التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٣

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٣

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0524-1
الصفحات: ٤٢٢

بل إنهم اتّبعوا أهواءهم جهالة وشهوة. وتكون النتيجة أنه لا ناصر لهم ينقذهم ، ولا مخلّص لهم من العقاب المستحقّ عليهم ، فإن العقاب حقّ وعدل. لكل جان ، سواء في جنايات النفوس والأموال أو في جنايات العقائد والأديان.

الإسلام دين الفطرة والتوحيد

وجّه القرآن الكريم الناس إلى ما يصلحهم وينفعهم ، وينسجم مع فطرتهم البشرية ، وحقيقة هذا الوجود ، الذي يدين طوعا أو كرها ، لخالق الأرض والسماء ، ويقرّ بوحدانية الله تعالى على النحو الذي خلق الله عليه كل إنسان ، وهو الاعتراف بربوبية الله وتوحيده ، ولا مجال بعدئذ لكل ما يشوّه الفطرة ، ويعصف بالإنسان ، ويرميه في وهاد الزيغ والضلال والانحراف ، أو يجعله في شعاب الفرقة والاختلاف ، من غير فائدة ولا مصلحة ، وهذا ما نجده صريحا في أوامر الله تعالى حيث قال سبحانه :

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) (٧) [الرّوم : ٣٠ / ٣٠ ـ ٣٢].

أمر الله تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم باعتباره قدوة الأمّة بأن يقيم وجهه للدين المستقيم ، وهو دين الإسلام ، وإقامة الوجه : هو تقويم العقيدة ، وحمل الإنسان على محمل الجدّ والعزم والحزم في أعمال الدين. والتعبير بإقامة الوجه : لأنه جامع حواس الإنسان

__________________

(١) سدّده.

(٢) دين التوحيد والإسلام.

(٣) مائلا عن الباطل إلى الحق وهو الإسلام.

(٤) الزموا دينه وهو الإسلام.

(٥) المستقيم.

(٦) راجعين إليه بالتوبة.

(٧) فرقا مختلفة الأهواء.

١٠١

وأشرفها ، ويكون المراد بالآية : وجّه أيها النّبي نفسك وقلبك لعقيدة الإسلام واتّباع شرائعه ، حنيفا ، أي معتدلا مقوّما مائلا عن جميع الأديان المحرّفة المنسوخة ، والزم أو اتّبع فطرة الله تعالى ، أي خلقة الله ، أو افتطر بفطرة الله التي فطر ، أي خلق وأبدع وسوى جميع الناس عليها ، حيث خلقهم على ملّة التوحيد ، وأن الله واحد لا شريك له ، في قرارة كل إنسان ، وتحوّل تحوّلا تامّا عن جميع الملل والأديان الباطلة ، إلى الدين الحق والملّة القويمة ، والفطرة : هي الخلقة والهيئة التي في نفس الطفل المعدّة أو المهيأة لأن يميز بها مصنوعات الله تعالى ، ويستدل بها على ربّه جلّ وعلا ، ويعرف شرائعه ، ويؤمن به ، وهذا خطاب للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأمّته ، وهو يدلّ على أن كل إنسان مخلوق على التوحيد والإقرار بوجود الله ووحدانيته ، ولكن تعرض له العوارض ، فيزيغ عن سنن الفطرة ، وذلك كما قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم وأحمد : «كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهوّدانه ، أو ينصّرانه ، أو يمجّسانه ، كمثل البهيمة ، تنتح البهيمة هل ترى فيها جدعاء». أي مثله كمثل الشّاة تولد سليمة الحواس والأعضاء ، لا مقطوعة الأذن أو الأنف.

ولا ينبغي لأحد أن يبدّل أو يغيّر فطرة الله ، أي الخلقة الأصلية ، وهذا خبر في معنى النّهي ، أو الطلب ، أي لا تبدّلوا خلق الله الأصلي ودينه بالشّرك ، فتغيّروا الناس عن فطرتهم التي خلقهم عليها. وذلك المأمور به من اتّباع ملّة التوحيد والتمسّك بالشريعة المطهرة والفطرة السليمة : هو الدين المستقيم الذي لا عوج فيه ولا انحراف. غير أن أكثر الناس لا يعرفون ذلك حقّ المعرفة.

إنكم جميعا أيها الناس مطالبون باتّباع دين الله وتوحيده ، خاشعين له ، مقبلين عليه إقبالا تامّا ، راجعين إليه رجوعا كاملا ، وإنكم ملزمون بتقوى الله ، أي العمل بأوامره واجتناب نواهيه أو معاصيه ، وداوموا على إقامة الصلاة كاملة الأركان

١٠٢

مستوفية الشروط ، واحذروا الشّرك ، ولا تكونوا بعد الإيمان بوحدانية الله مشركين به غيره ، فلا تقصدوا في عبادتكم غير الله تعالى ، بل كونوا موحّدين مخلصين لله العبادة. والمشركون : هم كل من عبد مع الله إلها آخر ، من بشر أو جماد أو كوكب أو غير ذلك.

