التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٣

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٣

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0524-1
الصفحات: ٤٢٢

افتتحت الآيات الكريمة بأحرف (الم (١)) للتنبيه إلى خطورة ما يتلى بعدها ، ولتحدي العرب بالإتيان بمثل أقصر سورة من القرآن ، تجمع بين سمو البلاغة والنظم ، وبين جلال المعاني والتوجيهات ، وتقترن هذه الأحرف في الأعم الأغلب بالكلام عن القرآن الكريم للربط بين هذه الحروف ، وبين مادة القرآن كتاب البشرية جمعاء.

تلك هي آيات القرآن المتميزة بالحكمة التي لا خلل فيها ولا عوج ، ولا تتناقض ولا تتعارض مع بعضها ، وإنما هي آيات بينات واضحات.

والغاية من تنزيل القرآن الكريم : هي أنه هداية للطريق الأقوم الصحيح ، وإنقاذ من الجهالة والضلالة ، وإسعاد للبشرية ، ورحمة واضحة للذين أحسنوا العمل ، وأتقنوا الفعل ، واتبعوا الشريعة ، وأقاموا فريضة الصلاة في أوقاتها وكيفياتها المشروعة دون زيادة أو نقص ، وآمنوا بالآخرة وما فيها من حساب وجزاء عدل ، ورغبوا إلى الله في الثواب ، بقصد ابتغاء مرضاة الله تعالى.

هؤلاء المؤمنون الذين أصلحوا العقيدة والعمل : هم وحدهم لا غيرهم أهل الهداية والفلاح من ربهم ، وأهل النجاة والفوز في الدنيا والآخرة.

إن الله تعالى وصف المؤمنين بصفة المحسنين ، لأنهم أيقنوا بالبعث واليوم الآخر ، وآمنوا بما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأقاموا الصلاة بخشوع ، تامة الأركان والشرائط ، وأدّوا الزكاة الفريضة الاجتماعية التي تسهم في تخفيف ويلات الفقر والحرمان ، وهذا منهاج يجمع بين العبادة البدنية لإرضاء الله كما يريد في الصلاة المشروعة ، وبين العبادة المالية ، لسد حاجات المحتاجين ، وإنقاذ الفقراء والمساكين. ومن أوصافهم : الإخلاص وعبادة الله تعالى ، كما جاء في قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سأله

١٢١

جبريل عن الإحسان ، فقال : «أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك» (١).

يطالب القرآن الكريم العالم المؤمن كله بأن يكونوا من أهل الإحسان في النية والقول والعمل ، فبالنية يتحقق الإخلاص لرب العالمين ، وبالقول الحسن يتم التعبير عما يكنّ في القلب من إعلان الشهادتين : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وبالفعل الحسن تؤدى الصلاة والزكاة على نحو متقن ، كما قال تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥)) [البينة : ٩٨ / ٥].

وصلاح القلب بالنية المخلصة والإيمان الحق ، مع صلاح القول ، وصلاح العمل يحقق كل ذلك هدف الإسلام الأمثل ، لتحقيق استقامة النفس ، وتصحيح الكلام والتأدب بالأدب القويم ، وتقويم السلوك والأعمال التي هي معيار تقدم المجتمع ورقي البشرية.

أهل اللهو وأهل العمل الصالح

تميزت مجموعات الآيات القرآنية الواردة بإيجازها واختصارها : بعقد موازنة بين الأضداد ، وتعارض الفئات ، ليعرف الناس ألوان الفرق ، ويتبينوا الهدى من الضلال ، ويعرفوا مصير كل فئة أو فرقة ، لأن كل موازنة قرآنية يعقبها الله تعالى ببيان ثمرات الأعمال والأفعال ، والثمرة متفاوتة ، فأهل اللهو من الكافرين لهم العذاب الأليم ، وأهل الإيمان والعمل الصالح لهم المقام الكريم. والطريق واضح

__________________

(١) أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه.

١٢٢

وسهل ، فإن البعد عن هداية القرآن يكون بسبب العناد والاستكبار ، وهذا داء ليس من الصعوبة التخلص منه. والإقبال على هداية القرآن لا يحتاج لغير الإيمان الصحيح ، واستقامة السلوك والعمل بما يرضي الله تعالى ، من مأمورات نافعة قليلة ، واجتناب منهيات ضارة محدودة ، قال الله تعالى مبينا هذين المنهجين :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩)) (١) (٢) [لقمان : ٣١ / ٦ ـ ٩].

الآية الأولى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) نزلت ـ فيما ذكر مقاتل ـ في النضر بن الحارث ، كان يخرج إلى فارس ، فيشتري كتب الأعاجم ، فيرويها ويحدث بها قريشا ، ويقول لهم : إن محمدا يحدثكم حديث عاد وثمود ، وأنا أحدثكم حديث رستم وإسفنديار ، وأخبار الأكاسرة ، فيستملحون حديثه ، ويتركون سماع القرآن.

