا إلى توحيد إلى الله تعالى ، ومنهم غدار ناقض للعهد ، كافر بأنعم الله عزوجل ، وما يكفر بآيات الله الكونية والقرآنية إلا كل ختّار أي غدار ، قبيح الغدر ، كفور ، أي جحود بما أنعم الله عليه.

وذلك أن نعم الله تعالى على العباد كأنها عهود ومنن ، يلزم عنها أداء شكرها ،

١٤١

والعبادة لمسديها ، فمن كفر بذلك وجحد به ، فكأنه ختر وخان ، فهان على الله تعذيبه ، واستحق جزاء فعله.

والقصد من الآية : تبيان آية للعقول بأن الأصنام والأوثان لا شركة لها في الكون والنعمة ولا مدخل.

تقوى الله وعلم الغيب

إن رأس مال الإنسان المدخر في يوم القيامة : هو تقوى الله تعالى والخوف منه ، وخشيته ، والتقوى : التزام المأمورات ، واجتناب المنهيات ، فبالتقوى تصلح الدنيا ، وينجو صاحبها في الآخرة ، ومن اتقى ربه ، عظمت نفسه ، فلا يخاف أحدا في الوجود ، ولا تذل نفسه لمخلوق ، بسبب طمع في رزق أو مال أو جاه أو منصب ، لأن التقوى تيسر الرزق ، وتحيي الفؤاد وتملأ النفس طمأنينة وثقة بالله تعالى. هذا ما ينبغي على العبد ، ويترك علم الغيب إلى الله تعالى ، فإن الغيبيات لا يعلم بها أحد سوى الله عزوجل ، لا من نبي أو رسول ، أو ملك من الملائكة ، أو ولي من الأولياء ، أو أحد الناس العاديين ، وقد أمر الله بالتقوى ، وأخبر عن الغيبيات المختص بها في الآيات الآتية :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤)) [لقمان : ٣١ / ٣٣ ـ ٣٤].

هذا خطاب إلهي عام لجميع الناس بالأمر بتقوى الله عزوجل ، وذلك بالقيام

١٤٢

بالفرائض والطاعات ، واجتناب المناهي والمحظورات ، والأمر بخشية الله وعظمته وسلطانه ، والخوف من الحساب يوم القيامة ، ذلك اليوم الذي لا يغني فيه والد عن ولد ، ولا يدفع عنه شيئا ، وكذلك لا يفيد المولود والده شيئا ، حتى لو أراد أن يفديه بنفسه لم يقبل منه ، لأنه لا يشفع أحد في غيره إلا بإذن من الله ، كما قال الله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢ / ٢٥٥]. (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) [يونس : ١٠ / ٣].

ولا يفيد في ذلك اليوم إلا العمل الصالح المقدّم في الدنيا.

ولا يشك أحد في حدوث ذلك اليوم ، فإن وعد الله بالقيامة والحساب والجزاء أمر منجز ومؤكد الحصول ، فلا تخدعنكم أيها الناس زخارف الحياة الدنيا ، فتطمئنوا فيها ، وتميلوا إليها ، تاركين الاستعداد للآخرة ، ولا يخدعنكم الشيطان بحلم الله وإمهاله ، والاعتماد على الأماني والتعرض للمغفرة ، وعدم الاكتراث بالمعصية ، ونسيان الآخرة ، كما جاء في آية أخرى : (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) [النساء : ٤ / ١٢١]. والغرور : الشيطان ، في تفسير مجاهد والضحاك ، أو هو الأمل والتسويف ، أو التطميع بما لا يحصل. وقال سعيد بن جبير : معنى الآية أن تعمل المعصية وتتمنى المغفرة.

ثم أخبر الله تعالى عن اختصاصه بالعلم بمفاتيح الغيب الخمسة ، فلا يعلم بها أحد إلا الله ، وإن شاء أعلم بها سواه وهي :

ـ العلم بتوقيت حدوث يوم القيامة ، فلا يعلم أحد وقت ذلك اليوم ، لا ملك مقرّب ، ولا نبي مرسل.

ـ وإنزال الغيث ، أي المطر ، فلا يعلم أحد بوقت نزول المطر ومكانه بالضبط ، فإن أمر الله به ، علمه الملك الموكل بإنزاله وهو ميكائيل أو غيره.