وأوصاف المشركين : هم الذين فرّقوا دينهم ، أي اختلفوا فيما يعبدونه بحسب اختلاف أهوائهم ، فبدّلوا فطرة التوحيد ، وصاروا فرقا مختلفة ، وأحزابا متباينة ، كل فرقة وحزب فرحون بما عندهم ، مفتونون بآرائهم ، معجبون بضلالهم.

وهذه حملة شديدة على الفرق الضّالّة والمذاهب المنحرفة ، تدعو أهل البصيرة والوعي إلى أن يبادروا إلى توحيد عقيدتهم والعمل بشريعة ربّهم التي أنزلها على خاتم النّبيّين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

تناقض المشركين

من المستغرب صنع بعض الناس وتناقضهم ، فتراهم يقبلون على ربّهم وقت الشّدة الخانقة والأزمة المستعصية ، فلا يجدون سواه ملجأ لتفريج الكروب ، حتى إذا ما رفع عنهم البلاء ، وزال عنهم البأس ، تنكّروا لخالقهم المنعم عليهم بدفع النقمة ورفع الشّدّة ، وهذا واضح من فعل عبدة الأصنام وبعض الكافرين الذين يعبدون الله من أجل الدنيا والمنفعة ، فإن أعطوا منها رضوا ، وإن منعوا منها سخطوا ، وعلى هؤلاء أن يدركوا أن مفتاح الرزق بيد الله تعالى ، يمنح من يشاء ، ويحجب النعمة عمن يشاء ، بحسب ما يرى من الحكمة والمصلحة لعبادة ، وهذا ما أبانته الآيات الآتية :

(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ

١٠٣

بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧)) (١) (٢) (٣) (٤) [الرّوم : ٣٠ / ٣٣ ـ ٣٧].

هذا لوم وتقريع لفئتين من الناس : عبدة الأصنام المشركين بالله تعالى غيره ، وبعض الجاحدين الذين يبتغون من وراء عبادة الله تحقيق المنافع ومكاسب الدنيا ، فإن حصلوا على مبتغاهم اطمأنوا ، وإذا حرموا بعض الخيرات ، تبرموا وسخطوا.

إن الفئة الأولى : وهم المشركون الوثنيون كسائر البشر ، متى مسّهم ضرّ (أي شدة وبلاء) دعوا الله سبحانه ، راجعين إليه دون سواه ، خاضعين لسلطانه ، وتركوا الأصنام مطروحة ، فإذا أذاقهم الله رحمته ، أي أصابهم أمره بها ، والذّوق هنا مستعار لإيصال النعمة والنّجاء من الشّدة ، عادوا للشّرك بالله ، وعبدوا معه غيره من الأوثان والأصنام. وهذا يقتضي العجب ، ويستدعي اللّوم.

ويلحق بهؤلاء الانتهازيين النفعيين بعض المؤمنين ، إذا جاءهم فرح بعد شدة ، علّقوا ذلك بمخلوق ، أو بحذق آرائهم ومهاراتهم ، أو بغير ذلك ، وهذا شرك مجازا ، لأن فيه قلة شكر لله تعالى.

وتكون عاقبة هؤلاء المتناقضين الوقوع في الكفر وجحود فضل الإله وإحسانه ، فاستحقّوا التهديد ، ويقال لهم : (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي استمتعوا أيها المشركون بمتاع الدنيا ورخائها ، فسوف تعلمون عذابي في الآخرة على كفركم في الدنيا.

بل في الواقع لا دليل على صحة ما أنتم عليه من الضلال ، فهل لكم سلطان ، أي

__________________

(١) كتابا وحجة.

(٢) بطروا وأشروا.

(٣) ييأسون من رحمة الله.

(٤) يضيقه على من يشاء بحسب حكمته.

١٠٤

حجة وبرهان من رسول أو كتاب ونحوه لإقرار ما تفعلون ، والنطق والشهادة بما تشركون؟! وهذا استفهام إنكاري معناه : أنه لم يكن شيء من ذلك ، فلم ينزل الله كتابا يقرّ الشّرك ، ولا أرسل رسولا يدعو إليه ، إنما هو اختراع منكم.

وفريق آخر كالمشركين من بعض المؤمنين أو الكافرين ، وصفتهم : أنه إذا أنعم الله عليهم نعمة فرحوا بها وبطروا ، وإذا أصابتهم شدة وبلاء ، أيسوا وقنطوا من رحمة الله. وتعرّضهم للشدة إنما كان بسبب ما اقترفوا من الإثم ، وما ارتكبوا من السيئات. وقوله تعالى : (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) معناه أن الله يمتحن الناس عند ظهور المعاصي ، فقد يصاب أحدهم بسوء ، ويعفو الله عن كثير.

التّشابه قائم بين حال الفريقين أو الفئتين ، المشركون يتعرّضون للرحمة ثم للشّدة ، فلهم في الحالة الأولى تضرّع وإنابة ، ثم إشراك ، ولهم في الحالة الثانية فرح وبطر ، ثم قنوط ويأس ، وكل إنسان يأخذ من هذا الخلق بقسط ، فمنهم المقلّ ومنهم المكثر ، إلا من غمر الإيمان قلبه ، وتأدّب بأدب الله تعالى ، فصبر عند البلاء والضّرّاء ، وسكن عند السّراء ، ولم يبطر عند النعمة ، ولم يقنط عند الابتلاء. والقنوط : اليأس.