والمعنى : بعض الناس يستبدل بالنافع الضرر ، وبالقرآن الحكايات والأساطير الفارغة ، فيشتري لهو الحديث من غناء وفجور ونحوه ، وهو المقترن بالكفر ، من أجل صرف الناس عن استماع القرآن ، وإضلالهم عن الدين الحق : دين الإسلام ، بغير علم صحيح ، ويتخذ آيات الله مهزوءا بها ، وأولئك وهم دهاقنة الكفر والضلال ، لهم عذاب مؤلم في نار جهنم أشد الإيلام. واللهو : كل باطل ألهى عن الخير.

وهذه الآية التي تذم اللهو الباطل تدل على تحريم مبتدعات الطرقات الصوفية من سماع الطبول والمزامير أثناء الذكر. ومن يشتري لهو الحديث الباطل إذا تليت عليه

__________________

(١) الوقر : أي الثقل الذي يغير إدراك المسموعات.

(٢) وعد الله منصوب على المصدر ، وحقا : مصدر مؤكد.

١٢٣

آيات القرآن أدبر وأعرض عنها متكبرا متجبرا ، وأصمّ أذنيه عن سماعها ، كأن في كلتا أذنيه ثقلا وصمما ، لأنه يتأذى بها ، ولا ينتفع منها.

ومن أجل بيان الفرق بين الأشقياء والسعداء ، أوضح الله تعالى أن الذين آمنوا بالله ربا واحدا لا شريك له ، وصدقوا رسل الله الكرام من غير استثناء أحد ، وعملوا صالح الأعمال بأداء الفرائض والتزام الأوامر الشرعية ، واجتناب المناهي والمفاسد ، أولئك لهم جنات النعيم ، يتنعمون فيها بأنواع الملاذ والطيبات من المأكل والمشرب والملبس والمراكب وغيرها ، وهم فيها مقيمون على الدوام ، لا يتحولون عنها ولا يملّون.

وهذا كائن لا محالة ، ووعد كريم من الله الذي لا يخلف وعده ، فهو وعد حق ثابت ، صادر من الله تعالى القوي القاهر الذي لا يغلب ، الحكيم الذي يتقن كل شيء ، ويضعه في موضعه المناسب له ، ويصدر عنه كل قول وفعل رشيد ، بقصد هداية الناس. وتلك الهداية هي مهمة القرآن الكريم ، فهو كتاب حق وإرشاد وتقويم ، ومنار لكل خير ، وموضع كل عزة ونصر ، وقد جاءت هذه الأوصاف للقرآن في آيات كثيرة ، منها : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) (٩) [الإسراء : ١٧ / ١٧].

ويؤكد الله تعالى مهمة القرآن الإصلاحية في مناسبات متعددة ، لحمل الناس على الاستقامة والرشاد ، كما في قول الله تعالى : (هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤)) [فصلت : ٤١ / ٤٤]. وفي قول الله سبحانه : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً (٨٢)) [الإسراء : ١٧ / ٨٢].

وأما بعد هذا البيان والإعذار ، فيكون المعرضون عن القرآن غير معذورين ،

١٢٤

لاختيارهم بأنفسهم طريق الغواية والضلال ، ومعاداة هداية الله السابغة. وهذه الآيات لبيان حال الكفرة وتوعدهم بالنار على أفعالهم ، ثم بيان أحوال المؤمنين وما وعدهم به الله من جنات النعيم ، ليتبين الفرق.

خلق السماوات والأرض

يتكرر في القرآن الكريم إيراد الأدلة والبراهين الحسية المشاهدة على إثبات قدرة الله تعالى ووجوده ووحدانيته ، مثل إنزال المطر ، وخلق الإنسان ومروره بأطوار معينة ، وخلق السماوات والأرض وما بينهما ، والخلق والإبداع دليل قاطع على وجود الله وقدرته ، لذا تحدى الله به عبدة الأوثان وغيرهم من المشركين لإدراك الفرق الواضح بين أوثانهم العاجزة عن إيجاد شيء ، وعن جلب النفع لأحد أو دفع الضّر عنه ، وبين الله القادر على كل شيء ، ومنها الخلق والإحياء ، والإماتة والبعث ، ويؤدي ذلك كله لإثبات الوحدانية لله تعالى ، وإبطال الشرك والوثنية ، والدعوة لاتباع الحق الذي جاءت به الرسل ، قال الله تعالى مبينا قدرته في خلق السماوات والأرض :

(خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١)) [لقمان : ٣١ / ١٠ ـ ١١].

من أدلة القدرة الإلهية الفائقة كل حد أن الله تعالى خلق السماوات السبع بغير أعمدة ، مرئية أو غير مرئية ، فلا يرى أحد بالعين المجردة ولا بالمكبرات السماوية الدقيقة وجود أعمدة للسماوات ، وهي قائمة بقدرة الله تعالى ، ويظن الناظر أن السماوات كالأرض في الظاهر مبسوطة ، وهي في الحقيقة مستديرة ، لقول الله عز

١٢٥

وجل : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [الأنبياء : ٢١ / ٣٣]. والفلك : اسم لشيء مستدير. وهي على أي حال مخلوقة بقدرة الله تعالى ، لا بالمصادفة ولا بالطبيعة ، وهي فضاء ، والفضاء لا نهاية له ، ولا تزول إلا بقدرة الله تعالى.