١٤٣

ـ والعلم بخواص الأجنة في الأرحام من طبائع وصفات وتمام خلقه ونقصها ، وأما معرفة الذكورة والأنوثة بالتجربة أو بالتصوير أو بالتحليل الحديث ، فلا يغير شيئا من علم الله بجملة المعلومات المتعلقة بالجنين.

ـ والعلم بمكاسب النفس وما تجنيه من خير أو شر في يوم غد ، في الدنيا والآخرة. ـ والعلم بموضع موت النفس ، في بلدها أو في غيرها من البلاد ، وختم الله بيان هذه المواضع الخمسة بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) أي إن علم الله علم شامل مطلق ، لا يختص بهذه الأمور الخمسة ، بل إنه سبحانه عليم بكل ظاهر وباطن ، خبير بكل ما يتعلق بالأشياء.

وسبب نزول هذه الآية : هو ما أخرج ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : جاء رجل من أهل البادية هو الحارث بن عمرو ، فقال : إن امرأتي حبلى فأخبرني بما تلد ، وبلادنا مجدبة ، فأخبرني متى ينزل الغيث ، وقد علمت متى ولدت ، فأخبرني متى أموت؟ فأنزل الله : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) الآية.

١٤٤

تفسير سورة السجدة

إنزال القرآن وإبداع الخلق

أثبت الله تعالى كون القرآن كلام الله بكونه معجزا لا يضارعه شيء ، وليس كلام أحد من خلقه ، وأقام الأدلة على وجوده وتوحيده وقدرته العظمى بخلق السماوات والأرض ، وخلق الإنسان وغيره في أحسن تقويم ، وزوّده بمفاتيح المعرفة من السمع والبصر والفؤاد ، ليشكر ربه ، ويهتدي إلى خالقه ، وليصلح حاله ومجتمعة ، وهذا ما افتتحت به سورة السجدة التي كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرؤها كل يوم ، قال جابر بن عبد الله : «ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينام حتى يقرأ (الم ، تَنْزِيلُ) السجدة ، و (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ)». قال الله تعالى :

(الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩)) [السجدة : ٣٢ / ١ ـ ٩].

١٤٥

افتتحت هذه السورة بالأحرف الأبجدية المقطعة للتنبيه والتحدي وبيان إعجاز القرآن ، لذا اقترنت هذه الحروف غالبا بالكلام عن القرآن والإشادة به. لقد أنزل الله هذا القرآن من عنده إنزالا لا شك فيه ، من غير أدنى اعتبار لارتياب الكفرة ، فهو تنزيل من رب العالمين : عالم الإنس والجن ، ولا شك فيه ، من جهة الله تعالى ، وليس بسحر ولا شعر ولا سجع كهان.

بل أيقولون زورا وبهتانا : اختلقه محمد من عنده ، بل هو الحق الثابت ، أي هو حق من عند الله رب محمد ، أنزله إليه لينذر به قوما ـ أي قريشا ومن جاورهم والعالم كله ـ بأس الله وعذابه ، إن كفروا وعصوا ، ولم يأتهم منذر سابق من قبل النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لعلهم يهتدون بإنذاره.

والذي أنزل القرآن الكريم : هو الله تعالى خالق السماوات والأرض ومبدعهما وما بينهما ، من غير مثال سابق ، في مدة ستة أيام ، ليست من الأيام المعروفة ، ثم استوى على أعظم مخلوقاته : وهو العرش العظيم استواء يليق بذات الله وجلاله من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تحديد بزمان أو مكان ، وليس لكم أيها الناس ولا سيما الكفار ولي ، أي ناصر ينصركم ، ويدفع عنكم العذاب ، ولا شافع يشفع لكم عنده إلا بإذنه ، بل هو المالك المطلق لكل شيء ، أفلا تتدبرون وتتعظون ، فتؤمنوا بالله وحده لا شريك له.

إن منزل القرآن : هو الذي يدبر أمر الكون كله ، أي ينفذ الله تعالى قضاءه لجميع ما يشاؤه ، ثم يرجع اليه خبر أمره وتنفيذه في يوم من أيام الدنيا ، مقداره ألف سنة ، مما تعدّون في هذه الحياة ، لأن ما بين السماء والأرض خمس مائة سنة. والمعنى : أن الأمور تنفّذ من عنده ، ثم يعود إليه عاقبة أمره.