ثم ذكر الله تعالى طريق التّخلّص من اليأس من رحمة الله على كل حال ، وهو أن يعلم كل إنسان أن الله تعالى يخصّ من شاء من عباده ببسط الرزق ، ويحجب أو يقتر الرزق عمن يشاء ، للاختبار أو الابتلاء ، ان في الحالين حال سعة الرزق وحال تقتير الرزق لأدلة وعلامات على الإيمان الصادق ، فالمؤمن الصحيح الإيمان يشكر عند الرخاء ، ويصبر عند البلاء ، ولا يتغير في الحالين عن الإقبال على ربّه وعبادته بصدق وإخلاص.

١٠٥

الرزق الحلال والرزق الحرام

الرزق محدود مقنن لكل إنسان في علم الله تعالى ، لكن بعض الناس يكون رزقه حلالا طيبا مباركا فيه ، ينفق منه على نفسه وأهله وأقاربه والمحتاجين من إخوانه ، وبعض الناس الآخرين يكون رزقه حراما آتيا من غير كسب ولا عمل ، من الربا أو الفائدة المضمومة إلى القرض ، ولكن لا خير فيه ولا بركة ، والرازق هو الله تعالى ، والبشر وسائط ، إما بعملهم وكدّهم وجهدهم ، وإما بمساعيهم ووساطتهم ، فهم وسائط خير وجسور منفعة ، وليس لأحد من غير الله تعالى قدرة على الإطلاق على نفع إنسان أو رزقه ، ولا على إلحاق الضر به وحرمانه من الرزق ، ومن باب أولى ليس للأصنام والأوثان المتخذة شركاء لله في عقيدة الوثنيين أي دور أو مجال في رزق أحد أو حرمانه منه ، قال الله تعالى مبينا هذه الأحوال :

(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠)) (١) [الرّوم : ٣٠ / ٣٨ ـ ٤٠].

إذا كان الرزق مصدره من الله تعالى وحده ، وأن الرزق محدود لا يزيد ولا ينقص ، فيكون التصرف فيه بحسب مرضاة الله ، لذا أمر الله تعالى على جهة الندب بإيتاء ذوي القرابة حقوقهم ، من صلة المال وحسن المعاشرة ، ولين القول ، وإعطاء المساكين المحتاجين وأبناء السبيل ، أي المسافرين المنقطعين ما لهم حظ به ، لأنهم إخوة إما في الدين وإما في الإنسانية ، وذلك الإيتاء أو الإعطاء لهؤلاء القرابة والمحتاجين

__________________

(١) أي المضاعفون ثوابهم ، أي يضاعف الله لهم الثواب.

١٠٦

خير محض في ذاته ، ونفع عظيم ، لكل من يقصد بعمله وجه الله تعالى ، و (وَجْهَ اللهِ) هنا : جهة عبادته ورضاه.

وأولئك المعطون شيئا من أموالهم على سبيل البر وصلة الرحم ، وإنقاذ النفس الإنسانية من الضرر أو الهلاك : هم لا غيرهم الفائزون ببغيتهم ، البالغون لآمالهم ، المحققون الخير لأنفسهم في الدنيا والآخرة. أخرج الترمذي والدارمي في الزكاة عن فاطمة بنت قيس قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن في أموالكم حقا سوى الزكاة».

وأما من أعطى عطية ، يود الحصول على أكثر منها ، من طريق الهدية أو الربا (الفائدة) في التجارات ، فلا ثواب له عند الله تعالى ، كما جاء في آية أخرى : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦)) [المدثر : ٧٤ / ٦]. أي لا تعط عطاء تريد أكثر منه ، وهذا لا خير فيه ولا ثواب. قال ابن عباس : نزلت في قوم يعطون قراباتهم وإخوانهم على معنى تمويلهم ونفعهم والتفضل عليهم ، وليزيدوا في أموالهم على جهة النفع لهم.

وأما العطاء الحسن الذي يحقق الثواب لصاحبه ، فهو الزكاة ، أي من أعطى صدقة ، يقصد بها وجه الله تعالى وحده ، بقصد عبادته وإرضائه ، أو من أعطى زكاة ، تنمية لماله وتطهيرا ، يريد بذلك وجه الله تعالى ، فذلك هو المحقق للثواب الجزيل ، وهو الذي يجازى به صاحبه أضعافا مضاعفة على ما شاء الله تعالى له (١). وذلك كما جاء في آية أخرى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) [البقرة : ٢ / ٢٤٥] وقال الله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١)) [الحديد : ٥٧ / ١١].

__________________

(١) ينبغي أن تظل هذه العقيدة معه وقت العبادة وفي كل الأحوال إن كان يعتقد أن الله هو رازقه.

١٠٧

وكل من الزيادة والنماء داخل في رزق الله المحدد لكل إنسان ، لأن الله هو الخالق الرازق الذي يرزق الإنسان من تاريخ ولادته حتى وفاته ، ثم يميته بعد حياته ، ثم يحييه يوم القيامة للحشر والبعث ، هل من آلهتكم أيها المشركون ، الذين تعبدونهم من دون الله وجعلتموهم شركاء ، من يفعل من ذلك شيئا ، أي من الخلق والرزق ، والإماتة والإحياء؟! لا يقدر أحد منهم على فعل شيء من ذلك ، تنزه الله وتقدس ، وتعاظم عن أن يكون له شريك أو نظير ، أو ولد أو والد ، بل هو الله الواحد الأحد ، الفرد الصمد. وهذا تقريع وتوبيخ للكفار المشركين.