وجعل الله في الأرض جبالا شوامخ ثوابت ، بثّت في الأرض وأرستها وثقّلتها ، لئلا تضطرب بأهلها ، وتغمرها مياه البحار والمحيطات المحيطة بها ، ومن المعلوم أن المياه أربعة أخماس الأرض ، واليابسة هي الخمس.

ونشر الله في الأرض كل نوع من أنواع الحيوان التي لا يحصى عددها ، ولا يعلم أشكالها وأنواعها إلا خالقها ، والمخلوقات البحرية كما قرر العلماء أكثر من المخلوقات البرية. وأنزل الله من السماء أو السحاب مطرا يكون سببا لإنبات كل صنف كريم ، أي حسن المنظر ، كثير المنفعة ، وافر العطاء والخير متقن الصنعة والتحكم.

أمام هذه المخلوقات العجيبة ، والأصناف البديعة ، والخيرات الإلهية العميمة ، كيف يليق بالإنسان جحود خالقها ، وترك عبادته ، لذا وبخ الله تعالى المشركين الذين يشركون مع الله إلها آخر ، ونبههم بقوله : هذا المذكور من المخلوقات : هو من خلق الله وفعله وتقديره وحده لا شريك له في ذلك. والخلق : بمعنى المخلوق. فأخبروني أيها المشركون : ماذا خلق الذين تعبدونهم من غيره من الأصنام والأنداد والجمادات التي لا نفع فيها ولا ضر؟!

وبعد توجيه هذا التوبيخ وإظهار الحجة : وصف الله أولئك المشركين بالضلال ، فهم الظالمون الضالون في إشراكهم مع الله غيره ، حيث قال الله تعالى : (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي بل إن هؤلاء المشركين الذين عبدوا مع الله إلها آخر ، في جهل وعمى ، وانحراف وكفر واضح ظاهر ، لا خفاء فيه ولا شبهة لكل من تأمله. إنه

١٢٦

تعالى جعلهم في غاية الضلال وأقصاه. والمراد بسؤالهم أن يوجدوا ما خلق الأصنام والأوثان وغيرها ممن عبد : أنهم لم يخلقوا شيئا ، بل هذا الذي فيه قريش هو ضلال مبين.

إن التحدي بإيجاد شيء وخلقه هو أكبر وأعظم دليل على وجود الله وقدرته ، ولا يستوي الخالق وغير الخالق ، كما جاء في آية أخرى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [النحل : ١٦ / ١٧].

وصايا لقمان الحكيم لابنه

ـ ١ ـ

الشكر لله والتحذير من الشرك ومن عقوق الوالدين

إن فساد عقائد المشركين يرشد إليه العقل السديد والحكمة ، وإن لم يكن هناك نبوة ، بدليل أن لقمان الحكيم بحكمة الله تعالى : وهي الصواب في المعتقدات والفقه في الدين والعمل ، أرشده عقله إلى إثبات توحيد الله وعبادته ، والتخلق بالخلق الكريم من غير وساطة نبي أو رسول .. ولم يكن لقمان على الراجح نبيا ، وإنما كان رجلا صالحا كالخضر عليه‌السلام ، قال ابن عمر رضي الله عنهما فيما أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي مسلم الخولاني : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لم يكن لقمان نبيا ، ولكن كان عبدا كثير التفكير ، حسن اليقين ، أحب الله فأحبه ، فمنّ الله عليه بالحكمة وخيّره في أن يجعله خليفة يحكم بالحق ، فقال : ربّ إن خيرتني قبلت العافية وتركت البلاء ، وإن عزمت علي فسمعا وطاعة ، فإنك ستعصمني».

وكان لقمان قاضيا في بني إسرائيل ، نوبيا أسود. وحكمه كثيرة مأثورة ، قيل له :

١٢٧

أي الناس شر؟ قال : الذي لا يبالي إذا رآه الناس مسيئا. وهذه نصائحه في قول الله تعالى :

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥)) [لقمان : ٣١ / ١٢ ـ ١٥].

المعنى : تالله لقد أعطينا لقمان الحكمة : وهي العلم النافع والعمل به ، ومن مقتضى الحكمة : أن اشكر لله شكرا جميلا على نعمه ومواهبه ، ومن يشكر الله فإنما يشكر لنفسه ، أي يحقق النفع والثواب لنفسه ، وينقذها من العذاب ، ومن جحد نعمة الله عليه ، فأشرك به غيره ، وعصى أوامره فإنه يسيء إلى نفسه ، ولا يضر أحدا سوى ذاته ، فإن الله غني عن العباد وشكرهم ، لا تنفعه طاعة ، ولا تضره معصية ، محمود ، أي مستحق الحمد بصفاته وذاته ، فهذا أمر بالشكر.

ثم حذر لقمان ابنه من الشرك بالله ، فاذكر أيها النبي حين أوصى لقمان ابنه بوصية أو موعظة ، فقال له : يا ولدي ، اعبد الله ولا تشرك به شيئا ، فإن الشرك أعظم الظلم ، لتعلّقه بأصل الاعتقاد فهو أعظم جرم ، ولكونه وضع الشيء في غير موضعه ، فهو ظلم محض لا موجب له ولا سبب لوجوده.