وذلك المدبّر لأمور الكون : هو العالم بجميع الأشياء ، يعلم الغائب عن الأبصار ،

١٤٦

وهو المشاهد المعاين لها ، وهو القوي الغالب القاهر ، الرحيم التام الرحمة بعباده المؤمنين الطائعين التائبين. والرحيم : الراحم غيره ، والرحمن : صفة لذات الله تعالى مختص بها لا يسمى بها أحد غيره.

والمدبر للأمور كلها هو الذي أحسن خلق الأشياء وأتقنها وأحكمها ، وبدأ خلق الإنسان آدم من طين ، والطين من ماء وتراب ، ثم جعل الله ذرية الإنسان يتناسلون من امتزاج سلالة متكونة من ماءي الرجل والمرأة ، وهو ماء ضعيف : وهو النطفة. والسلالة : ما استل من الشيء ، والنطفة : سلالة الإنسان.

ثم بعد خلق الإنسان من تراب ، جعله الله سويا مستقيما ، فقوّم أعضاءه ، وعدّلها وأتمها ، ونفخ فيه الروح التي هي من أمر الله ، ولا يعرف حقيقتها إنسان ، وأنعم الله على الإنسان بالحواس المختلفة ليتعايش تعايشا سليما مع محيطه ، وهي حواس كثيرة ، منها السمع الذي تسمع به الأصوات ، والبصر الذي تبصر به المرئيات ، والعقل أو الفؤاد الذي يتم به التفكير والوعي والإدراك ، والتمييز بين الحق والباطل ، وبين الخير والشر.

لكنكم أيها الناس لا تقابلون هذه النعم بالوفاء والشكر والتقدير ، وإنما تشكرون ربكم شكرا قليلا على هذه النعم التي رزقكم الله تعالى ، والشكر : لا يكون باللسان فقط ، وإنما باستعمال الحواس في طاعة الله ومرضاته.

إنكار المشركين بالبعث

لقد تلوثت عقائد الوثنيين بأمور ثلاثة : الشرك بالله بأن يعبدوا معه إلها آخر ، وإنكار النبوة والوحي المنزل على قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنكار البعث أو اليوم الآخر ، فتصدى القرآن الكريم لهذه المواقف الباطلة ، فأثبت لهم توحيد الله من خلال قدرته

١٤٧

الفائقة ، وأثبت لهم النبوة من خلال المواقف المشهودة والمعجزات المؤيد بها النبي ، ورد ردا مفحما على إنكار البعث بأن القادر على ابتداء الخلق قادر على الإعادة ، والإعادة أهون عليه ، أي في تقدير الإنسان ، وهما أي البدء والإعادة سواء بالنسبة لله عزوجل ، وهذه آي تحكي باطل المشركين في إنكار البعث ، قال الله تعالى :

(وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤)) [السجدة : ٣٢ / ١٠ ـ ١٤].

لقد استبعد المشركون الوثنيون المعاد بعقولهم البسيطة ، وقالوا : أإذا متنا وصارت أجسادنا ترابا مفتتا ذاهبا في الأرض ، أيمكن أن نعود خلقا جديدا بعد تلك الحال؟! وهذا منهم قياس لقدرة الله تعالى الخارقة على قدرة الإنسان المحدودة العاجزة. بل إنهم في الواقع جاحدون لقاء ربهم يوم القيامة للحساب والجزاء.

فرد الله تعالى عليهم بقوله : قل أيها النبي للمشركين : إن ملك الموت عزرائيل الموكّل بقبض الأرواح يقبض أرواحكم في الوقت المحدد لانتهاء الأجل ، ثم في نهاية الدنيا بعد الموت تعودون أحياء إلى ربكم ، كما كنتم قبل الوفاة ، وذلك في يوم المعاد.

ثم أخبر الله تعالى عن حال المشركين في يوم البعث والحساب ، بأسلوب فيه تعجيب لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمته من حال الكفرة ومما حلّ بهم ، فلو تشاهد أيها النبي حين يقوم المشركون بين يدي ربهم ، خافضي رؤوسهم من شدة الحياء والخزي والعار ، لرأيت أمرا عجبا. وجواب (لو) محذوف ، لأن حذفه أهول ،

١٤٨

إذ يترك الإنسان فيه مع أقصى تخيله. والمجرمون : هم الكافرون ، بدليل قولهم : (إِنَّا مُوقِنُونَ) أي إنهم كانوا في الدنيا غير موقنين ، وتنكيس الرؤوس : هو من الهول والذل والهم بحلول العذاب. وتراهم يقولون : ربنا نحن الآن نسمع قولك ، ونطيع أمرك ، لقد أبصرنا الحشر ، ونسمع تصديقك للرسل ، فارجعنا إلى دار الدنيا ، نعمل فيها ما يرضيك من صالح الاعتقاد والقول والعمل ، وقولهم : (أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) أي ما كنا نخبر به في الدنيا ، فكنا مكذبين به.