إن من يعتقد بأن الله وحده لا شريك له هو ربه وخالقه ، وهو معبوده بحق ، يتجه إليه وقت الشدة والرخاء وفي كل حال ، يحقق له آماله ويرزقه من خيراته ما يشاء.

جزاء المفسدين والصالحين

لقد تعقدت الحياة ، وظهرت فيها ألوان مختلفة من الفساد والأطماع ، وتفنن الناس في ابتداع المنكرات وأصناف الأذى والضرر بأنفسهم وبغيرهم ، وبقي أهل الإيمان الحق في حصن حصين من الانزلاق والتردي في الضلالات ، وأقبلوا على ساحات الرضا الإلهي بدافع من ايمانهم بربهم ، وترقبهم مقابلة خالقهم ، والاستعداد لعالم الجزاء والحساب الشديد. واقتضى العدل الإلهي أن يجازي الله المفسدين بإفسادهم سوء العاقبة والمصير ، وأن يكرم الصالحين المؤمنين بأفضاله ومكارمه ، والله في حال العقاب ساخط غاضب ، وفي حال الإحسان راض عفوّ كريم ، قال الله تعالى مبينا قانون الحساب الإلهي :

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ

١٠٨

(٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥)) (١) [الروم : ٣٠ / ٤١ ـ ٤٥].

لقد عم البلاد في أرجاء البر والبحر ظهور الخلل والانحراف ، وقلة النفع والمطر ، وكثرة القحط والجدب أو التصحر ، بسبب شؤم المعاصي وكثرة الذنوب ، من الكفر والظلم وانتهاك المحرّمات ، والتجرؤ على الإنسان ، بعد انتشار الأمن وعموم الخير والرخاء ، وذلك ليذيقهم الله جزاء بعض أعمالهم وسوء أفعالهم من المعاصي والآثام واحتجاب الخير وظهور الشر ، وفي ذلك منفعة للناس ، لأنه ربما يرجعون عن غيهم ومعاصيهم ، كما جاء في آية أخرى : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأعراف : ٧ / ١٦٨].

ثم أراد الله لفت نظر الناس والاتعاظ بمصائر الماضين المفسدين ، فقل أيها الرسول للمفسدين والمشركين ، تقلبوا في البلاد ، وتأملوا بمصير من قبلكم ، وكيف أهلك الله الأمم السابقة ، وأذاقهم سوء العذاب ، بسبب كفرهم وقبح أعمالهم ، حيث كان أكثرهم مشركين بالله شركا ظاهرا لا خفاء فيه.

وبادر أيها النبي ـ باعتبارك قدوة الأمة ، ومن تبعك من أهل الإيمان إلى الاستقامة على طاعة الله ، وفعل الخير ، ووجّه نفسك كلها وبإخلاص للعمل بالدين القويم ، وهو دين الإسلام ، من قبل مجيء يوم القيامة الذي لا مرد ولا مانع منه ، فلا بد من وقوعه ، وفي ذلك اليوم يتفرق فيه الناس بحسب أعمالهم ، ففريق في الجنة ، وفريق في النار والسعير.

وجزاء كل فريق بحسب عمله ، ممن كفر بالله وكتبه ورسله ، وكذب باليوم

__________________

(١) أي يتصدعون ويتفرقون بعد الحساب.

١٠٩

الآخر ، فعليه وبال كفره وكذبه ، وإثمه ووزره ، ومن آمن بالله وكتبه ورسله وباليوم الآخر ، وعمل صالح الأعمال ، فأطاع الله تعالى فيما أمر ، وانتهى عما منعه الله عنه ، فإنه يعدّ لنفسه المهاد المريح ، والمرتع الخصب الفسيح ، والمجال المطمئن. وقوله تعالى : (فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) أي يوطّئون ويهيئون ، وهي استعارة منقولة من الفرش ونحوها إلى الأحوال والمراتب.

وسبب التمييز في الجزاء : جزاء الباغي أو الظالم ببغيه وظلمه ، وجزاء المؤمن المستقيم باستقامته ، هو أن الله تعالى يريد إحقاق الحق وإقامة العدل ، فيجازي المؤمنين الذين يعملون الصالحات تفضلا منه وإحسانا بالنعيم المقيم ، وجنان الخلد ، وفضل الله شامل ، وعطاؤه كبير. وأما الكافرون فإن الله يبغضهم ويعاقبهم ، عقاب حق وعدل لا جور فيه ، وهذا تهديد ووعيد للكفار. وقوله تعالى : (لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) ليس الحب بمعنى الإرادة والعاطفة ، ولكن بمعنى : لا يظهر عليهم أمارات رحمته ، ولا يرضاه لهم دينا.

إن تقسيم الفريقين إلى طائعين وعصاة يوم القيامة ، كان بسبب أعمالهم في الدنيا ، والدنيا مزرعة الآخرة ، فهنيئا لمن وفق للعمل الصالح ، والشقاء كل الشقاء لمن انحرف وجحد.