ثم تخلل بين وصايا لقمان وأثناء وعظه اعتراض بآيتين ، موجهتين من الله تعالى ، لا من كلام لقمان على الراجح ، مفاد الآية الأولى : ولقد أمرنا الإنسان وألزمناه ببر والديه وطاعتهما وأداء حقوقهما ، ولا سيما أمه ، فإنها حملته في ضعف على ضعف ،

١٢٨

من الحمل إلى الطلق ، إلى الولادة والنفاس ، ثم الرضاع والفطام في مدة عامين ، ثم تربيته ليلا ونهارا حتى صار كبيرا ، وأمرناه بشكر الله على نعمته ، وبشكر والديه ، لأنهما سبب وجوده ، ومصدر الإحسان إليه بعد الله تعالى.

وطاعة الوالدين لها حدود : وهي الأمر بالمعروف ، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وعلى هذا ، فإن ألحّ والداك في الطلب على أن تشرك بالله في عبادته غيره مما لا تعلم أنه شريك لله أصلا ، فلا تقبل ذلك منهما ، ولا تطعهما فيما أمراك به من الشرك أو العصيان.

ولكن صاحب والديك الكافرين في الدنيا مصاحبة كريمة بالمعروف ، بأن تحسن إليهما بالمال والعلاج ، والتودد في الكلام والمحبة والرفق ، والوفاء بالعهد وإكرام صديقهما ، ما دام ذلك في الدنيا ، واتبع سبيل المؤمنين التائبين في دينك ، ولا تتبع في كفرهما سبيلهما فيه ، ثم إلي مرجعكم جميعا ، فأجازيك أيها الولد على إيمانك ، وأجازيهما على كفرهما إن كفرا ، وأخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا من خير أو شر.

نزلت هاتان الآيتان في شأن سعد بن أبي وقاص ، وذلك أن أمه : وهي حمنة بنت أبي سفيان بن أمية ، حلفت ألا تأكل ولا تشرب ، حتى يفارق ابنها سعد دينه ، ويرجع إلى دين آبائه وقومه ، فلجّ (١) سعد في الإسلام. فلما طال ذلك ، ورأت أن سعدا لا يرجع عن دينه أكلت (٢).

دلت الآيتان على الأمر ببر الوالدين ، ثم حكم الله بأن ذلك لا يكون في الكفر والمعاصي لأن طاعة الأبوين لا تراعى في ارتكاب كبيرة ، ولا في ترك فريضة عينية ، وتلزم طاعتهما في المباحات. ويستحسن في ترك الطاعات الندب ، ومنه المشاركة في

__________________

(١) لازمه وأبي أن ينصرف منه.

(٢) أخرجه أبو يعلى والطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن أبي عثمان الهندي عن سعد.

١٢٩

الجهاد الكفائي ، وإجابة الأم في الصلاة مع إمكان الإعادة ، وذلك في حال خوف الهلاك عليها ونحوه مما يبيح قطع الصلاة.

وصايا لقمان الحكيم لابنه

ـ ٢ ـ

مجموعة أوامر ونواه أساسية

جمع لقمان الحكيم في وصايا ابنه بين أصول العقيدة وأصول الشريعة والأخلاق ، فأمره بأن يقدر قدرة الله تعالى ، وأن يقيم الصلاة ، ويأمر بالمعروف الذي أمر به الله ، وينهى عن المنكر الذي منعه الله تعالى ، ويصبر على المصاب ، ويحذر التكبر ، ويمشي متواضعا هينا لينا ، خافضا صوته ، يكلم الناس بلطف ، ويبتعد عن غلظة القول ورفع الصوت أكثر من اللازم. وهذه آيات كريمة تحكي لنا هذه الأوامر والنواهي :

(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩)) [لقمان : ٣١ / ١٦ ـ ١٩].

هذه بقية نصائح لقمان الحكيم لابنه ، يقصد في النصيحة الأولى إعلام ابنه بقدر قدرة الله تعالى ، فيا بني ، إن الحسنة أو السيئة لو كانت تساوي وزن أصغر شيء ، مثل وزن حبة الخردل ، وكانت في أخفى مكان ، كجوف صخرة ، أو في أعلى مكان

١٣٠

كالسماوات ، أو في أسفل موضع كباطن الأرض ، أحضرها الله في يوم الحساب ، إن الله لطيف العلم ، يصل علمه إلى كل شيء خفي ، خبير ببواطن الأمور. واللطف والعلم : صفتان لائقتان بإظهار غرائب القدرة الإلهية.

ويا بني ، الزم إقامة الصلاة : وهي العبادة المخلصة لوجه الله ، وأدّها كاملة الأركان والشروط ، وأمر بالمعروف : وهو الذي يقره الشرع الإلهي ، وانه عن المنكر : وهو الذي يمنعه الشرع الإلهي ، واصبر على المصيبة والشدائد والأذى ، إن ذلك المذكور : من عزائم الأمور ، أي مما عزمه الله وأمر به. والصبر هنا للحض على تغيير المنكر وإن نالك ضرر. وهذا إشعار بأن مغيّر المنكر يؤذى أحيانا ، وهذا على جهة الندب ، لا على سبيل الإلزام ، وهذه الأوامر تشمل عظائم الطاعات والفضائل أجمع. ويا بني لا تعرض بوجهك عن الناس إذا كلموك تكبرا واحتقارا ، أي بل كن متواضعا سهلا هينا لينا ، منبسط الوجه ، مستهل البشر. ولا تسر في الأرض مختالا متبخترا ، جبارا عنيدا ، فإن تلك المشية يبغضها الله تعالى ، والله يعاقب كل مختال في مشيه ، معجب في نفسه ، فخور على غيره.