ثم أخبر الله تعالى عن نفسه أنه لو شاء لهدى الناس أجمعين ، بأن يخترع الإيمان في قلوبهم ، ويلطف بهم لطفا يؤمنون به ، ولكن ثبت قول الله وقضاؤه ، وسبق منه الاعلام أنه لا بد من ملء جهنم من الجن والإنس أجمعين ، ولكنهم اختاروا في الدنيا الكفر والضلال ، وسوء الاعتقاد والعمل.

لذا يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ : ذوقوا هذا العذاب بسبب تكذيبكم بيوم القيامة ، واستبعادكم وقوعه ، وتناسيكم له ، والآن نعاملكم معاملة المنسيين ، وإن كان الله تعالى لا ينسى شيئا ، وهذا من قبيل المشاكلة لأفعالهم ، مثل قوله تعالى : (نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) [الحشر : ٥٩ / ١٩] وقوله سبحانه : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [التوبة : ٩ / ٦٧].

ويقال لهم أيضا على سبيل التبكيت والتأكيد : ذوقوا عذاب النار الدائم الذي تخلدون فيه بسبب كفركم وتكذيبكم وسوء أعمالكم ، وقوله : (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي بتكسبكم الآثام ، وارتكابكم المعاصي.

إن هذه الإنذارات والأوصاف الرهيبة تستوجب من العقلاء الحذر الشديد قبل الوقوع في مواقعها أو محطاتها ، وقبل التعرض لألوان التوبيخ والتقريع بسبب سوء الاعتقاد والعمل في الدنيا. والسعيد : من اتعظ بغيره ، والشقي : من حرم الإفادة من

١٤٩

العبر والأحداث ، فإن المصير حتمي ، ولا منجاة من أحد الأمرين : إما الجنان ، وإما النيران.

جزاء المؤمنين والفاسقين

إن ترجمة الإيمان إنما تكون بالخضوع ساجدين لله تعالى ، وبتسبيحه وتحميده وبالإقبال على الرب عزوجل في الصلاة في جوف الليل ، ويكون جزاء المؤمنين الجنة. ولا يعقل في ميزان أحد التسوية بين المؤمن والفاسق. والفسق يكون بجحود الله تعالى وإنكار وحدانيته ، وإنكار اليوم الآخر ، ونبوة خاتم النبيين ، ويكون جزاء الفاسقين النار. ومن رحمة الله تعالى تعريض الكافرين أو الفاسقين لشيء من العذاب القريب في الدنيا ، لعلهم يرجعون عن غيهم وضلالهم. قال الله تعالى مبينا جزاء الفريقين :

(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢)) [السجدة : ٣٢ / ١٥ ـ ٢٢].

المعنى : إنما يصدق بآيات القرآن والكون والرسل الذين إذا وعظوا بها واستمعوا لها بعد تلاوتها عليهم ، سقطوا ساجدين لله على وجوههم ، تذللا وخضوعا ،

١٥٠

وإقرارا بالعبودية ، ينزهون الله في سجودهم عن الصاحبة والولد والشريك ، ويحمدون الله على نعمه ، فهم يجمعون بين التسبيح والتحميد ، لا يستكبرون عن طاعة ربهم ، والانقياد لأوامره.

وهم أيضا يصلّون قيام الليل أو التهجد ، تترفع وتبتعد جنوبهم أو جوانبهم عن مضاجع النوم والراحة ، أي أماكن النوم ، يدعون الله خوفا من العقاب ، وطمعا بالرحمة وجزيل الثواب ، وينفقون بعض أموالهم في سبيل الخير والإحسان. فلا تدري نفس على الإطلاق من ملائكة ورسل عظمة ومقدار ما أخفى الله لهم في الجنات من النعيم المقيم ، واللذائذ التي تقرّ بها الأعين أي تفرح وتسرّ ، جزاء عدلا مقابل صالح أعمالهم ، التي عملوها بإخلاص في الدنيا ، من غير سمعة ولا مراءاة ، ومن أبسط المعقولات في قانون الجزاء الإلهي أو البشري أنه كيف يسوّى بين المؤمن بالله ورسوله ، المطيع لأمره ونهيه ، وبين الكافر الفاسق الخارج عن دائرة طاعة الله تعالى ، المكذب رسل الله الكرام ، إنهما لا يستويان في ميزان أحد ، ولا في ميزان الله يوم القيامة.