آيات قدرة الله ووحدانيته

عجبا لأمر الناس مع ربهم ، ينعم عليهم بشتى النعم ويخلقهم ويرزقهم ، ثم لا يهتدون إليه بمحض عقولهم ، وسلامة تفكيرهم ، حتى إنه سبحانه احتاج إلى إقناعهم بوجوده ووحدانيته ، وأقام الأدلة الكثيرة من المحسوسات المشاهدة على ذلك ، مما لا يدع أي مجال للشك في هذا ، وما أجمل الآيات القرآنية المسوقة من مشاهد الكون على

١١٠

إثبات القدرة الإلهية ، فإن كل إنسان يحسّ بالتفاعل مع الموجودات حوله ، ويدرك إدراكا تاما ، جمال الكون وإبداعه ، وما فيه من عجائب الخلق والإبداع الإلهي المرشد إلى المقصود ، والدال على المعبود بحق ، قال الله تعالى واصفا هذه المشاهد :

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠)) (١) (٢) (٣) [الروم : ٣٠ / ٤٦ ـ ٥٠].

هذه أدلة حسية تدل على قدرة الله وتوحيده ، تقتضي كل عاقل متأمل بأن يدرك أنه لا مشاركة للأوثان فيها ، وهي محض السلطان الإلهي ، وأنه تعالى المهيمن على كل شيء في الوجود والمسيّر والمحرك له ، وأول الأدلة : أن الله تعالى يرسل الرياح مبشرة بالخير ونزول المطر ، الذي يحيي الأرض بعد يبسها ، ويفيد الإنسان فائدة كبري ، فيذيفه من آثار رحمته بالمطر ، فيحيي العباد والأراضي ، كما أنه سبحانه يرسل الرياح لتلقيح الأشجار ، ولتسيير السفن الشراعية في البحار ، ولتمكين المسافرين والتجار من ممارسة التجارة ، وطلب الفضل الإلهي والمكاسب المشروعة ببذر بذور الأطعمة وغيرها ، وليشكر الناس ربهم على ما أنعم به عليهم من النعم الكثيرة التي لا تحصى.

ثم آنس الله نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمثل من أرسل من الأنبياء السابقين ، ثم وعده تعالى ووعد أمته بالنصر على الأعداء ، إذ أخبر أنه جعله حقا عليه

__________________

(١) أي قطعا.

(٢) أي المطر.

(٣) آيسين من إنزاله.

١١١

تبارك وتعالى. فتالله إن كذبك قومك يا محمد ، فلست بأول مكذّب كذبه قومه ، فلقد أرسل الله رسلا كثيرين إلى أقوامهم ، فأقاموا الأدلة الواضحة على صدق رسالتهم ، فكذبهم قومهم كما فعل قومك ، فانتقم الله ممن كذبهم وعارضهم ، ممن أجرم وجنى على نفسه ومجتمعة ، وهذا هو الذي يحصل من كل مكذّب عاص ، ونجى الله أهل الإيمان ، وكان حقا مستحقا على الله تحقيق النصر للمؤمنين ، العاملين بمقتضى إيمانهم.

أما كيفية إنزال الأمطار : فهي أن الله سبحانه يرسل الرياح على وفق إرادته ومشيئته وحكمته ، فتحرك السحب أو الغيوم المنعقدة من ذرأت بخار الماء ، فتنتشر في السماء كيف يشاء الله ، ثم يجعلها قطعا متفرقة ذات أحجام مختلفة ، خفيفة أو كثيفة مشبعة بالرطوبة ، فترى أيها الناظر كيف يخرج المطر من وسط السحب ومن خلالها المختلفة ، وإذا أصاب الله بها من يشاء من العباد إذا هم تغمرهم البهجة والفرحة ، والاستبشار بالخير والنعمة السابغة.

وإن كان الناس من قبل نزول هذا المطر قانطين يائسين من نزوله ، لتأخر المطر ، وبطء نزول الغيث ، فتغمرهم رحمات الله تعالى وأفضاله العديدة.

فانظر أيها الرسول ومن آمن برسالتك نظرة تأمل إلى آثار رحمة الله السابغة ، كيف يحيي الأرض بالنبات والزرع والشجر والثمر والعشب بعد الجفاف ، مما يدل على سعة رحمة الله وإحسانه.

إن الذي أنزل المطر وأنبت النبات قادر على إحياء الأموات ، كإحياء الأراضي بعد يبسها بالخضرة ، والله تعالى تام القدرة على كل شيء ، فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، والبدء والإعادة سواء عنده. وقد تكرر هذا المعنى في القرآن الكريم ، مثل قوله تعالى : (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ

١١٢

وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) [يس : ٣٦ / ٧٨ ـ ٨١].