وامش مشيا متوسطا معتدلا ، ليس بالبطيء المستضعف تزهدا ، ولا بالسريع المفرط الذي يثب وثب الشيطان. والمشي مرحا : هو في غير شغل ولغير حاجة. ومشاة المرح : هم الملازمون للفخر والخيلاء ، فالمرح : مختال في مشيته.

ولا ترفع صوتك رفعا شديدا لا فائدة منه ، وأخفضه ، فإن شدة الصوت تؤذي آلة السمع ، وتدل على الغرور ، والاعتزاز المفرط بالنفس ، وعدم الاكتراث بالغير. وإن اعتدال الصوت أوقر للمتكلم ، وأقرب لاستيعاب الكلام ووعيه وفهمه. وإن رفع الصوت أكثر من اللازم يشبه صوت الحمير ، وإن أقبح الأصوات لصوت الحمير ، وذلك مما يبغضه الله تعالى ، لأن أوله زفير وآخره شهيق. وأنكر الأصوات ، أي

١٣١

أقبح وأوحش وراد بكلمة (لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) الصوت : اسم جنس ، ولذلك جاء مفردا.

وفي ذلك دلالة على ذم رفع الصوت من غير حاجة ، لأن التشبيه بصوت الحمار يقتضي غاية الذم. وأكد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك فيما رواه الجماعة عن أبي هريرة قال : «إذا سمعتم صياح الديكة ، فاسألوا الله من فضله ، وإذا سمعتم نهيق الحمير ، فتعوذوا بالله من الشيطان ، فإنها رأت شيطانا».

ويلاحظ الحكمة في توجيه النصائح ، فلما نهى لقمان ابنه عن الخلق الذميم ، ومستنكر الأخلاق ، رسم له طريق الخلق الكريم الذي ينبغي له أن يستعمله ، من القصد في المشي : وهو ألا يشتط في السرعة ، ولا يرائي في الإبطاء ، ولا يمشي مختالا متبخترا ، ولا يرفع الصوت أكثر من المعتاد ، لأن غض الصوت أوقر للمتكلم ، وأبسط لنفس السامع وفهمه.

إن دعوة الأنبياء إلى الإيمان بالله وبقدرته ، وإلى عبادة الله وتوحيده ، وإلى إقام الصلاة ، والأمر بالفضيلة ، ومحاربة الرذيلة ، والتواضع واعتدال المشي ، تلتقي مع مقتضى الحكمة التي يتوصل إليها الحكماء من خلال التجارب والمعاملة.

توبيخ الكافر على جحود النعمة

إن كفر الكافرين عقدة صعبة ، وكارثة خطيرة ، ومدعاة للتوبيخ واللوم ، لذا وبخ القرآن الكريم أهل الشرك على شركهم ، مع مشاهدتهم دلائل التوحيد عيانا وحسا في عالم السموات والأرض ، وتسخير ما فيها لمنافعهم ، كما وبخهم على جحودهم نعم الله الكثيرة الظاهرة والباطنة ، وكل ذلك لحمل المشركين على تصحيح اعتقادهم ،

١٣٢

وشكر ربهم ، والتوجه نحو ما يصلح أمر آخرتهم ودنياهم ، وهذه آيات كريمة تدل على الغضب الإلهي ، على سوء أفعال المشركين ، فقال الله تعالى :

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١)) [لقمان : ٣١ / ٢٠ ـ ٢١].

هذه آية تنبيه على الصنعة الدالة على الصانع ، وهو الله تعالى ، وذلك أن تسخير هذه الأمور العظام كالشمس والقمر والنجوم والسحاب والرياح والحيوان والنبات ، إنما هو من الله المسخّر والمالك. لذا نبّه القرآن المشركين لهذا ، قائلا لهم : ألم تعلموا أيها المشركون دلائل التوحيد الناطقة بوحدانية الله تعالى وقدرته على كل شيء ، وإنعامه عليكم ، فهو سبحانه الذي ذلّل لكم جميع ما في السماوات من شمس وقمر ونجوم ، تستضيئون بها في الليل والنهار ، ويسّر لكم جميع خزائن الأرض ، من معادن وأنهار وبحار ، وأشجار وزروع ، وثمار ، ونحو ذلك من منافع الغذاء والشراب ، وأكمل عليكم نعمه الظاهرة والباطنة ، أي المحسوسة والمعقولة ، ومنها إنزال الكتب وإرسال الرسل. والظاهرة أيضا : هي الصحة وحسن الخلقة والمال وغير ذلك. والباطنة : المعتقدات الصحيحة من الإيمان ونحوه ، والعقل أو الفكر الإنساني.