عن عطاء بن يسار : أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، والوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وذلك أنهما تلاحيا ، فقال له علي : اسكت فإنك فاسق ، فنزلت الآية. وعليه يكون جزاء الفريقين مختلفا في الآخرة : أما الذين صدقوا بالله ورسله ، وعملوا صالح الأعمال ، فلهم جنات المأوى المستقر المريح ، التي فيها ألوان النعيم ، ثوابا وجزاء على أعمالهم الحسنة. وأصل النّزل : ما يعد للضيف من الطعام والشراب والمبيت ، والمراد به هنا : ثوابا وجزاء.

وأما الذين فسقوا ، أي كفروا بالله تعالى ، وعصوه وعملوا السيئات ، وخرجوا عن دائرة الطاعة ، فمأواهم النار التي يستقرون فيها ، كلما عزموا على الخروج منها لشدة العذاب والأهوال ، أعيدوا فيها خاسئين ذليلين ، أي صاروا مخلّدين فيها ،

١٥١

ويقال لهم : تذوقوا وتحملوا عذاب النار الذي كذبتم به في الدنيا ، فإن الله أعدّه للظالمين الفاسقين.

ورحمة من الله بعباده يذكرهم بألوان النقم الدنيوية ، فإنه سبحانه يذيق الكفار والعصاة شيئا من العذاب الأقرب وهو عذاب الدنيا ، من المصائب والآفات ، كالجوع والقتل والسبي ، قبل مجيء العذاب الأشد في يوم القيامة ، ليرجعوا عن ضلالهم إلى الهدى والرشاد. والتعبير بكلمة (لعلهم) ليس للترجي ، فهو مستحيل على الله تعالى ، وإنما معناه : ليرجعوا عما هم عليه من الضلال.

والسبب العام للعذاب : هو الإعراض عن هدي الله تعالى ، فليس هناك أشد ظلما ممن ذكّره الله بآياته القرآنية ومعجزات رسله ، ثم أدبر عنها ، وهجرها وجحدها ، كأنه لا يعرفها ، لذا فإن الله سبحانه ينتقم أشد الانتقام من هؤلاء الكفار الذين كفروا بالله ، واقترفوا المنكرات والموبقات.

إن القرآن الكريم هدى ورحمة ، لما فيه من بيان سابق قبل المفاجأة بألوان العقاب أو العذاب في الآخرة ، كما أوضحت هذه الآيات.

توجيهات وأوامر متعلقة بالرسالة

في سورة السجدة إثبات للتوحيد والبعث والرسالة النبوية ، وقد ختمت السورة بالتركيز على أمر الرسالة المحمدية بعد نبوة موسى وإنزال التوراة عليه ، ليستمر العطاء الإلهي والإرشاد بين جميع الأمم والشعوب ، وتتحقق الثمرة المرجوة بصلاح العقائد والأعمال ، مع لفت النظر إلى ضرورة الاتعاظ والاعتبار بأحوال الأمم السابقة ، وبمشاهد الكون والحياة ، وتبشير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنصر الحاسم ، والإعراض عن المشركين ، وانتظار المصير المرتقب فيهم ، قال الله تعالى موضحا هذه المعاني :

١٥٢

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠)) [السجدة : ٣٢ / ٢٣ ـ ٣٠].

هذه أخبار فيها عظة واقعية ، أولها تطمين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حول إيتائه الرسالة الكاملة ، فلقد آتى الله موسى عليه‌السلام التوراة. فلا تكن يا محمد في شك من لقائك الكتاب ، فإنا آتيناك القرآن كما آتينا موسى التوراة ، فأنت كغيرك من الرسل ، والصلة قائمة بين الرسالتين ، فإن التوراة جعلت هداية وإرشادا لبني إسرائيل ، وكذلك القرآن المجيد هداية لأمتك أيها النبي محمد ، والمتأخر ينسخ المتقدم.