جحود النعمة

غريب أمر الإنسان ، تراه مع غيره من الناس إذا قدّم له معروفا ، أكبره وشكره ، وتذلل بين يديه ، ثم يحرص على رد الجميل ومكافأة المعروف إما بالهدية وإما بالثناء باللسان في المناسبات المختلفة على ملأ من الناس. لكن هذا الإنسان مع الأسف جحود للنعمة الإلهية ، مع أنها أعظم وأدوم ، وأبقى أثرا ، ولا تحتاج إلا للإقرار بالنعمة والاعتراف بالمنعم وهو الله ، وبمقابلة الفضل الإلهي بالإصغاء لأمر الله وطاعته ، واجتناب نهيه ومعصيته ، وفي الحالين من امتثال الأمر والبعد عن النهي ، يعود أثر ذلك على الإنسان بالخير العميم والنفع التام ، قال الله تعالى مبينا سوء حال الكافرين ، وتنكرهم لفضل الله وإحسانه :

(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣)) [الروم : ٣٠ / ٥١ ـ ٥٣].

أخبر الله تعالى في هذه الآيات عن سوء أحوال الكافرين ، وتقلب ابن آدم في أنه بعد الاستبشار بالمطر ، إذا بعث الله ريحا ضارة ، فاصفرّ بها النبات ، ظل يكفر قلقا منه ، وقلة توكل على الله ، وعدم تسليم لله عزوجل ، والمعنى : تالله لئن بعثنا ريحا سامة ، حارة أو باردة ، على نبات أو زرع أو ثمر ، فرأى الناس ذلك الزرع قد اصفر ،

١١٣

ومال إلى الفساد بعد خضرته ، لظلوا من بعد ذلك الفرح والبشر بالمطر ، يجحدون نعم الله التي أنعم بها عليهم.

فلا تحزن أيها النبي على إعراض مشركي مكة وأمثالهم عن دعوتك ، بعد إيراد أدلة القدرة الإلهية على البعث وعلى توحيد الله ، فإنك لا تستطيع إفهام الموتى ، أو إسماعهم سماع تدبر واتعاظ ، ولا تقدر إسماع دعوتك أهل الصمم عن الحق ، إذا أدبروا عنك ولم يقبلوا هدايتك ، فإنهم أشبه بالموتى في القبور ، وبفاقدي حاسة السمع من المعاقين ، لسدّهم منافذ الهداية ، وفقد الاستعداد لسماع كلمة الحق. وليس في مقدورك أيها النبي هداية أهل العمى عن رؤية الحق ، والرد عن الضلالة ، فإن الهداية إلى الله تعالى ، وهو القادر على إسماع الأموات أصوات الأحياء إذا شاء ، وإنه تعالى يفعل ما يشاء ، بهداية من يريد ، وإضلال من يريد ، وليس ذلك لأحد سواه.

وما أنت يا محمد بمسمع إسماعا ينفع ويجدي إلا من آمن بالله ربا ، وبالقرآن إماما ، وبآيات الله برهانا وحجة ، وبتوجيهات الرب إلى أفضل المقاصد وأقوم الطرق ، وهؤلاء المؤمنون على هذا النحو هم المسلمون ، أي الخاضعون لله تعالى ، المطيعون لكل ما أمر ونهى ، السامعون إلى الحق سماع إعظام وإكبار ، وامتثال واتباع.

ليس في قدرتك إذن يا محمد هداية أحد ، ولا عليك أن تهدي أحدا ، ما عليك إلا البلاغ المبين ، وإبلاغ الدعوة إبلاغا حسنا بالحكمة والموعظة الحسنة.

وهذا كله من إبعاد السماع عن عقول الكفار وقلوبهم يقصد به اليأس من استجابتهم للإسلام والقرآن ، بسبب موقفهم المعاند وآرائهم العنيدة ، واستكبارهم عن الإذعان للحق. وهذا لا يعارض الثابت في السنة النبوية من سماع الموتى كلام الأحياء ، والاستئناس بزوار القبور الذين يمتثلون الأوامر والآداب الإلهية ، من غير تبرم ولا تسخط ولا معارضة للقضاء والقدر. فلقد أجمع السلف على هذا ، وشرع

١١٤

السلام على الموتى ، روى ابن أبي الدنيا عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من رجل يزور قبر أخيه ، ويجلس عنده إلا استأنس به ، وردّ عليه حتى يقوم».

وقد ثبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زار قبور شهداء أحد ، وسلّم عليهم ، ودعا لهم بالعفو والعافية من البلاء والعذاب.

أطوار الحياة وأحوال البعث

إن في إحياء الأرض بالأمطار بعد موتها أو يبسها ، وفي أدوار خلق الإنسان التي يمر بها من الاجتنان ، فالطفولة ، فالكهولة ، فالشيخوخة ، لدلالة قاطعة ، وعبرة واضحة على قدرة الله التامة ، وعلمه المحيط بكل شيء ، والمتصف بهذه القدرة التي لا يتصف بها سوى الله عزوجل قادر على إحياء الموتى وبعثهم من القبور ، وإعادتهم للحساب والجزاء ، والاصطدام بالحقيقة الكبرى القاطعة ، وهي أن الدنيا مثل الساعة التي تمضي ، وأن الآخرة دار الخلود والبقاء ، وأن الإنسان مغرور مفتون ، قاصر النظر حين يستغني بالدنيا الفانية عن الآخرة الخالدة الباقية ، وحينئذ لا ينفع الندم ، ولا نجاة لمن ظلم ، قال الله تعالى موضحا هذه الأحوال :

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧)) (١) [الروم : ٣٠ / ٥٤ ـ ٥٧].