وبعض الناس كالنضر بن الحارث ونظرائه من زعماء الوثنية في مكة وغيرها ، على الرغم من إثبات الألوهية بالخلق والإنعام ، يجادلون في توحيد الله وصفاته وإرسال الرسل ، بغير دليل معقول ، ولا حجة صحيحة ، وإنما حجتهم التقليد الأعمى ، للآباء والأجداد ، واتباع الهوى والشيطان ، لأنهم كانوا ينكرون وحدانية الله تعالى ، ويشركون الأصنام في الألوهية ، وليس عندهم علم واضح من هدى أو كتاب يبين لهم معتقدهم.

١٣٣

وإذا قيل لهؤلاء المجادلين بالباطل في توحيد الله : اتبعوا ما أنزل الله على رسوله ، من الشرائع والأحكام الصائبة ، لم يجدوا حجة لتركها إلا اتباع الآباء الأقدمين ، فيما اعتقدوه من دين ، وإلا التقليد المحض بغير حجة ، وهذا عجيب ، أيتبعونهم بلا دليل؟ ولو كان اعتقادهم قائما على الهوى وتزيين الشيطان الذي يدعوهم إلى عذاب جهنم ، أو عذاب النار المسعّرة ، أي فكأن القائل منهم يقول : هم يتبعون دين آبائهم ، ولو كان مصيرهم إلى السعير ، والله يدعوهم إلى النجاة والثواب الجزيل والسعادة. وهذا استفهام على سبيل التعجب والإنكار ، يتضمن التهكم عليهم ، وتسفيه عقولهم ، والسخرية من آرائهم وأفكارهم.

إن محبة الله لعباده تجعله ينبه على فساد حال الكفرة ، وسوء الاعتقاد ، وقبح الأفعال ، فهم يسيرون في حياتهم ويعبدون أصنامهم بلا هدى قلب ، ولا نور بصيرة يقيمون بها حجة ، ولا يتّبعون بذلك كتابا من الله يبشر بأنه وحي ، بل ذلك ادعاء منهم وتخرص ، وإذا دعوا إلى اتباع وحي الله تعالى ، رجعوا إلى التقليد المحض بغير حجة ، فسلكوا طريق الآباء والأجداد.

والعقل والمصلحة يقضيان بضرورة تصحيح الطريق ومنهج الاعتقاد المنحرف ، والعودة إلى جادة العقيدة الصحيحة ، وإلى العمل بكلام الله تعالى في القرآن المجيد ، حتى لا يفجأهم القدر والموت ، ويصادمهم يوم القيامة بأهواله ورهباته.

حال المؤمن والكافر

يتفاوت حال المؤمن والكافر تفاوتا كبيرا لا نظير له في الدنيا والآخرة. أما المؤمن في الدنيا : فهو ناعم البال ، هادئ الضمير ، مستقر النفس ، يسعى في الحياة ، ويفوض الأمر في النهاية إلى الله عزوجل ، ويستمسك بما يوصله إلى الله ، وأما في

١٣٤

الآخرة فهو في نعيم دائم ، وجنان تجري من تحتها الأنهار ، ورضوان من الله أكبر ، وأما الكافر في الدنيا : فهو قلق البال ، مضطرب النفس ، يعيش في كمد وحسرة ، ولا يعمل لهدف ، فإن أحسن العمل استفاد فقط من حسن عمله في دنياه ، ولم يفده شيئا في آخرته ، وأما في الآخرة : فهو في عذاب مستمر ، ونيران يتلظى بها ، وحميم يصب فوق رأسه ، وسخط وغضب من الله عليه. وهذا ما يفهم من الآيات الآتية :

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤)) (١) [لقمان : ٣١ / ٢٢ ـ ٢٤].

هذا بيان واضح لمصير المؤمن والكافر ، ليتبين الفرق ، وتتحرك النفوس إلى طلب الأفضل ، ومعرفة الأسلم والأحكم. فمن يسلم ، أي يخلص وجهه إلى الله تعالى ويستسلم به ، أو يخلص العبادة والعمل إلى الله تعالى ، ويخضع إلى أمره ، ويتبع شرعه ، ويتقن عمله ، باتباع ما أمر الله به ، وترك ما نهى عنه وزجر ، فقد ضمن لنفسه النجاة ، وتعلّق بأوثق الوسائل الموصلة إلى رضوان الله تعالى ، وسيلقى الجزاء الحسن على عمله ، لأن مصير المخلوقات كلهم إلى الله سبحانه ، فيجازي المتوكل عليه ، المخلص عبادته إليه ، أحسن الجزاء ، كما يعاقب المسيء بأشد العذاب.

وقوله تعالى : (يُسْلِمْ وَجْهَهُ) الوجه هنا : هو الجزء المعروف ، مأخوذ من المواجهة أستعير هنا للقصد ، لأن القاصد للشيء هو مستقبله بوجهه ، فاستعير ذلك للمعاني ، وقوله سبحانه : (وَهُوَ مُحْسِنٌ) المحسن : هو الذي جمع القول والعمل.

وهو في بيان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الذي يعبد الله كأنه يراه. والعروة الوثقى : استعارة للأمر المنجي.