والمقصود من الآية : حمل اليهود على التصديق برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتحريض المشركين أيضا على التصديق بتلك الرسالة ، للتشابه القائم بين الرسالتين والمهمتين ، في أصولهما المشتركة ، وفي ذات ما أنزل على كل من موسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم.

ولقد جعلنا من بني إسرائيل أئمة يقتدى بهم ، يدعون إلى الحق والخير والإيمان ، بإذننا وتوفيقنا وإعانتنا ، لما صبروا على طاعة الله وتنفيذ الدين الحق ، وتصديق الرسل واتباعهم ، وكانوا بآياتنا الدالة على التوحيد والقدرة الإلهية مصدّقين موقنين.

إن ربك أيها النبي يقضي يوم القيامة بين عباده فيما اختلفوا فيه من قضايا

١٥٣

الاعتقاد ، والدين والحساب ، والثواب والعقاب ، والعمل ، فيثيب الطائع بالجنة ، ويعذب العاصي بالنار.

أو لم يتبين لمكذبي الرسل كم ، أي كثيرا ما أهلكنا من قبلهم من الأمم الماضية بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم إياهم ، مثل عاد وثمود وقوم لوط ، يمر المكذبون المشركون في أسفارهم بمساكنهم وديارهم المدمّرة ، إن في ذلك التدمير لدلائل وعلامات على قدرة الله عزوجل ، وعظات وعبرا لقوم يتعظون بها. أو لم يشاهد هؤلاء المكذبون بالبعث الوثنيون أننا قادرون على الإحياء ، كما نسوق الماء من السماء إلى الأرض اليابسة ، فنخرج به زرعا أخضر تأكل منه أنعامهم ، وتتغذى به أجسامهم ، وتتقوى به أبدانهم ، أفلا يبصرون هذا بأعينهم ، فيعلموا أننا قادرون على الإعادة بعد الموت ، كإحياء الأرض بعد موتها؟! وهذا دليل على إقامة الحجة على المشركين في معنى الإيمان بالقدرة الإلهية والبعث ، بأن نبههم على إحياء الأرض الموات بالماء ، والسوق : هو بالسحاب. والأرض الجرز : الأرض العاطشة التي قد أكلت نباتها من العطش.

ويتساءل هؤلاء المشركون عن موعد وقوع العذاب بهم ، استبعادا وتكذيبا وعنادا ، قائلين : ومتى يعذبنا الله بسببك ، وأنت وصحبك ما نراكم إلا أذلة قليلين؟ إن كنتم صادقين في تهديدكم ووعيدكم.

فوبخهم الله في الجواب بقوله : قل أيها النبي لهؤلاء المكذبين برسالتك : إن يوم الانتقام والقضاء الفصل النافذ : هو يوم القيامة الذي لا ينفع فيه إيمان الكافرين ولا توبتهم ، ولا هم يؤخرون فيه بالإعادة إلى الدنيا للتوبة والإيمان والعمل الصالح ، لأن قبول الإيمان إنما هو في دار الدنيا ، فلا تستعجلوا العذاب ، فهو واقع حتما.

فأعرض أيها النبي عن هؤلاء المشركين ، ولا تأبه بتكذيبهم ، وتابع تبليغ رسالتك

١٥٤

المنزلة إليك من ربك ، وانتظر النصر الحاسم من الله الذي وعدك به ، فإن الله سينجز لك ما وعدك به ، وسينصرك على من خالفك وعاداك ، إن الله تعالى لا يخلف الميعاد ، وإنهم منتظرون الغلبة عليك والهلاك ، فإن مصير الظالمين آت لا ريب فيه.

١٥٥

تفسير سورة الأحزاب

أحكام إسلامية صرفة

الشريعة الإسلامية في أحكامها الفرعية مستقلة عن الشرائع الأخرى ، سواء كانت وضعية أو سماوية ، لأنها شريعة خاتمة ، تقرر أحكاما عامة ودائمة ، لا تتغير ولا تتبدل ، وتتميز بعلاجها لمشكلات وقضايا تعايش معها المجتمع العربي الجاهلي ، ولكنها ليست صالحة للاستمرار ، على خلاف بعض العادات النافعة ، مثل التعاون في تحمل دية القتل الخطأ ، والاعتدال في الحياة ، كالسخاء والشجاعة ، وولاية الولي على القاصر والولاية على المرأة في عقد زواجها ، أما الذي لم يرتضه الإسلام فمثل العصيان ، والنفاق ، والظهار ، والتبني ، وادعاء تعدد القلب لدى الإنسان ، وهذا ما أوضحته سورة الأحزاب في مطلعها حيث قال الله تعالى :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٣) ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ (١)

__________________

(١) أدعياء جمع دعي : وهو من يدعي لغير أبيه على أنه ابنه ، وهو في الواقع ابن غيره.