__________________

(١) أي مثل ذلك الصرف عن الواقع في مدة اللبث ، كانوا يصرفون في الدنيا عن الحق وهو البعث.

١١٥

هذه الآيات تبين أيضا أن الأوثان عاجزة عن الخلق والإيجاد ، وأن الله هو الخلاق المبدع ، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه. إن الله تعالى هو الذي خلق الإنسان في أطوار متدرجة من الضعف إلى القوة ، ثم العجز ، خلقه جنينا في بطن أمه من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ، ثم كوّن عظامه ، ثم كسا العظام لحما ، ثم ولد طفلا جميلا ، وكل هذه مراحل ضعف ، ثم صار شابّا قويّا ، وهذه هي مرحلة القوة والشباب ، ثم صار كهلا فشيخا عاجزا ذا شيبة ووقار ، وهذه هي مرحلة ضعف من نوع آخر.

وهذا الانتقال المتتابع من طور إلى طور آخر دليل على القدرة الإلهية الخالقة التي لها آثار وبصمات واضحة ، على كل مرحلة من مراحل الحياة الإنسانية ، والله يخلق ويبدع ما يشاء من ضعف وقوة ، وبدء وإعادة ، وهو تام العلم بأحوال مخلوقاته ، كامل القدرة على كل ما يشاء. ومن خلق خلقا قادر على إعادته مرة أخرى. ومصير المخلوقات كلها إلى الجمع والحساب يوم القيامة.

ويوم تقوم القيامة ويبعث الله الناس من القبور ، يقسم المجرمون الكافرون الآثمون أنهم ما أقاموا في الدنيا أو في القبور ، إلا ساعة واحدة ، أي مدة قليلة من الزمان ، قاصدين من هذا القسم أنهم لم يدركوا الحقيقة الكبرى ، ولم يمهلوا المدة الكافية للتأمّل والإيمان ، والعمل والإحسان ، فيعذروا على ما وقعوا فيه من تقصير ، ومثل ذلك الصّرف عن الحقيقة والواقع في مدة المكوث في الدنيا ، كانوا يصرفون عن الحق إلى الباطل ، ومن الصدق إلى الكذب ، والمراد أنهم صاروا كاذبين فيما قالوا : ما لبثنا غير ساعة ، وأن إصرارهم على الكفر ، صرفهم عن الاعتقاد الصحيح ، وعن الإيمان باليوم الآخر.

ثم وصف الله تعالى جواب أهل الإيمان على أولئك الكافرين منكري البعث : وهو لقد لبثتم في علم الله وقضائه مدة طويلة في الدنيا ، من يوم خلقكم إلى يوم بعثكم.

١١٦

وإن كنتم منكرين للبعث ، فهذا يومه الواقع الذي لا سبيل إلى إنكاره ، غير أنكم كنتم تجهلون وقوعه ، لتفريطكم في النظر والتأمّل في المستقبل الموعود.

ففي يوم القيامة لا ينفع أهل الظلم والكفر عذرهم عما قصّروا به ، ولا تقبل منهم توبتهم ، لأن وقت التوبة هو في دار الدنيا ، وهي دار العمل ، وأما الآخرة فهي دار الحساب والجزاء ، والمراد لا يقبل منهم العذر ، ولا ينفعهم الاعتذار ، ولا يعاتبون على ذنوبهم ، ولا يقبل منهم العذر لإزالة العتب ، وإنما يعاقبون على ذنوبهم وسيئاتهم ، لأن الحال حال قضاء وحكم ، وتنفيذ للأحكام الصادرة ، وليس المقام مقام اعتذار ، فإن وقته قد فات وهو في الدنيا.

موقف الكفار من ضرب الأمثال القرآنية

لقد وقف كفار قريش موقفا قاسيا عنيدا من القرآن الكريم وبيانه ، بسبب قسوة قلوبهم وغلظ طباعهم ، على الرغم من تبسيط القرآن البيان ، وقوة الإقناع ، وإظهار الحق الساطع ، وهذا الموقف أدى بهم إلى السقوط من التاريخ ، والهزيمة والضياع ، وإلى أن تصبح قلوبهم محجوبة عن نفاذ الخير إليها ، وناسب ذلك الأمر بالصبر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد تحقق وعد الله له بالنصر ، وثباته على الدعوة إلى ربه إلى أن وافاه الأجل ، وأثلج الله صدره قبل ذلك بقدوم الوفود العربية إلى المدينة المنورة تعلن ولاءها للنبي ، وإيمانها برسالته ، والدفاع عنه دفاع الأبطال. وهذه كانت خاتمة سورة الروم في هذه الآيات الآتية :

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠)) [الروم : ٣٠ / ٥٨ ـ ٦٠].

١١٧

هذا لون من ألوان البيان والإنذار السابق قبل إنزال العقاب وهذه دعوة صريحة هادئة تتجاوب مع العقول المتفتحة قبل الوقوع في ورطة الهزائم المتوالية ، ولكن مشركي مكة بما عرفوا به من قسوة الطباع ، لم يذعنوا لنداء الفكر ، على الرغم من أن الله تعالى أوضح لهم الحق ، وضرب لهم الأمثال الدالة على وحدانية الله تعالى ، وعلى إمكان البعث وتحقيقه ، وعلى صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإخلاصه وتفانيه في تبليغ دعوة ربه.