__________________

(١) هي استعارة للأمر المنجي الذي لا يخاف عليه استحالة ولا إخلال.

١٣٥

ثم آنس الله عزوجل نبيه عليه الصلاة والسلام عن أساه وحزنه ، لكفر قومه وإعراضهم ، فأمره ألا يحزن لذلك ، بل يعمد إلى ما كلّف به من التبليغ ، وإرجاع كل شيء إلى الله تعالى ، فلا تغتم أيها النبي ولا تجزع على كفر الكافرين ، الذين كفروا بالله ورسوله ، ودينه وقرآنه ، ولا تأبه بهم ، ولا تحزن عليهم ، فإن مصيرهم إلى الله تعالى يوم القيامة ، وفي الدنيا أيضا ، فيجازيهم ربهم بالهلاك والعذاب ، ولا تخفى عليه خافية منهم ، لأن الله تعالى يعلم السر وأخفى ، ويعلم العلانية والظواهر كلها ، ويخبرهم بما أضمرته صدورهم. و (بِذاتِ الصُّدُورِ) : ما فيها ، والقصد من ذلك : المعتقدات والآراء.

ثم أبان الله تعالى مقام الكفار في الدنيا ، فذكر أنه سبحانه يمتعهم في عالم الدنيا بزخارفها وزينتها ، تمتعا قليلا ، أو زمانا ضئيلا ، ثم يلجئهم ويلزمهم بعذاب شاقّ ، ثقيل شديد عليهم ، والمتاع القليل : هو العمر في الدنيا.

والغلظ : يكون في الماديات ، وأستعير للمعنى ، والمراد : الشدة ، فيكون معنى (العذاب الغليظ) : المغلّظ الشديد.

إن كل عاقل يتأمل في نفسه قليلا ، وفي مستقبله كثيرا ، وفي الواقع المشاهد حوله وفي العبر والعظات المتكررة يوميا ، يدرك إدراكا تاما أن العاقبة الحسنة ، والمصير الأحسن : هو لأهل الإيمان ، والإيمان أمر سهل : إنه حركة القلب واتجاهها نحو التصديق التام بالله تعالى ، والاستسلام المطلق لأوامره ونواهيه ، والتخلص من موروثات العقائد الباطلة ، ومؤثرات البيئة الظالمة أو القائمة ، وان هذا المتأمل والمبادر إلى الإيمان الصحيح بربه يتحرر من التقليد ، ويشعر في قرارة نفسه أنه بالإيمان ينتقل من عالم الظلام والجهل ، إلى عالم النور والإدراك والفهم ، والله يوفق دائما للخير كما قال سبحانه : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) [الأنعام : ٦ / ١٢٥.]

١٣٦

دلائل القدرة الإلهية

ـ ١ ـ

الخلق والبعث والعلم الشامل

ناقش القرآن الكريم المشركين في ازدواجية عقيدتهم وفي حقيقة تدينهم ، إنهم يقرّون بوجود الله تعالى ، ويتضرعون إليه وحده وقت الشدة ، ثم يعودون إلى كفرهم بعد النجاة ، ويلازمون نسبة الشريك إلى الله ، علما بأن كل شريك عاجز خاسر ، والله تعالى هو القادر القاهر المنجي ، الخالق لكل شيء ، والباعث الأموات من القبور ، والتام العلم بكل الموجودات ، ولا تحصر معلومات الله ولا تنفد ، ويطلع الله يوم القيامة كل إنسان بما قدم وأخر ، قال الله تعالى مبينا أدلة قدرته الفائقة :

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨)) (١) [لقمان : ٣١ / ٢٥ ـ ٢٨].

الدليل الأول على قدرة الله تعالى : هو الخلق والإيجاد المبتدأ من غير مثال سبق ، وهذا يعترف به المشركون ، فلئن سألتهم : من الذي خلق السماوات والأرض؟ لأجابوا بأنه هو الله الخالق ، فهو في أعماق نفوسهم معترفون بأن الله خالق السماوات والأرض ، فقل أيها النبي إذن : الحمد لله على اعترافكم ، وعلى ظهور الحجة عليكم ، ولكن أكثر المشركين لا يعلمون أنه لا يصح لأحد أن يعبد غير الله ،

__________________

(١) أي لو سألت المشركين.

١٣٧

وأن يتنبه إلى حقيقة المعبود. وعبر بقوله : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ) للإضراب عن مقدّر ، تقديره : ليست دعواهم بحق ، ونحو هذا. وأكثرهم مشرك ، لا كلهم ، لأن منهم من بادر إلى توحيد الله تعالى والإقرار بذلك ، كزيد بن عمرو بن نفيل ، وورقة بن نوفل ، وبعضهم أيضا معدّ أن يسلم.

ثم أخبر الله تعالى على جهة الحكم والفصل المبرم بأن الله عزوجل له ملك السماوات والأرض وما فيهما ، ملكا وخلقا وعبيدا وتصرفا ، وليس ذلك لأحد سواه ، ولا يستحق العبادة غيره ، لأنه الغني عما سواه ، وكل شيء مفتقر إليه ، وهو المحمود في الأمور كلها ، بذاته وصفاته. والمراد : وأقوال هؤلاء لا معنى لها ولا حقيقة ، لأن المعبود بحق : هو الذي لا حاجة به في وجوده وكماله إلى شيء آخر.