١٥٦

فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥)) (١) [الأحزاب : ٣٣ / ١ ـ ٥].

ما أروع مطلع هذه الآية وتأثيرها العميق والبعيد في تربية القيادة الإسلامية والإصرار على المبدأ ، والثبات على العقيدة.

وسبب نزولها : ما أخرجه ابن جرير الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن أهل مكة ، ومنهم الوليد بن المغيرة ، وشيبة بن ربيعة دعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرجع عن قوله ، على أن يعطوه شطر أموالهم ، وخوّفه المنافقون واليهود في المدينة إن لم يرجع قتلوه ، فنزلت الآيات.

أمر الله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتقوى : ومعناه المداومة على التقوى ، ومتى أمر أحد بشيء هو به قائم ، فمعناه المداومة ، وحذره تعالى من طاعة الكافرين ، والمنافقين وهم المظهرون للإيمان ، وهم لا يبطنونه. والمعنى : يا أيها النبي اتق الله ، أي دوام على التقوى بإطاعة أوامر الله ، واجتناب محارمه ، ولا تطع أهل الكفر والنفاق في شيء ، واحذرهم ، إن الله كان وما يزال تام العلم بعواقب الأمور ، حكيما في أقواله وأفعاله ، فهو أحق باتباع أوامره وطاعته.

واتبع الوحي المنزل إليك من ربك ، فإن الله لا تخفى عليه خافية ، يعلم السر وأخفى ، والظاهر والباطن ، ثم يجازيكم على أعمالكم. وفوض جميع أمورك وأحوالك إلى الله تعالى ، وكفى بالله وكيلا لمن توكل عليه وأناب إليه ، فذلك كاف مقنع ، والوكيل : القائم بالأمر ، المغني فيه عن كل شيء.

وللإنسان قلب واحد ، ولم يخلق الله فيه قلبين ، ولا يجتمع في القلب الواحد

__________________

(١) أي أنصاركم وبنو عمومتكم.

١٥٧

الخوف من الله والخوف من غيره ، فإذا كان الإنسان مؤمنا بالله ورسوله فلن يكون كافرا أو منافقا ، والمعنى : لا يجتمع في قلب واحد اعتقادان ، أو اتجاهان متضادان ، يأمر أحدهما بشيء والآخر بضده.

ولم يجعل الله الزوجات المظاهر منهن كالأمهات في الحرمة ، بأن يشبه الرجل امرأته بإحدى محارمه ، كأن يقول : أنت علي كظهر أمي ، فذلك منكر من القول وزور. ولم يجعل الله أيضا الأدعياء المدعى بنوتهم بالتبني أبناء في الحقيقة ، فالولد منسوب لأبيه الحقيقي ، لا لمن يدعيه ابنا له ، والتبني حرام ، لمنافاته الحق والعدل ، وهذه الآية لإبطال التبني.

إن المذكور كله في الآية من الأمور الثلاثة : ادعاء القلبين ، واجتماع الزوجية مع الظهار ، والتبني مع النسب : هو مجرد قول باللسان ، لا يغير من الحقيقة ، فلا يكون هناك قلبان لأحد ، ولا تصبح الزوجة بالظهار أما ، ولا يصبح الولد المتبنى ابنا في الحقيقة ، والله تعالى هو الذي يقرر الحق الثابت والصدق والعدل والواقع ، ويرشد إلى السبيل الأقوم الصحيح.

وعليكم أن تنسبوا الأولاد الذين تبنيتموهم إلى آبائهم الحقيقيين ، فذلك أعدل في حكم الله وشرعه ، وأصوب من نسبة الابن لغير أبيه ، فإن جهلتم آباء الأدعياء ، فهم إخوة في الدين وأنصار لكم وبنو عمومتكم ، ولا إثم عليكم بنسبة بعض الأولاد لغير آبائهم خطأ ، أي نسيانا في الماضي قبل النهي ، وإنما الإثم يحصل بتعمد نسبة الابن لغير أبيه ، وهو يدري أنه ابن غيره ، وكان الله واسع المغفرة ، شامل الرحمة لمن تاب وأناب ، أي لما مضى من فعلهم في ذلك ، والمغفرة والرحمة صفتان مطّردتان في كل شيء. والخطأ في الآية : بمعنى النسيان ، وليس مقابل العمد.