وتالله أيها النبي لو جئتهم بأي آية تبين لهم الحق ، لا يصدقون بها ، ويكفرون ، ويصفون أهل الحق بالأباطيل ، وينعتون الآيات بأنها خرافة وسحر ، وأن النبي ومن آمن معه جماعة مبطلون ، يتبعون السحر والباطل.

وترتب على إعراضهم عن الإيمان عنادا واستكبارا أن ختم الله على قلوبهم ، وتحتم عليهم الكفر ، لسوء استعدادهم ، وإصرارهم على تقليد آبائهم وأجدادهم ، من غير وعي ولا تبصر ، فلم تعد قلوبهم يدخلها النور ، بسبب العناد ، والجهالة.

وموقف العناد يتطلب الوقوف بحزم وصبر أمام هؤلاء الكفار المعاندين ، لذا أمر الله نبيه بأن يعتصم بالصبر على أذى المشركين ، وبمتابعة تبليغ رسالته ، وقوّى الله نفسه بتحقيق الوعد ، فإن وعد الله الذي وعدك به أيها النبي من نصره إياك عليهم ، حق ثابت لا شك فيه ، ولا بد من إنجازه وإنفاذه.

ثم نهى الله نبيه عن الانفعال والاهتزاز لكلام المشركين ، أو التحرك واضطراب النفس لأقوالهم ، إذ هم لا يقين لهم ولا بصيرة ، فلا يحملنك شيء على الخفة والطيش ، والقلق ، جزعا من أقوالهم وأفعالهم ، فإنهم قوم ضالون ، وتابع أداء رسالتك ، فإنها رسالة الحق والنور ، والخير ، والاستقامة ، ولا يستفزنك الذين لا يوقنون بالله ولا باليوم الآخر ، فالله ناصرك وحافظك من الناس ، وخاذلهم وهازمهم هزيمة منكرة.

١١٨

وإذا كان هذا الخطاب بالصبر موجها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن المراد به أمته ، فعلى الأمة أن تصبر في تبليغ الدعوة الإسلامية لكل أمم الأرض ، وأن تثبت في بيان أصول الدعوة إلى الإيمان ، لأن حبل الخير متصل دائم إلى يوم القيامة ، وحبل الخير لا يكون إلا بجهود الدعاة إلى الله تعالى.

ولا يضير الداعية إلى ربه أن يقف الكافر الجاحد موقف العناد ، والتكبر ، أو السخرية والاستهزاء ، لأن هذه هي مواقف الجهلة المستبدين ، الذين لا يصغون لنداء العقل والوجدان ، والتأمل في مشاهدات الكون ، الدالة على وجود الله وسلطانه ، وقدرته ، وتوحيده ، وتفرده بالخلق والإيجاد.

إن إشراقة القلب بالإيمان لا تحتاج إلى جهد كبير ، فمن أصغى لنداء العقل الحر السوي ، وتأمل في خزائن الكون وأسراره ، وحاكم محاكمة عقلية سريعة في ربط الأشياء بأسبابها ، سهل عليه الانصياع لقواعد الإيمان الصحيحة ، بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. ومن وجد حلاوة الإيمان في قلبه ، بادر إلى توسيع آفاق المعرفة بالله وأسمائه وصفاته ، وسارع إلى طاعة الله في كل مأموراته ومنهياته ، وحينئذ يجد السعادة والطمأنينة تغمر قلبه ، وتفيض عليه بالفيوضات الإلهية السخية سخاء لا حدود له.

١١٩

تفسير سورة لقمان

مزايا القرآن وأهل الإيمان

إن أعظم هدية ثمينة للبشرية هي هدية إنزال القرآن الكريم ، بما اشتمل عليه من بيان الدستور الإسلامي ، والأوامر والنواهي ، وأحكام الشريعة ، وآداب الإنسان وتربيته تربية قويمة ، تصل به إلى شاطئ الأمن والسعادة والاستقرار ، والنجاة من العذاب والمهالك. فمن آمن بالقرآن كلام الله تعالى ، استضاء قلبه بالإيمان ، وأدرك أسرار الحياة الصحيحة ، وعلم بأحوال المستقبل الذي ينتظره ، من غير أن يملك فيه إحداث أي تغيير أو تعديل أو إضافة أو نقص ، لأنه يجد في العقل إرشادا ، وفي النفس استجابة وهوى صحيحا ، وفي السلوك والمنهج أصالة وقوة وسدادا ، وهذا ما أبانته الآيات في مطلع سورة لقمان ، حيث جمع الله في ذلك المطلع بين بيان خصائص القرآن ، وصفات المؤمنين به حق الإيمان ، قال الله تعالى :

(الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)) [لقمان : ٣١ / ١ ـ ٥].

سورة لقمان مكية غير آيتين ، أولهما ـ كما قال قتادة ـ (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) [٢٧]. والآيات المكية تعنى بغرس أصول العقيدة الصحيحة ، ونشر الفضيلة ، ومقاومة الرذيلة ، وبيان عيوب المجتمع الجاهلي ، من أجل تجاوز انحرافاته وفوضويته ، والتخلص من سيئاته وموبقاته.

١٢٠