ومن صفات الله تعالى : سعة علمه وأنه لا نفاد ولا حدود لمعلوماته فكلمات الله : المعلومات ، فلو أن جميع أشجار الأرض جعلت أقلاما ، وجعل البحر مدادا ، أي حبرا ، ومدّ البحر بسبعة أبحر معه ، على سبيل المبالغة والاستقصاء والكثرة لا من أجل الحصر ، فكتبت كلمات الله الدالة على عظمته وجلاله ، لتكسرت الأقلام ، ونفد ماء البحر ، إن الله قوي لا يغلب ، حكيم في صنعه وأقواله وأفعاله. والغرض من الآية : الاعلام بكثرة كلمات الله تعالى ، وهي في نفسها غير متناهية ، وإنما قرّب الأمر على أفهام البشر بما يتناهى ، لأنه غاية الكثرة في علم البشر.

روي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن سبب هذه الآية : أن اليهود قالت : يا محمد ، كيف عنينا بهذا القول : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ١٧ / ٨٥] ونحن قد أوتينا التوراة ، فيها كلام الله وأحكامه ، وعندك أنها تبيان كل شيء؟ فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «التوراة قليل من كثير» ونزلت هذه الآية : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ ..) قال ابن عطية : وهذا هو القول الصحيح.

١٣٨

ثم ذكر الله تعالى أمر الخلق والبعث : أنه في الجميع وفي شخص واحد بالسواء ، فليس خلق جميع الناس وبعثهم يوم القيامة ، بالنسبة لقدرة الله ، إلا مثل خلق نفس واحدة ، الكل هيّن عليه ، ولا يحتاج وجود الشيء وعدمه إلى تكرار الأمر وتوكيده ، إن الله سميع لأقوال عباده ، بصير بأفعالهم ، كسمعه وبصره بالنسبة إلى نفس واحدة ، كذلك قدرته عليهم كقدرته على إيجاد نفس واحدة.

هذه الآية : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ ..) نزلت في أبي بن خلف وأبي بن الأسدين ، ومنبّه ونبيه ابني الحجاج بن السبّاق ، قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله تعالى قد خلقنا أطوارا ، نطفة ثم علقة ثم مضغة ، ثم عظاما ، ثم تقول : إنا نبعث خلقا جديدا جميعا في ساعة واحدة!! فأنزل الله تعالى : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ).

إن إبداع السماوات والأرض ، وإحاطة علم الله بجميع الموجودات ، والقدرة الشاملة التامة على بعث الناس من قبورهم : هي دلائل على وجود الله تعالى ووحدانيته وقدرته الكاملة ، ومن آمن بذلك وعرف صواب هذا الإيمان ، هنّأ نفسه ومجتمعة بسلامة الإيمان.

دلائل القدرة الإلهية

ـ ٢ ـ

تدرج الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر وتسيير السفن

هذه أدلة أخرى على عظمة قدرة الله تعالى ، وتعدادها لسدّ كل المنافذ أمام الشرك والمشركين ، وهي تدرج الليل والنهار ، وتسخير الشمس والقمر ، وسائر الكواكب النيّرات ، والتمكين من تسيير السفن في البحار والمحيطات ، واللجوء إلى الله تعالى

١٣٩

وحده حين التعرض للغرق وارتفاع الأمواج ، فلم يبق بعد هذا الاستدلال عذر لأحد بالشرك والإشراك ، وعبادة الأصنام والأوثان ، وما على كل إنسان إلا أن يبادر إلى الإيمان بالله وحده لا شريك له ، فذلك هو الحق والحقيقة ، وكل ما سوى ذلك باطل ، قال الله تعالى واصفا هذه الأدلة :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢)) [لقمان : ٣١ / ٢٩ ـ ٣٢].

مطلع الآية الأولى : (أَلَمْ تَرَ) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد به جميع العالم. ومجمل الآية : أن الخالق المخترع هو الذين خلق الليل والنهار متدرجين متعاقبين. والمعنى : ألم تشاهد أن الله تعالى في شأن إيجاد الليل والنهار على هذا النحو من الزيادة والنقص ، بحيث يقصر من أحدهما ويزيد من الآخر ، ثم بالعكس ، ليدلك دلالة على الموجود الخالق ، ففي ذلك قسمة الزمان بحكمة بارئ العالم ، ليدل على أنه لا رب غيره.

والله تعالى أيضا في عالم السماء ذلّل لنا الشمس والقمر ، مصباحين نيّرين ، لمصالح الخلق والمخلوقات ومنافعهم ، كل منهما يسير بسرعة إلى غاية محدودة ، وأن الله مطلع بدقة على جميع أعمال الناس ، خيرها وشرها ، ويجازيهم عليها ، فالله هو الخالق لجميع الأشياء ، والعالم بكل الأشياء.

والغاية من هذا البيان وإظهار الآيات وأدلة القدرة الإلهية : أن يعرف الناس أن

١٤٠