١٥٨

ولاية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جميع المؤمنين

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائد الأمة ومنقذها ، وأبوته المعنوية ورحمته شاملة لجميع المؤمنين ، لا يختص بها أحد ، وهذا يستدعي محبة النبي أكثر من محبة الإنسان نفسه ، وأن يمتثل أوامره ، أحبت نفسه ذلك أم كرهته ، والنبي كغيره من الأنبياء أو الرسل السابقين ملزم بتبليغ رسالة ربه على الوجه الأكمل ، بمقتضى العهد والميثاق الإلهي عليهم ، وذلك لينقسم الناس فريقين : فريق الصادقين المصدقين برسالات الأنبياء ، وفريق المكذبين الجاحدين الذين يتنكرون لدعوات الأنبياء ، ويثيب الله أهل الصدق والإيمان ، ويعاقب أهل الكفر والضلال. قال الله تعالى مبينا هذه الأحكام العامة :

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨)) [الأحزاب : ٣٣ / ٦ ـ ٨].

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرأف الناس بجماعة المؤمنين وأحرصهم على مصالحهم وإنقاذهم ، فهو يدعوهم إلى النجاة ، وهم يتجهون إلى الهلاك. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه البخاري وابن جرير وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه حين نزلت هذه الآية : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) : «من ترك مالا فلورثته ، ومن ترك دينا أو ضياعا فعلي ، أنا وليه ، اقرؤوا إن شئتم : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)». وقد أزال الله تعالى بهذه الآية أحكاما كانت في صدر الإسلام ، منها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا يصلي على ميت عليه دين ، فذكر الله تعالى أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

وأزواج (زوجات) النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمثابة الأمهات في الحرمة والاحترام والتعظيم

١٥٩

والتقدير ، وفي تحريم الزواج بهن بعد النبي ، وفي غير ذلك هن أجنبيات ، فلا يحل النظر إليهن ، ولا الخلوة بهن ، ولا ارثهن ونحو ذلك.

والقرابة ذوو الأرحام أو العصبات أولى بعضهم ببعض في الميراث وغيره ، وفي منافع بعضهم ، فهم أولى وأحق من بقية المؤمنين المهاجرين والأنصار ، وهذا إبطال لحكم التوارث بالنصرة بعد الهجرة الذي كان مقررا في بداية الأمر ، حيث كانت الشريعة تقرر التوارث بأخوة الإسلام وبالهجرة ، فإنه كان بالمدينة توارث في صدر الإسلام بهذين الوجهين : الهجرة والنصرة.

لكن إذا ذهب الميراث بالتآخي ، بقي حكم الوصية عند الموت ، والإحسان في الحياة ، والصلة والود ، وهذا الحكم وهو توريث ذوي الأرحام حكم من الله تعالى مقرر في اللوح المحفوظ ، لا يبدّل ولا يغير.

ثم أخبر الله تعالى عن ميثاق النبيين بتبليغ الرسالة الإلهية ، والمعنى : اذكر أيها الرسول أننا أخذنا العهد المؤكد على جميع الأنبياء ، وبخاصة أولو العزم منهم ، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم‌السلام ، أنهم يبلّغون رسالة ربهم إلى أقوامهم. وتخصيص هؤلاء الأنبياء الخمسة بالذكر للتشريف والتعظيم ، لأنهم أصحاب الكتب والشرائع والحروب الفاصلة من أجل التوحيد. وقدّم الله في الآية ذكر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على الرغم من تأخر زمانه ، تشريفا خاصا له أيضا ، وروى ابن جرير الطبري عن قتادة قال : ذكر لنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «كنت أول الأنبياء في الخلق وآخرهم في البعث». وكرّر الله في الآية أخذ الميثاق لمكانته. ووصف الميثاق بأنه غليظ أي شديد : إشعار بحرمة هذا الميثاق وقوته.

وأخذ الميثاق على الأنبياء في التبليغ بعد بعثتهم ، لكي يجعل الله خلقه فرقتين ـ فاللام في «ليسأل» : لام كي وهو الأصوب من جعلها لام الصيرورة ـ فرقة يسألها الله عن

١٦٠